الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: 11 ـ 20
(11)
ما في كتاب الله سورة ولا آية إلا وأنا أعلم فيم أنزلت ومتى نزلت. قال أبو وائل : فما سمعت أحدا أنكر ذلك عليه.
    أخرجه الشيخان والنسائي كما في تيسير الوصول 3 : 279 ، وأبو عمر في الاستيعاب 1 : 372 ، وذكره اليافعي في مرآته 1 : 87.

    هذا ابن مسعود :
    وهذا علمه وهديه وسمته وصلاحه وزلفته إلى نبي العظمة صلى الله عليه وآله ، أضف إلى ذلك كله سابقته في الاسلام وهو سادس ستة ، وهجرته إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، وشهوده بدرا ومشاهد النبي صلى الله عليه وآله كلها ، وهو أحد العشرة المبشرة بالجنة كما في رواية أبي عمر في الاستيعاب ، ولعلك لا تشك بعد سيرك الحثيث في غضون السيرة والتاريخ في أنه لم يكن له دؤب إلا على نشر علم القرآن وسنة الرسول وتعليم الجاهل ، وتنبيه الغافل ، وتثبيت القلوب ، وشد أزر الدين ، في كل ذلك هو شبيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هديه و سمته ودله ، فلا تجد فيه مغمزا لغامز ، ولا محلا للمز لامز ، وقد بعثه عمر إلى الكوفة ليعلمهم أمور دينهم ، وبعث عمارا أميرا وكتب إليهم : إنهما من النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر ، فاقتدوا بهما واسمعوا من قولهما ، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي (1) وقد سمعت ثناء أهل الكوفة عليه بقولهم : جزيت خيرا ، فلقد علمت جاهلنا وثبت عالمنا ، وأقرأتنا القرآن ، وفقهتنا في الدين ، فنعم أخو الاسلام أنت ونعم الخليل.
    كان ابن مسعود أول من جهر بالقرآن بمكة ، اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط ، فمن رجل يسمعهموه ؟ فقال عبد الله بن مسعود : أنا.
    قالوا : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه ، قال : دعوني فإن الله سيمنعني ، قال : فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى ، وقريش في أنديتها ، حتى قام عند المقام ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم.
    رافعا بها صوته.
    الرحمن علم القرآن.
    قال : ثم استقبلها يقرؤها.
    قال : وتأملوه ، فجعلوا يقولون : ماذا قال ابن أم عبد ؟ قال : ثم قالوا : إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقاموا إليه ، فجعلوا يضربون في وجهه ، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء
1 ـ الاستيعاب 1 : 373 ، ج 2 436 ، الإصابة 2 : 369.

(12)
الله أن يبلغ ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه ، فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك ، فقال : ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن.
    ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا ، قالوا : لا ، حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون (1).
    وقد هذبته تلكم الأحوال وكهربته ، فلم يسق لمغضبة على باطل ، ولم يحده طيش إلى غاية ، فهو إن قال فعن هدى ، وإن حدث فعن الصادع الكريم صدقا ، وإن جال ففي مستوى الحق ، وإن صال فعلى الضلالة ، وعرفه بذلك من عرفه من أول يومه ، وكان معظما مبجلا لدى الصحابة وكانوا يحذرون خلافه والرد عليه ويعدونه حوبا قال أبو وائل : إن ابن مسعود رأى رجلا قد أسبل إزاره فقال : ارفع إزارك.
    فقال : و أنت يا ابن مسعود ! فارفع إزارك.
    فقال : إني لست مثلك إن بساقي حموشة وأنا آدم الناس فبلغ ذلك عمر فضرب الرجل ويقول : أترد على ابن مسعود ؟ (2).
    وأخرج أبو عمر بن الاستيعاب 1 : 372 بالإسناد عن علقمة قال : جاء رجل إلى عمر وهو بعرفات فقال : جئتك من الكوفة وتركت بها رجلا يحكي المصحف عن ظهر قلبه فغضب عمر غضبا شديدا وقال : ويحك ومن هو ؟ قال عبد الله بن مسعود.
    قال : فذهب عنه ذلك الغضب وسكن وعاد إلى حاله وقال : والله ما أعلم من الناس أحدا هو أحق بذلك منه.
    فلماذا يحرم هذا البدري العظيم عطاؤه سنين ؟ ثم يأتيه من سامه سوء العذاب وقد خالجه الندم ولات حين مندم متظاهرا بالصلة فلا يقبلها ابن مسعود وهو في منصرم عمره ، ويسأل ربه أن يأخذ له منه بحقه ، ثم يتوجه إلى النعيم الخالد معرضا عن الحطام الزائل ، موصيا بأن لا يصلي عليه من نال منه ذلك النيل الفجيع.
    لماذا فعل به هذا ؟ ولماذا شتم على رؤس الاشهاد ؟ ولماذا أخرج من مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهانا عنفا ، ولماذا ضرب به الأرض فدقت أضالعه ؟ ولما بطشوا به بطش الجبارين ؟.
    كل ذلك لأنه امتنع عن أن يبيح للوليد بن عقبة الخالع الماجن من بيت مال
1 ـ سيرة ابن هشام 1 : 337.
2 ـ الإصابة 2 : 370 ، كنز العمال : 55.


(13)
الكوفة يوم كان عليه ما أمر به ، فألق مفاتيح بيت المال لما لم يجد من الكتاب والسنة وهو العليم بهما مساغا لهاتيك الإباحة ولا لأثرة الآمر بها ، وعلم أنها سوف تتبعها من الأعطيات التي لا يقرها كتاب ولا سنة ، فتسلل عن عمله وتنصل ، وما راقه أن يبوء بذلك الإثم ، فلهج بما علم ، وأبدى معاذيره في إلقاء المفاتيح ، فغاض تلكم الأحوال داعية الشهوات ، وشاخص الهوى الوليد بن عقبة ، فكتب في حقه ونم وسعي ، فكان من ولائد ذلك أن ارتكب من ابن مسعود ما عرفت ، ولم تمنع عن ذلك سوابقه في الاسلام وفضائله وفواضله وعلمه وهديه وورعه ومعاذيره وحججه ، فضلا على أن يشكر على ذلك كله ، فأوجب نقمة الصحابة على من نال ذلك منه ، وإنكار مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وصيحة أم المؤمنين في خدرها ، ولم تزل البغضاء محتدمة على هذه وأمثالها حتى كان في مغبة الأمر ما لم يحمده خليفة الوقت وزبانيته الذين جروا إليه الويلات.
    ولو ضرب المسيطر على الأمر صفحا عن الفظاظة في الانتقام ، أو أعار لنصح صلحاء الأمة أذنا واعية ، أولم يستبدل بجراثيم الفتن عن محنكي الرجال ، أولم ينبذ كتاب الله وسنة نبيه وراء ظهره ، لما استقبله ما جرى عليه وعلى من اكتنفه من الوأد والهوان لكنه لم يفعل ففعلوا ، ولمحكمة العدل الإلهي غدا حكمها البات.
    ولابن مسعود عند القوم مظلمة أخرى وهي جلده أربعين سوطا في موقف آخر ، لماذا كان ذلك ؟ لأنه دفن أبا ذر لما حضر موته في حجته.
    وجد بالربذة في ذلك الوادي القفر الوعر ميتا كان في الغارب والسنام من العلم والإيمان.
    وجد صحابيا عظيما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقربه ويدنيه قد فارق الدنيا.
    وجد عالما من علماء المسلمين قد غادرته الحياة.
    وجد مثالا للقداسة والتقوى ، فتمثل أمام عينيه تلك الصورة المكبرة التي كان يشاهدها على العهد النبوي.
    وجد شبيه عيسى بن مريم في الأمة المرحومة هديا وسمتا ونسكا وزهدا وخلقا ، طرده خليفة الوقت عن عاصمة الاسلام.
    وجد عزيزا من أعزاء الصحابة على الله ورسوله وعلى المؤمنين قد أودى على مستوى الهوان في قاعة المنفى مظلوما مضطهدا.


(14)
    وجد في قارعة الطريق جثمان طيب طاهر غريب وحيد نازح عن الأوطان تصهره الشمس ، وتسفي عليه الرياح ، وذكر قول رسول الله : رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ، ويحشر وحده.
    فلم يدع العلم والدين ابن مسعود ومن معه من المؤمنين أن يمروا على ذلك المنظر الفجيع دون أن يمتثلوا حكم الشريعة بتعجيل دفن جثمان كل مسلم فضلا عن أبي ذر الذي بشر بدفنه صلحاء المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنهضوا بالواجب فأودعوه في مقره الأخير والعيون عبرى ، والقلوب واجدة على ما ارتكب من هذا الانسان المبجل ، فلما هبطوا يثرب نقم على ابن مسعود من نقم على أبي ذر ، فحسب ذلك الواجب الذي ناء به ابن مسعود حوبا كبيرا ، حتى صدر الأمر بجلده أربعين سوطا ، وذلك أمر لا يفعل بمن دفن زنديقا لطم جيفته فضلا عن مسلم لم يبلغ مبلغ أبي ذر من العظمة والعلم والتقوى والزلفة ، فكيف بمثل أبي ذر وعاء العلم ، وموئل التقوى ، ومنبثق الإيمان ، وللعداء مفعول قد يبلغ أكثر من هذا.
    أي خليفة هذا لم يراع حرمة ولا كرامة لصلحاء الأمة وعظماء الصحابة من البدريين الذين نزل فيهم القرآن ، وأثنى عليهم النبي العظيم ؟ وقد جاء في مجرم بدري قوله صلى الله عليه وآله وسلم لما قال عمر : إئذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه : مهلا يا ابن الخطاب إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : إعملوا ما شئتم فإني غافر لكم (1) واختلق القوم حديثا لإدخال عثمان في زمرتهم لفضلهم المتسالم عليه عند الأمة جمعاء ، كأن الرجل آلى على نفسه أن يطل على الأمة الداعية إلى الخير ، الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر ، بالذل والهوان ، ويسر بذلك سماسرة الأهواء من بني أبيه ، فطفق بمراده ، والله من ورائهم حسيب.
    والمدافع إن أعوزته المعاذير تشبث بالطحلب فقال : (2) حداه إلى ذلك الاجتهاد.
    ذلك العذر العام المصحح للأباطيل ، والمبرر للشنايع ، والوسيلة المتخذة لإغراء
1 ـ أحكام القرآن 3 : 535.
2 ـ راجع التمهيد للباقلاني ص 221 ، الرياض النضرة 26 145 ، الصواعق ص 68 ، تاريخ الخميس 2 : 268.


(15)
بسطاء الأمة ، وذلك قولهم بأفواهم ، وإن ربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ، وإن الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.
42
مواقف الخليفة مع عمار
    1 ـ أخرج البلاذري في الأنساب 5 : 48 بالإسناد من طريق أبي مخنف قال : كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر ، فأخذ منه عثمان ما حلي به بعض أهله فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه فخطب فقال : لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ وإن رغمت أنوف أقوام : فقال له علي : إذا تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه.
    وقال عمار بن ياسر : أشهد الله إن أنفي أول راغم من ذلك.
    فقال عثمان : أعلي يا ابن المتكاء (1) تجترئ ؟ خذوه ، فأخذ ودخل عثمان ودعا به فضربه حتى غشي عليه ثم أخرج فحمل حتى أتي به منزل أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصل الظهر والعصر والمغرب فلما أفاق توضأ وصلى وقال : الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا فيه في الله ، وقام هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي وكان عمار حليفا لبني مخزوم فقال : يا عثمان أما علي فاتقيته وبني أبيه ، وأما نحن فاجترأت علينا وضربت أخانا حتى أشفيت به على التلف ، أما والله لئن مات لأقتلن به رجلا من بني أمية عظيم السرة ، فقال عثمان : وإنك لهاهنا يا ابن القسرية ؟ قال : فإنهما قسريتان وكانت أمه وجدته قسريتين من بجيلة ، فشتمه عثمان وأمر به فأخرج ، فأتى أم سلمة فإذا هي قد غضبت لعمار ، وبلغ عائشة ما صنع بعمار فغضبت وأخرجت شعرا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وثوبا من ثيابه ونعلا من نعاله ثم قالت : ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد.
    فغضب عثمان غضبا شديدا حتى ما درى ما يقول فالتج المسجد وقال الناس : سبحان الله ، سبحان الله.
    وكان عمرو بن العاص واجدا على عثمان لعزله إياه عن مصر وتوليته إياها عبد الله بن سعد بن أبي سرح فجعل يكثر التعجب والتسبيح.
    وبلغ عثمان مصير هشام بن الوليد ومن مشى معه من بني مخزوم إلى أم سلمة وغضبها لعمار فأرسل إليها : ما هذا الجمع ؟ فأرسلت إليه دع ذا عنك يا عثمان ! ولا
1 ـ المتكاء : البظراء. المفضاة. التي لا تمسك البول. العظيمة البطن.

(16)
تحمل الناس في أمرك على ما يكرهون. واستقبح الناس فعله بعمار وشاع فيهم فاشتد إنكارهم له.
    وفي لفظ الزهري كما في أنساب البلاذري ص 88 : كان في الخزائن سفط فيه حلي وأخذ منه عثمان فحلى به بعض أهله فأظهروا عند ذلك الطعن عليه وبلغه ذلك فخطب فقال : هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شئت فأرغم الله أنف من رغم فقال عمار : أنا والله أول من رغم أنفه من ذلك.
    فقال عثمان : لقد اجترأت علي يا ابن سمية ؟! و ضربه حتى غشي عليه فقال عمار : ما هذا بأول ما أوذيت في الله.
    وأطلعت عائشة شعرا من رسول صلى الله عليه وسلم ونعله وثيابا من ثيابه ـ فيما يحسب وهب ـ ثم قالت : ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم.
    وقال عمرو بن العاص : هذا منبر نبيكم وهذه ثيابه وهذا شعره لم يبل فيكم وقد بدلتم وغيرتم.
    فغضب عثمان حتى لم يدر ما يقول.
    2 ـ قال البلاذري في الأنساب 5 : 49 إن المقداد بن عمرو وعمار بن ياسر وطلحة والزبير في عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبوا كتابا عددوا فيه أحداث عثمان و خوفوه ربه وأعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع فأخذ عمار الكتاب وأتاه به فقرأ صدرا منه فقال له عثمان : أعلي تقدم من بينهم ؟ فقال عمار : لأني أنصحهم لك.
    فقال : كذبت يا ابن سمية ! فقال : أنا والله ابن سمية وابن ياسر.
    فأمر غلمانه فمدوا بيديه ورجليه ثم ضربه عثمان برجليه وهي في الخفين على مذاكيره فأصابه الفتق ، وكان ضعيفا كبيرا فغشي عليه.
    وذكره ابن أبي الحديد في الشرح 1 : 239 نقلا عن الشريف المرتضى من دون غمز فيه.
    وقال أبو عمر في الاستيعاب 2 : 422 : وللحلف والولاء الذين بين بني مخزوم وبين عمار وأبيه ياسر كان اجتماع بني مخزوم إلى عثمان حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب حتى انفتق له فتق في بطنه ورغموا وكسروا ضلعا من أضلاعه ، فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا : والله لئن مات لقتلنا به أحدا غير عثمان.
    صورة مفصلة قال ابن قتيبة : ذكروا إنه اجتمع ناس من أصحاب رسول الله عليه السلام كتبوا كتابا


(17)
ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله وسنة صاحبيه.
    2 ـ وما كان من هبته خمس أفريقية لمروان وفيه حق الله ورسوله ، ومنهم ذوو القربى واليتامى والمساكين.
    3 ـ وما كان من تطاوله في البنيان حتى عدوا سبع دور بناها بالمدينة دارا لنائلة ودارا لعائشة وغيرهما من أهله وبناته.
    4 ـ وبنيان مروان القصور بذي خشب وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ولرسوله.
    5 ـ وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية من أحداث وغلمة لا صحبة لهم من الرسول ولا تجربة لهم بالأمور.
    6 ـ وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة إذ صلى بهم الصبح وهو أمير عليها سكران أربعة ركعات ثم قال لهم : إن شئتم أن أزيدكم ركعة زدتكم.
    7 ـ وتعطيله إقامة الحد عليه وتأخيره ذلك عنه.
    8 ـ وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شيء ولا يستشيرهم واستغنى برأيه عن رأيهم.
    9 ـ وما كان من الحمى الذي حمى حول المدينة.
    10 ـ وما كان من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي عليه السلام ثم لا يغزون ولا يذبون.
    11 ـ وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط ، وإنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس ، وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرة والخيزران.
    ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب في يد عثمان وكان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وكانوا عشرة ، فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان والكتاب في يد عمار جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده فمضى حتى جاء دار عثمان فاستأذن عليه فأذن له في يوم شات فدخل عليه وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية فدفع إليه الكتاب فقرأه فقال له : أنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال : نعم. قال : ومن كان معك ؟ قال : معي نفر تفرقوا فرقا منك. قال : ومن هم ؟ قال : أخبرك بهم. قال : فلم


(18)
اجترأت علي من بينهم ؟ فقال مروان : يا أمير المؤمنين ! إن هذا العبد الأسود ( يعني عمارا ) قد جرأ عليك الناس وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه. قال عثمان : إضربوه. فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه فغشي عليه فجروه حتى طرحوه على باب الدار ، فأمرت به أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأدخل منزلها وغضب فيه بنو المغيرة وكان حليفهم ، فلما خرج عثمان لصلاة الظهر عرض له هشام بن الوليد بن المغيرة فقال : أما والله لئن مات عمار من ضربه هذا لأقتلن به رجلا عظيما من بني أمية فقال عثمان : لست هناك.
    قال : ثم خرج عثمان إلى المسجد فإذا هو بعلي وهو شاك معصوب الرأس فقال عثمان : والله يا أبا الحسن ! ما أدري أشتهي موتك أم أشتهي حياتك ؟ فوالله لئن مت ما أحب أن أبقى بعدك لغيرك ، لأني لا أجد منك خلفا ولئن بقيت لا أعدم طاغيا يتخذك سلما وعضدا ويعدك كهفا وملجأ ، لا يمنعني منه إلا مكانه منك ومكانك منه ، فأنا منك كالابن العاق من أبيه إن مات فجعه وإن عاش عقه ، فإما سلم فنسالم وإما حرب فنحارب ، فلا تجعلني بين السماء والأرض.
    فإنك والله إن قتلتني لا تجد مني خلفا ، ولئن قتلتك لا أجد منك خلفا ، ولن يلي أمر هذه الأمة بادئ فتنة.
    فقال علي : إن فيما تكلمت به لجوابا ولكني عن جوابك مشغول بوجعي فأنا أقول كما قال العبد الصالح : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.
    قال مروان : إنا والله إذا لنكسرن رماحنا ولنقطعن سيوفنا ولا يكون في هذا الأمر خير لمن بعدنا ، فقال له عثمان : اسكت ، ما أنت وهذا ؟. الإمامة والسياسة 1 ص 29.
    وذكره مختصرا ابن عبد ربه في العقد الفريد 2 : 272 نقلا عن أبي بكر بن أبي شيبة من طريق الأعمش قال : كتب أصحاب عثمان عيبه وما ينقم الناس عليه في صحيفة فقالوا : من يذهب بها إليه ؟ قال عمار : أنا.
    فذهب بها إليه فلما قرأها قال : أرغم الله أنفك قال : وبأنف أبي بكر وعمر قال : فقام إليه فوطئه حتى غشي عليه ثم ندم عثمان وبعث إليه طلحة والزبير يقولان له : إختر إحدى ثلاث : إما أن تعفو ، وإما أن تأخذ الأرش ، وإما أن تقتص ، فقال : والله لا قبلت واحدة منها حتى ألقى الله.
    3 ـ قال البلاذري في الأنساب 5 : 54 : وقد روي أيضا : إنه لما بلغ عثمان موت أبي ذر بالربذة قال : رحمه الله. فقال عمار بن ياسر : نعم فرحمه الله من كل أنفسنا. فقال


(19)
عثمان : يا عاض أير أبيه أتراني ندمت على تسييره ؟ وأمر فدفع في قفاه وقال : ألحق بمكانه فلما تهيأ للخروج جاءت بنو مخزوم إلى علي فسألوه أن يكلم عثمان فيه فقال له علي : يا عثمان ! إتق الله فإنك سيرت رجلا (1) صالحا من المسلمين فهلك في تسييرك ، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره ، وجرى بينهما كلام حتى قال عثمان : أنت أحق بالنفي منه فقال علي : رم ذلك إن شئت.
    واجتمع المهاجرون فقالوا : إن كنت كلما كلمك رجل سيرته ونفيته فإن هذا شيء لا يسوغ.
    فكف عن عمار.
    وفي لفظ اليعقوبي : لما بلغ عثمان وفاة أبي ذر قال : رحم الله أبا ذر.
    قال عمار : نعم رحم الله أبا ذر من كل أنفسنا.
    فغلظ ذلك على عثمان وبلغ عثمان عن عمار كلام فأراد أن يسيره أيضا ، فاجتمعت بنو مخزوم إلى علي بن أبي طالب عليه السلام وسألوه إعانتهم فقال علي : لا ندع عثمان ورأيه.
    فجلس عمار في بيته ، وبلغ عثمان ما تكلمت بنو مخزوم فأمسك عنه.
    تاريخ اليعقوبي 2 : 150.
    4 ـ قال البلاذري في الأنساب 5 : 49 : إن عثمان مر بقبر جديد فسأل عنه فقيل : قبر عبد الله بن مسعود فغضب على عمار لكتمانه إياه موته إذ كان المتولي للصلاة عليه والقيام بشأنه فعندها وطئ عمارا حتى أصابه الفتق.
    وذكره ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 239 نقلا عن الشريف المرتضى من دون غمز فيه.
    وفي لفظ اليعقوبي : توفي ( ابن مسعود ) وصلى عليه عمار بن ياسر وكان عثمان غائبا فستر أمره فلما انصرف رأى عثمان القبر فقال : قبر من هذا ؟ فقيل : قبر عبد الله ابن مسعود ، قال : فكيف دفن قبل أن أعلم ؟ فقالوا : ولي أمره عمار بن ياسر وذكر أنه أوصى أن لا يخبر به ولم يلبث إلا يسيرا حتى مات المقداد (1) فصلى عليه عمار وكان أوصى إليه ولم يؤذن عثمان به فاشتد غضب عثمان على عمار وقال : ويلي على ابن السوداء أما لقد كنت به عليما. تاريخ اليعقوبي 2 : 147.
    وفي طبقات ابن سعد 3 : 185 ط ليدن : إن عقبة بن عامر هو الذي قتل عمارا
1 ـ يعني سيدنا أبا ذر الغفاري.
2 ـ اتفقوا على أنه مات سنة ثلاث وثلاثين ، وتوفي ابن مسعود قبله بسنة أو أقل أو أكثر.


(20)
وهو الذي كان ضربه حين أمره عثمان ابن عفان.
    قال الأميني : هذه أفاعيل الخليفة في رجل نزل فيه القرآن شهيدا على طمأنينته بالإيمان والرضا بقنوته آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ، في رجل هو أول مسلم إتخذ مسجدا في بيته يتعبد فيه (1) في رجل تضافر الثناء عليه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشفوعا بالنهي المؤكد عن بغضه ومعاداته وسبه وتحقيره وانتقاصه بألفاظ ستقف عليها إنشاء الله تعالى.
    وقد أكبرته الصحابة الأولون ونقمت على من آذاه وأغضبه وأبغضه ، وفعل به كل تلكم المناهي ولم يؤثر عن عمار إلا الرضا بما يرضي الله ورسوله والغضب لهما والهتاف بالحق والتجهم أمام الباطل رضي الناس أم غضبوا ، ولم يزل على ذلك كله منذ بدء أمره الذي أوذي فيه هو وأبواه ، فكان مرضيا عند الله إيمانهم وخضوعهم وبعين الله ما قاسوه من المحن فعاد ذكرهم وردا لنبي الاسلام فلم يزل يلهج بهم ويدعو لهم ويقول : اصبروا آل ياسر ! موعدكم الجنة. من طريق عثمان بن عفان (2).
    ويقول : أبشروا آل ياسر ! موعدكم الجنة. من طريق جابر (3).
    ويقول : اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت. رواه عثمان أيضا (4).
    وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار وبأبيه وأمه ـ وكانوا أهل بيت إسلام ـ إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : صبرا آل ياسر ! موعدكم الجنة.
    صبرا آل ياسر ! فإن مصيركم إلى الجنة (5).
    نعم : كان عمارا هكذا عند مفتتح حياته الدينية إلى منصرم عمره الذي قتلته فيه
1 ـ طبقات ابن سعد 3 : 178 ط ليدن ، وذكره ابن كثير في تاريخه 7 : 311.
2 ـ أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد 9 : 293 فقال : رجاله ثقات ، وأخرجه الطبراني عن عمار ، والبغوي وابن مندة والخطيب وأحمد وابن عساكر عن عثمان كما في كنز العمال 6 : 185.
3 ـ مجمع الزوائد نقلا عن الطبراني 9 : 293 فقال : رجاله رجال الصحيح غير إبراهيم وهو ثقة.
4 ـ مسند أحمد 1 : 62 ، مجمع الزوائد 9 : 293 فقال : رجاله رجال الصحيح. وأخرجه البيهقي والبغوي والعقيلي والحاكم في الكنى وابن الجوزي وابن عساكر كما في كنز العمال 7 : 72.
5 ـ سيرة ابن هشام 1 : 342 ، حلية الأولياء 1 : 140 ، طرح التثريب 1 : 87 ، وأخرجه الحارث والضياء والحاكم والطيالسي والبغوي وابن مندة وابن عساكر كما في كنز العمال 7 : 72.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: فهرس