الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: 31 ـ 40
(31)
عزل عثمان رضي الله عنه الوليد بن عقبة عن الكوفة ولاها سعيد بن العاص وأمره بمداراة أهلها ، فكان يجالس قراءها ووجوه أهلها ويسامرهم فيجتمع عنده منهم : مالك بن الحارث الأشتر النخعي ، وزيد وصعصعة ابنا صوحان العبديان ، وحرقوص بن زهير السعدي ، وجندب بن زهير الأزدي ، وشريح بن أوفى بن يزيد بن زاهر العبسي ، وكعب ابن عبدة النهدي ، وكان يقال لعبدة بن سعد بن ذو الحبكة ـ ، وكان كعب ناسكا وهو الذي قتله بسر بن أرطاة بتثليث ـ وعدي بن حاتم الجواد الطائي ويكنى أبا طريف ، وكدام بن حضري بن عامر ، ومالك بن حبيب بن خراش ، وقيس بن عطارد بن حاجب ، وزياد بن خصفة بن ثقف ، ويزيد بن قيس الأرحبي ، وغيرهم فإنهم لعنده وقد صلوا العصر إذ تذاكروا السواد والجبل ففضلوا السواد وقالوا : هو ينبت ما ينبت الجبل وله هذا النخل ، وكان حسان بن محدوج الذهلي الذي ابتدأ الكلام في ذلك فقال عبد الرحمن بن خنيس الأسدي صاحب شرطة : لوددت أنه للأمير وأن لكم أفضل منه.
    فقال له الأشتر : تمن للأمير أفضل منه ولا تمن له أموالنا. فقال عبد الرحمن : ما يضرك من تمني حتى تزوي ما بين عينيك فوالله لو شاء كان له. فقال الأشتر : والله لو رام ذلك ما قدر عليه. فغضب سعيد وقال : إنما السواد بستان لقريش.
    فقال الأشتر : أتجعل مراكز رماحنا وما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك ؟ والله لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه. ووثب بابن خنيس فأخذته الأيدي. فكتب سعيد بن العاص بذلك إلى عثمان وقال : إني لا أملك من الكوفة مع الأشتر وأصحابه الذين يدعون القراء وهم السفهاء شيئا. فكتب إليه أن سيرهم إلى الشام.
    وكتب إلى الأشتر : إني لأراك تضمر شيئا لو أظهرته لحل دمك وما أظنك منتهيا حتى يصيبك قارعة لا بقيا بعدها ، فإذا أتاك كتابي هذا فسر إلى الشام لإفسادك من قبلك وإنك لا تألوهم خبالا.
    فسير سعيد الأشتر ومن كان وثب مع الأشتر وهم : زيد و صعصعة ابنا صوحان ، وعائذ من حملة الطهوي من بني تميم ، وكميل بن زياد النخعي ، وجندب بن زهير الأزدي ، والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ، ويزيد بن المكفف النخعي ، وثابت بن قيس بن المنقع النخعي ، وأصعر (1) بن قيس بن الحارث الحارثي
1 ـ كذا في أنساب الأشراف بالعين المهملة وفي الإصابة بالمعجمة.

(32)
    فخرج المسيرون من قراء أهل الكوفة فاجتمعوا بدمشق نزلوا مع عمرو بن زرارة فبرهم معاوية وأكرمهم ، ثم إنه جرى بينه وبين الأشتر قول حتى تغالظا فحبسه معاوية فقام عمرو بن زرارة فقال : لئن حبسته لتجدن من يمنعه.
    فأمر بحبس عمرو فتكلم سائر القوم فقالوا : أحسن جوارنا يا معاوية ! ثم سكتوا فقال معاوية : مالكم لا تكلمون فقال زيد بن صوحان : وما نصنع بالكلام ؟ لئن كنا ظالمين فنحن نتوب إلى الله ، وإن كنا مظلومين فإنا نسأل الله العافية.
    فقال معاوية : يا أبا عائشة ! أنت رجل صدق.
    وأذن له في اللحاق بالكوفة ، وكتب إلى سعد بن العاص : أما بعد : فإني قد أذنت لزيد بن صوحان في المسير إلى منزله بالكوفة لما رأيت من فضله وقصده وحسن هديه فأحسن جواره وكف الأذى عنه وأقبل إليه بوجهك وودك ، فإنه قد أعطاني موثقا أن لا ترى منه مكروها.
    فشكر زيد معاوية وسأله عند وداعه إخراج من حبس ففعل.
    وبلغ معاوية أن قوما من أهل دمشق يجالسون الأشتر وأصحابه فكتب إلى عثمان : إنك بعثت إلي قوما أفسدوا مصرهم وأنغلوه ، ولا آمن أن يفسدوا طاعة من قبلي و يعلموهم ما لا يحسنونه حتى تعود سلامتهم غائلة ، واستقامتهم اعوجاجا.
    فكتب إلى معاوية يأمره أن يسيرهم إلى حمص ، ففعل وكان واليها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بن المغيرة ، ويقال : إن عثمان كتب في ردهم إلى الكوفة فضج منهم سعيد ثانية فكتب في تسييرهم إلى حمص فنزلوا الساحل.
    الأنساب 5 : 39 ـ 43.
    صورة مفصلة
    إن عثمان أحدث أحداثا مشهورة نقمها الصحابة من تأمير بني أمية ولا سيما الفساق منهم وأرباب السفه وقلة الدين ، وإخراج مال الفئ إليهم وما جرى في أمر عمار وأبي ذر وعبد الله بن مسعود وغير ذلك من الأمور التي جرت في أواخر خلافته ، ثم اتفق أن الوليد بن عقبة لما كان عاملا على الكوفة وشهد عليه بشرب الخمر صرفه ، وولى سعيد بن العاص مكانه فقدم سعيد الكوفة واستخلص من أهلها قوما يسمرون عنده فقال سعيد يوما : إن السواد بستان لقريش وبني أمية ، فقال الأشتر النخغي : وتزعم إن السواد الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك ولقومك ؟ فقال صاحب شرطته : أترد على الأمير مقالته ؟ وأغلظ له ، فقال الأشتر لمن حوله من النخع وغيرهم


(33)
من أشراف الكوفة : ألا تسمعون ؟ فوثبوا عليه بحضرة سعيد فوطؤه وطأ عنيفا وجروا برجله ، فغلظ ذلك على سعيد وأبعد سماره ، فلم يأذن بعد لهم فجعلوا يشتمون سعيدا في مجالسهم ثم تعدوا ذلك إلى شتم عثمان ، واجتمع إليهم ناس كثيرا حتى غلظ أمرهم فكتب سعيد إلى عثمان في أمرهم فكتب إليه أن يسيرهم إلى الشام لئلا يفسدوا أهل الكوفة وكتب إلى معاوية وهو والي الشام : إن نفرا من أهل الكوفة قد هموا بإثارة الفتنة وقد سيرتهم ، إليك ، فانههم فإن آنست منهم رشدا فأحسن إليهم وارددهم إلى بلادهم.
    فلما قدموا على معاوية ، وكانوا : الأشتر ، ومالك بن كعب الأرحبي ، والأسود بن يزيد النخعي ، وعلقمة بن قيس النخعي ، وصعصعة بن صوحان العبدي ، وغيرهم جمعهم يوما وقال لهم : إنكم قوم من العرب ذووا أسنان وألسنة وقد أدركتم بالاسلام شرفا وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم ، وقد بلغني أنكم ذممتم قريشا ، ونقمتم على الولاة منها ، ولولا قريش لكنتم أذلة إن أئمتكم لكم جنة فلا تفرقوا عن جنتكم ، إن أئمتكم ليصبرون على الجور ويحتملون فيكم العتاب ، والله لتنتهين أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم الخسف ولا يحمدكم على الصبر ثم تكون شركاؤهم فيما جررتم عليه الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم.
    فقال له صعصعة بن صوحان : أما قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية ، وإن غيرها من العرب لأكثر منها وأمنع.
    فقال معاوية : إنك لخطيب القوم ولا أرى لك عقلا وقد عرفتكم الآن ، وعلمت أن الذي أغراكم قلة العقول ، أعظم عليكم أمر الاسلام فتذكروني الجاهلية ، أخزى الله قوما عظموا أمركم ، إفقهوا عني ولا أظنكم تفقهون : إن قريشا لم تعز في جاهلية ولا في الاسلام إلا بالله وحده ، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدها ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابا ، وأمحضهم أنسابا ، وأكملهم مروءة ، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس تأكل بعضهم بعضا إلا بالله ، فبوأهم حرما آمنا يتخطف الناس من حولهم ، هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا ؟ إلا وقد أصابهم الدهر في بلدهم وحرمهم إلا ما كان من قريش ، فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل حتى أراد الله تعالى أن يستنقذ


(34)
من أكرمه باتباع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة ، فارتضى لذلك خير خلقه ، ثم ارتضى له أصحابا ، وكان خيارهم قريشا ، ثم بنى هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم فلا يصح الأمر إلا بهم ، وقد كان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم ، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه ؟ أف لك ولأصحابك ، أما أنت يا صعصعة ! فإن قريتك شر القرى ، أنتنها نبتا ، وأعمقها واديا ، وألأمها جيرانا ، وأعرفها بالشر ، لم يسكنها شريف قط ، ولا وضيع إلا شب بها نزاع الأمم وعبيد فارس ، وأنت شر قومك أحين أبرزك الاسلام وخلطك بالناس أقبلت تبغي دين الله عوجا ، وتنزع إلى الغواية ؟ إنه لن يضر ذلك قريشا ولا يضعهم ولا يمنعهم من تأدية ما عليهم ، إن الشيطان عنكم لغير غافل ، قد عرفكم بالشر فأغراكم بالناس ، وهو صارعكم وإنكم لا تدركون بالشر أمرا إلا فتح عليكم شر منه وأخزى ، قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم ، لا ينفع الله بكم أحدا أبدا ولا يضره ، ولستم برجال منفعة ولا مضرة ، فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا نبطرنكم النعمة ، فإن البطر لا يجر خيرا ، اذهبوا حيث شئتم ، فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم.
    وكتب إلى عثمان : إنه قدم علي قوم ليست لهم عقول ولا أديان ، أضجرهم العدل لا يريدون الله بشيء ، ولا يتكلمون بحجة ، إنما هممهم الفتنة والله مبتليهم وفاضحهم وليسوا بالذين نخاف نكايتهم ، وليسوا الأكثر ممن له شعب ونكير. ثم أخرجهم من الشام.
    وروى الحسن المدائني : إنه كان لهم مع معاوية بالشام مجالس طالت فيها المحاورات والمخاطبات بينهم ، وإن معاوية قال لهم في جملة ما قاله : إن قريشا قد عرفت إن أبا سفيان أكرمها وابن أكرمها إلا ما جعل الله لنبيه صلى الله عليه وآله فإنه انتجبه وأكرمه ، و لو أن أبا سفيان ولد الناس كلهم لكانوا حلماء.
    فقال له صعصعة بن صوحان : كذبت ، قد ولدهم خير من أبي سفيان ، من خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة فسجدوا له ، فكان فيهم البر والفاجر والكيس والأحمق.
    قال : ومن المجالس التي دارت بينهم : إن معاوية قال لهم : أيها القوم ردوا خيرا


(35)
واسكنوا وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم والمسلمين فاطلبوه وأطيعوني.
    فقال له صعصعة : لست بأهل لذلك ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله.
    فقال : إن أول كلام ابتدأت به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعة رسوله وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا.
    فقال صعصعة : بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
    فقال : إن كنت فعلت فإني الآن أتوب وآمركم بتقوى الله وطاعته ولزوم الجماعة وأن توقروا أئمتكم وتطيعوهم.
    فقال صعصعة : إذا كنت تبت فإنا نأمرك أن تعتزل أمرك فإن في المسلمين من هو أحق به منك ممن كان أبوه أحسن أثرا في الاسلام من أبيك ، وهو أحسن قدما في الاسلام منك.
    فقال معاوية : إن لي في الاسلام لقدما وإن كان غيري أحسن قدما مني لكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني ، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطاب ، فلو كان غيري أقوى مني لم يكن عند عمر هوادة لي ولغيري ، ولا حدث ما ينبغي له أن أعتزل عملي ، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلي فاعتزلت عمله ، ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت أن لا يعزم له على ذلك إلا وهو خير ، فمهلا فإن في دون ما أنتم فيه ، ما يأمر في الشيطان وينهى ، ولعمري لو كانت الأمور تقضي على رأيكم وأهوائكم ما استقامت الأمور لأهل الاسلام يوما وليلة ، فعودوا الخير وقولوه. فقالوا : لست لذلك أهلا.
    فقال : أما والله إن لله لسطوات ونقمات وإني لخائف عليكم أن تتبايعوا إلى مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن فيحلكم ذلك دار الهوان في العاجل والآجل.
    فوثبوا عليه فأخذوا برأسه ولحيته فقال : مه ، إن هذه ليست بأرض الكوفة والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضا ، ثم قام من عندهم فقال : والله لا أدخل عليكم مدخلا ما بقيت وكتب إلى عثمان : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان أما بعد : يا أمير المؤمنين ! فإنك بعثت إلي أقواما يتكلمون بألسنة الشياطين وما يملون


(36)
عليهم ويأتون الناس زعموا من قبل القرآن فيشبهون على الناس ، وليس كل الناس يعلم ما يريدون ، وإنما يريدون فرقة ، ويقربون فتنة ، قد أثقلهم الاسلام وأضجرهم ، و تمكنت رقى الشيطان من قلوبهم ، فقد أفسدوا كثيرا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة ، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم و فجورهم فارددهم إلى مصرهم ، فلتكن دارهم في مصرهم الذي نجم فيه نفاقهم.
    والسلام.
    فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة فردهم إليه فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا ، وكتب سعيد إلى عثمان بضج منهم ، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان أميرا على حمص وهم : الأشتر ، وثابت بن قيس الهمداني (1) وكميل بن زياد النخعي ، وزيد بن صوحان وأخوه صعصعة ، وجندب بن زهير الغامدي ، وحبيب بن كعب الأزدي ، وعروة ابن الجعد (2) وعمرو بن الحمق الخزاعي. وكتب عثمان إلى الأشتر وأصحابه : أما بعد : فإني قد سيرتكم إلى حمص فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها فإنكم لستم تألون الاسلام وأهله شراً. والسلام.
    فلما قرأ الأشتر الكتاب قال : أللهم أسوأنا نظرا للرعية ، وأعملنا فيهم بالمعصية فعجل له النقمة.
    فكتب بذلك سعيد إلى عثمان ، وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص فأنزلهم عبد الرحمن بن خالد الساحل وأجرى عليهم رزقا.
    وروى الواقدي : إن عبد الرحمن بن خالد جمعهم بعد أن أنزلهم أياما وفرض لهم طعاما ثم قال لهم : يا بني الشيطان ! لا مرحبا بكم ولا أهلا ، قد رجع الشيطان محسورا وأنتم بعد في بساط ضلالكم وغيكم ، جزى الله عبد الرحمن إن لم يؤذكم ، يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم ، أتراكم تقولون لي ما قلتم لمعاوية ؟ أنا ابن خالد بن الوليد ، أنا ابن من عجمته العاجمات ، أنا ابن فاقئ عين الردة ، والله يا ابن صوحان ! لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى إن بلغني أن أحدا ممن معي دق أنفك فاقتنعت رأسك ، قال : فأقاموا عنده شهرا كلما ركب أمشاهم معه ويقول لصعصعة : يا ابن الخطية ! إن من لم
1 ـ في تاريخ الطبري : النخعي. بدل : الهمداني.
2 ـ في أسد الغابة 3 : 403 : كان ممن سيره عثمان رضي الله عنه إلى الشام من أهل الكوفة.


(37)
يصلحه الخير أصلحه الشر ، مالك لا تقول كما كنت تقول لسعيد ومعاوية ؟ فيقولون : نتوب إلى الله ، أقلنا أقالك الله ، فما زال ذاك دأبه ودأبهم حتى قال : تاب الله عليكم. فكتب إلى عثمان يسترضيه عنهم ويسأله فيهم فردهم إلى الكوفة.
    تاريخ الطبري 5 : 88 ـ 90 ، الكامل لابن الأثير 3 : 57 ـ 60 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 158 ـ 160 ورأى هذه الصورة أصح ما ذكر في القضية ، تاريخ ابن خلدون 2 : 387 ـ 389 ، تاريخ أبي الفدا ج 1 : 168 في حوادث سنة 33.
    قال الأميني : كان في عظمة أكثر هؤلاء القوم وصلاحهم المتسالم عليه وتقواهم المعترف بها مرتدع من أذاهم وإجفالهم عن مستوى عزهم وموطن إقامتهم وتسييرهم من منفي إلى منفى ، والاصاخة إلى سعاية ذلك الشاب المستهتر والله سبحانه يقول : إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (1) وكان على الخليفة أن يبعث إليه باللائمة بل يعاقبه على ما فرط في جنب أولياء الله بتسميته إياهم السفهاء وهم قراء المصر ، وزعماء الملأ ، ونساك القطر ، وفقهاء القارة ، وهم القدوة في التقوى والنسك ، وبهم الأسوة في الفقه والأخلاق ، ولم يكن عليهم إلا عدم التنازل لميول ذلك الغلام الزائف ، وعدم مماشاتهم إياه على شهواته ومزاعمه ، وهلا أستشف الخليفة حقيقة ما شجر بينه وبين القوم حتى يحكم فيه بالحق ، لكنه بدل أن يتخذ تلكم الطريقة المثلى في القضية استهواه ذلك الشاب المترف فمال إليه بكله ، ونال من القوم ما نال ، وأوقع بهم ما حبذه له الحب والمعمي والمصم ، لكن الدين وملأه أنكرا ذلك عليه وحفظه التاريخ مما نقم به على عثمان.
    كانت لائمة معاوية للقوم مزيجها الملاينة لاعن حلم ، وخشونة لا يستمر عليها ، كل ذلك لم يكن لنصرة حق أو ابتغاء إصلاح ، وإنما كان يكاشفهم جلبا لمرضاة الخليفة ، ويوادعهم لما كان يدور في خلده من هوى الخلافة غدا ، وكان يعرف القوم بالشدة والمتبوعية ، فما كان يروقه قطع خط الرجعة بينه وبينهم متى تسنى له الحصول على غايته المتوخاة ، وكانت هذه الخواطر لا تبارحه ، ولا يزال هو يعد الدقائق والثواني للتوصل إليها ، وكان أحب الأشياء إليه اكتساح العراقيل دونها ، ولذلك أطلق سراح
1 ـ سورة الحجرات : 6.

(38)
القوم وتثبط عن النهضة لنصرة عثمان لما استنصره ( كما سيأتي تفصيله ) حتى قتل و معاوية في الخاذلين له.
    وأما ابن خالد فقد مجرى أبيه في الفظاظة والغلظة ، فلم يعاملهم إلا بالرعونة ولم يجاملهم إلا بالقسوة ، وكل إناء بالذي فيه ينضح.
    وهاهنا نوقفك على نبذ من أحوال من يهمك الوقوف على حياته الثمينة من أولئك الرجال المنفيين الأبرار ، حتى تعلم أن ما تقولوه فيهم وفعلوه بهم في منتأى عنهم ، وإنما كان ذلك ظلما وعدوانا ، وتعلم أن ابن حجر مائن فيما يصف به الأشتر من المروق (1) غير مصيب في قذفه ، متجانف للإثم في الدفاع عن عثمان بقوله : إن المجتهد لا يعترض عليه في أموره الاجتهادية ، لكن أولئك الملاعين المعترضون لا فهم لهم بل ولا عقل (2).

    الأشتر
    1 ـ مالك بن الحارث الأشتر ، أدرك النبي الأعظم وقد أثنى عليه كل من ذكره ، ولم أجد أحدا يغمز فيه ، وثقة العجلي وذكره ابن حبان في الثقات ، ولا يحمل عدم رواية أي إمام عنه على تضعيفه ، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب 10 : 12 : قال مهنا : سألت أحمد عن الأشتر يروي عنه الحديث ؟ قال : لا.
    قال : ولم يرد أحمد بذلك تضعيفه ، وإنما نفى أن تكون له رواية.
    وكفاه فضلا ومنعة كلمات مولانا أمير المؤمنين في الثناء عليه في حياته وبعد المنون ، وإليك بعض ما جاء في ذلك البطل العظيم :
    1 ـ من كتاب لمولانا أمير المؤمنين كتبه إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر : أما بعد : فقد بعثت إليكم عبدا من عباد الله لا ينام أيام الخوف ، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع ، أشد على الفجار من حريق النار.
    و هو : مالك بن الحارث أخو مذحج فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق ، فإنه سيف من سيوف الله ، لا كليل الظبة (1) ولا نابي الضريبة ، فإن أمركم أن تنفروا فانفروا ، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا ، فإنه لا يقدم ولا يحجم ، ولا يؤخر ولا يقدم إلا عن أمري ، وقد
1 ـ راجع الصواعق ص 68.
2 ـ راجع الصواعق ص 68.


(39)
آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم ، وشد شكيمته على عدوكم .. إلخ.
    تاريخ الطبري 9 : 55 ، نهج البلاغة 2 : 61 ، شرح ابن أبي الحديد 2 : 30.
    صورة أخرى
    رواها الشعبي من طريق صعصعة بن صوحان.
    أما بعد : فإني قد بعثت إليكم عبدا من عباد الله لا ينام أيام الخوف ، ولا ينكل عن الأعداء حذار الدوائر ، لا ناكل من قدم ، ولا واه في عزم ، من أشد عباد الله بأسا ، وأكرمهم حسبا ، أضر على الفجار من حريق النار ، وأبعد الناس من دنس أو عار ، وهو : مالك بن الحرث الأشتر ، حسام صارم ، لا نابي الضريبة ، ولا كليل الحد ، حكيم في السلم ، رزين في الحرب ، ذو رأي أصيل ، وصبر جميل ، فاسمعوا له وأطيعوا أمره ، فإن أمركم بالنفر فانفروا ، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا ، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري ، وقد آثرتكم به نفسي نصيحة لكم ، وشدة شكيمته على عدوكم. إلخ (2).
    2 ـ من كتاب للمولى أمير المؤمنين كتبه إلى أميرين من أمراء جيشه.
    وقد أمرت عليكما وعلى من في حيزكما مالك بن الحارث الأشتر ، فاسمعا له وأطيعا واجعلاه درعا ومجنا ، فإنه ممن لا يخاف وهنه ولا سقطته ، ولا بطؤه عما الاسراع إليه أحزم ، ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل.
    قال ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 417 : فأما ثناء أمير المؤمنين عليه السلام عليه في هذا الفصل فقد بلغ مع اختصاره ما لا يبلغ بالكلام الطويل ، ولعمري كان الأشتر أهلا لذلك ، كان شديد البأس جوادا رئيسا حليما فصيحا شاعرا ، وكان يجمع بين اللين والعنف ، فيسطو في موضع السطوة ، ويرفق في موضع الرفق ، ومن كلام عمر : إن هذا الأمر لا يصلح إلا لقوي في غير عنف ، ولين في غير ضعف.
    3 ـ من كتاب كتبه مولانا أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر يذكر فيه الأشتر فيقول : إن الرجل الذي كنت وليته مصر كان لنا نصيحا ، وعلى عدونا شديدا ، وقد
1 ـ الظبة بتخفيف الموحدة : حد السيف.
2 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 : 29 ، جمهرة الرسائل : 1 : 549.


(40)
استكمل أيامه ، ولاقى حمامه ، ونحن عنه راضون ، فرضي الله عنه ، وضاعف له الثواب ، وأحسن له المآب.
    تاريخ الطبري 6 : 55 ، نهج البلاغة 2 : 59 ، الكامل لابن الأثير 3 : 153 ، شرح ابن أبي الحديد 2 : 30.
    4 ـ لما بلغ عليا ( أمير المؤمنين ) موت الأشتر قال : إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين.
    أللهم إني أحتسبه عندك فإن موته من مصائب الدهر.
    ثم قال : رحم الله مالكا فقد كان وفى بعهده ، وقضى نحبه ، ولقي ربه ، مع أنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنها من أعظم المصائب ، قال المغيرة الضبي : لم يزل أمر علي شديدا حتى مات الأشتر (1).
    5 ـ عن جماعة من أشياخ النخع قالوا : دخلنا على علي أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر فوجدناه يتلهف و يتأسف عليه ثم قال : لله در مالك ، وما مالك ؟ لو كان من جبل لكان فندا (2) ، ولو كان من حجر لكان صلدا ، أما والله ليهدن موتك عالما ، وليفرحن عالما ، على مثل مالك فليبك البواكي ، وهل موجود كما لك ؟.
    وقال علقمة بن قيس النخعي : فما زال على يتلهف ويتأسف حتى ظننا أنه المصاب دوننا ، وعرف ذلك في وجهه أياما.
    وفي لفظ الشريف الرضي والزبيدي : لو كان جبلا لكان فندا ، لا يرتقيه حافر ، ولا يوفى عليه الطائر.
    نهج البلاغة 2 : 239 ، شرح ابن أبي الحديد 2 : 30 ، لسان العرب 4 : 336 ، الكامل لابن الأثير 3 : 153 ، تاج العروس 2 : 454.
    6 ـ قال ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 416 : كان فارسا شجاعا رئيسا من أكابر الشيعة وعظمائها ، شديد التحقق بولاء أمير المؤمنين عليه السلام و نصره وقال فيه بعد موته : رحم الله مالكا فلقد كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
    7 ـ دس معاوية بن أبي سفيان للأشتر مولى عمر فسقاه شربة سويق فيها سم فمات
1 ـ شرح ابن أبي الحديد 2 : 29.
2 ـ الفند بالكسر : القطعة العظيمة من الجبل.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: فهرس