الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: 51 ـ 60
(51)
أن كعبا كان يعالج نيرنجا (1) فبلغ ذلك عثمان فأرسل إلى الوليد بن عقبة ليسأله عن ذلك فإن أقر به فأوجعه فدعا به فسأله فقال : إنما هو رفق وأمر يعجب منه فأمر به فعزر وأخبر الناس خبره وقرأ عليهم كتاب عثمان : إنه قد جد بكم فعليكم بالجد وإياكم والهزال فكان الناس عليه وتعجبوا من وقوف عثمان على مثل خبره فغضب فنفر في الذين نفروا فضرب معهم فكتب إلى عثمان فيه ، فلما سير إلى الشام من سير سير كعب بن ذي الحبكة ومالك بن عبد الله وكان دينه كدينه إلى دنباوند لأنها أرض سحرة فقال في ذلك كعب بن ذي الحبكة للوليد :
لعمري لئن طردتني ما إلى التي رجوت رجوعي يا ابن أروى ورجعتي وإن اغترابي في البلاد وجفوتي وإن دعائي كل يوم وليلة طمعت بها من سقطتي لسبيل إلى الحق دهرا غال ذلك غول وشتمي في ذات الإله قليل عليك بدُنباوندكم لطويل
    فلما ولى سعيد أقفله وأحسن إليه واستصلحه فكفره فلم يزدد إلا فسادا (2) شوه الطبري صحيفة تاريخه بمكاتبات السري وقد أسلفنا في الجزء الثامن أنها موضوعة كلها ، اختلق الرجل في كل ما ينتقد به عثمان رواية تظهر فيها لوائح الكذب ، يريد بها رفاء لما هنالك من فتق ، وهو الذي قذف أبا ذر ونظرائه من الصالحين ، غير مكترث لمغبة الكذب والافتراء ، ومن ملامح الكذب في هذه الرواية أن تسيير من سير إلى الشام من قراء الكوفة ونساكها وضرب كعب إنما هو على عهد سعيد بن العاص لا الوليد بن عقبة كما زعمه مختلق الرواية.
    وإن كتاب عثمان إلى الوليد لا يصلح ولم يؤثر في أي من مدونات التاريخ والسير ولو كان تفرد به أناس يوثق بهم لكان مجالا للقبول ، لكن الرواية كما قيل :
صحاحهم عن سجاح عن مسيلمة وكلهم ينتهي إسناد باطله عن ابن حيان والدوسي يمليه إلى عزازيل منشيه ومنهيه (3)

1 ـ النيرج والنيرج : أخذ كالسحر وليس به.
2 ـ تاريخ الطبري 5 : 137.
3 ـ البيتان من قصيدة للشريف ابن فلاح الكاظمي.


(52)
    على أنه يقول فيها : إن وليدا قرأه على رؤس الاشهاد ، كأنه يحاول معذرة عما أرتكب من كعب ، وإنه كان برضى من المسلمين ، ولو صحت المزعمة لكانت مستفيضة إذ الدواعي كانت متوفرة على نقلها ، لكنهم لم يسمعوها فلم يرووها ، مضافا إلى أن المعروف من كعب بن عبدة أنه كان من نساك الكوفة وقرائها كما سمعته من كلام البلاذري وغيره لا ممن يتلهى بالنيرنجات وأشباهها.
    وإن تعجب فعجب ان صاحب النيرنج ـ لو صدقت الأحلام ـ يعزز ويعاقب ، ومعاقر الخمور وليد الفجور لا يحد لشربه الخمر إلا بعد نقمة الصحابة على خليفة الوقت من جراء ذلك ، ثم يكون مقيم الحد عليه غيره وهو مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ولم يكن في أولئك المسيرين من يسمى مالك بن عبد الله وإنما كان فيهم مالك بن الحارث الأشتر ، ومالك بن حبيب الصحابيان كما تقدم ذكرهما.
    وأبيات كعب تناسب أن يخاطب بها عثمان لا الوليد فإنه هو ابن أروى بنت كريز وفيها صراحة بسبب اغتراب كعب وجفوته وشتمه ، وإنها كانت في ذات الله ، يقول ذلك بملأ فمه ولا يرد عليه راد بأنها ليست في ذات الله وإنما هي لأنه كان يعالج نيرنجا.
    هكذا لعبت بالتاريخ يد الأهواء والشهوات تزلفا إلى أناس وانحيازا عن آخرين ، فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.

ـ 45 ـ
تسيير الخليفة عامر بن عبد قيس التميمي البصري الزاهد الناسك إلى الشام
    أخرج الطبري من طريق العلاء بن عبد الله بن زيد العنبري إنه قال : اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلا يكلمه ويخبره بأحداثه ، فأرسلوا إليه عامر بن عبد الله التميمي ثم العنبري وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس فأتاه فدخل عليه فقال له : إن ناسا من المسلمين إجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما فاتق الله عز وجل وتب إليه وانزع عنها.
    قال له عثمان : انظر إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارئ ثم هو يجيء فيكلمني في المحقرات فوالله ما يدري أين الله.
    قال عامر : أنا لا أدري أين الله ؟ قال نعم ، والله ما تدري أين الله.
    قال عامر : بلى والله إني لأدري إن الله بالمرصاد لك. فأرسل عثمان إلى


(53)
معاوية بن أبي سفيان ، وإلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وإلى سعيد ابن العاص ، وإلى عمرو بن العاص ، وإلى عبد الله بن عامر فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب إليه وما بلغ عنهم فلما اجتمعوا عنده قال لهم : إن لكل امرئ وزراء ونصحاء وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي ، وقد صنع الناس ما قد رأيتم ، وطلبوا إلي أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم وأشيروا علي.
    فقال له عبد الله بن عامر : رأيي لك يا أمير المؤمنين ! أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك وأن تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك ، فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه وما هو فيه من دبرة دابته وقمل فروه.
    ثم أقبل عثمان على سعيد بن العاص فقال له : ما رأيك ؟ قال : يا أمير المؤمنين إن كنت تريد رأينا فاحسم عنك الداء واقطع عنك الذي تخاف ، واعمل برأيي تصب.
    قال : وما هو ؟ قال : إن لكل قوم قادة متى تهلك يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر.
    فقال عثمان : إن هذا الرأي لولا ما فيه.
    ثم أقبل على معاوية فقال : ما رأيك ؟ قال : أرى لك يا أمير المؤمنين ! أن ترد عمالك على الكفاية لما قبلهم وأنا ضامن لك قبلي.
    ثم أقبل على عبد الله بن سعد فقال : ما رأيك ؟ قال : أرى يا أمير المؤمنين ! إن الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم.
    ثم أقبل على عمرو بن عاص فقال له : ما رأيك ؟ قال : أرى إنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعتدل ، فإن أبيت فاعتزم إن تعتزل ، فإن أبيت فاعتزم عزما وامض قدما.
    فقال عثمان : مالك قمل فروك ؟ أهذا الجد منك ؟ فأسكت عنه دهرا حتى إذا تفرق القوم قال عمرو : لا والله يا أمير المؤمنين ! لأنت أعز علي من ذلك ، ولكن : قد علمت أن سيبلغ الناس قول كل رجل منا فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيرا أو أدفع عنك شرا.
    فرد عثمان عماله على أعمالهم وأمرهم بالتضييق على من قبلهم وأمرهم بتجمير


(54)
الناس في البعوث ، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاج إليه (1).
    وقال البلاذري في الأنساب 5 : 57 : قال أبو مخنف لوط بن يحيى وغيره : كان عامر ابن قيس التميمي ينكر على عثمان أمره وسيرته فكتب حمران بن أبان مولى عثمان إلى عثمان بخبره فكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر بن كريز في حمله فحمله فلما قدم عليه فرآه وقد أعظم الناس إشخاصه وإزعاجه عن بلده لعبادته وزهده ، ألطفه وأكرمه ورده إلى البصرة.
    وروى ابن المبارك في الزهد من طريق بلال بن سعد أن عامر بن عبد قيس وشي به إلى عثمان ، فأمر أن ينفى إلى الشام على قتب ، فأنزله معاوية الخضراء وبعث إليه بجارية وأمرها أن تعلمه ما حاله ، فكان يقوم الليل كله ويخرج من السحر فلا يعود إلا بعد العتمة ، ولا يتناول من طعام معاوية شيئا ، كان يجيء معه بكسر فيجعلها في ماء فيأكلها ويشرب من ذلك الماء ، فكتب معاوية إلى عثمان بحاله فأمره أن يصله ويدنيه فقال : لا إرب لي في ذلك. ( الإصابة لابن حجر 3 : 85 ).
    وذكر ابن قتيبة في المعارف ص 84 و 194 ، وابن عبد ربه في العقد الفريد 2 : 261 ، والراغب في المحاضرات 2 : 212 جملة مما نقم به على عثمان وعدوا منه : إنه سير عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام ، وقال ابن قتيبة : كان خيرا فاضلا.
    قال الأميني : منظر غريب لعمرك في ذلك اليوم ، أليس من المستغرب أن صلحاء البلاد مضطهدون فيه على بكرة أبيهم ؟ فمن راسف تحت نير الاضطهاد ، ومن معتقل في غيابة الجب ، ومن مغترب يجفل به من منفى إلى منفى ، ومن منقطع عن العطاء ، ومن ممقوت ينظر إليه شزرا ، ومن مضروب تدق به أضالعه ، إلى المشتوم يهتك به الملأ الديني لماذا ذلك كله ؟ لأنهم غضبوا للحق ، وأنكروا المنكر ، فهلا كان في وسع من يفعل بهم ذلك إقناعهم بالإقلاع عما ينكرونه وفيه رضا الله قبل كل شيء ، ومرضاة رسوله من بعده ، ومرضاة الأمة جمعاء ، وبه كانت تدحر عنه المثلاث وتخمد الفتن ، وكانت فيه مجلبة للمودة ، ومكتسح للقلاقل ، وهو أدعى لجمام النفس ، وسيادة الأمن ، وإزاحة
1 ـ أنساب البلاذري 5 : 43 ، تاريخ الطبري 5 : 94 ، الكامل لابن الأثير 3 : 62 ، تاريخ ابن خلدون 2 : 390.

(55)
الهرج ، وكان خيرا له من ارتكاب العظائم بالنفي والضرب والشتم والازعاج والجفوة ، ولو كان الخليفة يرى خطأهم في إنكارهم عليه فإنه كان في وسعه أن يعقد لهم محتفلا للتفاهم ، فإما أن يتنازلوا عن بعض ما أرادوا ، أو يتنازل هو عن بعض ما يبتغيه ، أو يتكافئا في التنازل فتقع خيرة الكل على أمر واحد ، وكان عقد هذا المنتدى خيرا له مما عقده للنظر في شأن عامر بن عبد قيس ، وجمع خلقا من أصول الجور ، وجذوم الفتن ، وجراثيم العيث والفساد ، فروع الشجرة الملعونة ، وهم الذين جروا إليه الويلات بجورهم وفجورهم واستعبادهم الأمة وابتغائهم الغوائل ، وهملجتهم وراء المطامع ، فلم يسمع منهم في ذلك المجتمع ولا في غيره إلا رأي مستغش ، ونظرية خائن ، أو أفيكة مائن ، أو دسيسة لعين بلسان النبي الأقدس مرة بعد أخرى ، وهو مع ذلك يراهم وزراءه ونصحاءه وأهل ثقته أولا تعجب من خلافة يكون هؤلاء وزرائها ونصحائها وأهل ثقة صاحبها ؟ ثم انظر كيف كان التفاهم بين الرجلين : الخليفة وسفير المسلمين إليه ، هذا يذكره بالتقوى وبالتوبة إلى الله وينهاه عن ارتكاب العظائم التي استعظمها المسلمون العلماء منهم والقراء والنساك وذووا الرأي والمسكة ، والخليفة يعد ما استعظمته الأمة من المحقرات ، ثم يهزأ به ويقذفه بقلة المعرفة مشفوعا ذلك باليمين كما قذف به كعبا و صعصعة بن صوحان وسمع منهما ما سمعه من عامر لأنهم حملة العلم ، والعلم حرف واحد كثره الجاهلون.
    والأعجب كيف يعير الخليفة إلى سعاية حمران بن أبان أذنا واعية وقد رآه على الفاحشة هو بنفسه وذلك أنه تزوج امرأة في العدة فضربه ونفاه إلى البصرة (1) و أسر إليه سرا فأخبر به عبد الرحمن بن عوف ، فغضب عليه عثمان ونفاه (2) وقال البلاذري في الأنساب 5 : 75 : كان عثمان وجه حمران إلى الكوفة حين شكا الناس الوليد بن عقبة ليأتيه بحقيقة خبره فرشاه الوليد فلما قدم على عثمان كذب عن الوليد وقرظه ثم إنه لقي مروان فسأله عن الوليد فقال له : الأمر جليل فأخبر مروان عثمان بذلك فغضب على حمران وغربه إلى البصرة لكذبه إياه وأقطعه داراً.
1 ـ تاريخ الطبري 5 : 91 ، الكامل لابن الأثير 3 : 60.
2 ـ تهذيب التهذيب 3 : 24.


(56)
    كيف وثق خليفة المسلمين بخبر إنسان هذا شأنه من الفسق والتهور والله جل اسمه يقول : إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ، أن تصيبوا قوما بجهالة.
    الآية ؟ ثم اعجب أن حمران نفاه الخليفة على فسقه وأقطعه دارا لجمع شمله ، والعبد الصالح أبو ذر الغفاري الصادق المصدوق أجفل إلى الربذة ، وترك في البر الأقفر لا يأوي إلى مضرب ، ولا يظله خباء ، هذا من هوان الدنيا على الله.
    وهل الخليفة عرف عامرا ومكانته في الأمة ومنزلته من الزهد والتقوى ومحله من التعبد والنزاهة ، فأصاخ فيه إلى قول الوشاة وأشخصه إلى المدينة مرة وسيره إلى الشام على القتب أخرى ، وأزرى به وأهانه حين مثل بين يديه ؟ أو أنه لم يعرفه ولا شيئا من فضله ، فوثق بما قالوه ؟ وكان عليه أن يعرفه لما علم بسفارته من قبل وجهاء البصرة وأهل الحريجة والتقوى ، ذوي الحلوم الراجحة ، والآراء الناضجة ، فإنهم لا يرسلون طبعا إلا من يرضونه في مكانته وعلمه وعقله وتقواه.
    وهل كان فيما يقوله مغضبة أوانه ما كان يتحرى صالح الأمة وصلاح من يسوسها ؟ إن من العصيب أن نعترف بأنه ما كان يعرف عامرا وصلاحه ، فقد كان يسير بذكره الركبان ، وهبت بأريج فضله النسائم في الأجواء ، والأرجاء ، وفي طيات المعاجم والسير اليوم نماذج من تلكم الشهرة الطائلة عن عامر بين العباد وفي البلاد يوم ألزم نفسه أن يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة (1) فكانوا يعدونه من أولياء الله المقربين ، وأول الزهاد الثمانية ، وذكروا له كرامات ومكرمات.
    أفمن الممكن إذن أن لا يعرفه الخليفة ؟ ولم يكن فيما ينكره إلا ما أصفقت على إنكاره أهل الحل والعقد يومئذ من الصالح العام في الحواضر الإسلامية كلها ، غير أنهم لم يجدوا كما أن عامرا لم يجد أذنا مصغية لهتافهم ، فتكافئ دؤب الخليفة على التصامم ودؤب القوم على الإنكار حتى استفحل الخطب ودارت الدوائر.
    وهلم معي ننظر إلى رواية الضعفاء رواية كذاب متروك عن مجهول منكر عن وضاع متهم بالزندقة متفق على ضعفه : السري عن شعيب عن سيف بن عمر بن محمد و طلحة : إن عثمان سير حمران بن أبان أن تزوج امرأة في عدتها وفرق بينهما وضربه و
1 ـ تاريخ ابن عساكر 7 : 169 ، الإصابة 3 : 85.

(57)
سيره إلى البصرة ، فلما أتى عليه ما شاء الله وأتاه عنه الذي يحب ، أذن له فقدم عليه المدينة ومعه قوم سعوا بعامر أنه لا يرى التزويج ، ولا يأكل اللحم ، ولا يشهد الجمعة فألحقه عثمان بمعاوية فلما قدم عليه رأى عنده ثريدا فأكل أكلا عربيا ، فعرف أن الرجل مكذوب عليه فعرفه معاوية سبب إخراجه فقال : أما الجمعة فإني أشهدها في مؤخر المسجد ثم أرجع في أوائل الناس ، وأما التزويج فإني خرجت وأنا يخطب علي ، وأما اللحم فقد رأيت (1).
    أولا تعجب من الذين اتخذوا هذه الرواية مصدرا في تعذير عثمان عن نفي عامر وإشخاصه وهم يبطلون الرواية في غير هذا المورد بوجود واحد من رجال هذا السند الثلاثة ، لكنهم يحتجون بروايتهم جميعا هاهنا ، وفي كل ما نقم به على عثمان ؟ ثم لننظر فيما وشى به على الرجل بعد الفراغ من النظرة في حال الواشي وهو حمران المتقدم ذكره ، هل يوجب شيء منها ذما أو تعزيرا تأديبا أو تغريبا ؟ وهل هي من المعاصي المسقطة لمحل الانسان ؟ أما ترك التزويج فلم يثبت حرمته إن لم يكن من باب التشريع وأخذه دينا ، وإنما النكاح من المرغب فيه ، على أنه كان لم يزل يخطب لنفسه لكنه لا يجد من يلائمه في خفة المؤنة ، أخرج أبو نعيم في الحلية 2 : 90 : إن عامر بن عبد قيس بعث إليه أمير البصرة فقال : إن أمير المؤمنين أمرني أن أسألك مالك لا تزوج النساء ؟ قال : ما تركتهن وإني لدائب في الخطبة ، قال : وما لك لا تأكل الجبن ؟ قال : أنا بأرض فيها مجوس فما شهد شاهدان من المسلمين أن ليس فيه ميتة أكلته.
    قال : وما يمنعك أن تأتي الأمراء ؟ قال : إن لدى أبوابكم طلاب الحاجات فادعوهم واقضوا حوائجهم ، ودعوا من لا حاجة له إليكم.
    وأخرج من طريق أحمد بن حنبل بإسناده عن الحسن قال : بعث معاوية إلى عبد الله بن عامر أن انظر عامر بن عبد قيس فأحسن إذنه وأكرمه ومره أن يخطب إلى من شاء وأمهر عنه من بيت المال ، فأرسل إليه إن أمير المؤمنين قد كتب إلي وأمرني أن آمرك أن تخطب إلى من شئت وأمهر عنك من بيت المال. قال : أنا في الخطبة دائب. قال : إلى
1 ـ تاريخ الطبري 5 : 91 ، تاريخ ابن عساكر 7 : 167 ، الكامل لابن الأثير 3 : 60 ، أسد الغابة ، تاريخ ابن خلدون 2 : 389.

(58)
من ؟ قال : إلى من يقبل مني الفلقة والتمرة.
    وهذان الحديثان يكذبان ما جاء به السري ، ولو صح ذلك فما وجه هذه المسألة في أيام معاوية عن تزويج عامر ؟
    وأما ترك اللحوم فليس من المحرم أيضا وقد جاءت السنة بتحليلها كلها من غير إيجاب ، نعم تركها النهائي مكروه إن لم يكن من باب التدين ، وقد تستدعي المبالغة في الزهادة الذهول عن شؤن الدنيا بأسرها فلا يلتفت صاحبها إلى الملاذ كلها ، وكان مع ذلك لعامر عذر ، قال ابن قتيبة في المعارف ص 194 : وكان سبب تسييره أن حمران بن أبان كتب فيه : أنه لا يأكل اللحم ، ولا يغشى النساء ، ولا يقبل الأعمال ، فعرض بأنه خارجي ، فكتب عثمان إلى ابن عامر : أن ادع عامرا فإن كانت فيه الخصال فسيره فسأله فقال : أما اللحم فإني مررت بقصاب يذبح ولا يذكر اسم الله ، فإذا اشتهيت اللحم اشتريت شاة فذبحتها ، وأما النساء فإن لي عنهن شغلا ، وأما الأعمال فما أكثر من تجدونه سواي.
    فقال له حمران : لا أكثر الله فينا أمثالك ، فقال له عامر : بل أكثر الله فينا من أمثالك كساحين حجامين.
    وأما عدم الحضور للجمعة : فقد بين عامر نفسه حقيقته لمعاوية وهو الصادق الأمين على أنه كان له أن لا يحضر الجمعة والجماعة إن لم ير لمقيمها أهلية للايتمام به ، وليس من المنكر ذلك في حق الولاة الأمويين يومئذ.
    وعلى فرض صحة الرواية وكون كل مما نبز به حوبا كبيرا فكان من الميسور تحقيق حال الرجل من قبل والي البصرة كما وقع ذلك فيما مر من رواية أبي نعيم بالنسبة إلى التزويج وأكل الجبن وإتيان الأمراء.
    ولا أدري هل من الفرائض في الشريعة السمحاء أكل الجبن بحيث يوجب تركه التجسس والتفتيش ؟ وعلى كل فما الموجب لإجفال الرجل العظيم من مستقر أمنه على قتب إلى الشام منفى الثائرين على الخليفة ؟ وأي عقل يقبل تسييره وتعذيبه لتلك الأمور التافهة ؟ نعم : الغريق يتشبث بكل حشيش.

ـ 46 ـ
تسيير الخليفة عبد الرحمن بن حنبل الجمحي
    عدّ ممن سيره الخليفة عبد الرحمن بن حنبل الجمحي. قال اليعقوبي : سير


(59)
عبد الرحمن صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى القموس (1) من خيبر ، وكان سبب تسييره إياه أنه بلغه كرهه مساوي ابنه وخاله وأنه هجاه.
    وقال العلائي عن مصعب وأبو عمر في الاستيعاب إنه لما أعطى عثمان مروان خمس مائة ألف من خمس أفريقية قال عبد الرحمن :
وأحلف بالله جهد اليمين ولكن جعلت لنا فتنة دعوت الطريد فأدنيته ووليت قرباك أمر العباد وأعطيت مروان خمس الغنيمة ومالا أتاك به الأشعري فإن الأمينين قد بينا فما أخذا درهما غيلة ما ترك الله أمرا سدى لكي نبتلى بك أو تبتلى خلافا لما سنه المصطفى خلافا لسنة من قد مضى آثرته وحميت الحمى من الفئ أعطيته من دنا منار الطريق عليه الهدى ولا قسما درهما في هوى (2)
    فأمر به فحبس بخيبر ، وأنشد له المرزباني في معجم الشعراء أنه قال وهو في السجن :
إلى الله أشكو لا إلى الناس ما عدا بخيبر في قعر الغموص كأنها أ إن قلت حقا أو نشدت أمانة أبا حسن غلا شديدا أكابده جوانب قبر أعمق اللحد لاحده قتلت ؟ فمن للحق إن مات ناشده ؟
    وكتب إلى علي وعمار من الحبس :
أبلغ عليا وعمارا فأنهما لا تتركا جاهلا حتى يوقره لم يبق لي منه إلا السيف إذ علقت يعلم بأني مظلوم إذا ذكرت بمنزل الرشد إن الرشد مبتدر دين الإله وإن هاجت به مرر حبائل الموت فينا الصادق البرر وسط الندي حجاج القوم والعذر
    فلم يزل علي يكلم عثمان حتى خلى سبيله على أنه لا يساكنه بالمدينة فسيره
1 ـ كذا في لفظ اليعقوبي. وفي الإصابة : الغموص كما في الأبيات. والصحيح : القموص بالقاف المفتوحة وآخره صاد مهملة.
2 ـ قد تنسب هذه الأبيات إلى أسلم راجع 8 : 254.


(60)
إلى خيبر فأنزله قلعة بها تسمى ( القموص ) فلم يزل بها حتى ناهض المسلمون عثمان و ساروا إليه من كل بلد فقال عبد الرحمن :
لولا علي فإن الله أنقذني لما رجوت لدى شد بجامعة نفسي فداء على إذ يخلصني على يديه من الأغلال والصفد يمنى يدي غياث الفوت من أحد من كافر بعد ما أغضى علي صمد
    كان عبد الرحمن مع علي في صفين قال الطبري من طريق عوانة : إنه جعل ابن حنبل يقول يومئذ :
إن تقتلوني فأنا ابن حنبل أنا الذي قد قلت فيكم نعثل
    راجع تاريخ الطبري 6 : 25 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 150 ، الاستيعاب 2 : 410 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 66 ، الإصابة 2 : 395.
    قال الأميني : هذا أحد المعذبين الذين أقلتهم غيابة الجب مصفدا بالحديد و لم يجهز عليه إلا إنكاره المنكر ، وجنوحه إلى الحق المعروف ، والكلام فيه لدة ما كررناه في غير واحد من زملائه الصالحين ، وأحسن ما ينم عن سريرته شعره الطافح بالإيمان.

ـ 47 ـ
تسيير الخليفة عليا أمير المؤمنين
    لعل التبسط في البحث عما جرى بين عثمان أيام خلافته وبين علي أمير المؤمنين يوجب خدش العواطف ، وينتهي إلى ما يحمد عقباه ، والتاريخ وإن لم يحفظ منه إلا النزر اليسير غير أن في ذلك القليل غنى وكفاية وبه تعرف جلية الحال ، ونحن نمر به كراما ، فلا نحوم حول البحث عن كلمه القوارص لعلي عليه السلام ، البعيدة عن ساحة قدسه النائية عن مكانته الراقية التي لا يدرك شأوها ، ويقصر دون استكناهها البيان.
    أيسع لمن أسلم وجهه لله وهو محسن وآمن بالكتاب وبما نزل من آية في سيد العترة ، وصدق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبما صدع به من فضائل علي عليه السلام ، وجاوره مع ذلك حقبا وأعواما بيت بيت ، ووقف على نفسياته الكريمة وهو على ضمادة من أفعاله وتروكه وشاهد مواقفه المبرورة ومساعيه المشكورة في تدعيم الدين الحنيف ، أيسع لمسلم هذا شأنه أن يخاطب أخا الرسول المطهر بلسان الله بقوله : لم لا يشتمك ـ مروان ـ إذا
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: فهرس