الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: 61 ـ 70
(61)
شتمته فوالله ما أنت عندي بأفضل منه ؟ (1) ومروان طريد رسول الله وابن طريده و لعينه وابن لعينه.
    أم بقوله له : والله يا أبا الحسن ! ما أدري أشتهي موتك ؟ أم أشتهي حياتك ؟ فوالله لئن مت ما أحب أن أبقى بعدك لغيرك لأني لا أجد منك خلفا ، ولئن بقيت لا أعدم طاغيا يتخذك سلما وعضدا ، ويعدك كهفا وملجأ ، لا يمنعني منه إلا مكانه منك ومكانك منه ، فأنا منك كالابن العاق من أبيه إن مات فجعه وإن عاش عقه. إلى آخر ما مر في في ص 18 ؟.
    أم بقوله له : ما أنت بأفضل من عمار ، وما أنت أقل استحقاقا للنفي منه (2) ؟
    أم بقوله له : أنت أحق بالنفي من عمار ؟ (3).
    أم بقوله الغليظ الذي لا يحب المؤرخون ذكره ونحن سكتنا عن الإعراب عنه (4).
    وبعد هذه كلها يزحزحه عليه السلام عن مدينة الرسول صلى الله عليه وآله ويقلقه من عقر داره ويخرجه إلى ينبع مرة بعد أخرى قائلا لابن عباس : قل له فليخرج إلى ماله بالينبع ، فلا أغتم به ولا يغتم بي.
    ألا مسائل الرجل عما أوجب أولوية الإمام الطاهر المنزه عن الخطل ، المعصوم من الزلل بالنفي ممن نفاهم من الأمة الصالحة ؟ أكان بزعمه علي عليه السلام شيوعيا اشتراكيا شيخا كذابا كأبي ذر الصادق المصدق ؟ أم كان عنده دويبة سوء كابن مسعود أشبه الناس هديا ودلا وسمتا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ أم كان الرجل يراه ابن متكاء ، عاضا أير أبيه ، طاغيا كذابا يجترأ عليه ويجرأ عليه الناس كعمار جلدة ما بين عيني النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ أم كان يحسبه معالجا نيرنجا ككعب بن عبدة الصالح الناسك ؟
1 ـ راجع ج 8 ص 304 و 310.
2 ـ الفتنة الكبرى ص 165.
3 ـ راجع صفحة 19 من هذا الجزء.
4 ـ راجع ج 8 : 298 ، 299 ، 306 ، 323.


(62)
    أم كان يراه تاركا الجبن واللحم والجمعة والتزويج كعامر بن عبد قيس القارئ الزاهد المتعبد ؟.
    أم كان الإمام متكلما بألسنة الشياطين غير عاقل ولا دين كصلحاء الكوفة المنفيين ؟.
    حاشا صنو النبي الأقدس عن أن يرمى بسقطة في القول أو في العمل بعد ما طهره الجليل ، واتخذه نفسا لنبيه ، واختارهما من بين بريته نبيا ووصيا.
    وحاشا أولئك المنفيون من الصحابة الأولين الأبرار والتابعين لهم بإحسان عن تلكم الطامات والأفائك والنسب المفتعلة.
    نعم كان يرى الرجل كلا من أولئك الصفوة البررة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر طاغيا إتخذ عليا عليه السلام سلما ويعده كهفا وملجأ يدافع عنهم بوادر غضب الخليفة ، ويحول بينهم وبين ما يرومه من عقوبة تلك الفئة الصالحة الناقمة عليه لما ركبه من النهابير ، فدفع هذا المانع الوحيد عن تحقق هواجس الرجل كان عنده أولى بالنفي من أولئك الرجال المنفيين ، ولولاه لكان يشفي عنهم غليله ، ويتسنى له ما كان يبتغيه من البغي عليهم ، والله يدافع عن الذين آمنوا وإنه على نصرهم لقدير.
    على أنه ليس من المعقول أن يكون من يأوي إلى مولانا أمير المؤمنين وآواه هو طاغيا كما يحسبه هذا الخليفة ، فإنه لا يأوي إلى مثله إلا الصالح الراشد من المظلومين وهو عليه السلام لا يحمي إلا من هو كذلك ، وهو ولي المؤمنين ، وأمير البررة ، وقائد الغر المحجلين ، وإمام المتقين ، وسيد المسلمين ، كل ذلك نصا من الرسول الصادق الأمين وليتني أدري مم كان يغتم عثمان من مكان أمير المؤمنين عليه السلام بالمدينة ؟ ووجوده رحمة ولطف من الله سبحانه وتعالى على الأمة جمعاء لا سيما في البيئة التي تقله ، يكسح عن أهلها الفساد ، ويكبح جماح المتغلبين ، ويقف أمام نعرات المتهوسين ، و يسير بالناس على المنهج اللاحب سيرا سجحا.
    نعم : يغتم به سماسرة النهمة والشره فيروقهم بعاده ليهملج كل منهم إلى غاياته قلق الوضين.
    وما كان هتاف الناس به يومئذ إلا لأن يقيم أود الجامعة ، ويعدل الخطة العوجاء ، ويقف بهم على المحجة الواضحة ، غير أن ذلك الهتاف لا يروق من لا يروقه


(63)
ذلك كله ، فالاغتمام به جناية على المجتمع الديني ، ووقوف أمام سير الصالح العام.
    ولعمر الله إن هذه القوارص هي التي فتحت باب الجرأة على أمير المؤمنين بمصراعيه طيلة حياته ، وهتكت منه حجاب حرمته وكرامته ، وأطالت عليه ألسنة البذاءة والوقيعة فيه ، وعثمان هو الذي أزرى الإمام في الملأ الديني ، وصغره في أعين الناس وجرأ عليه طغام الأمويين وسفلة الأعراب ، فباذأه أبناء أمية وهم على آسال خليفتهم اتخذوه أسوة وقدوة في شتيمته وقذيعته وآذوا نبيهم في أخيه علم الهدى ، إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ، وأعدلهم عذابا مهينا ، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ، والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا.

ـ 48 ـ
آية نازلة في الخليفة
    أخرج الواحدي والثعلبي من طريق ابن عباس والسدي والكلبي والمسيب بن شريك قالوا : نزلت قوله تعالى في سورة النجم 33 ، 34 ، 35 : أفرأيت الذي تولى ، و أعطى قليلا وأكدى (1) ، أعنده علم الغيب فهو يرى : نزلت في عثمان رضي الله عنه كان يتصدق وينفق في الخير فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن أبي سرح : ما هذا الذي تصنع ؟ يوشك أن لا يبقي لك شيئا.
    فقال عثمان : إن لي ذنوبا وخطايا وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه ، فقال له عبد الله : أعطني ناقتك وبرحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها.
    فأعطاه وأشهد عليه وأمسك وعن بعض ما كان يصنع من الصدقة ، فأنزل الله تعالى : أفرأيت الذي تولى .. الخ.
    فعاد عثمان إلى أحسن ذلك وأجمله.
    وذكره جمع من المفسرين وفي تفسير النيسابوري : معنى تولى : ترك المركز يوم أحد.
    راجع أسباب النزول للواحدي ص 298 ، تفسير القرطبي 17 : 111 ، الكشاف 3 : 146 ، تفسير النيسابوري هامش الطبري 27 : 50 تفسير الشربيني 4 : 128.
1 ـ قال ابن عباس ومجاهد وطاوس وقتادة والضحاك : أكدى : انقطع فلا يعطي شيئا. يقال البئر أكدت.

(64)
    قال الأميني : لا غرابة من ابن أبي سرح وقد تشاكلت أحواله يوم كفره وإسلامه وردته وزلفته من عثمان على عهد خلافته إن لهج بهذه السخافة التي لا تلائم أيا من نواميس العدل : ولكن إن تعجب فعجب قبول عثمان تلكم الخرافة منه ، ومنحه إياه ناقته برحلها على أن يحمل عنه ذنوبه ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) وإشهاده عليه وإمساكه عن الصدقات ، وحسبانه أن ما قاله ذلك الساخر كائن لا محالة ، كأن بيد ابن أبي سرح أزمة الحساب ، وعنده مقاليد يوم القيامة ، وهو الخبير ما يكون فيه ، فأنبأه بأن ذنوبه محيت بتلك المبادلة ، أو أن عثمان نفسه كان يعلم الغيب ، فهو يرى أن ما يقوله حميمه حق ، وكأنه نسي قوله تعالى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ، وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون (1) وقوله تعالى : من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (2) وقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (3) وقوله تعالى : كل نفس بما كسبت رهينة (4) ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه (5) اليوم تجزى كل نفس ما كسبت لا ظلم اليوم (6) ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون (7) إلى آي كثيرة من أمثالها وهي كلها تقرر حكم العقل بقبح أخذ أي أحد بجريمة غيره.
    والعدل يحكم بأن ابن أبي سرح وهو مثال المئاثم والمخازي إن حمل إثما من جراء قولته هذه فإنما هو جرأته على الله تعالى وتصغيره عظمة نيران القسط الإلهي و نهيه عن الصدقة لا ما سبق لعثمان اقترافه من السيئات ، لكن هلم معي إلى ضئولة عقل من يصدق تلكم المهزأة ، ويرتب عليها آثارا عملية حتى ندد به الذكر الحكيم.
1 ـ سورة العنكبوت : 12 ، 13.
2 ـ سورة النساء : 123.
3 ـ سورة الزلزلة : 7 ، 8.
4 ـ سورة المدثر : 381.
5 ـ سورة النساء : 111.
6 ـ سورة غافر : 17.
7 ـ سورة الجاثية : 22.


(65)
    وهب أنا غاضينا الراوي على عود الرجل إلى ما كان بعد نزول الآية الكريمة ، لكن ذلك لا يجديه نفعا يزيح عنه وصمة ضعف الرأي وقوة الرعونة فيه ، نعم : كان يجديه لو لم يعبأ بتلكم الضلالة ، أوانه عدل عنها بقوة التفكير لا بتوبيخ الوحي الإلهي ، وليته لم يعدل فإنه عدل إلى ما عرفت من سيرته في الصدقات ، وجاء يخضم مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع.

ـ 49 ـ
الخليفة لا يعرف المخلص من النار
    أخرج ابن عساكر في تاريخه 2 : 58 من طريق أحمد بن محمد أبي علي بن مكحول البيروتي قال : مر عمر على عثمان بن عفان فسلم عليه فلم يرد عليه السلام فجاء عمر إلى أبي بكر الصديق فقال : يا خليفة رسول الله ! ألا أخبرك بمصيبة نزلت بنا من بعد رسول الله ؟ قال : وما هي ؟ قال : مررت على عثمان فسلمت عليه فلم يرد علي السلام.
    فقال أبو بكر : أو كان ذلك ؟ قال : نعم.
    فأخذ بيده وجاء إلى عثمان فسلما عليه فرد عليهما السلام.
    فقال أبو بكر : جاءك عمر فسلم عليك فلم ترد عليه ؟ فقال : والله يا خليفة رسول الله ! ما رأيته.
    قال : وفي أي شيء كانت فكرتك ؟ قال : كنت مفكرا في رسول الله صلى الله عليه وسلم فارقناه ولم نسأله : كيف الخلاص والمخلص من النار ؟ فقال أبو بكر : والله لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرني فقال عثمان : ففرج عنا قال أبو بكر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تمسكوا بالعروة الوثقى قول لا إله إلا الله.
    قال الأميني : أكان في أذن الرجل وقر على عهد النبوة عما كان يتهالك دونه رسول الله صلى الله عليه وآله ويهتف به آناء الليل وأطراف النهار منذ بدء البعثة إلى أن لقي ربه من الإشادة بكلمة التوحيد ، وإن الاخلاص بها هو المنقذ الفذ ، والسبب الوحيد للنجاة من الهلكة التي من ورائها النار ، وإن من يسلم وجهه لله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى (1) فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى (2) والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة (3) و إنه من يشرك بالله فقد
1 ـ سورة لقمان : 22.
2 ـ سورة البقرة : 256.
3 ـ سورة البقرة : 82.


(66)
حرم الله عليه الجنة ومأواه النار (1).
    ألم يك يسمع نداءه صلى الله عليه وآله : قولوا لا إله إلا الله تفلحوا (2) ؟.
    وقوله : من شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، حرم الله عليه النار.
    وقوله : من قال : لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة.
    وقوله : ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار.
    وقوله : إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقا من قلبه فيموت على ذلك إلا حرم على النار : لا إله إلا الله.
    إلى أحاديث كثيرة جمع جملة ضافية منها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب 2 : 160 ـ 164.
    أو أن الرجل كان يسمع هذه الكلمات الذهبية ، لكنه لا يعيرها أذنا واعية فنسيها ؟ فإن كان لم يع هذه وهي أساس الدعوة فما الذي وعاه ؟ وما الذي تعقله من نبي جاء وذهب ولم يعرف ما هو المخلص من النار ؟ ولم يبعث إلا لانتشال أمته منها ، وفي يده كتابه الكريم فيه تبيان كل شيء ، وأي نبي كان يحسبه عثمان ، نبي العظمة ؟ وعلى أي أساس علا صروح إسلامه ؟ وأي مسلم هذا يدرك أيام دعوة نبيه كلها ثم يدركه صلى الله عليه وآله وسلم الموت ولم يعرف المسكين بعد ما ينجيه من النار ؟ نعم : لم يأل نبي الاسلام في تنوير سبل السلام ، وإنقاذ البشر من النار ، فماذا عليه ؟ إن لم تصادفه نفس صاغية إلى تعاليمه فلم تحفظها.

ـ 50 ـ
ترك الخليفة التكبير في كل خفض ورفع
    أخرج أحمد بالإسناد عن مطرف عن عمران بن حصين قال : صليت خلف علي صلاة ذكرني صلاة صليتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين قال : فانطلقت فصليت معه فإذا هو يكبر كلما سجد وكلما رفع رأسه من الركوع فقلت : يا أبا نجيد من أول من تركه ؟ قال : عثمان رضي الله عنه حين كبر وضعف صوته تركه (3).
1 ـ سورة المائدة 72.
2 ـ تاريخ البخاري ج 4 القسم الثاني ص 14.
3 ـ مسند أحمد 4 : 428 ، 429 ، 432 ، 440 ، 444.


(67)
    قال الأميني : سيوافيك البحث الضافي في الجزء العاشر إنشاء الله تعالى حول التكبيرة في الصلاة عند كل رفع وخفض وأنها سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله تسالمت عليها الأمة ، وعمل بها الصحابة ، واستقر عليها إجماع أئمة المذاهب ، وهذا الحديث يعطينا خبرا بأن أول من تركها هو عثمان وتبعه معاوية وبنو أمية ، وما زال الناس على هذا المزن وتمرنت عليه الأمة طوعا أو كرها حتى ضاعت السنة الثابتة ونسيت ، وكان من جاء بها يعد أحمقا كأنه ارتكب بأمر إمر شاذ عن الشرع المقدس ، والتبعة في ذلك كله على الخليفة البادي بترك سنة الله التي لا تبديل لها.
    قال الزرقاني في شرح الموطأ 2 : 145 : ولأحمد عن عمران : أول من ترك التكبير عثمان حين كبر ، وللطبري عن أبي هريرة : أول من ترك معاوية ، وأبي عبيد : أول من تركه زياد.
    ولا ينافي ما قبله لأن زيادا تركه بترك معاوية ، وكأنه تركه بترك عثمان وقد حمله جماعة من العلماء على الاخفاء.
    وتبرير عمل عثمان بالحمل علي الاخفاء يأباه صريح لفظ ترك.
    وإنما يخبر ابن حصين عن تكبير أمير المؤمنين في الهوي والانتصاب لا عن جهره به ، والسائل إنما يسأله عن أول من تركه لا عمن خافت به أولا ، ويزيفه ما يأتي عن ابن حجر والشوكاني وغيرهما من قولهم كما سمعت عن الزرقاني : كان معاوية تركه بترك عثمان.
    ولم يؤثر عن معاوية غير الترك والتنقيص كما يأتي حديثه بلفظ نقص ، وقد اتبع إثر عثمان في أحدوثته فإلى الملتقى.

    نتاج البحث
    هذه نبذ قليلة نشرتها يد التاريخ الجانية بعد أن طوى كشحا عن ذكر مهمات ما جرى في ذلك العهد المشحون بالقلاقل ، الطافح بالفتن ، المفعم بالهنابث ، وقد عرفناه جانيا بستر تلكم الحقايق ، جنوحا إلى العاطفة ، سايرا مع الميول ، والتاريخ حر يجب أن يمضي مع الواقع وأن لا يلويه مع القصد تعصب لأحد أو تحيز إلى فئة ، لكن القوم لم يسيروا في سرد التاريخ كما يجب عليهم ، فطفقوا يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويثبتون ما يوافق هواهم ، ويدعون ما لا يروقهم.
    قال الطبري في تاريخه 5 : 108 : إن الواقدي ذكر في سبب مسير المصريين إلى


(68)
عثمان ونزولهم ذا خشب أمورا كثيرة ، منها ما تقدم ذكره ، ومنها ما أعرضت عن ذكره كراهة مني ذكره لبشاعته.
    وقال في ج 5 : 113 : قد ذكرنا كثيرا من الأسباب التي ذكر قاتلوه إنهم جعلوها ذريعة إلى قتله ، فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إلى الإعراض عنها.
    وقال في ص 232 : إن محمد بن أبي بكر كتب إلى معاوية لما ولي فذكر مكاتبات جرت بينهما كرهت ذكرها لما فيه مما لا يتحمل سماعها العامة.
    ومر في ج 8 : 305 في ذكر ما جرى بين علي عليه السلام وعثمان قول المسعودي : فأجابه عثمان بجواب غليظ لا أحب ذكره وأجابه علي بمثله.
    وقال ابن الأثير في الكامل 3 : 70 : قد تركنا كثيرا من الأسباب التي جعلها الناس ذريعة إلى قتله لعلل دعت إلى ذلك.
    وقال ابن كثير في البداية والنهاية 7 : 166 : وفي هذه السنة ( يعني 33 ) سير عثمان بعض أهل البصرة منها إلى الشام وإلى مصر بأسباب مسوغة لما فعله رضي الله عنه فكان هؤلاء ممن يؤلب عليه ويمالئ الأعداء في الحط والكلام فيه وهم الظالمون في ذلك ، وهو البار الراشد رضي الله عنه.
    وقال في ص 177 : جرت أمور سنورد منها ما تيسير وبالله المستعان.
    ثم ذكر من الأمور ما راقه ويلائم ذوقه ولم يذكر إلا سلسلة أكاذيب لم يصح شيء منها.
    وقال الدكتور أحمد فريد رفاعي في عصر المأمون 1 : 5 : أما نحن فلا يطلب منا أن نبدي رأينا في عثمان ، فهو صحابي عظيم وله أثره الخالد في جمع القرآن وغير القرآن وله دينه السمح الذي لا تشوبه شائبة ، وما كان الدين ليحتم على الناس جميعا أن يكون نظرهم إلى الحياة الدنيا نظر التقشف والزهد ، ولا يطلب منا أن نثبت ضعف الحكومة العثمانية ، وإنما يطلب منا أن نسرد الحوادث بإيجاز ، ولنا في تسلسل هذه الحوادث و دراستها وتقييد آثارها ما قد يسمح لنا بالتعرض له حين معالجتنا الكلام عن عصرنا فيما بعد.
    ثم ذكر ما جاء به اليعقوبي من الايعاز إلى بعض ما نقم به على عثمان فتخلص عن البحث فيه بما أتى به ابن الأثير من رواية الطبري عن السري الكذاب عن شعيب المجهول عن سيف المتروك الساقط المتهم بالزندقة أو عن أناس آخرين أمثال هؤلاء.


(69)
    أضف إلى هذه كثيرا من كتب التاريخ المؤلفة قديما وحديثا فإنها ألفت بيد أثيمة على ودايع العلم والدين ، ولعل في المذكور في كتابنا هذا وهو قليل من كثير مقنعا للحصول على العلم بنفسيات الخليفة من شتى نواحيه ، ومبلغه من العلم ، ومقداره من التقوى ، ومداه من الرأي ، ومآثره من ناحية ملكاته ، وقد عرف كل ذلك من عاصره وعاشره ، فكانت كلمتهم في حقه واحدة ، ورأيهم فيه فذا ، وأعمالهم معه كل يشبه الآخر ، ونحن نذكر لك نماذج مما لفظ به من قول وعمل به من فعل في ذلك الدور القاتم بالفجايع والفظايع فدونكها :

    1 ـ حديث أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب صلوات الله عليه
    1 ـ من كلام له عليه السلام في معنى قتل عثمان : لو أمرت به لكنت قاتلا ، أو نهيت عنه لكنت ناصرا ، غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول : خذله من أنا خير منه ، و من خذله لا يستطيع أن يقول : نصره من هو خير مني ، وأنا جامع لكم أمره : استأثر فأساء الأثرة ، وجزعتم فأسأتم الجزع ، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع (1) قال ابن أبي الحديد في الشرح 1 : 158 : قوله : غير أن من نصره.
    معناه إن خاذليه كانوا خيرا من ناصريه ، لأن الذين نصروه كان أكثرهم فساقا كمروان بن الحكم وأضرابه ، وخذله المهاجرون والأنصار.
    2 ـ من كلام له عليه السلام قاله لابن عباس وقد جاءه برسالة من عثمان وهو محصور يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع فقال عليه السلام : يا ابن عباس ! ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملا ناضحا بالغرب (2) أقبل وأدبر بعث إلي أن أخرج ثم بعث إلي أن أقدم ، ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج ، والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما (3).
    3 ـ أخرج البلاذري في الأنساب 5 : 98 من طريق أبي حادة أنه سمع عليا رضي الله عنه يقول وهو يخطب فذكر عثمان فقال : والله الذي لا إله إلا هو ما قتلته ، و
1 ـ نهج البلاغة 1 : 76.
2 ـ الناضح : البعير يستقى عليه. الغرب : الدلو العظيمة.
3 ـ نهج البلاغة 1 : 468.


(70)
لا ما لات على قتله ، ولا ساءني.
    4 ـ أخرج ابن سعد من طريق عمار بن ياسر قال : رأيت عليا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قتل عثمان وهو يقول : ما أحببت قتله ولا كرهته ، ولا أمرت به ولا نهيت عنه. الأنساب للبلاذري 5 : 101.
    وأو عز شاعر أهل الشام كعب بن جعيل إلى قول الإمام عليه السلام بأبيات له ألا وهي :
وما في علي لمستعتب وإيثاره اليوم أهل الذنوب إذا سيل عنه حذا شبهة (1) فليس براض ولا ساخط ولا هو ساء ولا سرة مقال سوى ضمه المحدثينا ورفع القصاص عن القاتلينا وعمى الجواب على السائلينا ولا في النهاة ولا الآمرينا ولا بد من بعض ذا أن يكونا (2)
    قال ابن أبي الحديد بعد ذكر الأبيات : ما قال هذا الشعر إلا بعد أن نقل إلى أهل الشام كلام كثير لأمير المؤمنين في عثمان يجري هذا المجرى نحو قوله : ما سرني ولا ساءني ، وقيل له : أرضيت بقتله ؟ فقال : لم أرض ، فقيل له : أسخطت قتله ؟ فقال : لم أسخط. وقوله تارة : الله قتله وأنا معه.
    وقوله تارة أخرى : ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله.
    وقوله تارة أخرى : كنت رجلا من المسلمين أوردت إذا وردوا ، و أصدرت إذا صدروا.
    ولكل شيء من كلامه إذا صح عنه تأويل يعرفه أولو الألباب.
    5 ـ أخرج أبو مخنف من طريق عبد الرحمن بن عبيد : إن معاوية بعث إلى علي حبيب من مسلمة الفهري وشرحبيل بن سمط ومعن بن يزيد بن الأخنس فدخلوا عليه وأنا عنده ( إلى أن قال بعد كلام حبيب وشرحبيل وذكر جواب مولانا أمير المؤمنين ) : فقالا أتشهد أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوما ؟ فقال لهما : لا أقول ذلك.
    قالا : فمن لم يشهد أن عثمان قتل مظلوما فنحن منه برءاء.
    ثم قاما فانصرفا فقال علي : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون.
1 ـ في العقد الفريد : زوى وجهه.
2 ـ كتاب صفين لابن مزاحم ص 63 ، العقد الفريد 2 : 267 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 158
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: فهرس