الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: 171 ـ 180
(171)
لا سلم الله عليك ، ارجع يا عدو الله ! راجع يا ابن النابغة ! فلست عندنا بأمين ولا مأمون فقال له ابن عمر وغيره : ليس لهم إلا علي بن أبي طالب فلما أتاه قال : يا أبا الحسن ! ائت هؤلاء القوم فادعهم إلى كتاب الله وسنة نبيه. قال : نعم إن أعطيتني عهد الله وميثاقه على إنك تفي لهم بكل ما أضمنه عنك ، قال : نعم. فأخذ علي عليه عهد الله وميثاقه على أوكد ما يكون وأغلظ وخرج إلى القوم فقالوا : وراءك ، قال : لا ، بل أمامي ، تعطون كتاب الله وتعتبون من كل ما سخطتم ، فعرض عليهم ما بذل عثمان ، فقالوا : أتضمن ذلك عنه ؟ قال : نعم ، قالوا : رضينا.
    وأقبل وجوههم وأشرافهم مع علي حتى دخلوا على عثمان و عاتبوه فأعتبهم من كل شيء فقالوا : اكتب بهذا كتابا فكتب.
بسم الله الرحمن الرحيم
    هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين إن لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ، يعطى المحروم ، ويؤمن الخائف ، ويرد المنفي ، ولا تجمر (1) البعوث ، ويوفر الفئ ، وعلي بن أبي طالب ضمين المؤمنين والمسلمين على عثمان بالوفاء في هذا الكتاب.
    شهد الزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ؟ وسعد بن مالك بن أبي وقاص ، و عبد الله بن عمرو ، وزيد بن ثابت ، وسهل بن خنيف ، وأبو أيوب خالد بن زيد. وكتب في ذي العقدة سنة خمس وثلاثين. فأخذ كل قوم كتابا فانصرفوا. وقال علي بن أبي طالب لعثمان : أخرج فتكلم كلاما يسمعه الناس ويحملونه عنك وأشهد الله ما في قلبك ، فإن البلاد قد تمخضت عليك ، ولا تأمن أن يأتي ركب آخر من الكوفة أو من البصرة أو من مصر فتقول : يا علي اركب إليهم.
    فإن لم أفعل قلت : قطع رحمي ، واستخف بحقي ، فخرج عثمان فخطب الناس فأقر بما فعل واستغفر الله منه ، وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من زل فلينب.
    فأنا أول من اتعظ ، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليردوني برأيهم ، فوالله لو ردني إلى الحق عبد لاتبعته وما عن الله مذهب إلا إليه ، فسر الناس بخطبته واجتمعوا إلى بابه مبتهجين بما كان منه
1 ـ تجمر الجيش : تحبس في أرض العدو ولم يقفل.

(172)
فخرج إليهم مروان فزبرهم وقال : شاهت وجوهكم ما اجتماعكم ؟ أمير المؤمنين مشغول عنكم ، فإن احتاج إلى أحد منكم فسيدعوه فانصرفوا ، وبلغ عليا الخبر فأتى عثمان و هو مغضب فقال : أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بإفساد دينك ، وخديعتك عن عقلك ؟ وإني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك ، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك وقالت له امرأته نائلة بنت الفرافصة : قد سمعت قول علي بن أبي طالب في مروان وقد أخبرك أنه غير عائد إليك ، وقد أطعت مروان ولا قدر له عند الناس ولا هيبة ، فبعث إلى علي فلم يأته.
    وأخرج ابن سعد من طريق أبي عون قال : سمعت عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ذكر مروان فقال : قبحه الله خرج عثمان على الناس فأعطاهم الرضى وبكى على المنبر حتى استهلت دموعه ، فلم يزل مروان يفتله في الذروة والغارب (1) حتى لفته عن رأيه ، قال : وجئت إلى علي فأجده بين القبر والمنبر ومعه عمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر وهما يقولون : صنع مروان بالناس ؟ قلت : نعم (2).

صورة أخرى من توبة الخليفة
    أخرج الطبري من طريق علي بن عمر بن أبيه قال : إن عليا جاء عثمان بعد انصراف المصريين فقال له : تكلم كلاما يسمعه الناس منك ، ويشهدون عليه ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والانابة ، فإن البلاد قد تمخضت عليك فلا آمن ركبا آخرين يقدمون من الكوفة فتقول : يا علي إركب إليهم. ولا أقدر أن أركب إليهم ولا أسمع عذرا. ويقدم ركب آخرون من البصرة فتقول : يا علي إركب إليهم. فإن لم أفعل أيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقك.
    قال : فخرج عثمان وخطب الخطبة التي نزع فيها و أعطى الناس من نفسه التوبة فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أما بعد : أيها الناس فوالله ما عاب من عاب منكم شيئا أجهله ، وما جئت شيئا إلا وأنا أعرفه ، ولكني منتني نفسي وكذبتني ، وضل عني رشدي ، ولقد سمعت رسول
1 ـ لم يزل يفتل في الذروة والغارب. مثل في المخادعة. أي يدور من وراء خديعته.
2 ـ وأخرج الطبري حديث ابن عون هذا وتبعه ابن الأثير وسيوافيك لفظه ، وأوعز إليه الدميري في حياة الحيوان 1 : 53.


(173)
الله صلى الله عليه وسلم يقول : من زل فليتب (1) ومن أخطأ فليتب ولا يتمادى في الهلكة ، إن من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق ، فأنا أول من اتعظ ، أستغفر الله عما فعلت ، و أتوب إليه ، فمثلي نزع وتاب ، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم ، فوالله لئن ردني إلى الحق عبد لأستنن بسنة العبد ، ولأذلن ذل العبد ، ولأكونن كالمرقوق إن ملك مصر ، وإن عتق شكر ، وما عن الله مذهب إلا إليه ، فلا يعجزن عنكم خياركم أن يدنوا إلي ، لئن أبت يميني لتتابعني شمالي.
    قال : فرق الناس له يومئذ وبكى من بكى منهم وقام إليه سعيد بن يزيد فقال : يا أمير المؤمنين ! ليس بواصل لك من ليس معك ، الله الله في نفسك ، فاتمم على ما قلت فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان وسعيدا (2) ونفرا من بني أمية ولم يكونوا شهدوا الخطبة فلما جلس قال مروان : يا أمير المؤمنين ! أتكلم أم أصمت ؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان الكلبية : لا بل اصمت فإنهم والله قاتلوه ومؤتموه ، إنه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها.
    فأقبل عليها مروان فقال : ما أنت وذاك ؟ فوالله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضأ.
    فقالت له : مهلا يا مروان ! عن ذكر الآباء تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه ، وأن أباك لا يستطيع أن يدفع عنه ، أما والله لولا أنه عمه و وأنه يناله غمه أخبرتك عنه ما لن أكذب عليه.
    قال : فأعرض عنها مروان ثم قال : يا أمير المؤمنين ! أتكلم أم أصمت ؟ قال : بل تكلم.
    فقال مروان : بأبي أنت وأمي والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممنع منيع فكنت أول من رضي بها وأعان عليها لكنك قلت ما قلت حين بلغ الحزام الطبيين ، وخلف السيل الزبى ، وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل ، والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوف عليها ، وإنك إن شئت تقربت بالتوبة ولم تقرر بالخطيئة وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس.
    فقال عثمان : فاخرج إليهم فكلمهم فإني أستحي أن أكلمهم ، قال : فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا فقال : ما شأنكم قد اجتمعتم ؟ كأنكم قد جئتم لنهب ، شاهت الوجوه ، كل إنسان آخذ بأذن صاحبه إلا من أريد (3) جئتم
1 ـ كذا في تاريخ الطبري والصحيح ما مر في رواية البلاذري : من زل فلينب.
2 ـ هو سعيد بن العاص.
3 ـ كذا في تاريخ الطبري وفي الكامل : شاهت الوجوه إلى من أريد.


(174)
تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا أخرجوا عنا ، أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم ولا تحمدوا غب رأيكم ، ارجعوا إلى منازلكم ، فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا ، قال : فرجع الناس وخرج بعضهم حتى أتا عليا فأخبره الخبر فجاء علي عليه السلام مغضبا حتى دخل على عثمان فقال : أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك (1) عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به ؟ والله ما مروان بذي رأي في دينه ، ولا نفسه ، وأيم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك ، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أذهبت شرفك ، وغلبت على أمرك.
    فلما خرج علي دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته فقالت : أتكلم أو أسكت ؟ فقال : تكلمي.
    فقالت : قد سمعت قول علي لك وإنه ليس يعاودك ؟ وقد أطعت مروان يقودك حيت شاء قال : فما أصنع ؟ قالت : تتقي الله وحده لا شريك له وتتبع سنة صاحبيك من قبلك ، فإنك متى أطعت مروان قتلك ، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة ، وإنما تركك الناس لمكان مروان ، فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة منك وهو لا يعصى.
    قال : فأرسل عثمان إلى علي فأبي أن يأتيه ، وقال : قد أعلمته : أني لست بعائد.
    فبلغ مروان مقالة نائلة فيه فجاء إلى عثمان فجلس بين يديه فقال : أتكلم أو أسكت ؟ فقال : تكلم.
    فقال : إن بنت الفرافصة.
    فقال عثمان : لا تذكرنها بحرف فأسوء لك وجهك فهي والله أنصح لي منك. فكف مروان (2).
صورة أخرى من التوبة
    من طريق أبي عون قال : سمعت عبد الرحمن بن الأسود بن عبد بن يغوث يذكر مروان بن الحكم قال : قبح الله مروان ، خرج عثمان إلى الناس فأعطاهم الرضا وبكى على المنبر وبكى الناس حتى إلى لحية عثمان مخضلة من الدموع وهو يقول : اللهم إني أتوب إليك ، اللهم إني أتوب إليك ، أللهم إني أتوب إليك ، والله لئن ردني الحق إلى
1 ـ في لفظ البلاذري : إلا بإفساد دينك ، وخديعتك عن عقلك. وفي لفظ ابن كثير : إلا بتحويلك عن دينك وعقلك ، وإن مثلك مثل جمل الظعينة سار حيث يسار به.
2 ـ الأنساب للبلاذري 5 : 64 ، 65 ، تاريخ طبري 5 : 111 ، الكامل لابن الأثير 3 : 68 ، تاريخ ابن كثير 7 : 172 ، شرح ابن أبي الحديد 1 ، 163 ، 164 ، تاريخ ابن خلدون 2 : 396 ، 397.


(175)
أن أكون عبدا قنا لأرضين به ، إذا دخلت منزلي فادخلوا علي ، فوالله لا أحتجب منكم ولأعطينكم ولأزيدنكم على الرضا ، ولأنحين مروان وذويه.
    قال : فلما دخل أمر بالباب ففتح ودخل بيته ودخل عليه مروان فلم يزل يفتله في الذروة والغارب حتى فتله عن رأيه وأزاله عما كان يريد ، فلقد مكث عثمان ثلاثة أيام ما خرج استحياء من الناس ، وخرج مروان إلى الناس فقال : شاهت الوجوه إلا من أريد ارجعوا إلى منازلكم ، فإن يكن لأمير المؤمنين حاجة بأحد منكم يرسل إليه وإلا قر في بيته.
    قال عبد الرحمن : فجئت إلى علي فأجده بين القبر والمنبر وأجد عنده عمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر وهما يقولان : صنع مروان بالناس وصنع ، قال : فأقبل علي علي فقال : أحضرت خطبة عثمان ؟ قلت : نعم.
    قال : أفحضرت مقالة مروان للناس ؟ قلت نعم.
    قال علي : عياذ الله يا للمسلمين ، إني إن قعدت في بيتي قال لي : تركتني وقرابتي وحقي ، وإني إن تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان فصار سيقة له يسوقه حيث شاء بعد كبر السن وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    قال عبد الرحمن بن الأسود : فلم يزل حتى جاء رسول عثمان إئتني فقال علي بصوت مرتفع عال مغضب : قل له : ما أنا بداخل عليك ولا عائد.
    قال : فانصرف الرسول فلقيت عثمان بعد ذلك بليلتين جائيا فسألت ناتلا غلامه من أين جاء أمير المؤمنين ؟ فقال : كان عند علي ، فقال عبد الرحمن بن الأسود فغدوت فجلست مع علي عليه السلام فقال لي : جاءني عثمان بارحة فجعل يقول : إني غير عائد وإني فاعل ، قال : فقلت له.
    بعد ما تكلمت به على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطيت من نفسك ، ثم دخلت بيتك ، وخرج مروان إلى الناس فشتمهم على بابك ويؤذيهم ؟ قال : فرجع وهو يقول : قطعت رحمي وخذلني و جرأت الناس علي فقلت : والله إني لأذب الناس عنك ، ولكني كلما جئتك بهنة أظنها لك رضى جاء بأخرى فسمعت قول مروان علي واستدخلت مروان.
    قال : ثم انصرف إلى بيته أزل أرى عليا منكبا عنه لا يفعل ما كان يفعل (1).

عهد آخر بعد حنث الأول
    أخرج الطبري من طريق عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : كتب أهل المدينة إلى
1 ـ تاريخ الطبري 5 : 112 ، الكامل لابن الأثير 3 : 96.

(176)
عثمان يدعونه إلى التوبة ، ويحتجون ويقسمون لله بالله لا يمسكون عنه أبدا حتى يقتلوه أو يعطيهم ما يلزمه من حق الله ، فلما خاف القتل شاور نصحاءه وأهل بيته فقال لهم : قد صنع القوم ما قد رأيتم فما المخرج ؟ فأشاروا عليه أن يرسل إلى علي بن أبي طالب فيطلب إليه أن يردهم عنه ويعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى يأتيه أمداده فقال : إن القوم لن يقبلوا التعليل وهي محملي وعهدا وقد كان مني في قدمتهم الأولى ما كان ، فمتى أعطهم ذلك يسألوني الوفاء به.
    فقال مروان بن الحكم : يا أمير المؤمنين ! مقاربتهم حتى تقوى أمثل من مكاثرتهم على القرب ، فاعطهم ما سألوك ، وطاولهم ما طاولوك ، فإنما هم بغوا عليك فلا عهد لهم ، فأرسل إلى علي فدعاه فلما جاءه قال : يا أبا حسن ! إنه قد كان من الناس ما قد رأيت وكان مني ما قد علمت ، ولست آمنهم على قتلي فأرددهم عني فإن لهم الله عز وجل أن اعتبهم من كل ما يكرهون ، وأن أعطيهم الحق من نفسي ومن غيري وإن كان في ذلك سفك دمي ، فقال له علي : الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك ، وإني لأرى قوما لا يرضون إلا بالرضا وقد كنت أعطيهم في قدمتهم الأولى عهدا من الله لترجعن عن جميع ما نقموا فرددتهم عنك ، ثم لم تف لهم بشيء من ذلك فلا تغرني هذه المرة من شيء ، فإني معطيهم عليك الحق.
    قال : نعم فاعطهم فوالله لأفين لهم.
    فخرج علي إلى الناس فقال : أيها الناس إنكم إنما طلبتم الحق فقد أعطيتموه إن عثمان قد زعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره ، وراجع عن جميع ما تكرهون ، فاقبلوا منه ووكدوا عليه.
    قال الناس : قد قبلنا فاستوثق منه لنا فإنا والله لا نرضى بقول دون فعل.
    فقال لهم علي : ذلك لكم.
    ثم دخل عليه فأخبره الخبر ، فقال عثمان : إضرب بيني وبينهم أجلا يكون لي في مهلة ، فإني لا أقدر على رد ما كرهوا في يوم واحد ، قال له علي : ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه ، وما غاب فأجله وصول أمرك ، قال : نعم ، ولكن أجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام. قال علي : نعم.
    فخرج إلى الناس فأخبرهم بذلك وكتب بينهم وبين عثمان كتابا أجله فيه ثلاثا على أن يرد كل مظلمة ، ويعزل كل عامل كرهوه ، ثم أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد وميثاق وأشهد عليه ناسا من وجوه المهاجرين والأنصار ، فكف المسلمون عنه ورجعوا إلى أن يفي لهم بما أعطاهم من نفسه ، فجعل يتأهب للقتال ويستعد بالسلاح ، قد كان اتخذ


(177)
جندا عظيما من رقيق الخمس ، فلما مضت الأيام الثلاثة وهو على حاله لم يغير شيئا مما كرهوه ، ولم يعزل عاملا ، ثار به الناس ، وخرج عمرو بن حزم الأنصاري حتى أتى المصريين وهم بذي خشب فأخبرهم الخبر وسار معهم حتى قدموا المدينة فأرسلوا إلى عثمان : ألم نفارقك على أنك زعمت أنك تائب من أحداثك ، وراجع عما كرهنا منك وأعطيتنا على ذلك عهد الله وميثاقه ؟ قال : بلى أنا على ذلك. قال : فما هذا الكتاب الذي وجدنا مع رسولك ؟ الحديث (1).
    سياسة ضئيلة
    لما تكلم علي مع المصريين ورجعهم إلى بلادهم ورجع هو إلى المدينة دخل على عثمان وأخبره أنهم قد رجعوا فمكث عثمان ذلك اليوم حتى إذا كان الغد جاءه مروان فقال له : تكلم واعلم الناس أن أهل مصر قد رجعوا ، وأن ما بلغهم عن إمامهم كان باطلا فإن خطبتك تسير في البلاد قبل أن يتحلب الناس عليك من أمصارهم فيأتيك من لا تستطيع دفعه. فأبى عثمان أن يخرج. فلم يزل به مروان حتى خرج فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد : إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر فلما تيقنوا أنه باطل ما عنه رجعوا إلى بلادهم. فناداه الناس من كل ناحية : اتق الله يا عثمان ! وتب إلى الله. وكان أولهم عمرو ابن العاصي. قال : إتق الله يا عثمان ! فإنك قد ركبت نهابير وركبناها معك فتب إلى الله نتب. إلى آخر ما مر في هذا الجزء صفحة 137.

    قصة الحصار الثاني (2)
    أخرج البلاذري من طريق أبي مخنف قال : لما شخص المصريون بعد الكتاب
1 ـ تاريخ الطبري 5 : 116 ، الكامل لابن الأثير 3 : 71 ، 72 ، شرح ابن أبي الحديد : 1 : 166.
2 ـ مصادرها : الأنساب 5 : 26 ـ 69 ، 95 الإمامة والسياسة 1 : 33 ـ 37 ، المعارف لابن قتيبة ص 84 ، العقد الفريد 2 : 263 ، تاريخ الطبري 5 ، 119 ، 120 ، الرياض النضرة 2 : 123 ، 125 ، الكامل لا بن الأثير 3 : 70 ، 71 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 165 ، 166 تاريخ ابن خلدون 2 : 397 ، تاريخ ابن كثير 7 : 173 ، 174 ، 186 ، 189 ، حياة الحيوان للدميري 1 : 53 ، الصواعق ص 69 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 106 ، 107 ، السيرة الحلبية 2 : 84 ، 86 ، 87 ، تاريخ الخميس 2 : 259 ، واللفظ للبلاذري والطبري.


(178)
الذي كتبه عثمان فصاروا بأيلة (1) أو بمنزل قبلها رأوا راكبا خلفهم يريد مصر فقالوا له : من أنت ؟ فقال : رسول أمير المؤمنين إلى عبد الله بن سعد ، وأنا غلام أمير المؤمنين.
    وكان أسود فقال بعضهم لبعض : لو أنزلناه وفتشناه ألا يكون صاحبه قد كتب فينا بشيء ، ففعلوا فلم يجدوا معه شيئا ، فقال بعضهم لبعض : خلوا سبيله فقال كنانة بن بشر : أما والله دون أن أنظر في إداوته فلا.
    فقالوا : سبحان الله أيكون كتاب في ماء ؟ فقال : إن للناس حيلا.
    ثم حل الإداوة فإذا فيها قارورة مختومة ، أو قال : مضمومة ، في جوف القارورة كتاب في أنبوب من رصاص فأخرجه فقرئ فإذا فيه : أما بعد : فإذا قدم عليك عمرو بن بديل فاضرب عنقه ، واقطع يدي ابن عديس و كنانة ، وعروة ، ثم دعهم يتشحطون في دمائهم حتى يموتوا ، ثم أوثقهم على جذوع نخل.
    فيقال : إن مروان كتب الكتاب بغير علم عثمان ، فلما عرفوا ما في الكتاب ، قالوا : عثمان محل ، ثم رجعوا عودهم على بدئهم حتى دخلوا المدينة فلقوا عليا بالكتاب وكان خاتمه من رصاص ، فدخل به علي على عثمان فحلف بالله ما هو كتابه ولا يعرفه وقال : أما الخط فخط كاتبي ، وأما الخاتم فعلى خاتمي ، قال علي فمن تتهم ؟ قال : أتهمك وأتهم كاتبي.
    فخرج علي مغضبا وهو يقول : بل هو أمرك.
    قال أبو مخنف : وكان خاتم عثمان بدء عند حمران بن أبان ثم أخذه مروان حين شخص حمران إلى البصرة فكان معه : وفي لفظ جهيم الفهري قال : أنا حاضر أمر عثمان فذكر كلاما في أمر عمار.
    فانصرف القوم راضين ثم وجدوا كتابا إلى عامله على مصر أن يضرب أعناق رؤساء المصريين ، فرجعوا ودفعوا الكتاب إلى علي فأتاه به فحلف له أنه لم يكتبه ولم يعلم به.
    فقال له علي : فمن تتهم فيه ؟ فقال : أتهم كاتبي وأتهمك يا علي ! لأنك مطاع عند القوم ولم تردهم عني.
    وجاء المصريون إلى دار عثمان فأحدقوا بها وقالوا لعثمان وقد أشرف عليهم : يا عثمان ! أهذا كتابك ؟ فجحد وحلف فقالوا : هذا شر ، يكتب عنك بما لا تعلمه ، ما مثلك
1 ـ أيلة بالفتح : مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام. وقيل : هي آخر الحجاز وأول الشام.

(179)
يلي أمور المسلمين ، فاختلع من الخلافة.
    فقال : ما كنت لأنزع قميصا قمصنيه الله ، أو قال : سربلنيه الله.
    وقالت بنو أمية : يا علي أفسدت علينا أمرنا ودسست وألبت ، فقال : يا سفهاء ! إنكم لتعلمون أنه لا ناقة لي في هذا ولا جمل ، وإني رددت أهل مصر عن عثمان ثم أصلحت أمره مرة بعد أخرى.
    فما حيلتي ؟ وانصرف وهو يقول : أللهم إني بريء مما يقولون ومن دمه إن حدث به حدث.
    قال : وكتب عثمان حين حصروه كتابا قرأه ابن الزبير على الناس يقول فيه : والله ما كتبت الكتاب ولا أمرت به ولا علمت بقصته وأنتم معتبون من كل ما ساءكم ، فأمروا على مصركم من أحببتم ، وهذه مفاتيح بيت مالكم فادفعوا إلى من شئتم فقالوا : قد اتهمناك بالكتاب فاعتزلنا.
    وأخرج ابن سعد من طريق جابر بن عبد الله الأنصاري قال : إن عثمان وجه إلى المصريين لما أقبلوا يريدونه محمد بن مسلمة في خمسين من الأنصار أنا فيهم فأعطاهم الرضى وانصرفوا فلما كانوا ببعض الطريق رأوا جملا عليه ميسم الصدقة فأخذوه فإذا غلام لعثمان ففتشوه فإذا معه قصبة من رصاص في جوف إداوة فيها كتاب إلى عامل مصر : أن أفعل بفلان كذا ، وبفلان كذا ، فرجع القوم إلى المدينة فأرسل إليهم عثمان محمد بن مسلمة فلم يرجعوا وحصروه.
    صورة أخرى عن سعيد بن المسيب قال : إن عثمان لما ولي كره ولايته نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عثمان كان يحب قومه ، فولي الناس اثنتى عشرة سنة ، وكان كثيرا ما يولي بني أمية ممن لم يكن له من رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة ، وكان يجيئ من أمرائه ما يكره أصحاب محمد ، فكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم ، فلما كان في الحجج الآخرة استأثر ببني عمه فولاهم وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر ، فمكث عليها سنين فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه ، وقد كانت من عثمان قبل هنات إلى عبد الله ابن مسعود وأبي ذر عمار بن ياسر ، فكان في قلوب هذيل وبني زهرة وبني غفار و أحلافها من غضب لأبي ذر ما فيها ، وحنقت بنو مخزوم لحال عمار بن ياسر ، فلما جاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح ، كتب إليه كتاب يتهدده فيه ، فأبى أن ينزع عما نهاه


(180)
عثمان عنه وضرب بعض من شكاه إلى عثمان من أهل مصر حتى قتله ، فخرج من أهل مصر سبع مائة رجل إلى المدينة فنزلوا المسجد وشكوا ما صنع بهم ابن أبي سرح في مواقيت الصلاة إلى أصحاب محمد ، فقام طلحة إلى عثمان فكلمه بكلام شديد ، وأرسلت إليه عائشة رضي الله عنها تسأله أن ينصفهم من عامله ، ودخل عليه علي بن أبي طالب وكان متكلم القوم فقال له : إنما يسألك القوم رجلا مكان رجل ، وقد ادعوا قبله دما فاعزله واقض بينهم ، فإن وجب عليه حق فانصفهم منه.
    فقال لهم : اختاروا رجلا أوليه عليكم مكانه.
    فأشار الناس عليهم بمحمد بن أبي بكر الصديق فقالوا : استعمل علينا محمد بن أبي بكر.
    فكتب عهده وولاه ووجه معهم عدة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن أبي سرح ، فشخص محمد بن أبي بكر وشخصوا جميعا فلما كانوا على مسيرة ثلاث من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير وهو يخبط البعير خبطا كأنه رجل يطلب أو يطلب ، فقال له أصحاب محمد بن أبي بكر : ما قصتك ؟ وما شأنك ؟ كأنك هارب أو طالب.
    فقال لهم مرة : أنا غلام أمير المؤمنين ، وقال أخرى : أنا غلام مروان ، وجهني إلى عامل مصر برسالة ، قالوا : فمعك كتاب ؟ قال : لا.
    ففتشوه ، فلم يجدوا معه شيئا وكانت معه إداوة قد يبست فيها شيء يتقلقل فحركوه ليخرج فلم يخرج فشقوا الإداوة فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح.
    فجمع محمد من كان معه المهاجرين والأنصار وغيرهم ثم الكتاب بمحضر منهم فإذا فيه : إذا أتاك محمد بن أبي بكر وفلان وفلان فاحتل لقتلهم وأبطل كتاب محمد وقر على عملك حتى يأتيك رأيي ، واحبس من يجيء إلي متظلما منك إن شاء الله ، فلما قرأوا الكتاب فزعوا وغضبوا ورجعوا إلى المدينة وختم محمد بن أبي بكر الكتاب بخواتيم نفر ممن كان معه ، ودفعه إلى رجل منهم وقدموا المدينة ، فجمعوا عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم و أخبروهم بقصة الغلام وأقرأوهم الكتاب ، فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان ، وزاد ذلك من كان غضب لابن مسعود وعمار بن ياسر وأبي ذر حنقا وغيظا ، وقام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمنازلهم ما منهم أحد إلا وهو مغتم لما في الكتاب.
    وحاصر الناس عثمان وأجلب عليه محمد بن أبي بكر ببني تيم وغيرهم ، وأعانه على
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: فهرس