الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: 181 ـ 190
(181)
ذلك طلحة بن عبيد الله ، وكانت عائشة تقرصه كثيرا ، ودخل علي وطلحة والزبير وسعد وعمار في نفر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم بدري على عثمان ومع علي الكتاب والغلام والبعير فقال له علي : هذا الغلام غلامك ؟ قال : نعم ، قال : والبعير بعيرك ؟ قال : نعم.
    قال : وأنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال : لا ، وحلف بالله : ما كتبت هذ الكتاب ولا أمرت به ولا علمت شأنه فقال له علي : أفالخاتم خاتمك ؟ قال : نعم.
    قال : فكيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه خاتمك ولا تعلم به ؟ فحلف بالله : ما كتبت الكتاب ولا أمرت به ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر قط.
    وعرفوا أن الخط خط مروان فسألوه أن يدفع إليهم مروان فأبى ، وكان مروان عنده في الدار ، فخرج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من عنده غضابا وعلموا أنه لا يحلف بباطل إلا أن قوما قالوا : لن يبرأ عثمان في قلوبنا إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحثه عن الأمر ونعرف حال الكتاب ، وكيف يؤمر بقتل رجال من أصحاب رسول الله بغير حق ؟ فإن يكن عثمان كتبه عزلناه ، وإن يكن مروان كتبه عن لسان عثمان نظرنا ما يكون منا في أمر مروان ، فلزموا بيوتهم فأبى عثمان أن يخرج مروان.
    فحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء فأشرف على الناس فقال : أفيكم علي ؟ فقالوا : لا.
    قال : أفيكم سعد ؟ فقالوا : لا.
    فسكت ، ثم قال ألا أحد يبلغ عليا فيسقينا ماء ؟ فبلغ ذلك عليا فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء فما كادت تصل إليه وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصلت.

    لفظ الواقدي
    من طريق محمد بن مسلمة وقد أسلفنا صدره في ص 132 ، 133 ، وإليك بقيته : فوجدنا فيه هذا الكتاب فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم.
    أما بعد : فإذا قدم عليك عبد الرحمن بن عديس فاجلده مائة ، واحلق رأسه ولحيته ، وأطل حبسه حتى أتيك أمري ، وعمرو بن الحمق ، فافعل به مثل ذلك ، وسودان بن حمران مثل ذلك ، وعروة بن البياع الليثي مثل ذلك.
    قال : فقلت : وما يدريكم أن عثمان كتب بهذا ؟ قالوا : فيقتات مروان على عثمان بهذا فهذا شر ، فيخرج نفسه من هذا الأمر.
    ثم قالوا : انطلق معنا إليه فقد كلمنا عليا ووعدنا أن يكلمه إذا صلى الظهر وجئنا سعد بن أبي وقاص فقال : لا أدخل في أمركم ، وجئنا سعيد


(182)
بن زيد بن عمرو فقال مثل هذا ، فقال محمد : فأين وعدكم علي ؟ قالوا : وعدنا إذا صلى الظهر أن يدخل عليه.
    قال محمد : فصليت مع علي ، قال : ثم دخلت أنا وعلي عليه فقلنا : إن هؤلاء المصريين بالباب فأذن لهم ، قال : ومروان جالس فقال مروان : دعني جلعت فداك أكلمهم.
    فقال عثمان : فض الله فاك اخرج عني ، وما كلامك في هذا الأمر ؟ فخرج مروان وأقبل علي عليه قال وقد أنهى المصريون إليه مثل الذي انهوا إلي فجعل علي يخبره ما وجدوا في كتابهم ، فجعل يقسم بالله ما كتب ولا علم ولا شور فيه ، فقال محمد بن مسلمة : والله إنه لصادق ، ولكن هذا عمل مروان ، فقال علي : فادخلهم عليك فليسمعوا عذرك.
    قال : ثم أقبل عثمان على علي فقال : إن لي قرابة ورحما والله لو كنت في هذه الحلقة لحللتها عنك ، فأخرج إليهم فكلمهم فإنهم يسمعون منك.
    قال علي : والله ما أنا بفاعل ولكن أدخلهم حتى تعتذر إليهم.
    قال : فادخلوا.
    قال محمد بن مسلمة : فدخلوا يومئذ فما سلموا عليه بالخلافة فعرفت أنه الشر بعينه قالوا : سلام عليكم ، فقلنا : وعليكم السلام قال : فتكلم القوم وقد قدموا في كلامهم ابن عديس ، فذكر ما صنع ابن سعد بمصر وذكر تحاملا منه على المسلمين وأهل الذمة وذكر استئثارا منه في غنائم المسلمين ، فإذا قيل له في ذلك قال : هذا كتاب أمير المؤمنين إلي ، ثم ذكروا أشياء مما أحدث بالمدينة وما خالف به صاحبيه قال : فرحلنا من مصر ونحن لا نريد إلا دمك أو تنزع ، فردنا علي ومحمد بن مسلمة و ضمن لنا محمد النزوع عن كل ما تكلمنا منه ، ثم أقبلوا على محمد بن مسلمة قالوا : هل قلت ذاك لنا ؟ قال محمد : فقلت : نعم ، ثم رجعنا إلى بلادنا نستظهر بالله عز وجل عليك ويكون حجة لنا بعد حجة ، حتى إذا كنا بالبويب (1) أخذنا غلامك فأخذنا كتابك وخاتمك إلى عبد الله بن سعد تأمره فيه بجلد ظهورنا ، والمثل بنا في أشعارنا ، وطول الحبس لنا ، وهذا كتابك ، قال : فحمد الله عثمان أثنى عليه ثم قال : والله ما كتبت ولا أمرت ولا شورت ولا علمت قال : فقلت وعلي جميعا : قد صدق.
    قال : فاستراح إليها عثمان فقال المصريون : فمن كتبه ؟ قال : لا أدري.
    قال : أفيجترأ عليك فيبعث غلامك وجمل من صدقات المسلمين ، وينقش على خاتمك ، ويكتب إلى عاملك بهذه الأمور
1 ـ البويب : مدخل أهل الحجاز بمصر.

(183)
العظام وأنت لا تعلم ؟ قال : نعم ، قالوا : فليس مثلك يلي ، اخلع نفسك من هذا الأمر كما خلعك الله منه قال : لا أنزع قميصا ألبسنيه الله عزوجل.
    قال : وكثرت الأصوات واللغط فما كنت أظن أنهم يخرجون حتى يواثبوه قال : وقام علي فخرج فلما قام علي قمت وقال المصريون : أخرجوا فخرجوا ، ورجعت إلى منزلي ورجع علي إلى منزله فما برحوا محاصرته حتى قتلوه.
    وأخرج الطبري من طريق عبد الرحمن بن يسار : أن الذي كان معه هذه الرسالة من جهة عثمان إلى مصر أبو الأعور السلمي (1) وهو الذي كان يدعو عليه أمير المؤمنين عليه السلام في قنوته مع أناس كما مر حديثه في ج 2 : 32 1 ط 2 ، وذكره ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 165. وأخرج من طريق عثمان بن محمد الأخنسي قال : كان حصر عثمان قبل قدوم أهل مصر فقدم أهل مصر يوم الجمعة وقتلوه في الجمعة الأخرى. تاريخ الطبري 5 : 132.

    الخليفة تواب عواد
    أخرج الطبري من طريق سفيان بن أبي العوجاء قال : قدم المصريون القدمة الأولى فكلم عثمان محمد بن مسلمة فخرج في خمسين راكبا من الأنصار فأتوهم بذي خشب فردهم ورجع القوم حتى إذا كانوا بالبويب وجدوا غلاما لعثمان معه كتاب إلى عبد الله بن سعد فكروا وانتهوا إلى المدينة وقد تخلف بها من الناس الأشتر و حكيم بن جبلة فأتوا بالكتاب فأنكر عثمان أن يكون كتبه وقال : هذا مفتعل.
    قالوا : فالكتاب كتاب كاتبك ؟ قال : أجل ، ولكنه كتبه بغير أمري قالوا : فإن الرسول الذي وجدنا معه الكتاب غلامك؟ قال : أجل ، ولكنه خرج بغير إذني. قالوا : فالجمل جملك قال : أجل ، ولكنه أخذ بغير علمي.
    قالوا : ما أنت إلا صادق أو كاذب ، فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقها ، وإن كنت صادقا فقد استحققت أن تخلع لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك ، لأنه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يقتطع مثل الأمر دونه لضعفه وغفلته ، وقالوا له : إنك ضربت رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم حين يعظونك ويأمرونك بمراجعة الحق عند ما يستنكرون
1 ـ تاريخ الطبري 5 : 115 :

(184)
من أعمالك ، فأقد من نفسك من ضربته وأنت له ظالم ، فقال : الإمام يخطئ ويصيب فلا أقيد من نفسي لأني لو أقدت كل من أصبته بخطأ أتى على نفسي قالوا : إنك قد أحدثت أحداثا عظاما فاستحققت بها الخلع ، فإذا كلمت فيها أعطيت التوبة ثم عدت إليها و إلى مثلها ثم قدمنا عليك فأعطيتنا التوبة والرجوع إلى الحق ولامنا فيك محمد بن مسلمة ، وضمن لنا ما حدث من أمر ، فأخفرته فتبرأ منك وقال : لا أدخل في أمره ، فرجعنا أول مرة لنقطع حجتك ونبلغ أقصى الأعذار إليك نستظهر بالله عز وجل عليك فلحقنا كتاب منك إلى عاملك علينا تأمره فينا بالقتل والقطع والصلب وزعمت أنه كتب بغير علمك وهو مع غلامك وعلى جملك وبخط كاتبك عليه وخاتمك فقد وقعت عليك بذلك التهمة القبيحة ، مع ما بلونا منك قبل ذلك من الجور في الحكم ، والأثرة في القسم ، والعقوبة للأمر بالتبسط من الناس ، والإظهار للتوبة ثم الرجوع إلى الخطيئة ولقد رجعنا عنك وما كان لنا أن نرجع حتى نجعلك ونستبدل بك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يحدث مثل ما جربنا منك ، ولم يقع عليه من التهمة ما وقع عليك فاردد خلافتنا واعتزل أمرنا ، فإن ذلك أسلم لنا منك ، فقال عثمان : فرغتم من جميع ما تريدون ؟ قالوا : نعم ، قال : الحمد لله وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، أما بعد : فإنكم لم تعدلوا في المنطق ولم تنصفوا في القضاء أما قولكم : تخلع نفسك.
    فلا أنزع قميصا قمصنيه الله عزوجل وأكرمني به وخصني به على غيري ولكني أتوب وأنزع ولا أعود لشيء عابه المسلمون ، فإني والله الفقير إلى الله الخائف منه.
    قالوا : إن هذا لو كان أول حدث أحدثته ثم تبت منه ولم نقم عليه لكان علينا أن نقبل منك ، وأن ننصرف عنك ولكنه : قد كان منك من الأحداث قبل هذا ما قد علمت ولقد انصرفنا عنك في المرة الأولى وما نخشى أن تكتب فينا ولا من اعتللت به بما وجدنا في كتابك مع غلامك ، وكيف نقبل توبتك ؟ وقد بلونا منك أنك لا تعطي من نفسك التوبة من ذنب إلا عدت إليه ، فلسنا منصرفين حتى نعزلك ونستبدل بك ، فإن حال من معك


(185)
من قومك وذوي رحمك وأهل الانقطاع إليك دونك بقتال قاتلناهم حتى نخلص إليك فنقتلك ، أو تلحق أرواحنا بالله.
    فقال عثمان : أما أن أتبرأ من الإمارة فإن تصلبوني أحب إلي من أن أتبرأ من أمر الله عز وجل وخلافته وأما قولكم : تقاتلون من قاتل دوني.
    فإني لا آمر أحدا بقتالكم (1) فمن قاتل دوني فإنما قتل بغير أمري ، ولعمري لو كنت أريد قتالكم لقد كنت كتبت إلى الأجناد (2) فقادوا الجنود وبعثوا الرجال أو لحقت ببعض أطرافي بمصر أو عراق ، فالله الله في أنفسكم فابقوا عليها إن لم تبقوا علي : فإنكم مجتلبون بهذا الأمر إن قتلتموني دما.
    قال : ثم انصرفوا عنه وآذنوه بالحرب وأرسل إلى محمد بن مسلمة فكلمه أن يردهم فقال : والله لا أكذب الله في سنة مرتين. تاريخ الطبري 5 : 120 ، 121.

نظرة في أحاديث الحصارين
    أول ما يقع عليه النظر من هذه الأحاديث المجهزين على عثمان هم المهاجرون والأنصار من الصحابة ولم يشذ عنهم إلا أربعة أسلفنا ذكر في صفحة 195 وهم الذين أصفقوا مع أهل مصر والكوفة والبصرة على مقت الخليفة وقتله بعد أن أعيتهم الحيل وأعوزهم السعي في استتابته ، وإكفائه من الأحداث ، ونزوعه عما هو عليه من الجرائم وإن في المقبلين من تلكم البلاد من عظماء الصحابة ، ومن رجال الفضيلة والفقه والتقى من التابعين جماعات لا يستهان بعدتهم ، ولا يغمز في دينهم ، وهم رؤساء هاتيك الجماهير والمؤلبين لهم على عثمان ، فمن الكوفيين : 2 ـ زيد الخير ، له إدراك أثنى عليه النبي الأعظم ، وأنه من الخيار الأبرار.
    2 ـ مالك بن الحارث الأشتر ، له إدراك ، أوقفناك على عظمته وفضله وموقفه من الإيمان ، ومبلغه من الثقة والصلاح.
    3 ـ كعب بن عبدة النهدي ، وقد سمعت عن البلاذري أنه كان ناسكا.
1 ـ لم يكن معه هناك غير بني أبيه حتى يأمر أحدا بالقتال وهم ليسوا هناك وقد تحصنوا يوم قتله بكندوج أم حبيبة كما يأتيك حديثه.
2 ـ كان يتأهب للقتال ، ويستعد بالسلاح ، ويكتب إلى الأجناد ، ويجلب إلى المدينة الجنود المجندة من الشام ، وغيرها ، غير أنه كان يغفل الناس بكلماته هذه وسنوافيك كتبه.


(186)
    4 ـ زياد بن النضر الحارثي ، له إدراك.
    5 ـ عمرو بن الأهتم ، صحابي خطيب بليغ شريف في قومه ، ترجمه ابن عبد البر في ( الاستيعاب ) ، وابن الأثير في ( أسد الغابة ) وابن حجر في ( الإصابة ).
    ( وفي المصريين ) :
    6 ـ عمرو بن الحمق الخزاعي ، صحب النبي وحفظ عنه أحاديث ، وحظي بدعائه صلى الله عليه وآله وسلم له كما مر تفصيله ص 45.
    7 ـ عمرو بن بديل الخزاعي ، صحابي عادل مترجم في معاجم الصحابة.
    8 ـ عبد الله بن بديل الخزاعي : قال أبو عمر : كان سيد خزاعة وخزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشهد حنينا والطائف وتبوك ، وكان له قدر وجلالة ، وكان من وجوه الصحابة. راجع الاستيعاب ، وأسد الغابة ، والإصابة.
    9 ـ عبد الرحمن بن عديس أبو محمد البلوي ، صحب النبي وسمع منه ، وكان ممن بايع تحت الشجرة من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.
    10 ـ محمد بن أبي بكر ، وحسبك فيه ما في الاستيعاب والإصابة من أن عليا ( أمير المؤمنين ) كان يثني عليه ويفضله وكانت له عبادة واجتهاد ، وكان من أفضل أهل زمانه.
    ( ورئيس البصريين ) :
    11 ـ حكيم بن جبلة العبدي ، قال أبو عمر في ( الاستيعاب ) : أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان رجلا صالحا له دين مطاعا في قومه.
    وقال المسعودي في المروج 2 : 7 : كان من سادات عبد القيس وزهادها ونساكها.
    وأثنى عليه مولانا أمير المؤمنين بقوله كما في الكامل 3 : 96 :
دعا حكيم دعوة سميعه يا لهف ما نفسي على ربيعه نال بها المنزلة الرفيعه ربيعة السامعة المطيعه
قد سبقـتني فيهم الوقيعة
    وإن ما جرى في غضون تلكم المعامع ، وتضاعيف ذلك الحوار من أخذ ورد وهتاف وقول ، كلها تنم عن صلاح القوم وتقواهم ، وإنهم لم يغضبوا إلا لله ، ولا دعوا


(187)
إلا إلى أمره ، ولا نهضوا إلا لإقامة الأمت والعوج ، وتقويم دين الله وتنزيهه عن المعرات والأحداث ، ولم يجلبهم إلى ذلك الموقف مطمع في إمارة ، أو نزع إلى حكم أو هوى في مال ، ولذلك كان يرضيهم كلما يبديه الخليفة من النزول على رغباتهم ، والنزوع عن أحداثه ، والانابة إلى الله مما نقموا به عليه ، غير أنه كان يثيرهم في الآونة بعد الأخرى ما كانوا يشاهدونه من المقام على الهنات ، ونقض العهد مرة بعد مرة حتى إذا اطمأنوا إلى أن الرجل غير منكفئ عما كان يقترفه ، ولا مطمئن عما كان يفعله ، فاطمأنوا إلى بقاء التكليف عليهم بالوثوب ، فوقفوا لإزالة ما رأوه منكرا ذلك الموقف الشديد حتى قضى من الأمر ما كان مقدورا.
    ولو كان للقوم غاية غير ما وصفناه لما أثنى مولانا أمير المؤمنين عليه السلام على المصريين منهم بقوله من كتاب كتبه إلى أهل مصر : إلى القوم الذين غضبوا لله حين عصي في أرضه ، وذهب بحقه ، إلى آخر ما مر في صفحة 74 ، ولما كانوا مذكورين في المعاجم والكتب بالثناء الجميل عليهم بعد تلكم المواقف المشهودة ، ولو صدر عن أي أحد أقل مما صدر من أولئك الثائرين على عثمان في حق فرد من أفراد المسلمين فضلا عن الخليفة لعد جناية لا تغفر ، وذنبا لا يبرر ، وسقط صاحبه إلى هوة الضعة ، ولا تبقى له بعد حرمة ولا كرامة ، وغير أن ...
    الثاني من مواقع النظر في الأحاديث المذكورة : إن الخليفة كانت عنده جرائم يستنكرها المسلمون وينكرونها عليه وهو يعترف بها فيتوب عنها ، ثم يروغ عن التوبة فيعود إليها ، ولا أدري أنه في أي الحالين أصدق ؟ أحين اعترف بالأحداث فتاب ؟ أم حين عبث به مروان فرقى المنبر وقال : إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر فلما تيقنوا أنه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم ؟ الثالث : أنه أعطى العهود والمواثيق المؤكدة على النزوع عما كان يرتكبه مما ينقمونه عليه وسجل ذلك في صكوك يبثها في البلاد بأيدي الناهضين عليه ، إذ كان على علم بأن البلاد قد تمخضت عليه كما مر في كلام لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام ، ثم لم يلبث حتى نكثها بعد ما ضمن له بالعمل على ذلك الضمان مثل مولانا أمير المؤمنين ومحمد ابن مسلمة ذلك الصحابي العظيم ، وقد شهدت ذلك الضمان أمة كبيرة من الصحابة ،


(188)
فكأنه ما كان يرى للعهد لزوما ، ولا للضمان حرمة ، ولا للضامنين مكانة ، ولا لنكث العهد معرة ، ولعله كان يجد مبررا لتلكم الفجايع أو الفصايح ، وعلى أي فالمسلمون ( ويقدمهم الصحابة العدول ) لم يرقهم ذلك المبرر ولا اعترفوا به ، فمضوا إلى ما فعلوه قدما غير متحوبين ولا متأثمين.
    الرابع : إن التزامه في كتاب عهده في الحصار الأول بالعمل بالكتاب والسنة وهو في حيز النزوع عما كان يرتكبه قبل ذلك ، وقد أعتب بذلك المتجمهرين عليه المنكرين على أحداثه المنحازة عنهما ، يرشدنا إلى أنه كان في أعماله قبل ذلك الالتزام محيد عن الكتاب والسنة ، وحسب أي إنسان من الضعة أن تكون أعماله منتئية عنهما الخامس : إن الطريد بن الطريد ، أو قل عن لسان النبي الأمين (1) : الوزغ ابن الوزع ، اللعين ابن اللعين ، مروان بن الحكم كان يؤثر في نفسيات الخليفة حتى يحوله ( كما قال مولانا أمير المؤمنين (2) ) عن دينه وعقله ، ويجعله مثل الظعينة يقاد حيث يسار به.
    فلم يزل به حتى أربكه عند منتقض العهود ومنتكث المواثيق ، فأورده مورد الهكة ، وعجيب من الخليفة أن يتأثر بتسويلات الرجل وهو يعلم محله من الدين وموقفه من الإيمان ، ومبوأه من الصدق والأمانة ، وهو يعلم أنه هو وزبانيته هم الذين جروا عليه الويلات وأركبوه النهابير ، وأنهم سيوردونه ثم لا يصدرونه ، يعلم ذلك كله وهو بين الناب والمخلب وفي منصرم الحياة ، ومع ذلك كله لا يزال مقيما على هاتيك الوساوس المروانية ، فيا للعجب.
    وأعجب من ذلك أنه مع هذا التأثر يتخذ نصح الناصحين له كمولانا أمير المؤمنين عليه السلام وكثير من الصحابة العدول باعتاب الناس ورفض تمويهات مروان الموبقة له ظهريا فلا يعير لهم بعد تمام الحجة وقطع سبل المعاذير أذنا واعية ، وهو يعلم أنهم لا يعدون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويدعونه إلى ما فيه نجاته ونجاح الأمة.
    ( لفت نظر ) وقع في عد أيام حصار عثمان خلاف بين المؤرخين فقال الواقدي : حاصروه تسعة وأربعين يوما. وقال الزبير : حاصروه شهرين وعشرين يوما. وفي رواية :
1 ـ راجع ما مر في الجزء الثامن ص 260 ط 2.
2 ـ راجع ما مضى في هذا الجزء صفحة 174.


(189)
إنهم حصروه أربعين ليلة. وقال ابن كثير : استمر الحصر أكثر من شهر وقيل : بضعا و أربعين. وقال الشعبي : كانت مدته اثنتين وعشرين ليلة. وفي رواية للطبري : كان الحصر. أربعين ليلة والنزول سبعين. وفي بعض الروايات : حصروه عشرين يوما بعد قضية جهجاه المذكورة ص 124 إلى أقوال أخرى ، ولعل كل منها ناظر إلى ناحية من مدة أيام الحصارين أو مدة أحدهما ، ومن مدة نزول المتجمرين حول داره ، و من أيام ضاق عليه الخناق ، ومنع من إدخال الماء عليه ، وحيل بينه وبين اختلاف الناس إليه ، ومن حصار الثائرين عليه من الأمصار ، ومن إصفاق أهل المدينة معهم على الحصار. إلى تأويلات أخرى يتأتى بها الجمع بين تلكم الأقوال.

كتب عثمان أيام الحصار (1)
    أخرج الطبري في تاريخه من طريق ابن الكلبي قال : إنما رد أهل مصر إلى عثمان بعد انصرافهم عنه أنه أدركهم غلام لعثمان على جمل له بصحيفة إلى أمير مصر أن يقتل بعضهم وأن يصلب بعضهم فلما أتوا عثمان قالوا : هذا غلامك ؟ قال : غلامي إنطلق بغير علمي ، قالوا : جملك ؟ قال : أخذه من الدار بغير أمري.
    قالوا : خاتمك ؟ قال : نقش عليه فقال عبد الرحمن بن عديس التجيبي حين أقبل أهل مصر.
أقبلن من بلبيس والصعيد (2) مستحقبات حلق الحديد وعند عثمان وفي سعيد خوصا كأمثال القسي عود يطلبن حق الله فـي الوليد يا رب فارجعنا بما نريد
    فلما رأى عثمان ما قد نزل به وما قد انبعث عليه من الناس كتب إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشام :
1 ـ الإمامة والسياسة 2 : 32 ـ 33 ، الأنساب 5 : 71 ، 72 ، تاريخ الطبري 5 : 105 ، 115 ، 116 ، 119 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 152 ، الكامل لابن الأثير 5. 67 ، 71 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 165 ، تاريخ ابن خلدون 2 : 394 ، الفتنة الكبرى ص 226.
2 ـ بلبيس : بكسر الباءين وسكون اللام مدينة بينها وبين فسطاط مصر عشرة على طريق الشام. الصعيد : بلاد واسعة كثيرة بمصر يقال : إنها تسعمائة وسبع خمسون قرية.


(190)
بسم الله الرحمن الرحيم
    أما بعد : فإن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة ، فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول.
    فلما جاء معاوية الكتاب تربص به وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علم اجتماعهم ، فلما أبطأ أمره على عثمان كتب إلى يزيد بن أسد بن كرز وإلى أهل الشام يستنفرهم ويعظم حقه عليهم ، ويذكر الخلفاء وما أمر الله عز وجل به من طاعتهم ومناصحتهم ووعدهم أن يجندهم جند أو بطانة دون الناس ، وذكرهم بلاءه عندهم وصنيعه إليهم ، فإن كان عندكم غياث فالعجل العجل فإن القوم معاجلي.
    فلما قرئ كتابه عليهم قام يزيد بن أسد بن كرز البجلي ثم القسري فحمد الله و أثنى عليه ، ثم ذكر عثمان فعظم حقه ، وحضهم على نصره ، وأمرهم بالمسير إليه ، فتابعه ناس كثيرو وساروا معه حتى إذا كان بوادي القرى (1) بلغهم قتل عثمان رضي الله عنه فرجعوا.
    وأخرج البلاذري من طريق الشعبي قال : كتب عثمان إلى معاوية : أن أمدني ، فأمده بأربعة آلاف مع يزيد بن أسد بن كريز البجلي ، فتلقاه الناس بمقتل عثمان فرجع من الطريق وقال : لو دخلت المدينة وعثمان حي ما تركت بها محتلما إلا قتلته ، لأن الخاذل والقاتل سواء.
كتابه إلى أهل الشام
    قال ابن قتيبة : وكتب إلى أهل الشام عامة وإلى معاوية وأهل دمشق خاصة :
    أما بعد : فإني في قوم طال فيهم مقامي ، واستعجلوا القدر في ، وقد خيروني بين أن يحملوني على شارف من الإبل الدحيل ، وبين أن أنزع لهم رداء الله الذي كساني ، وبين أن اقيدهم ممن قتلت ، ومن كان على السلطان يخطئ ويصيب ، فيا غوثاه يا غوثاه ، ولا أمير عليكم دوني ، فالعجل العجل يا معاوية ! وأدرك ثم أدرك وما أراك تدرك.
1 ـ وادي القرى : واد بين المدينة والشام من أعمال المدينة.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: فهرس