الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: 191 ـ 200
(191)
كتابه إلى أهل البصرة
    وكتب إلى عبد الله بن عامر : أن أندب إلى أهل البصرة نسخة كتابه إلى أهل الشام فجمع عبد الله بن عامر الناس فقرأ كتابه عليهم ، فقامت خطباء من أهل البصرة يحضونه على نصر عثمان والمسير إليه فيهم : مجاشع بن مسعود السلمي ، وكان أول من تكلم وهو يومئذ سيد قيس بالبصرة ، وقام أيضا قيس بن الهيثم السلمي ، فخطب وحض الناس على نصر عثمان ، فسارع الناس إلى ذلك ، فاستعمل عليهم عبد الله بن عامر مجاشع بن مسعود فسار بهم حتى إذا نزل الناس الربذة ونزلت مقدمته عند صرار ناحية من المدينة أتاهم قتل عثمان.
    وقال البلاذري : وكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر بن كريز ومعاوية بن أبي سفيان يعلمهما أن أهل البغي والعدوان من أهل العراق ومصر والمدينة قد أحاطوا بداره فليس يرضيهم بزعمهم شئ دون قتله أو يخلع السربال الذي سربله الله إياه ، ويأمرهما بإغاثته برجال ذوي نجدة وبأس ورأي ، لعل الله أن يدفع بهم عنه بأس يكيده و يريده ، وكان رسوله إلى ابن عامر جبير بن مطعم ، وإلى معاوية المسور بن مخرمة الزهري ، فأما ابن عامر فوجه إليه مجاشع بن مسعود السلمي في خمس مائة أعطاهم خمس مائة خمس مائة درهم ، وكان فيمن ندب مع مجاشع زفر بن الحارث على مائة رجل ، وأما معاوية فبعث إليه حبيب بن مسلمة الفهري في ألف فارس ، فقدم حبيب أمامه يزيد بن أسد البجلي جد خالد بن عبد الله بن يزيد القسري من بجيلة ، وبلغ أهل مصر ومن معهم ممن حاصر عثمان ما كتب به إلى ابن عامر ومعاوية فزادهم ذلك شدة عليه وجدا في حصاره وحرصا على معاجلته بالقتل.
كتابه إلى أهل الأمصار
    أخرج الطبري وغيره وقالوا : كتب عثمان إلى أهل الأمصار يستمدهم :
بسم الله الرحمن الرحيم
    أما بعد : فإن الله عز وجل بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا ، فبلغ عن الله ما أمره به ثم مضى وقد قضى الذي عليه وخلف فينا كتابه فيه حلاله وحرامه ، وبيان الأمور


(192)
التي قدر فأمضاها على ما أحب العباد وكرهوا ، فكان الخليفة أبو بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه ثم أدخلت في الشورى عن غير علم ولا مسألة عن ملأ من الأمة ، ثم أجمع أهل الشورى عن ملأ منهم ومن الناس على غير طالب مني ولا محبة ، فعملت فيهم ما يعرفون ولا ينكرون ، تابعا غير مستتبع ، متبعا غير مبتدع ، مقتديا غير متكلف ، فلما انتهت الأمور ، وانتكث الشر بأهله ، بدت ضغائن وأهواء على غير إجرام ولا ترة فيما مضى إلا إمضاء الكتاب ، فطلبوا أمرا وأعلنوا غيره بغير حجة ولا عذر ، فعابوا علي أشياء مما كانوا يرضون وأشياء عن ملأ من أهل المدينة لا يصلح غيرها ، فصبرت لهم نفسي و كففتها عنهم منذ سنين ، وأنا أرى وأسمع ، فازدادوا على الله عز وجل جرأة حتى أغاروا علينا في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمه وأرض الهجرة ، وثابت إليهم الأعراب ، فهم كالأحزاب أيام الأحزاب أو من غزانا بأحد إلا ما يظهرون ، فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق.
    فأتى الكتاب أهل الأمصار فخرجوا على الصعبة والذلول ، فبعث معاوية حبيب ابن مسلمة الفهري ، وبعث عبد الله بن سعد معاوية بن خديج السكوني ، وخرج من أهل الكوفة القعقاع بن عمرو. الحديث.
كتابه إلى أهل مكة
ومن حضر الموسم سنة 35
    ذكر ابن قتيبة قال : كثب عثمان كتابا بعثه مع نافع طريف إلى أهل مكة و من حضر الموسم يستغيثهم فوافى به نافع يوم عرفة بمكة وابن عباس يخطب وهو يومئذ على الناس كان قد استعمله عثمان على الموسم فقام نافع ففتح الكتاب فقرأه فإذا فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم
    من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى من حضر الحج من المسلمين.
    أما بعد : فإني كتبت إليكم كتابي هذا وأنا محصور أشرب من بئر القصور ، ولا آكل من الطعام ما يكفيني ، خيفة أن تنفد ذخيرتي فأموت جوعا أنا ومن معي ، لا أدعى إلى توبة أقبلها ، ولا تسمع مني حجة أقولها ، فأنشد الله رجلا من المسلمين بلغه كتابي إلا قدم علي فأخذ الحق في ومنعني من الظلم والباطل.


(193)
    قال : ثم ابن عباس فأتم خطبته ولم يعرض لشيء به شأنه.
    قال الأميني : هذا ما يمكننا أن نؤمن به من كتاب عثمان إلى الحضور في الموسم وهناك كتاب مفصل إلى الحاج ينسب إليه يتضمن آيا من الحكم والموعظة الحسنة يطفح عن جوانبه الورع الشديد في دين الله ، والأخذ بالكتاب والسنة ، والاحتذاء بسيرة الشيخين ، يبعد جدا عن نفسيات عثمان وعما عرفته الأمة من تاريخ حياته ، والكتاب أخرجه الطبري في تاريخه 5 140 ـ 143 وراق الدكتور طه حسين ما وجد فيه من المعاني الراقية والجمل الرائقة ، والفصول القيمة فذكره في ملحق كتابه ( الفتنة الكبرى ) ص 227 ـ 231 ذاهلا عن أن الكتاب لم يرو إلا من طريق ابن أبي سبرة القرشي العامري المدني الوضاع الكذاب السابق ذكره في سلسلة الوضاعين في الجزء الخامس ، قال الواقدي : كان كثير الحديث وليس بحجة ، وقال صالح بن أحمد عن أبيه : كان يضع الحديث.
    قال عبد الله بن أحمد عن أبيه : ليس بشيء كان يضع الحديث ويكذب ، وعن ابن معين ليس حديثه بشيء ، ضعيف الحديث ، وقال ابن المديني : كان ضعيفا في الحديث ، وقال مرة : كان منكر الحديث. وقال الجوزجاني : يضعف حديثه. وقال البخاري : ضعيف. وقال مرة : منكر الحديث. وقال النسائي : متروك الحديث. وقال ابن عدي : عامة ما يرويه غير محفوظ وهو في جملة من يضع الحديث. وقال ابن حبان : كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به. وقال الحاكم أبو عبد الله : يروي الموضوعات عن الاثبات (1).

نظرة في الكتب المذكورة
    لقد تضمنت هذه الكتب أشياء هي كافية في إثارة عواطف المؤمنين على من كتبها ولو لم يكن له سابقة سوء غيرها. منها : قوله عن المهاجرين والأنصار وليس في المدينة غيرهم : إن أهل المدينة قد كفروا ، واخلفوا الطاعة ، ونكثوا البيعة. وقوله : فهم كالأحزاب أيام الأحزاب أو من غزانا بأحد.
    وهو يريد أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، المشهود لهم جمعاء بالعدالة عند قاطبة أهل السنة ، ولقد صعدوا وصوبوا في إثبات ذلك بما لا مزيد عليه عندهم ، ولا يزالون يحتجون بأقوالهم
1 ـ راجع تاريخ الخطيب 14 : 367 ـ 372 ، تهذيب التهذيب 12 : 27.

(194)
وما يؤثر عنهم من قول أو عمل في أحكام الدين ، كما يحتجون بما يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السنة ، ثقة بإيمانهم ، وطمأنينة بعدالتهم ، ويرون أنهم لا ينبسون ببنت شفة ولا يخطون في أمر الدين خطوة إلا بأثر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسموع أن منقول : أو مشاهدة عمل منه صلى الله عليه وآله وسلم يطابق ما يرتأونه أو يعملون به ، فهل على مؤمن هذا شأنه قذف أثقل عليه من هذا ؟ أو تشويه أمس بكرامته من ذلك ؟ ولعمر الحق أن من يغض عن مثله فلا يستثيره خلو عن العاطفة الدينية ، خلو عن الحماس الاسلامي ، خلو عن الشهامة المبدئية ، خلو عن الغيرة على الحق ، خلو وخلو.
    ولذلك اشتدت الصحابة عليه بعد وقوفهم على هذا وأمثاله.
    ثم إنه ليس لأحد طاعة مفترضة على أعناق المسلمين بعد الله ورسوله إلا إمام حق يعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، والمتجمهرون على عثمان وهم الصحابة أجمع كانوا يرون أنه تخطاهما ، وأن ما كان ينوء به من فعل أو قول قد عديا الحق منهما ، فأي طاعة واجبة والحال هذه وحسبان القوم كما ذكرناه حتى يؤاخذوا على الخلف ؟.
    والبيعة إنما لزمت إن كان صاحبها باقيا على ما بويع عليه ، والقوم إنما بايعوه على متابعة الكتاب والسنة والمضي على سيرة الشيخين ، وبطبع الحال أنها تنتكث عند نكوص صاحبها عن الشروط ، وهو الذي نقمه المسلمون على خليفتهم ، فلا موجب لمؤاخذتهم أو منابذتهم ، وهاهنا رأى المسلمون أن الرجل زاد ضغثا على أبالة ، فهو على أحداثه الممقوتة طفق يستثير الجنود عليهم ، ويعرضهم على القتل والنهب ، فتداركوا الأمر فأوردوه حياض المنية قبل أن يجلب إليهم البلية ، وتلافوا الأمر قبل أن يمسهم الشر ، وما بالهم لا تستثيرهم تلكم القذائف ؟ وهم يرون أنهم هم الذين آووا ونصروا ولم يألوا جهدا في جهاد الكفار حتى ضرب الدين بجرانه ، فمن العجيب والحالة هذه أن يشبهوا بالأحزاب والكفرة يوم أحد.
    ( ومنها ) تلونه في باب التوبة التي تظاهر بها على صهوة المنبر بملأ من الصحابة ، وسجل ذلك بكتاب شهد عليه عدة من أعيان الأمة وفي مقدمهم سيدنا أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وكتب ذلك إلى الأمصار النائية كما تقدم في صفحة 171 و


(195)
هو في كل ذلك يعترف بالخطيئة ويلتزم بالإقلاع عنها ، لكنه سرعان ما نكث التوبة وأبطل المواثيق المؤكدة بكتبه هذه ، إذ حسب أن من يكتب إليهم سينفرون إليه مقانب وكتائب وهم أولياءه ومواليه ، فنفى عنه المآثم التي شهد عليها أهل المدينة بل وأهل الأمصار من خيرة الأمة ، وهو يريد أن يقلب عليهم ظهر المجن ، فيؤاخذ وينتقم وكأنه نسي ذلك كله حتى قال : في كتابه إلى أهل مكة : لا أدعى إلى توبة أقبلها ، ولا تسمع مني حجة أقولها : يقول له المحامي عن المدنيين : أو لم تدع أيها الخليفة إلى التوبة فتبت على الأعواد وعلى رؤس الاشهاد مرة بعد أخرى ؟ لكنهم وجدوك لا تقر على قرار ، ولا تستمر على مبدء ، وشاهدوك تتلون تلون الحرباء (1) فجزموا بأن التوبة لا تردعك عن الأحداث ، وأن النزوع لا يزعك عن الخطايا ، وجئت تماطل القوم بذلك كله حتى يوافيك جيوشك فتهلك الحرث والنسل ، وتمكن من أهل دار الهجرة مثل يزيد بن كرز الذي يقول : لو دخلت المدينة وعثمان حي ما تركت بها محتلما إلا قتلته.
    الخ ، عرف القوم أيها الخليفة نواياك السيئة فيهم ، وعرفوا انحرافك عن الطريقة المثلى بإبعاد مروان إياك عنها كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو يخاطبك : أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك ؟ وإن مثلك مثل الظعينة يقاد حيث يسار به (2) فنهضوا للدفع عنهم وعن بيضة الاسلام من قبل أن يقعوا بين الناب والمخلب ، فوقع ما وقع وكان أمر الله قدرا مقدورا.
    ولنا هاهنا مناقشة أخرى في حساب الخليفة فنقول له : ما بالك تكر رأيها الخليفة قولك عن الخلافة : إنها رداء الله الذي كساني.
    أو إنها قميص سربلنيه الله.
    أو ما يماثل ذلك ؟ تطفح به كتبك أو يطفو على خطبتك ، ويلوكها فمك بين كلمك ، كأنك قد حفظتها كلمة ناجعة لدينك ودنياك ، واتخذتها وردا لك كأنك تحاذر في تركها النسيان غير أنه عزب عنك محاسبة من تخاطبهم بها إياك ، فما جواب قومك إن قالوا لك ؟ متى سربلك الله بهذا القميص ؟ وقد مات من سربلك ، وانقلب عليك بعد قبل موته
1 ـ الحرباء : ضرب من الزحافات تتلون في الشمس ألوانا مختلفة ، يضرب بها المثل في المنقلب
2 ـ راجع ما مر في صفحة 174 ، 175 من هذا الجزء.


(196)
وعددته لذلك منافقا ، وأوصى أن لا تصلي عليه أنت ، وكان يقول لعلي أمير المؤمنين خذ سيفك وآخذ سيفي إنه قد خالف ما أعطاني ، وكان يحث الناس عليك ويقول : عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه ، وحلف أن لا يكلمك أبدا ، وقد دخلت عليه عائدا في مرضه فتحول إلى الحائط ولم يكلمك (1) وهاجرك إلى آخر نفس لفظه.
    وتبعه على خلافك الباقون من أهل الشورى.
    وكلنا نحسب أن نصب الخليفة لا يجب على الله سبحانه إن كنا مقتفين أثر الشيخين وإنما هو مفوض إلى الأمة تختار عليها من شاءت ، وإن حدنا في ذلك من قول الله تعالى : وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة (2) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم (3) وعن نصوص النبي الأعظم وقد مر شطر منها في غضون أجزاء كتابنا هذا.
    فهل ترى أيها الخليفة أنه كان يجب على الله سبحانه أن يمضي خيرة الأمة ؟ أكان في رأي الجليل إعواز في تقييض الإمام بنفسه حتى ينتظر في ذلك مشتبك آراء الأمة أو مرتبك أهوائهم فيمضي ما ارتأوه ؟ وبهذه المناسبة تنسب ذلك السربال إليه ، لا أضنك أيها الخليفة يسعك أن تقرر ما استفهمناه ، غير أن آخر دعواك بعد العجز عن الجواب : لا أنزع قميصا ألبسنيه الله.
    وعلى كل لقد أوقفنا موقف الحيرة في أمر هذا السريال ومن حاكه والنول الذي حيك عليه ، فقد وجدنا أول الخلفاء تسربله بانتخاب غير دستوري بانتخاب جر الويلات على الأمة حتى اليوم ، بانتخاب سود صحيفة التاريخ وشوه سمعة السلف ، وقد تقمصه ابن أبي قحافة وهو يعلم أن في الأمة من محله من الخلافة محل القطب من الرحى ، ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير ، كما قاله مولانا أمير المؤمنين ثم مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ، فيا عجبا يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته (4) فتقمصه الثاني بالنص ممن قبله وهو يعلم أن في الأمة من هو
1 ـ راجع ما مر في هذا الجزء من حديث عبد الرحمن بن عوف ص 86 ـ 91.
2 ـ سورة القصص : 67.
3 ـ سورة الأحزاب : 36.
4 ـ راجع ما أسلفناه في الجزء السابع ص 81 ط 2.


(197)
أولى منه كما قال مولانا أمير المؤمنين (1) وسربلك إياه أيها الخليفة عبد الرحمن بن عوف وفي لسانه قوله لعلي : بايع وإلا ضربت عنقك ، ولم يكن مع أحد يومئذ سيف غيره ، فخرج علي مغضبا فلحقه أصحاب الشورى قائلين : بايع وإلا جاهدناك (2).
    فأي من هذه السرابيل منسوج بيد الحق حتى يصح عزوه إليه سبحانه ؟ ولهذا البحث ذيول ضافية حولها أبحاث مترامية الأطراف ، حول خلافة الخلفاء من بني أمية وغيرهم يشبه بعضها بعضا ، ولعلك في غنى عن التبسط في ذلك والاسترسال حول توثبهم على عرش الإمامة.
    نعم : الخلافة التي يصح فيها أن يقال : إنها سربال من الله سبحانه ، هي التي قيض صاحبها المولى جلت قدرته ، وبلغ عنه نبيه الأمين صلى الله عليه وآله وسلم ، هي التي أخبر به النبي الأعظم به أول يومه فقال : إن الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء (3) فهي إمرة إلهية لا تتم إلا بالنص وليس لصاحبها أن ينزعها ، هي التي قرنت بولاية الله ورسوله في قوله تعالى : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا (4) وهي التي أكمل الله بها الدين وأتم بها النعمة (5) وشتان بينها وبين رجال الانتخاب وإن كان دستوريا ؟.
    وأما ما ارتآه المتجمهرون وعبثت به الميول والشهوات ، فهي سلطة عادية يفوز بها المتغلبون ، وبيد الأمة حلها وعقدها ، والغاية منها عند من يحذو حذو الخليفة في جملة من الصولات كلائة الثغور ، واقتصاص القاتل ، وقطع المتلصص ، إلى آخر ما مر تفصيله في الجزء السابع صفحة 131 ـ 151 ط 2 وليس في عهدة المتسلق على عرشه تبليغ الأحكام ، وترويض النفوس ، وتهذيب الأخلاق ، وتعليم الملكات الفاضلة ، وتربية الملأ في عالم النشو والارتقاء ، فإن تلكم الغايات في تلكم السلطات تحصل بمن هو خلو عن ذلك كله كما شوهد فيمن فاز بها عن غير نص إلهي.
1 ـ يأتي حديثه بلفظه.
2 ـ الأنساب للبلاذري 5 : 22.
3 ـ مر حديثه في الجزء السابع ص 134 ط 2.
4 ـ راجع ما مضى في الجزء الثاني ص 47 ، والجزء الثالث ص 155 ـ 167 ط 2.
5 ـ راجع الجزء الأول من كتابنا هذا ص 230 ـ 239 ط 2.


(198)
يوم الدار والقتال فيها
    أخرج ابن سعد في طبقاته 5 : 25 ط ليدن من طريق أبي حفصة مولى مروان قال : خرج مروان بن الحكم يومئذ يرتجز ويقول : من يبارز ؟ فبرز إليه عروة بن شييم بن البياع الليثي فضربه على قفاه بالسيف فخر لوجهه فقام إليه عبيد بن رفاعة بن رافع الزرقي بسكين معه ليقطع رأسه فقامت إليه أمه التي أرضعته وهي فاطمة الثقفية وهي جدة إبراهيم بن العربي صاحب اليمامة فقالت : إن كنت تريد قتله ؟ فقد قتله ، فما تصنع بلحمه أن تبضعه ؟ فاستحى عبيد بن رفاعة منها فتركه.
    وروى عن عياش بن عباس قال : حدثني من حضر ابن البياع يومئذ يبارز مروان بن الحكم : فكأني أنظر إلى قبائه قد أدخل طرفيه في منطقته وتحت القباء الدرع ، فضرب مروان على فقاه ضربة فقطع علابي رقبته ووقع لوجهه فأرادوا أن يذففوا عليه فقيل : تبضعون اللحم ؟ فترك.
    وأخرج البلاذري من طريق خالد بن حرب قال : لجأ بنو أمية يوم قتل عثمان إلى أم حبيبة (1) فجعلت آل العاص وآل أبي العاص وآل أسيد في كندوج (2) وجعلت سائرهم في مكان آخر ، ونظر معاوية يوما إلى عمرو بن سعيد يختال في مشيته فقال : بأبي وأمي أم حبيبة ، ما كان أعلمها بهذا الحي حين جعلتك في كندوج ؟.
    قال : ومشى الناس إلى عثمان وتسلقوا عليه من دار بني حزم الأنصاري ، فقاتل دونه ثلاثة من قريش : عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود (3). عبد الله بن عوف ابن السباق (4).
    وعبد الله (5) بن عبد الرحمن بن العوام ، وكان عبد الله بن عبد الرحمن
1 ـ زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله.
2 ـ كندوج : شبه المخزن في البيت.
3 ـ قال ابن الأثير في أسد الغابة 3 : 273 ، قتل يوم الجمل أو يوم الدار وقال ابن حجر في الإصابة 2 : 381 : قتل يوم الدار.
4 ـ هو عبد الله بن أبي مرة ( أبي ميسرة ) العبدري قتل مع عثمان كما في الاستيعاب 2 : 3 ، و الإصابة 2 : 367.
5 ـ ذكر أبو عمر في الاستيعاب وابن الأثير في أسد الغابة في ترجمة عبد الرحمن ، وابن حجر في الإصابة 2 : 415 : إنه ممن قتل يوم الدار.


(199)
ابن العوام يقول : يا عباد الله ! بيننا وبينكم كتاب الله.
    فشد عليه عبد الرحمن بن عبد الله الجمحي وهو يقول :
لأضربن اليوم بالقرضاب ضرب امرئ ليس بذي ارتياب بقية الكفار والأحزاب أ أنت تدعونا إلى الكتاب ؟
نبذته في سائر الأحقاب
    فقتله ، وشد جماعة من الناس على عبد الله بن وهب بن زمعة ، وعبد الله بن عوف ابن السباق ، فقتلوهما في جانب الدار.
    جاء مالك الأشتر حتى انتهى إلى عثمان فلم ير عنده أحدا فرجع فقال له مسلم بن كريب القابضي من همدان : أيا أشتر ! دعوتنا إلى قتل رجل فأجبناك حتى إذا نظرت إليه نكصت عنه على عقبيك.
    فقال له الأشتر : لله أبوك أما تراه ليس له مانع ولا عنه وازع ؟ فلما ذهب لينصرف قال ناتل مولى عثمان : واثكلاه هذا والله الأشتر الذي سعر البلاد كلها على أمير المؤمنين ، قتلني الله إن لم أقتله.
    فشد في أثره فصاح به عمرو بن عبيد الحارثي من همدان : وراءك الرجل يا أشتر ! فالتفت الأشتر إلى ناتل فضربه بالسيف فأطار يده اليسرى ونادى الأشتر : يا عمرو بن عبيد إليك الرجل فاتبع عمرو ناتلا فقتله.
    وقال مروان في يوم الدار :
وما قلت يوم الدار للقوم : حاجزوا ولكنني قد قلت للقوم : قاتلوا رويدا ولا اختاروا الحياة على القتل بأسيافكم لا يوصلن إلى الكهل
    وفي رواية أبي مخنف : تهيأ مروان وعدة معه للقتال فنهاهم عثمان فلم يقبلوا منه وحملوا على من دخل الدار فأخرجوهم.
    ورمي عثمان بالحجارة من دار بني حزم بن زيد الأنصاري ونادوا : لسنا نرميك ، الله يرميك ، فقال : لو رماني الله لم يخطأني ، و شد المغيرة بن الأخنس بالسيف وهو يقول :
قد علمت جارية عطبول لها وشاح ولها جديل
أني لمن حاربت ذو تنكيل
    فشد عليه رفاعة بن رافع وهو يقول :
قد علمت خود صحوب للذيل ترخي قرونا مثل أذناب الخيل


(200)
أن لقرني في الوغى مني الويل
    فضربه على رأسه بالسيف فقتله. ويقال : بل قتله رجل من عرض الناس ، وخرج مروان بن الحكم وهو يقول :
قد علمت ذات القرون الميل والكف والأنامل الطفول
أني أروع أول الرعيل
    ثم ضرب عن يمينه وشماله فحمل عليه الحجاج بن غزية وهو يقول :
قد علمت بيضاء حسناء الطلل واضحة الليتين قعساء الكفل
أني غداة الروع مقدام بطل
    فضربه على عنقه بالسيف فلم يقطع سيفه وخر مروان لوجهه وجاءت فاطمة بنت شريك الأنصارية من بلي ـ وهي أم إبراهيم بن عربي الكناني الذي كان عبد الملك ابن مروان ولاه اليمامة وهي التي كانت ربت مروان ـ فقامت على رأسه ثم أمرت به فحمل ، وادخل بيتا فيه كنه (1) وشد عامر بن بكير الكناني وهو بدري على سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية فضربه بالسيف على رأسه ، وقامت نائلة بنت الفرافصة على رأسه ثم احتملته فأدخلته بيتا وأغلقت بابه (2).
    وفي رواية الطبري من طريق أبي حفصة مولى مروان : لما حصر عثمان رضي الله عنه شمرت معه بنو أمية ، ودخل معه مروان الدار فكنت معه في الدار ، فأنا والله أنشبت القتال بين الناس رميت من فوق الدار رجلا من أسلم فقتلته وهو نيار الأسلمي فنشب القتال ، ثم نزلت فاقتتل الناس على الباب ، فأرسلوا إلى عثمان أن أمكنا من قاتله قال : والله ما أعرف له قاتلا فباتوا ينحرفون علينا ليلة الجمعة بمثل النيران ، فلما أصبحوا غدوا فأول من طلع علينا كنانة بن عتاب في يده شعلة من نار على ظهر سطوحنا قد فتح له من دار آل حزم ، ثم دخلت الشعل على أثره تنضح بالنفط فقاتلناهم ساعة على الخشب وقد اضطرم الخشب ، فأسمع عثمان يقول لأصحابه : ما بعد الحريق شيء قد احترق الخشب واحترقت الأبواب ومن كانت لي عليه طاعة فليمسك داره ، ثم قال لمروان :
1 ـ كنة بالضم : جناح يخرج من الحائط. والسقيفة تشرع فوق باب الدار : وقيل : هو مخدع أو رف يشرع في البيت.
2 ـ الأنساب 5 : 78 ـ 81.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: فهرس