الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: 211 ـ 220
(211)
حتى قبر وبني عليه وغموا قبره وتفرقوا. وفي لفظ أبي عمر : فلما دفنوه غيبوا قبره ، وذكره السمهودي في وفاء الوفاء 2 : 99 من طريق ابن شبة عن الزهري.
    وأخرج ابن الجوزي والمحب الطبري والهيثمي من طريق عبد الله بن فروخ قال : شهدت عثمان بن عفان دفن في ثيابه بدمائه ولم يغسل. وقال المحب : خرجه البخاري والبغوي في معجمه. وذكر ابن الأثير في ( الكامل ) وابن أبي الحديد في الشرح أنه لم يغسل وكفن في ثيابه.
    وأخرج أبو عمر في ( الاستيعاب ) من طريق مالك قال : لما قتل عثمان رضي الله عنه ألقي على المزبلة ثلاثة أيام فلما كان من الليل أتاه اثنا عشر رجلا (1) فيهم حويطب ابن عبد العزى ، وحكيم بن حزام ، وعبد الله بن الزبير فاحتملوه فلما صاروا به إلى المقبرة ليدفنوه ناداهم قوم من بني مازن : والله لئن دفنتموه ههنا لنخبرن الناس غدا.
    فاحتملوه وكان على باب وأن رأسه على الباب ليقول : طق طق ، حتى صاروا به إلى حش كوكب فاحتفروا له وكانت عائشة بنت عثمان رضي الله عنهما معها مصباح في جرة ، فلما أخرجوه ليدفنوه صاحت فقال لها ابن الزبير : والله لئن لم تسكتي لأضربن الذي في عيناك.
    فسكتت فدفن.
    وذكره المحب الطبري في ( الرياض ) نقلا عن القلعي ، وذكر عن الخجندي أنه أقام في حش كوكب ثلاثا مطروحا لا يصلى عليه.
    وذكر الصفدي في تمام المتون ص 79 عن مالك أن عثمان ألقي على المزبلة ثلاثة أيام.
    وقال اليعقوبي : أقام ثلاثا لم يدفن وحضر دفنه حكيم ، وجبير ، وحويطب ، و عمرو بن عثمان ابنه ، ودفن ليلا في موضع يعرف بحش كوكب ، وصلى عليه هؤلاء الأربعة وقيل : لم يصل عليه ، وقيل : أحد الأربعة صلى عليه ، فدفن بغير صلاة.
    وقال ابن قتيبة : ذكروا أن عبد الرحمن بن الأزهر قال : لم أكن دخلت في شيء من أمر عثمان لا عليه ولا له ، فإني مجالس بفناء داري ليلا بعد ما قتل عثمان بليلة إذ
1 ـ أحاديث الباب مطلقة على أن الذين تولوا اجنانه كانوا أربعة. وقال المحب الطبري وقد قيل : إن الذين تولوا تجهيزه كانوا خمسة أو ستة. أربعة رجال وامرأتان نائلة وأم البنين.

(212)
جاءني المنذر بن الزبير فقال إن أخي يدعوك فقمت إليه فقال لي : إنا أردنا أن ندفن عثمان فهل لك ؟ قلت : والله ما دخلت في شيء من شأنه وما أريد ذلك ، فانصرفت عنه ثم اتبعته ، فإذا هو في نفر فيهم جبير بن مطعم ، وأبو الجهم ، والمسور ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الله بن الزبير فاحتملوه على باب وأن رأسه ليقول : طق طق ، فوضعوه في موضع الجنائز فقام إليهم رجال من الأنصار فقالوا لهم : لا والله لا تصلون عليه ، فقال أبو الجهم : ألا تدعون نصلي عليه ؟ فقد صلى الله تعالى عليه وملائكته.
    فقال له رجل منهم : إن كنت كاذبا فأدخلك الله مدخله ، فقال له : حشرني الله معه فقال له : إن الله حاشرك مع الشياطين ، والله إن تركناكم به لعجز منا.
    فقال القوم لأبي الجهم : اسكت عنهم وكف فسكت ، فاحتملوه ثم انطلقوا مسرعين كأني اسمع وقع رأسه على اللوح حتى وضعوه في أدنى البقيع فأتاهم جبلة بن عمرو الساعدي من الأنصار فقال : لا والله لا تدفنوه في بقيع رسول الله ولا نترككم تصلون عليه ، فقال أبو الجهم : انطلقوا بنا إن لم نصل عليه فقد صلى الله عليه ، فخرجوا ومعهم عائشة بنت عثمان معها مصباح في حق حتى إذا أتوا به جسر (1) كوكب حفروا له حفرة ثم قاموا يصلون عليه وأمهم جبير بن مطعم ، ثم دلوه في حفرته فلما رأته ابنته صاحت فقال ابن الزبير : والله لئن لم تسكتي لأضربن الذي في عينيك فدفنوه ، ولم يلحدوه بلبن وحثوا عليه التراب حثوا.
    وقال ياقوت الحموي : لما قتل عثمان ألقي في حش كوكب ثم دفن في جنبه.
    وذكر ابن كثير بعض ما أسلفناه نقلا عن البلاذري فقال : ثم أخرجوا بعبدي عثمان اللذين قتلا في الدار وهما : صبيح ونجيح رضي الله عنهما فدفنا إلى جانبه بحش كوكب ، وقيل : إن الخوارج لم يمكنوا من دفنهما ، بل جروهما بأرجلهما حتى ألقوهما بالبلاط (2) فأكلتهما الكلاب ، وقد اعتنى معاوية في أيام إمارته بقبر عثمان ، ورفع الجدار بينه وبين البقيع وأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حوله.
    وذكر الحلبي في السيرة عن ابن ماجشون عن مالك : إن عثمان بعد قتله ألقي
1 ـ كذا في النسخة ، والصحيح : حش.
2 ـ البلاط من الأرض : وجهها ، أو منتهى الصلب منها. وفي لفظ الحلبي كما يأتي : التلال ولعله الصحيح.


(213)
على المزبلة ثلاثة أيام ، وقيل ، أغلق عليه بابه بعد قتله ثلاثة أيام ، لا يستطيع أحد أن يدفنه ( إلى آخر ما مر من حديث مالك ) ولما دفنوه عفوا قبره خوفا عليه أن ينبش ، وأما غلاماه اللذان قتلا معه فجروهما برجليها وألقوهما على التلال فأكلتهما الكلاب.
    وذكر ابن أبي الحديد وابن الأثير والدميري أنه أقام ثلاثة أيام لم يدفن ولم يصل عليه ، وقيل لم يغسل ولم يكفن ، وقيل : صلى عليه جبير بن مطعم ودفن ليلا.
    وذكر السمهودي في وفاء الوفا عن عثمان بن محمد الأخنسي عن أم حكيمة قالت : كنت مع الأربعة الذين دفنوا عثمان بن عفان : جبير ، حكيم ، أبو جهم ، نيار الأسلمي وحملوه على باب اسمع قرع رأسه على الباب كأنه دباة ويقول : دب دب.
    حتى جاؤا به حش كوكب فدفن به ثم هدم عليه الجدار وصلي عليه هناك.
    طبقات ابن سعد ط ليدن 3 : 55 : أنساب البلاذري 83 ، 86 ، 99 ، الإمامة والسياسة 1 : 40 ، تاريخ الطبري 5 : 143 ، 144 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 153 ، الاستيعاب 2 : 478 ، 479 صفة الصفوة 1 : 117 ، الكامل لابن الأثير 3 : 76 ، الرياض النضرة 2 : 131 ، 132 ، معجم البلدان 3 : 281 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 168 ، تاريخ ابن كثير 7 : 190 ، 191 ، حياة الحيوان للدميري 1 : 54 ، وفاء الوفا للسمهودي 2 : 99 ، السيرة الحلبية 2 : 85 ، تاريخ الخميس 2 : 265.
    وقال الشاعر المفلق أحمد شوقي بك في دول العرب ص 49 :
من لقتيل بالسفا (1) مكفن تعرضه نوادبا أرامله قد حيل بين الأرض وابن آدما مرت به ثلاثة لم يدفن ويشفق النعش ويأبى حامله ونوزعت دار البقاء قادما
    قال الأميني : إن هاهنا صحيفة غامضة أقف تجاهها موقف السادر لا تطاوعني النفس على الركون إلى أي من شقي الاحتمال الذين يخالجان في الصدر ، وذلك أن ما ارتكب من الخليفة في التضييق عليه وقتله بتلكم الصور المشددة ، ثم ما نيل منه بعد القتل من المنع عن تجهيزه وتغسيله ودفنه والصلاة عليه والوقيعة فيه بالسباب المقذع وتحقيره برمي جنازته بالحجارة وكسر بعض أضلاعه ، يستدعي إما فسق الصحابة أجمع
1 ـ السفا : الغبار.

(214)
فإنهم كانوا بين مباشر لهاتيك الأحوال ، وبين خاذل للمودى به ، وبين مؤلب عليه ، إلى مثبط عنه ، إلى راض بما فعلوا ، إلى محبذ لتلكم الأهوال ، وكان يرن في مسامعهم قوله تعالى : لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق.
    وقوله تعالى : من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا.
    وقوله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما.
    وما جاء في ذلك من السنة أكثر ، وما يؤثر عن نبي العظمة صلى الله عليه وآله وسلم من وجوب دفن موتى المؤمنين وتغسيلهم وتكفينهم والصلاة عليهم ، وإن حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا ، فالقوم إن كانوا متعمدين في مخالفة هذه النصوص ؟ فهم فساق إن لم نقل إنهم مراق عن الدين بخروجهم على الإمام المفترض طاعته.
    أو أن هذه الأحوال تستدعي انحراف الخليفة عن الطريقة المثلى ؟ وأن القوم اعتقدوا بخروجه عن مصاديق تلكم الأوامر والمناهي المؤكدة التي تطابق عليها الكتاب والسنة.
    وليس من السهل الهين البخوع إلى أي من طرفي الترديد ؟ أما الصحابة فكلهم عدول عند القوم يركن إليهم ويحتج بأقوالهم وأفعالهم ويوثق بإيمانهم ، وقد كهربتهم صحبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فأخرج درن نفوسهم ، وكان في المعمعة منهم بقايا العشرة المبشرة كطلحة والزبير ، ولطلحة خاصة فظاظات حول ذلك الجلاد ، إلى أناس آخرين من ذوي المآثر نظراء عمار بن ياسر ، ومالك الأشتر ، وعبد الله بن بديل ، وكان بين ظهرانيهم إمام المسلمين أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو المرموق يومئذ للخلافة ، وقد انثنت إليه الخناصر ، والأمة أطوع له من الظل لذيه.
    أفتراه والحالة هذه سكت عن تلكم الفظايع وهو مطل عليها من كثب وهو أعلم الناس بنواميس الشريعة ، وأهداهم إلى طريقها المهيع ، وهو يعلم أن من المحظور ارتكابها ؟ لا ها الله.
    أو أنه عليه السلام أخذ الحياد في ذلك المأزق الحرج وهو مستبيح للحياد أو لما يعملون به ؟ أنا لا أدري.
    وليس من المستطاع القول بأن معظم الصحابة ما كانوا عالمين بتلكم الوقايع ، أو أنهم ما كانوا يحسبون أن الأمر يبلغ ذلك المبلغ ، أو أنهم كانوا غير راضين بهاتيك الأحدوثة ، فإن الواقعة ما كانت مباغتة ولا غيلة حتى يعزب عن أحد علمها ، فإن


(215)
الحوار استدام أكثر من شهرين ، وطيلة هذه المدة لم يكن للمتجمهرين طلبة من الخليفة إلا الاقلاع عن أحداثه ، أو التنازل عن عرش الخلافة ، وكانوا يهددونه بالقتل إن لم يخضع لإحدى الطلبتين ، وكانت نعرات القوم في ذلك تتموج بها الفضاء ، وعقيرة عثمان في التوبة تارة وعدم التنازل أخرى وتخويفهم بمغبات القتل ثالثة تتسرب في فجوات الجو ، فلو كان معظم الصحابة منحازين عن ذلك الرأي لكان في وسعهم تفريق الجمع بالقهر أو الموعظة ، لكن بالرغم عما يزعم عليهم لم يؤثر عن أحد منهم ما يثبت ذلك أو يقربه ، وما أسلفناه من الأحاديث الجمة النامة عن معتقدات الصحابة في الخليفة وفي التوثب عليه تفند هذه المزعمة الفارغة ، إن لم نقل أنها تثبت ما يعلمه الكل من الإجماع على مقت الخليفة والتصافق على ما نقموا عليه والرضا بما نيل منه ، حتى أن أحدا لم يرو عنه أنه ساءه نداء قاتله حين طاف بالمدينة ثلاثا قائلا : أنا قاتل نعثل (1).
    وأما ثاني الاحتمالين فمن المستعصب أن يبلغ سوء الظن بالخليفة هذا المدى ، وإن كانت الصحابة جزموا بذلك ، والشاهد يرى ما لا يراه الغايب ، وقد أوقفناك على قول السيدة عائشة : اقتلوا نعثلا قتله الله وقد كفر.
    وقولها لمروان : وددت والله أنه في غرارة من غرائري هذه وأني طوقت حمله حتى ألقيه في البحر.
    وقولها لابن عباس : إياك أن ترد الناس عن هذا الطاغية.
    وقول عبد الرحمن بن عوف للإمام أمير المؤمنين عليه السلام : إذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي ، إنه قد خالف ما أعطاني.
    وقوله : عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه.
    وقوله له : لله علي أن لا أكلمك أبدا.
    وقول طلحة لمجمع بن جارية لما قال له : أظنكم والله قاتليه : ( فإن قتل فلا ملك مقرب ولا نبي مرسل ).
    وقد مر أن طلحة كان أشد الناس على عثمان في قتله يوم الدار ، وقتل دون دمه وقول الزبير : اقتلوه فقد بدل دينكم.
1 ـ الاستيعاب 2 : 478.

(216)
    وقوله : إن عثمان لجيفة على الصراط غدا.
    وقول عمار يوم صفين : امضوا معي عباد الله إلى قوم يطلبون فيما يزعمون بدم الظالم لنفسه الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله.
    وقوله : ما تركت في نفسي حزة أهم إلي من أن لا نكون نبشنا عثمان من قبره ثم أحرقناه بالنار.
    وقوله : أراد أن يغير ديننا فقتلناه.
    وقوله : والله إن كان إلا ظالما لنفسه الحاكم بغير ما أنزل الله.
    وقوله : إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان الآمرون بالاحسان.
    وقول حجر بن عدي وأصحابه : هو أول من جار في الحكم وعمل بغير الحق.
    وقول عبد الرحمن العنزي : هو أول من فتح أبواب الظلم ، وارتج أبواب الحق.
    وقول هاشم المرقال : إنما قتله أصحاب محمد وقراء الناس حين أحدث أحداثا و خالف حكم الكتاب ، وأصحاب محمد هم أصحاب الدين ، وأولى بالنظر في أمور المسلمين وقول عمرو بن العاص : أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأتها ، إن كنت لأحرض عليه حتى إني لأحرض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل.
    وقوله له : ركبت بهذه الأمة نهابير من الأمور فركبوها منك ، وملت بهم فمالوا بك ، اعدل أو اعتزل.
    وقوله : أنا عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع.
    وقول سعد بن أبي وقاص : إنه قتل بسيف سلته عائشة ، وصقله طلحة ، وسمه ابن أبي طالب ، وسكت الزبير وأشار بيده ، وأمسكنا نحن ولو شئنا دفعناه عنه .. إلخ.
    وقول جهجاه الغفاري : قم يا نعثل ! فأنزل عن هذا المنبر ، ندرعك عباءة ، ولنطرحك في الجامعة ، ولنحملك على شارف من الإبل ثم نطرحك في جبل الدخان.
    وقول مالك الأشتر : إلى الخليفة المبتلى الخاطئ الحائد عن سنة نبيه ، النابذ لحكم القرآن وراء ظهره.
    وقول عمرو بن زرارة : إن عثمان قد ترك الحق وهو يعرفه .. الخ.
    وقول الحجاج بن غزية الأنصاري : والله لو لم يبق من عمره إلا بين الظهر والعصر


(217)
لتقربنا إلى الله بدمه.
    وقول قيس بن سعد الأنصاري : أول الناس كان فيه ( قتل عثمان ) قياما عشيرتي ولهم أسوة.
    وقول جبلة بن عمرو الأنصاري : يا نعثل ! والله لأقتلنك ولأحملنك على قلوص جرباء ولأخرجنك إلى حرة النار.
    وقوله وقد سئل الكف عن عثمان : والله لا ألقى الله غدا فأقول : إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل.
    وقول محمد بن أبي بكر له : على أي دين أنت يا نعثل ؟ غيرت كتاب الله.
    وقوله له : الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين.
    وقول الصحابة مجيبين لقوله : لا تقتلوني فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة : إنا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سميت ، قتل من سعى في الأرض فسادا ، وقتل من بغى ثم قاتل على بغيه ، وقتل من حال دون شيء من الحق ومنعه ثم قاتل دون وكابر عليه ، وقد بغيت ، ومنعت الحق ، وحلت دونه وكابرت عليه .. الخ.
    وقول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث من أبيات مرت ج 8 : 288.
وشبهته كسرى وقد كان مثله شبيها بكسرى هديه وضرائبه
    إلى كلمات آخرين محكمات وأخر متشابهات ، يشبه بعضها بعضا.
    إن في هذا المأزق الحرج لا بد لنا من ركوب إحدى الصعبتين ، والحكم هي الفطرة السليمة مهما دار الأمر بين تخطئة إنسان واحد محتف بالأحداث ، وبين تضليل آلاف مؤلفة فيهم الأئمة والعلماء والحكماء والصالحون وقد ورد في فضلهم ما ورد كما نرتأيه نحن ، أو أن كلهم عدول يحتج بأقوالهم وأفعالهم كما يحبسه أهل السنة ، وإن كان في البين اجتهاد كما يحسبونه في أمثال المقام فهو في الطرفين ، والتحكم بإصابة إنسان واحد وخطأ تلك الأمة الكبيرة في اجتهادها ، تهور بحت ، وتمحل لا يصار إليه ، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ، إن الله يحب المقسطين.


(218)
سلسلة الموضوعات
في قصة الدار وتبرير الخليفة والنظر فيها
    1 ـ قال الطبري في تاريخه 5 : 98 : فيما كتب به إلي السري عن شعيب عن سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي قال : كان عبد الله بن سبا يهوديا من أهل صنعاء أمه سوداء فأسلم زمان عثمان ، ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم ، فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام ، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام ، فأخرجوه حتى أتى مصر فاعتمر فيهم فقال لهم فيما يقول : لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمدا يرجع وقد قال الله عز وجل : إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد.
    فمحمد أحق بالرجوع من عيسى : قال : فقبل ذلك عنه ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها ، ثم قال لهم بعد ذلك : إنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي وكان علي وصي محمد.
    ثم قال : محمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء.
    ثم قال بعد ذلك : من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناول أمر الأمة ثم قال لهم بعد ذلك : إن عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وابدأوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس ، وادعوهم إلى هذا الأمر ، فبث دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم ، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك ، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يضعون فيقرأ أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم ، حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض ازاعة ، وهم يريدون غير ما يظهرون ، ويسرون غير ما يبدون ، فيقول أهل كل مصر : إنا لفي عافية مما ابتلى به هؤلاء إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار فقالوا : إنا لفي عافية مما فيه الناس ، وجامعه محمد وطلحة من هذا المكان قالوا : فأتوا عثمان فقالوا : يا أمير المؤمنين ! أيأتيك عن الناس الذي يأتينا ؟ قال : لا والله ما جاءني إلا السلامة.
    قالوا : فإنا قد أتانا وأخبروه بالذي أسقطوا إليهم ، قال : فأنتم


(219)
شركائي وشهود المؤمنين فأشيروا علي ، قالوا : نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم ، فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة ، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة ، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر ، وأرسل عبد الله ابن عمر إلى الشام ، وفرق رجالا سواهم فرجعوا جميعا قبل عمار فقالوا : أيها الناس ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم ، قالوا جميعا : الأمر أمر المسلمين إلا أن أمرائهم يقسطون بينهم ويقومون عليهم ، واستبطأ الناس عمارا حتى ظنوا أنه قد اغتيل فلم يفجأهم إلا كتاب من عبد الله بن سعد بن أبي سرح يخبرهم أن عمارا قد استماله قوم بمصر وقد انقطعوا إليه منهم : عبد الله بن السوداء ، وخالد بن ملجم ، وسودان بن حمران ، وكنانة بن بشر.
    قال الأميني : لو كان ابن سبا بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن ، وشق عصا المسلمين وقد علم به وبعيثه أمراء الأمة وساستها في البلاد ، وانتهى أمره إلى خليفة الوقت ، فلماذا لم يقع عليه الطلب ؟ ولم يبلغه القبض عليه ، والأخذ بتلكم الجنايات الخطرة ، والتأديب بالضرب والاهانة ، والزج إلى أعماق السجون ؟ ولا آل أمره إلى الإعدام المريح للأمة من شره وفساده ، كما وقع ذلك كله على الصلحاء الأبرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وهتاف القرآن الكريم يرن في مسامع الملأ الديني : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ( المائدة : 33 ).
    فهلا اجتاح الخليفة جرثومة تلكم القلاقل بقتله ؟ وهل كان تجهمه وغلظته قصرا على الأبرار من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ففعل بهم ما فعل مما أسلفنا بعضه في هذا الجزء والجزء الثامن.
    هب أن ابن سبا هو الذي أمال الأمصار على مناوءة الخليفة فهل كان هو مختلقا تلكم الأنباء من دون انطباقها على شيء من أعمال عثمان وولاته ؟ فنهضت الأمة وفيهم وجوه المهاجرين والأنصار على لا شيء ؟ أو أن ما كان يقوله قد انطبق على ما كانوا يأتون به من الجرائم والمآثم ، فكانت نهضة الأمة لاكتساحها نهضة دينية يخضع لها كل مسلم


(220)
وإن كان ابن اليهودية خلط نفسه بالناهضين لأي غاية راقته ، وما أكثر الأخلاط في الحركات الصحيحة من غير أن يمس كونهم مع الهايجين بشيء من كرامتهم.
    ولو كان ما أنهاه إليهم ابن سبأ عزوا مختلقا فهلا ـ لما قدمت وفود الأمصار المدينة ـ قال لهم المدنيون : إن الرجل بريء من هذه القذائف والهنات وهو بين ظهرانيهم يرون ما يفعل ، ويسمعون ما يقول ؟ لكنهم بدلا عن ذلك أصفقوا مع القادمين ، بل صاروا هم القدوة والأسوة في تلك النهضة ، وكانوا قبل مقدمهم ناقمين عليه.
    ونحن والدكتور طه حسين نصافق عند رأيه هاهنا حيث قال في كتابه ( الفتنة الكبرى ص 134 : وأكبر الظن أن عبد الله بن سبأ هذا ـ إن كان كل ما يروى عنه صحيحا ـ إنما قال ما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف فهو قد استغل الفتنة ولم يثرها ، وأكبر الظن كذلك أن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا ، ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية ، وليشنعوا على علي وشيعته من ناحية أخرى ، فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيدا للمسلمين ، وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة ؟ وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم في أمر عثمان وفي غير أمر عثمان ؟ فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط ، ولنكبر المسلمين في صدر الاسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديا وكانت أمه سوداء ، وكان هو يهوديا ثم أسلم لا رغبا ولا رهبا ولكن مكرا وكيدا وخداعا ، ثم أتيح له من النجح ما كان يبتغي ، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه ، وفرقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعا وأحزابا.
    هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل ، ولا تثبت للنقد ، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور التاريخ ، وإنما الشيء الواضح الذي ليس فيه شك هو أن ظروف الحياة الإسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الرأي وافتراق الأهواء ونشأة المذاهب السياسية المتباينة ، فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنة النبي وسيرة صاحبيه كانوا يرون أمورا تطرأ ينكرونها ولا يعرفونها ، ويريدون أن تواجه كما كان عمر يواجهها في حزم وشدة وضبط للنفس وضبط للرعية ، والشباب الناشئون في قريش وغير قريش
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: فهرس