الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: 241 ـ 250
(241)
إما أن تخرج فتقاتلهم ونحن معك وأنت على الحق وهم على الباطل ، وإما أن تخرق بابا سوى الباب الذي هم عليه فتركب رواحلك وتلحق بمكة فإنهم لن يستحلوك وأنت بها ، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية.
    فقال عثمان : أما أن أخرج إلى مكة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    يقول : يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم.
    فلن أكون أنا.
    وأما أن ألحق بالشام فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    قال : فأذن لنا أن نقاتلهم ونكشفهم عنك ، قال : فلا أكون أول من يأذن في محاربة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فخرج علي وهو يسترجع وقال للحسن والحسين : إذهبا بسيفكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحدا يصل إليه ، وبعث الزبير ابنه ، وبعث طلحة ابنه ، وبعث عدة من أصحاب محمد أبناءهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان ويسألونه إخراج مروان ، فلما رأى ذلك محمد بن أبي بكر وقد رمى الناس عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بالدماء على بابه وغيره ، فخشي محمد بن أبي بكر أن يغضب بنو هاشم لحال الحسن ويكشفوا الناس عن عثمان فأخذ بيد رجلين من أهل مصر فدخلوا من بيت كان بجواره ، لأن كان من كان مع عثمان كانوا فوق البيوت ولم يكن في الدار عند عثمان إلا امرأته ، فنقبوا الحائط فدخل عليه محمد بن أبي بكر فوجده يتلو القرآن فأخذ بلحيته فقال له عثمان : والله لو رآك أبوك لساءه فعلك.
    فتراخت يده ودخل الرجلان عليه فقتلاه وخرجوا هاربين من حيث دخلوا ، قيل : جلس عمرو بن الحمق على صدره ضربه حتى مات ، ووطأ عمير بن ضابئ على بطنه فكسر له ضلعين من أضلاعه ، وصرخت امرأته فلم يسمع صراخها لما كان حول الدار من الناس وصعدت امرأته فقالت : إن أمير المؤمنين قد قتل فدخل الناس فوجدوه مذبوحا وانتشر الدم على المصحف على قوله تعالى : ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) ، وبلغ الخبر عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بالمدينة فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر الذي أتاهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا فاسترجعوا ، وقال علي لابنيه : كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب ؟ ورفع يده فلطم الحسن ، وضرب على صدر الحسين ، وشتم محمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير ، وخرج وهو غضبان حتى أتى منزله ، وجاء الناس يهرعون إليه فقالوا له : نبايعك فمد يدك فلا بد لنا من أمير.
    فقال علي : والله أني


(242)
لأستحي أن أبايع قوما قتلوا عثمان ، وإني لأستحي من الله تعالى أن أبايع وعثمان لم يدفن بعد ، فافترقوا ثم رجعوا فسألوه البيعة فقال : اللهم إني مشفق مما أقدم عليه فقال لهم : ليس ذلك إليكم إنما ذلك لأهل بدر فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة ، فلم يبق أحد من أهل بدر حتى أتى عليا فقالوا : ما نرى أحدا أحق بها منك ، مد يدك نبايعك.
    فبايعوه ، فهرب مروان وولده ، وجاء علي وسأل امرأة عثمان فقال لها : من قتل عثمان ؟ قالت : لا أدري دخل عليه محمد بن أبي بكر ومعه رجلان لا أعرفهما ، فدعا محمدا فسأله عما ذكرت امرأة عثمان فقال محمد : لم تكذب والله دخلت عليه وأنا أريد قتله فذكر لي أبي فقمت عنه وأنا تائب إلى الله تعالى ، والله ما قتلته ولا أمسكته.
    فقالت امرأته : صدق ولكنه أدخلهما عليه.
    راجع أخبار الدول للقرماني هامش الكامل لابن الأثير 1 : 210 ـ 213.

نظرة في الموضوعات
    هذه الموضوعات اختلقت تجاه التاريخ الصحيح المتسالم عليه المأخوذ من مئات الآثار الثابتة المعتضد بعضها ببعض ، فيضادها ما أسلفناه في البحث عن آراء أعاظم الصحابة في عثمان وما جرى بينهم وبينه من سيء القول والفعل ، وفيهم بقية أصحاب الشورى وغير واحد من العشرة المبشرة وعدة من البدريين ، وقد جاء فيه ما يربو على مائة وخمسين حديثا راجع ص 69 ـ 157 من هذا الجزء.
    وتكذبها أحاديث جمة مما قد منا ذكرها ص 157 ـ 163 من حديث المهاجرين والأنصار وأنهم هم قتلة عثمان.
    ومن حديث كتاب أهل المدينة إلى الصحابة في الثغور من أن الرجل أفسد دين محمد فهلموا وأقيموا دين محمد صلى الله عليه وسلم.
    ومن حديث كتاب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة ويقسمون له بالله أنهم لا يمسكون عنه أبدا حتى يقتلوه أو يعطيهم ما يلزمه من الله.
    ومن حديث كتاب المهاجرين إلى مصر أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها ، فإن كتاب الله قد بدل ، وسنة رسوله قد غيرت.
    إلى آخر ما مر في ص 161 ، 162.


(243)
    ومن حديث الحصار الأول المذكور في صفحة 168 ـ 177.
    ومن حديث كتاب المصريين إلى عثمان إنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرحة ، أو ضلالة مجلحة مبلجة. إلى آخر مر ص 170. ومن حديث عهد الخليفة على نفسه أن يعمل بالكتاب والسنة سنة 35 كما مر ص 170 ـ 172. ومن حديث توبته مرة بعد أخرى كما فصلناه ص 172 ـ 178. ومن حديث الحصار الثاني الذي أسلفناه ص 177 ـ 189. ومن حديث كتاب عثمان إلى معاوية في أن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة. إلى آخر ما سبق في صفحة 190. ومن حديث كتابه إلى الشام عامة : إني في قوم طال فيهم مقامي واستعجلوا القدر في. وخيروني بين أن يحملوني على شارف من الإبل الدحيل ، وبين أن أنزع لهم رداء الله.
    إلى آخر ما مر ص 190. ومن حديث كتابه أهل البصرة المذكور صفحة 191.
    ومن حديث كتابه إلى أهل الأمصار مستنجدا يدعوهم إلى الجهاد مع أهل المدينة واللحوق به لنصره كما مر ص 191.
    ومن حديث كتابه إلى أهل مكة ومن حضر الموسم ينشد الله رجلا من المسلمين بلغه كتابه إلا قدم عليه .. إلخ.
    ومن حديث يوم الدار والقتال فيه ، وحديث من قتل في ذلك المعترك مما مضى في ص 198 ـ 204.
    ومن حديث مقتل عثمان وتجهيزه ودفنه بحش كوكب بدير سلع مقابر اليهود المذكور ص 204 ـ 217.
    ومما ثبت من أحوال هؤلاء الذين زعموا أنهم بعثوا أبنائهم للدفاع عن عثمان ، وأنهم لم يفتأوا مناوئين له إلى أن قتل وبعد مقتله إلى أن قبر في أشنع الحالات ، أما علي أمير المؤمنين فمن المتسالم عليه أنه لم يحضر مقتل الرجل في المدينة فضلا عن دخوله عليه قبيل ذلك واستيذانه منه للذب عنه وبعد مقتله وبكاءه عليه وصفعه ودفعه وسبه


(244)
ولعنه وحواره حول الواقعة ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 230 ردا علي حديث : الظاهر أن هذا ضعيف لأن عليا لم يكن بالمدينة حين حصر عثمان ولا شهد قتله.
    وقد سأله عثمان أن يخرج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس باسمه للخلافة ، و كان ذلك مرة بعد أخرى وفي إحداهما قال لابن عباس : قل له فليخرج إلى ماله بينبع فلا أغتم به ولا يغتم بي.
    فأتى ابن عباس عليا فأخبره فقال عليه السلام : يا ابن عباس ! ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملا ناضحا بالغرب أقبل وأدبر ، بعث إلي أن أخرج ، ثم بعث إلي أن أقدم ، ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج.
    وعلي عليه السلام هو الذي مر حديث رأيه في عثمان فراجع حتى يأتيك اليقين بأنه صلوات الله عليه لم يكن كالواله الحزين ، ولم يكن ذاهبا عقله يوم الدار ، ولا يقذفه بهذه الفرية الشائنة إلا من ذهبت به الخيلاء ، وتخبطه الشيطان من المس ، وخبل حب آل أمية قلبه واختبله ، فلا يبالي بما يقول ، ولا يكترث لما يتقول.
    وأما طلحة فحدث عنه ولا حرج ، كان أشد الناس على عثمان نقمة ، وله أيام الحصارين وفي يومي الدار والتجهيز خطوات واسعة ومواقف هائلة خطرة ثائرة على الرجل كما مر تفصيل ذلك كله ، وإن كنت في ريب من ذلك فاسأل عنه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لتسمع منه قوله : والله ما استعجل متجردا للطلب بدم عثمان إلا خوفا من أن يطالب بدمه لأنه مظنته ، ولم يكن في القوم أحرص عليه منه ، فأراد أن يغالط مما أجلب فيه ليلبس الأمر ويقع الشك. وقوله : لحا الله ابن الصعبة أعطاه عثمان ما أعطاه وفعل به ما فعل. إلى أقواله الأخرى التي أوقفناك عليها.
    وسل عنه عثمان نفسه وقد مرت فيه كلماته المعربة عن جلية الحال ، وسل عنه مروان لماذا قتله ؟ وما معنى قوله حين قتله لأبان عثمان : قد كفيتك بعض قتلة أبيك ؟ وسل عنه سعدا ومحمد بن طلحة وغيرهما ممن مر حديثهم.
    وأما الزبير فإن سألت عنه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فعلى الخبير سقطت قال عليه السلام له : أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته ؟ سلط الله على أشدنا عليه اليوم ما يكره ، وقال فيه وفي طلحة : إنهم يطلبون حقا هم تركوه ، ودما هم سفكوه ، فإن كنت شريكهم فيه فإن لهم نصيبهم منه ، وإن كان ولوه دوني فما الطلبة إلا قبلهم.
    إلى آخر ما


(245)
أسلفناه من كلماته عليه السلام.
    وقد مر قول ابن عباس : أما طلحة والزبير فإنهما أجلبا عليه وضيقا خناقه.
    و قول عمار بن ياسر في خطبة له : إن طلحة والزبير كانا أول من طعن وآخر من أمر.
    وقول سعيد بن العاص لمروان : هؤلاء قتلة عثمان معك إن هذين الرجلين قتلا عثمان : طلحة والزبير ، وهما يريدان الأمر لأنفسهما ، فلما غلبا عليه قالا : نغسل الدم بالدم والحوبة بالحوبة.
    وأما سعد بن أبي وقاص فهو القائل كما مر حديثه : وأمسكنا نحن ولو شئنا دفعنا عنه ولكن عثمان غير وتغير ، وأحسن وأساء ، فإن كنا أحسنا فقد أحسنا ، وإن كنا أسأنا فنستغفر الله.
    وأعطف على هؤلاء بقية الصحابة الذين حسب واضعوا هذه الروايات أنهم بعثوا أبناءهم للدفاع عن عثمان ، وقد أسلفنا إجماعهم عدا ثلاثة رجال منهم على مقته المفضي إلى قتله ، وهل ترى من المعقول أن يمقته الآباء إلى هذا الحد الموصوف ثم يبعثوا أبنائهم للمجالدة عنه ؟ إن هذا إلا اختلاق.
    وهل من المعقول أن القوم كانوا يمحضون له الولاء ، وحضروا للمناضلة عنه ، فباغتهم الرجلان اللذين أجهزا عليه وفرا ولم يعلم بهما أحد إلى أن أخبرتهم بهما الفرافصة ولم تعرفهما هي أيضا ، وكانت إلى جنب القتيل تراهما وتبصر ما ما ارتكباه منه ؟.
    وهل عرف مختلق الرواية التهافت الشائن بين طرفي ما وضعه من تحريه تقليل عدد المناوئين لعثمان المجهزين عليه حتى كاد أن يخرج الصحابة الآباء منهم والأبناء عن ذلك الجمهور ، ومما عزاه إلى مولانا أمير المؤمنين عليه السلام من قوله لما انثال إليه القوم ليبايعوه : والله إني لأستحي أن أبايع قوما قتلوا عثمان.
    الخ ؟ وهو نص على أن مبايعيه أولئك هم كانوا قتلوا عثمان وهم هم المهاجرون والأنصار الصحابة الأولون الذين جاء عنهم يوم صفين لما طلب معاوية من الإمام عليه السلام قتلة عثمان وأمر عليه السلام بتبرزهم فنهض أكثر من عشرة آلاف قائلين : نحن قتلته ، يقدمهم عمار بن ياسر ، ومالك الأشتر ، و محمد بن أبي بكر ، وفيهم البدريون ، فهل الكلمة المعزوة إلى الإمام عليه السلام لمبايعيه عبارة أخرى عن الرجلين المجهولين اللذين فرا ولم يعرف أحد خبرهما ؟ أو هما وأخلاط من


(246)
الناس الذين كانت الصحابة تضادهم في المرمى ؟ وهل في المعقول أن يلهج بهذا إلا معتوه ؟ وهل نحت هذا الانسان الوضاع إن صدق في أحلامه عذرا مقبولا لأولئك الصحابة العدول الذابين عن عثمان بأنفسهم وأبنائهم الناقمين على من ناوئه في تأخيرهم دفنه ثلاثا وقد ألقي في المزبلة حتى زج بجثمانه إلى حش كوكب ، دير سلع ، مقبرة اليهود ، ورمي بالحجارة ، وشيع بالمهانة ، وكسر ضلع من أضلاعه ، وأودع الجدث بأثيابه من غير غسل ولا كفن ، ولم يشيعه إلا أربعة ، ولم يمكنهم الصلاة عليه ؟ فهل كل هذا مشروع في الاسلام ، والصحابة العدول يرونه ويعتقدون بأنه خليفة المسلمين ، وأن من قتله ظالم ، ولا ينبسون فيه ببنت شفة ، ولا يجرون فيه أحكام الاسلام ؟ أو أنهم ارتكبوا ذلك الحوب الكبير وهم لا يتحوبون متعمدين ؟ معاذ الله من أن يقال ذلك.
    أو أن هذا الانسان زحزحته بوادره عن مجاري تلكم الأحكام ، وحالت شوارده بينه وبين حرمات الله ، وشرشرت منه جلباب الحرمة والكرامة ومزقته تمزيقا ، حتى وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة ؟ ومن الكذب الصريح في هذه الروايات عد سعد بن أبي وقاص في الرعيل الأول ممن بايع عليا عليه السلام وهو من المتقاعدين عن بيعته إلى آخر نفس لفظه وهذا هو المعروف منه والمتسالم عليه عند رواة الحديث ورجال التاريخ ، وقد نحتت يد الافتعال في ذلك له عذرا أشنع من العمل ، راجع مستدرك الحاكم 3 : 116.
    ومن المضحك جدا ما حكاه البلاذري في الأنساب 5 : 93 عن ابن سيرين من قوله : لقد قتل عثمان وإن في الدار لسبعمائة منهم الحسن وابن الزبير فلو أذن لهم لأخرجوهم من أقطار المدينة.
    وعن الحسن البصري (1) قال : أتت الأنصار عثمان فقالوا : يا أمير المؤمنين ! ننصر الله مرتين نصرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وننصرك. قال : لا حاجة لي في ذلك ارجعوا.
    قال الحسن : والله لو أرادوا أن يمنعوه بأرديتهم لمنعوه.
    أي عذر معقول أو مشروع هذا ؟ يقتل خليفة المسلمين في عقر داره بين ظهراني سبعمائة صحابي عادل وهم ينظرون إليه ، ومحمد بن أبي بكر قابض على لحيته عال بها
1 ـ راجع إزالة الخفاء 2 : 242.

(247)
حتى سمع وقع أضراسه ، وشحطه من البيت إلى باب داره ، وعمرو بن الحمق يثب ويجلس علي صدره ، وعمير بن ضابئ يكسر أضلاعه ، وجبينه موجوء بمشقص كنانة بن بشر ، ورأسه مضروس بعمود التجيبي ، والغافقي يضرب فمه بحديد ، ترد عليه طعنة بعد أخرى حتى أثخنته الجراح وبه حياة فأرادوا قطع رأسه فألقت زوجتاه بنفسهما عليه ، كل هذه بين يدي أولئك المئات العدول أنصار الخليفة غير أنهم ينتظرون حتى اليوم إلى إذن القتيل وإلا كانوا أخرجوهم من أقطار المدينة ، ولو أرادوا أن يمنعوه بأرديتهم لمنعوه.
    أين هذه الأضحوكة من الاسلام والكتاب والسنة والعقل والعاطفة والمنطق والاجماع والتاريخ الصحيح ؟ !.

نظرة في المؤلفات
    إن ما سطرناه في عثمان إلى هذا الحد أساس ما علوا عليه بنيان فضله ، وتبرير ساحته عن لوت أفعاله وتروكه ، وتعذيره في النهابير التي ركبها والدفاع عنه ، وقد أوقفناك على الصحيح الثابت مما جاء فيه ، وعلى المزيف الباطل مما وضع له ، ومن جنايات المؤرخين ضربهم الصفح عن الأول ، وركونهم إلى الفريق الثاني من الروايات فبنوا ما شادوه على شفا جرف هار ، فلم يأت بغيرها أي عثماني في العقيدة ، أموي في النزعة ، ضع يدك على أي كتاب لأحدهم في التاريخ والحديث مثل تاريخ الأمم والملوك للطبري ، والتمهيد للباقلاني ، والكامل لابن الأثير ، والرياض النضرة للمحب الطبري ، وتاريخ أبي الفدا ، وتاريخ ابن خلدون ، والبداية والنهاية لابن كثير ، والصواعق لابن حجر ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ، وروضة المناظر لابن الشحنة الحنفي ، وتاريخ أخبار الدول للقرماني ، وتاريخ الخميس للديار بكري ، ونزهة المجالس للصفوري ، ونور الأبصار للشبلنجي ، تجده مشحونا بتلكم الموضوعات المسلسلة ، أتوا بها مرسلين إياها إرسال المسلم ، وشوهوا بها صحيفة التاريخ بعد ما سودوا صحائفهم ، وموهوا بها على الحقائق الراهنة.
    وجاء بعد هؤلاء المحدثون المتسرعون وهم يحسبون أنهم يمحصون التاريخ والحديث تمحيصا ، ويحللون القضايا والحوادث تحليلا صحيحا متجردين عن الأهواء والنزعات غير متحيزين إلى فئة ، ولا جانحين إلى مذهب ، لكنهم بالرغم من هاتيك الدعوى


(248)
وقعوا في ذلك وهم لا يشعرون ، فحملوا إلينا كل تلكم الدسائس في صور مبهرجة رجاء أن تنطلي عند الرجرجة الدهماء ، لكن قلم التنقيب أماط الستار عن تمويههم ، وعرف الملأ الباحث أنهم إنما ردوا ما هنالك من بوائق ومخازي.
كما ردها يوما بسوءته عمرو
    وأثبتوا فضائل بنيت على أساس منهدم ، وربطوها بعرى متفككة ، فهلم معي نقرأ صحيفة من ( الفتوحات الإسلامية ) تأليف مفتي مكة السيد أحمد زيني دحلان مما ذكره في الجزء الثاني من سيرة الخلفاء الأربعة ص 354 ـ 517 قال في ص 492 تحت عنوان : ذكر ما كان لسيدنا عثمان من الاقتصاد في الدنيا وحسن السيرة : كان عثمان رضي الله عنه زاهدا في الدنيا ، راغبا في الآخرة ، عادلا في بيت المال (1) لا يأخذ لنفسه منه شيئا (2) لأنه كان غنيا ، وغناه كان مشهورا من حياة النبي صلى الله وعليه وسلم وبعد وفاته ، وكان كثير الانفاق في نهاية الجود والسماحة والبذل في القريب والبعيد (3) وأنزل الله فيه : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (4) وقوله تعالى : أمن هو قانت آناء الليل ساجدا و قائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه (5).
    وقوله تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه (6).
    وكان يخطب الناس وعليه إزار غليظ عدني ثمنه أربعة دراهم (7) وكان يطعم الناس طعام الأمارة ويدخل بيته يأكل الخل والزيت ، قال الحسن البصري : دخلت المسجد فإذا أنا بعثمان متكئا على ردائه فأتاه سقا آن يختصمان إليه فقضى بينهما ،
1 ـ فلماذا نقم عليه الصحابة أجمع ؟ ولماذا قتلوا ذلك الزاهد الراغب العادل ؟
2 ـ راجع الجزء الثامن ص 288 ، 289 ط 2.
3 ـ إلا من كان يمت بالبيت الهاشمي ويحمل ولاء العترة كأبي ذر وعمار وابن مسعود ونظرائهم.
4 ـ مر في الجزء الثامن ص 57 ط 2 بطلان هذا التقول على الله.
5 ـ أسلفنا في هذا الجزء في ترجمة عمار القول الصحيح في نزول الآية.
6 ـ مر في الجزء الثاني ص 51 ط 2 نزولها في علي وحمزة وعبيدة بن الحرث. وأخرج البخاري في صحيحه في التفسير ج 7 : 91 نزولها في أنس بن النضر وذكر ابن حجر نزولها في جماعة ولم يذكر فيهم عثمان ، راجع فتح الباري 8 : 420.
7 ـ راجع ما رويناه في الجزء الثامن ص 291 ط 2.


(249)
وعن عبد الله بن شداد قال : رأيت عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة وهو يومئذ أمير المؤمنين وعليه ثوب قيمته أربعة دراهم.
    وسئل الحسن البصري ما كان رداء عثمان ؟ قال : كان قطري.
    قالوا : كم ثمنه ؟ قال : ثمانية دراهم.
    وكان رضي الله عنه شديد المتواضع ، قال الحسن البصري : رأيت عثمان وهو أمير المؤمنين نائما في المسجد ورداؤه تحت رأسه فيجيء الرجل فيجلس إليه ، ثم يجيء الرجل فيجلس إليه ، فيجلس هو كأنه أحدهم وروى خيثمة قال : رأيت عثمان نائما في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين ، وفي رواية أخرى لخيثمة أيضا : رأيت عثمان يقيل في المسجد ويقوم وأثر الحصاة في جنبه فيقول الناس : يا أمير المؤمنين ! وكان يلي وضوءه في الليل بنفسه فقيل له : لو أمرت بعض الخدم لكفوك ، قال : لا ، الليل لهم يستريحون فيه ، وكان رضي الله عنه يعتق في كل جمعة رقبة منذ أسلم إلا أن لا يجد ذلك تلك الجمعة فيجمعها في الجمعة الأخرى.
    قال العلامة ابن حجر في الصواعق : إن جملة ما أعتقه عثمان رضي الله عنه ألفان وأربعمائة.
    ومن تواضعه : أنه كان يردف غلامه خلفه أيام خلافته ولا يعيب ذلك.
    وكان يصوم النهار ويقول الليل إلا هجعة من أوله.
    وكان يختم القرآن كل ليلة في صلاته.
    وكان كثيرا ما يختمه في ركعة ، وكان إذا مر على المقبرة يبكي حتى تبتل لحيته ، وكان من العشرة المبشرين بالجنة.
    ومن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض ، وكان من السابقين للاسلام ، فإنه أسلم بعد أبي بكر وعلي وزيد بن حارثة ، و شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة والزهد في الدنيا ، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : رحمك الله يا عثمان ! ما أصبت من الدنيا ولا أصابت منك (1) وكثرت الفتوحات في زمن خلافته فقد فتح في زمنه أفريقية وسواحل الأردن وسواحل الروم واصطخر وفارس وطبرستان وسجستان وغير ذلك ، وكثرت أموال الصحابة في خلافته حتى بيعت جارية بوزنها ، وفرس بمائة ألف ، ونخلة بألف ، وعن الحسن البصري قال : كانت الأرزاق في زمن عثمان وافرة وكان الخير كثيرا ، وأصاب الناس مجاعة في غزوة تبوك فاشترى طعاما يصلح العسكر وأخرج أبو يعلى عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عثمان في الجنة وقال : لكل نبي خليل
1 ـ هل تؤيد هذه الصحيحة المزعومة وما قبلها سيرة الرجل ؟ ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون.

(250)
في الجنة وإن خليلي عثمان بن عفان.
    وفي رواية : لكل نبي رفيق في الجنة ورفيقي فيها عثمان بن عفان.
    وقال صلى الله عليه وسلم : ليدخلن بشفاعة عثمان سبعون ألف كلهم استحقوا النار الجنة بغير حساب.
    وأخرج أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه : أول من هاجر إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحبهما الله إن عثمان لأول من هاجر إلى الله تعالى بأهله بعد لوفى ، ولما زوج النبي صلى الله عليه وسلم بنته أم كلثوم لعثمان قال لها : إن بعلك لأشبه الناس بجدك إبراهيم وأبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
    وقال صلى الله عليه وسلم : أشد أمتي حياء عثمان بن عفان.
    وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله أوحى إلي أن أزوج كريمتي يعني رقية وأم كلثوم من عثمان.
    وقال صلى الله عليه وسلم : إن عثمان حيي تستحي منه الملائكة ، و قال صلى الله عليه وسلم : إنما يشبه عثمان بأبينا إبراهيم.
    وقال صلى الله عليه وسلم : ما زوجت عثمان بأم كلثوم إلا بوحي من السماء.
    وقال صلى الله عليه وسلم لعثمان : يا عثمان ! هذا جبريل يخبرني إن الله زوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية وعلى مثل صحبتها ، وأخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة فقال عثمان بن عفان : يا رسول الله ! علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقال عثمان : يا رسول الله ! علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : ما على عثمان ما فعل بعد اليوم.
    وعن عبد الرحمن بن سمرة قال : جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة فنثره في حجره فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول : ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم.
    وفي رواية عن حذيفة : إنها عشرة آلاف دينار فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول : غفر الله لك يا عثمان ! ما أسررت وما أعلنت وما هو كائن إلى يوم القيامة ، ما يبالي عثمان ما عمل بعدها ، وأخرج الواحدي : إن الله أنزل بسبب ذلك في حق عثمان : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما انفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
    وعن أبي سعيد الخدري قال : ارتقبت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من أول الليل إلى أن طلع الفجر يدعو لعثمان بن عفان يقول : اللهم عثمان بن عفان رضيت عنه فارض عنه ، فما زال رافعا يديه حتى طلع الفجر.
    وعن جابر بن عطية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غفر الله لك يا عثمان ! ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما أبديت وما هو كائن إلى يوم القيامة .. الخ.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: فهرس