الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: 251 ـ 260
(251)
    هذه بلايا تمنتها يد الغلو في الفضائل ، منيت بها الأمة ، وطمست تحت أطباقها حقايق العلم والدين ، وانطمست بها أنوار الهداية ، وستعرف أنها روايات مختلقة زيفتها نظارة التنقيب ولا يصح منها شئ ، غير أن المفتي دحلان على مطمار قومه أرسلها إرسال المسلم ، وموهها على أغرار الملأ الديني ، ولا يجد عن سردها منتدحا ، ذلك مبلغهم من العلم إن هم إلا يظنون ، ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا.

( الفتنة الكبرى )
    واقرأ صحيفة من ( الفتنة الكبرى ) للدكتور طه حسين قال في بدء كتابه.
    هذا حديث أريد أن أخلصه للحق ما وسعني إخلاصه للحق وحده ، وأن أتحرى فيه الصواب ما استطعت إلى تحري الصواب سبيلا ، وأن أحمل نفسي فيه على الانصاف لا أحيد عنه ولا أمالئ فيه حزبا من أحزاب المسلمين على حزب ، ولا أشايع فيه فريقا من الذين اختصموا في قضية عثمان دون فريق ، فلست عثماني الهوى ، ولست شيعة لعلي ، و لست أفكر في هذه القضية كما كان يفكر فيها الذين حاصروا عثمان واحتملوا معه ثقلها وجنوا معه أو بعده نتائجها.
    وأنا أعلم أن الناس ما زالوا ينقسمون في أمر هذه القضية إلى الآن كما كانوا ينقسمون فيها أيام عثمان رحمه الله ، فمنهم العثماني الذي لا يعدل بعثمان أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الشيخين ، ومنهم الشيعي الذي لا يعدل بعلي رحمه الله بعد النبي أحدا لا يستثني الشيخين ولا يكاد يرجو لمكانهما وقارا ، ومنهم من يتردد بين هذا وذاك يقتصد في عثمانيته شيئا ، أو يقتصد في تشيعه لعلي شيئا ، فيعرف لأصحاب النبي مكانتهم ويعرف لأصحاب السابقة منهم سابقتهم ، ثم لا يفضل بعد ذلك أحدا منهم على الآخر يرى أنهم جميعا قد اجتهدوا ونصحوا لله ولرسوله وللمسلمين ، فأخطأ منهم من أخطأ وأصاب منهم من أصاب ، ولأولئك وهؤلاء أجرهم لأنهم لم يتعمدوا خطيئة ولم يقصدوا إلى إساءة ، وكل هؤلاء إنما يرون آراءهم هذه يستمسكون بها ويذودون عنها و يتفانون في سبيلها ، لأنهم يفكرون في هذه القضية تفكيرا دينيا ، يصدرون فيه عن الإيمان ، ويبتغون به ما يبتغي المؤمن من المحافظة على دينه والاستمساك بيقينه وابتغاء


(252)
رضوان الله بكل ما يعمل في ذلك أو يقول.
    وأنا أريد أن أنظر إلى هذه القضية نظرة خالصة مجردة لا تصدر عن عاطفة ولا هوى ، ولا تتأثر بالإيمان ولا بالدين ، وإنما هي نظرة المؤرخ الذي يجرد نفسه تجريدا كاملا من النزعات والعواطف والأهواء مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها الخ.
    هكذا يحسب الدكتور ويبدي أنه لا يروقه النزول على حكم العاطفة ولا التحيز إلى فئة أو جنوح إلى مذهب ، وقد تجرد فيما كتب عن كل ذلك حتى عن الإيمان والدين ، وزعم أنه قصر نظرته في قضايا عثمان على البساطة ليتسنى له الحكم الطبيعي ، والقول في تلكم الحوادث على الحقائق المحضة ، هكذا يحسب الدكتور ، لكنه سرعان ما انقلب على عقبيه كرا على ما فر منه ، فلم يسعه إلا الركون إلى العواطف ومتابعة النزعات ، فلم يرتد إلا تلكم السفاسف التي اختلقتها سماسرة العثمانيين ، ولم يسرح في مسيره إلا مقيدا بسلاسل أساطير الأولين التي سردها الطبري ومن شايعه أو سبقه بتلك الأسانيد الواهية والمتون المزيفة التي أوقفناك عليها في هذا الجزء وفيما سبقه من الأجزاء ، فلم نجد مائزا بين هذا الكتاب وبين غيره من الكتب التي حسب الدكتور أن مؤلفيها حدت بهم الميول والنزعات ، فما هو إلا فتنة كبرى كما سماه هو بذلك.
    ترى الدكتور يحايد حذرا من أن يحيد عن مهيع الحق ويجور في الحكم ، و زعم الحياد أسلم في اليوم الحاضر كما كان في الأمس الدابر ، فذهب مذهب سعد بن أبي وقاص الحايد في القضية واتبع أثره ، قال في ديباجة كتابه : عاش قوم من أصحاب النبي حين حدثت هذه القضية وحين اختصم المسلمون حولها أعنف خصومة عرفها تاريخهم فلم يشاركوا فيها ولم يحتملوا من أعبائها قليلا ولا كثيرا ، وإنما اعتزلوا المختصمين وفروا بدينهم إلى الله ، وقال قائلهم سعد بن أبي وقاص رحمه الله : لا أقاتل حتى تأتوني بسيف يعقل ويبصر وينطق فيقول : أصاب هذا وأخطأ ذاك.
    فأنا أريد أن أذهب مذهب سعد وأصحابه رحمهم الله ، لا أجادل عن أولئك ولا عن هؤلاء ، وإنما أحاول أن أتبين لنفسي وأبين للناس الظروف التي دفعت أولئك وهؤلاء إلى الفتنة ، وما استتبعت من الخصومة العنيفة التي فرقتهم وما زالت تفرقهم إلى الآن ، وستظل تفرقهم في أكبر الظن إلى آخر الدهر ، وسيرى الذين يقرأون


(253)
هذا الحديث أن الأمر كان أجل من عثمان وعلي وممن شايعهما وقام من دونهما ، وأن غير عثمان لو ولي خلافة المسلمين في تلك الظروف التي وليها لتعرض لمثل ما تعرض له من ضروب المحن والفتن ، ومن اختصام الناس حوله واقتتالهم بعد ذلك فيه.
    هاهنا نجد الدكتور جاريا على ما عهد إلى نفسه تجرد عن العواطف ، وجانب المبادئ الدينية ، وحايد الدين الحنيف حقا ، ونظر إلى القضية بالحرية المحضة ، وحسبها فتنة يحق للعاقل أن يكون فيها كابن لبون لا ظهر له فيركب ولا ضرع فيحلب ، ونعم الرأي هذا لولا الاسلام المقدس ، لولا ما جاء به نبي العظمة ، لولا ما نطق به كتاب الله العزيز ، لولا ما تقتضيه فروض الانسانية والعواطف البشرية القاضية بخلاف ما ذهب إليه الدكتور ، وإني لست أقضي العجب منه ، ولست أدري كيف يقدس مذهب ابن أبي وقاص ، أيسوغ للباحث المسلم أن يصفح في تلكم القضايا عن حكم الدين المقدس ، ويشذ عما قرره نبي الاسلام ، ويسحق العواطف كلها حتى ما يستدعيه الطبع الانساني والغريزة العادلة في كسح الفساد والتفاني دون صالح المجتمع العام ؟ ألم يكن هنالك كتاب ناطق أو سنة محكمة أو شريعة حاكمة أو عقل سليم يبعث الملأ الديني إلى الدفاع عن كل مسلم مدت إليه يد الظلم والجور فضلا عن خليفة الوقت الواجب طاعته ؟ ما الذي أحوج المتمسك بعرى الدين الحنيف إلى سيف يعقل ويبصر وينطق والله يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ؟ أو لم يكفهم إنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه.
    ما الذي أذهل الدكتور عن قول الصحابي العظيم حذيفة اليماني : لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل ؟ وكيف يشتبه الحكم في القضية على المسلم النابه وهي لا تخلو عن وجهين ، فإن عثمان إن كان إماما عادلا قائما بالقسط عاملا بالكتاب والسنة مرضيا عند الله ؟ فالخروج عليه معلوم الحكم عند جميع فرق المسلمين لا يختلف فيه اثنان ، ولا تشذ فئة عن فئة ، وإن لم يكن كذلك وكان كما حسبه أولئك العدول من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومرت آرائهم ومعتقداتهم فيه ؟


(254)
فالحكم أيضا بين مبرهن بالكتاب العزيز كما استدل بذلك الثائرون عليه لما قال لهم : لا تقتلوني فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة : رجل زنى بعد إحصانه. أو كفر بعد إسلامه ، أو قتل نفسا بغير نفس فيقتل بها.
    فقالوا : إنا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سميت : قتل من سعى في الأرض فسادا ، وقتل من بغى ، ثم قاتل على بغيه ، وقتل من حال دون شيء من الحق ومنعه ثم قاتل دونه وكابر عليه ، وقد بغيت ، ومنعت الحق ، وحلت دونه وكابرت عليه.
    الحديث ( راجع ص 205 ) فنحن لا نعرف وجها للحياد كما ذهب إليه ابن أبي وقاص في القضية وفي المواقف الهائلة بعدها ، فالحياد ـ وإن راق الدكتور ـ تقاعد عن حكم الله ، وتقاعس عن الواجب الديني ، وخروج عما قررته الحنيفية البيضاء ، نعم : الحياد حيلة أولئك المتشاغبين المتقاعدين عن بيعة إمام المتقين أمير المؤمنين ، المتقاعسين عن نصرته ، المتحايدين عن حكم الكتاب والسنة في حروبه ومغازيه ، عذر تترس به سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عمر وأبو هريرة وأبو موسى الأشعري ومحمد بن مسلمة السابقون الأولون من رجال الحياد الزائف ، والانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.

كتاب عثمان بن عفان
    وأعطف على كتاب عثمان بن عفان للمدرس في كلية اللغة العربية بمصر الأستاذ صادق إبراهيم عرجون نظرة ممعنة حيث يقول في فاتحته : فهذا طراز من البحث في سيرة ثالث الراشدين ( عثمان ) رضي الله عنه ، صورت به حياته صورة لا أعيذها من إجمال غير مجحف بحق ، ولا أعضها تفصيل يظهر حجة أو يدفع شبهة.
    وقد احتفلت فيه بتحقيق ما احتف بهذه السيرة الأسيفة من عوامل اجتماعية و سياسية ، دفعت المجتمع الاسلامي دفعا عاصفا إلى أخطر انقلاب عرفه التاريخ في الاسلام وسيرة عثمان رضي الله عنه حرية بالبحث الممحص الهادئ ، ليكشف منها ما سترته الأقاصيص العابثة من فضائل ، وما شوهته الروايات الغالطة من محاسن ، ويصحح ما غالطت بينها من حقائق ، ويزيف ما بهرجه المتقولون من أكاذيب مزورة وحكايات باطلة.


(255)
    وقد حاولت جهدي أن أتتبع الخطوط الأصيلة في حياة عثمان رضي الله عنه ، فلائمت بينها حتى ارتسمت منها هذه الصورة التي أرجو أن تكون لبنة بين لبنات متساندة في دراسة حياة رجالات الاسلام ، وسير أبطاله الغر الميامين ، تبصرة وذكرى للمؤمنين. والله ولي التوفيق.
    ثم ألق نظرة أخرى على مواضيع كتابه تجدها غير منطبقة على ما يقول في شيء منها ، وإنما هي نعرات طائفية ممقوتة ، وفضائل مفتعلة دستها يد الغلو فيها ، وسفاسف موضوعة حبذت الشهوات اختلاقها ، كلل أساطير السلف بزخرف القول ، وزخرف أباطيل الأولين بالبيان المزور ، لم نجد له فحصا عن حال الأسانيد ، وتهافت المتون ، وفقه الحديث ، وطرق مواضيع مهمة من فقه عثمان وأغاليطه وأحداثه وهو يروقه التفصي عنها فلم يتفص إلا بالتافهات لا سيما في المسائل الفقهية التي هو بمجنب عنها ، فنحت لها أعذارا باردة ، أو أنها أعظم من تلكم المآثم ، فلنمر عليها كراما.
    وما ظنك بكتاب يكون من مصادره كتاب فجر الاسلام ، لأحمد أمين ذلك المتحذلق المختلق ، وكتاب الخضري ذلك الأموي المباهت ، ومحاضرات كرد علي العثماني الشامي المناوئ لأهل بيت الوحي ، وأمثال هذه من كتب السلف والخلف مما لا يعرج عليه ؟ وفيه الخلط والخبط ، وضوضاء الدجالين ، ولغط المستأجرين.
    ومن أعجب ما رأيت قوله ص 41 من الكتاب تحت عنوان ( الكذب على ذلك رسول الله ) : وفي هذه المرحلة من تاريخ الاسلام بدئت أكاذيب الفرق والأحزاب فيما يكيد به بعضها لبعض ، حتى أخذت تلك الأكاذيب صورة الحجاج بأحاديث يتقولها زعماء الفرق ورؤساء الأحزاب على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كثر من هذه الأكاذيب ما زعموه كان في حق الأئمة والخلفاء ، وقالت كل شيعة فيمن شايعته وفي منافسيه عندها ما شاء لها الهوى ، وتجاذب هذا النوع طرفي الافراط والتفريط مدحا وذما ، و اختلاقا وتقولا ، حتى غشى سير هؤلاء الأجلاء بغشاء من الغموض حجب الحقايق عن كثير من الناظرين.
    وليس بأقل خطرا من ذلك ما افترقوه في جنب القرآن الكريم من تأويلات محرفة لآيات الله تعالى عن مواضعها ، ومن هنا وهناك تألفت سلسلة الموضوعات


(256)
والخرافات والأساطير التي ابتلي بها المسلمون ، وانتشرت بينهم التلبيسات الملتوية والشبه الغامضة ، فشوهت جمال الشريعة المطهرة ، وحشي بها كثير من كتب المؤلفين المتقدمين والمتأخرين ، حتى أصبحت وبالا على الدين ، وشرا على المسلمين ، وحائلا دون نهضتهم وتقدمهم ، وسلاحا في أيدي خصوم الاسلام ، وعائقا عن الوصول إلى كثير من الحقايق التاريخية والعلمية والدينية ، ولولا توفيق الله تعالى رحمة بهذه الأمة ، ورعاية لهذا الدين الكريم ، لطائفة من أئمة المسلمين المصطفين الأخيار ، انتهضوا لنقد الأسانيد وتنقيح الروايات ، وبهرجة الزائف منها ، وحظر الرواية عن كل صاحب بدعة في الاسلام ، لما بقيت للاسلام صورته النيرة التي جاء بها القرآن الحكيم ، وأداها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه نقية صافية.
    هذه نفثات الأستاذ الصادق ، وهذه حسراته وزفراته المتصاعدة وراء ضياع التاريخ الاسلامي ، وراء طمس الحقايق تحت أطباق الظلمات ، وراء تشويه الأساطير والمخاريق والأباطيل جمال الشريعة المطهرة ، ولعمر الحق لقد أحسن وأجاد ، والرايد لا يكذب ، غير أن المسكين هو من أسراء تلكم السلاسل المتسلسة من الموضوعات والخرافات التي ابتلي بها المسلمون ، وعاقته الأغشية المدلهمة عن الوصول إلى الحقايق التاريخية والعلمية والدينية ، وثبطته التلبيسات الملتوية عن نيل الصحيح الناصع من التاريخ والحديث ، فما أصاب من الحق نيلا ، وما أسعفته فكرته هذه على الطامات ولا قدر شعرة ، وما أوضحت له سبل النجاح ، وما هدته إلى المهيع اللايح ، فليته ثم ليته كان يأخذ بأقوال أولئك الأئمة المصطفين الأخيار في نقد الأسانيد في الجرح والتعديل ، وكان يعمل بها ويتخذها دستورا لنفسه ، مقياسا فيما سطره من الأكاذيب والأفائك ، وليته كان يرحم هذه الأمة ، ويرعى هذا الدين الكريم مثلما هم رحموا ورعوا ، وما زرف في تأليفه ، وما أعاد لأساطير الأولين الخلقة جدتها بعد ألف وثلثمائة عاما من عمرها.
    وهل هو بعد ما وقف على هذا الجزء ووجد كتابه مؤلفا من سلسلة بلايا وحلقة أباطيل زيفها أولئك الأئمة الذين هو اصطفاهم واختارهم وأثنى عليهم يقرع سن الندم ويتبع سنن الحق اللاحب ؟ أو أنه يلج فيما سود به صحائف كتابه أو صحيفة تاريخه ويتمادى في غيه وليه ؟ وما التوفيق إلا بالله.


(257)
كتاب إنصاف عثمان
تأليف الأستاذ محمد أحمد جاد المولى بك
    هذا الكتاب أخدع من السراب ، صفر من شواهد الانصاف ، شرجه الأستاذ من سلسلة أخبار مدسوسة وروايات مختلقة ، وإن درس هو بزعمه تاريخ عثمان دراسة الحذر منها فقال في ديباجته ص 4 : درسنا تاريخ عثمان وعصره والثورة عليه دراسة الحذر من الأخبار المدسوسة ، اليقظ لمواطن العبرة ، المرجع كل حدث إلى بواعثه الأصلية وإن رانت عليها الشبهات.
    ولم نكتف بما قال المؤرخون ، بل مددنا بصرنا إلى أبعد من ذلك ، فحللنا شخصيته ، وبينا ما لها من صلة بالثورة عليه ، ودرسنا حال المسلمين وقد نعموا بالراحة والثراء وانساحوا في الأصقاع يخالطون الأعاجم ويصهرون إليهم ويتخلقون بعاداتهم ، وحال قريش وما انتابها من تفرق وتنازع على الرياسة ، وبينا صلة ذلك بالتجني على الخليفة ، وجلونا الفتنة التي أرثها في الأمصار أعداء عثمان وأعداء الاسلام ، ونخلنا ذلك كله وصفيناه ، واستخلصنا منه الأسباب الصريحة للفتنة.
    ولم نغفل أن نعرض لما أخذ على عثمان ، ولا أن ننتصف له حيث يستحق الإنصاف.
    ومن حق عثمان أن تخصص لدراسته ودراسة عصره عشرات الكتب ، فإنه الخليفة المهضوم الحق ، المظلوم في الحكم عليه ، على ما له من سابقة وفضل وإصلاحات ، وعصره عصر انتقال واضطراب وثورات سياسية واجتماعية.
    ونحن وإن بالغنا في الإحاطة وتوفي الزلل عرضة للتقصير ، ولكنا اجتهدنا رأينا ، فنرجوا أن نكون قد وفقنا لإبراز صورة واضحة لهذه الحقبة من تاريخ المسلمين ففيها عظات وعبر. والله المستعان.
    هذه لفاظته ، وهذا حسن طويته وحرصه على النجاح ، غير أنك تجده في جمعه وتأليفه كحاطب ليل رزم في حزمته كل رطب ويابس ، وجاء يخبط خبط عشواء من دون أي فحص وتنقيب ، لا يفقه ولا ينقه ، لا يستصحب دراية في الحديث توقفه على الصحيح الثابت ، وتعرفه الزائف البهرج ، ولا بصيرة تميز له الحو من اللو ، ولا علما


(258)
ناجعا يجعجعه ويهديه إلى الفوز والنجاح ، ولا فقها ينجيه من غمرات تلكم المعارك الوبيلة ، ولا تثبتا يرشده إلى ما ينقذه من تلكم التلبيسات الملتوية ، جول في مضمار تلكم الطامات التي جاء بها الطبري وغيره وحسبها أصولا مسلمة ، وأسند في آرائه إلى فضائل مفتعلة نتاج أيدي الأمويين نسبا ونزعة ، ومن المأسوف عليه جدا أنه أكدى وإن اجتهد رأيه ، ولم يظفر بأمله وإن بالغ في الإحاطة بزعمه ، وأبرز لهذه الحقبة من تاريخ المسلمين صورة معقدة معضلة تخلو عن كل عظة وعبرة.
    بسط القول في عبد الله بن سبأ وعزا إليه كل تلكم المعامع الثورات ، وحسبه مادة الفكرة الناقمة على الخليفة وأساسها الوحيد في البلاد ، ورأى معظم الصحابة أتباع نعرات ذلك المبتدع الغاشم ، وطوع تلبيس ذلك اليهودي المهتوك ، وقال في ص 42 : عند ذلك يجد ابن سبأ منفذا إلى هذا الشيخ الزاهد ( يعني أبا ذر ) في عرض الدنيا فينشر آراءه في مجلسه ويغريه بالحكومة ويحرضه على الأغنياء ، وصار يقول له : يا أبا ذر ! ألا تعجب لمعاوية يقول : المال مال الله ، ألا كل شيء لله ؟ كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ويمحو إسم المسلمين.
    ظل أبو ذر يدعو إلى الاشتراكية المتطرفة بإرغام الأغنياء أن يساعدوا الفقراء ويتركوا أموالهم لهم ، واتخذ بر الاسلام بالفقراء سبيلا إلى ذهاب المال من أربابه ، وما قصد الاسلام هذا بل كما قال الله تعالى : والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم زيادة على الزكاة الشرعية .. الخ.
    وقال في ص 61 : أما عمار فقد توجه إلى مصر وكان حاكمها مبغضا من المصريين لا يجدون حرجا في رميه بكل نقيصة ، واستطاع أتباع ابن سبأ بحذقهم و مهارتهم في ذلك المكفهر أن يخدعوه بزخرف القول وزوره ، وكان مع هذا في نفس عمار شيء من عثمان لأنه نفذ فيه حكم الله لما تقاذف هو والعباس بن عتبة بن أبي لهب ، ولهذا لم يعد إلى الخليفة ، ولم يطلعه على شيء مما رأى ، ومال إلى اتباع ابن سبأ ..
    هذه صفحة من تلك الصورة الواضحة التي وفق الأستاذ لإبرازها ، هذه هي الغاية المتوخاة التي بزعمه فيها عظات وعبر ، هل يدري القارئ عن أي أبي ذر و عمار يحدث هذا الثرثار المجازف ؟ حتى لا يبالي بما يقول ولا يكترث لما أسرف فيهما من القول ، ولست أدري لماذا اقتحم الرجل في هذه الأبحاث الغامضة الخطرة التي يتيه


(259)
فيها الناقد البصير ؟ لماذا اقتحم فيها مع ضؤولة رأيه وجهله بأحوال الرجال ومقادير أفذاذ الأمة ، وعدم عرفانه نفسيات خيرة البشر وصلحاء الصحابة ومبلغهم من الدين ؟ لماذا اقتحم فيها مع بعده عن دراية الحديث ، وعلم الدين ، وفقه التاريخ ؟ تراه تشزر وتعبأ للدفاع عمن شغفه حبه بكل ما تيسر له ولو بالوقيعة في عدول الصحابة أو في الصحابة العدول ، وقد بينا في الجزء الثامن ص 349 ط 2 حديث الرجل في أبي ذر وأنه موضوع عنعنه أناس لا يعول عليهم عند مهرة الفن ، وفصلنا القول في هذا الجزء في حديث عمار وأنه قط لم يتوجه إلى مصر ، وأن ما ركن إليه الأستاذ لا يصح إسناده ، ونحاشي عمارا عن أن يحمل ضغينة على أحد لإنفاذه حكم الله فيه ، وهل الأستاذ طبق المفصل في رأيه هذا وبين يديه الذكر الحكيم والآية النازلة في عمار ؟ وفي صفحات الكتب قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ملئ عمار إيمانا إلى أخمص قدميه.
    وقوله : إن عمارا مع الحق والحق معه ، يدور عمار مع الحق أينما دار.
    و قوله : ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما. إلى أحاديث أخرى مرت في هذا الجزء ص 20 ـ 28 تضاد تلكم الخزعبلات.
    وللأستاذ في تبرير الخليفة كلمات ضخمة موجزة في طيها دسائس مطمورة ، وتمويه على الحقائق التاريخية ، يتلقاها الدهماء بالقبول ولا يرى عن الصفح عنها مندوحة قال في ص 35 : من المسلم به أن الوليد هذا عين سنة 25 هجرية وهي السنة الأولى من حكم عثمان ، وقد أجمع الناقدون والمؤرخون على أنه لم يقع منه خلال ست السنوات الأولى ما يسوغ توجيه النقد إليه ، إذ كانوا يرون رائده تحري المصلحة العامة ، وإسناد المناصب إلى الجديرين بها لا فرق بين قريب وبعيد.
    دعوى الإجماع والاتفاق والاصفاق المكذوبة سيرة مطردة عند القوم جيلا بعد جيل سلفا وخلفا ، وكتب الفقه والكلام والحديث والتاريخ مشحونة بهذه السيرة الممقوتة ومن أمعن النظر في كتاب المحلى لابن حزم ، وكتابه الفصل في الملل والنحل ، ومنهاج السنة لابن تيمية ، والبداية والنهاية لابن كثير ، يجد مئاة من الإجماعات المدعاة المشمرجة ، والأستاذ اقتفى إثر أولئك الأمناء على ودائع العلم والدين وحذا حذوهم ، كأنه لم يك يحسب أن يأتي عليه يوم يناقشه قلم التنقيب الحساب ، أو أنه غير مكترث


(260)
لأي تبعة ومغبة.
    أنى من المتسالم عليه تولية الوليد سنة 25 وإن هو إلا قول سيف بن عمر كما نص عليه الطبري في تاريخه 7 : 47 وزيفه ، وعزاه ابن الأثير في الكامل إلى البعض ، وقد عرفناك سيفا في الجزء الثامن ص 84 ط 2 وأنه : ضعيف متروك ، ساقط ، وضاع ، اتهم بالزندقة.
    فالمعتمد عند المؤرخين أن تولية الوليد كانت سنة 26.
    ثم أنى يصح كون السنة ال‍ 25 هي السنة الأولى من حكم عثمان ، وإنما توفي عمر في أواخر ذي الحجة سنة 23 وبويع عثمان بعد ثلاثة أيام من موت عمر ، فالسنة الأولى من حكم عثمان هي 24.
    وأين وأنى يسع لناقد أو مؤرخ فضلا عن إجماع الناقدين والمؤرخين أن يحسب صفو الجو من بوائق عثمان وبوادره ونوادره خلال ست السنوات الأولى ، وهذه صفحات تاريخه في تلكم السنين مسودة بهنات وهنات ، بل التاريخ سجل له من أول يوم تسنم عرش الخلافة ، وقام نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، صرعة وعثرة لا تستقال ، منها :
    1 ـ أبطل القصاص لما استخلف ولم يقد عبيد الله بن عمر وقد أتى عظيما وقتل الهرمزان والجفينة وابنة أبي لؤلؤة ، وأجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجعون عثمان على قتل ابن عمر أخذا بالكتاب والسنة ، غير أن عمرو بن العاص فلته عن رأيه ، فذهب دم أولئك الأبرياء هدرا.
    وكانت أول قارورة كسرت في الاسلام بيد عثمان يوم ولي الأمر.
    2 ـ لما استخلف صعد المنبر وجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجلس أبو بكر وعمر فيه ، جلس أبو بكر دونه بمرقاة ، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة ، فتكلم الناس في ذلك فقال بعضهم : اليوم ولد الشر (1).
    3 ـ رد الحكم بن أبي العاص طريد النبي الأقدس ولعينه إلى المدينة لما ولي الخلافة ، وبقي فيها حتى لعق لسانه ، وهذا الإيواء مما نقم به على عثمان كما مر حديثه في ج 8 : 242 ، 254 ، 258 ط 2.
1 ـ تاريخ اليعقوبي 2 : 140 ، تاريخ ابن كثير 7 : 148.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: فهرس