الأمثال في القران الكريم ::: 151 ـ 165
(151)
    أ : الإيمان بالله.
    ب : العمل الصالح.
    ج : التسليم إلى الله حيث قال : ( وأخبتوا إلى ربّهم ).
    فالمؤمن الصالح ثمرة من شجرة الإيمان كما انّ التسليم والانقياد والخضوع والاطمئنان لما وعد الله من آثاره أيضاً.
    فالمؤمن هو الذي يسمع آياته ويبصرها في سبيل ترسيخ الإيمان في قلبه واثماره.
    ثمّ إنّه مثّل الكافر والمؤمن بالتمثيل التالي ، وقال : ( مَثَلُ الفَريقَين كَالأعْمى والأصم وَالبَصير وَالسَّميع هَلْ يَسْتَويان مَثلاً أَفَلا تَذَكَّرُون ).
    أي مثل فريق المسلمين كالبصير والسميع. ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم ، لأنّ المؤمن ينتفع بحواسه بأعمالها في معرفة المنعم وصفاته وأفعاله ، والكافر لا ينتفع بها فصارت بمنزلة المعدومة.
    ثمّ إنّه وصف الوضع بين الأعمى والأصم كما وصفها بين البصير والسميع ، وذلك لإفادة تعدّد التشبيه بمعنى :
    أنّ حال الكافر كحال الأعمى .
    وحال الكافر أيضاً كحال الأصم .
    كما أنّ حال المؤمن كالبصير.
    وحاله أيضاً كالسميع.
    وحاصل الكلام : انّه لا يستوي البصير والسميع مع الأعمى والأصم ، والمؤمن والكافر أيضاً لا يستويان.


(152)
سورة الرعد
20



    ( لَهُ دَعْوَةُ الحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيءٍ إلاّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الماءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَمَا دُعاءُ الكافِرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ ). (1)
    تفسير الآية
    تقدم الظرف في قوله : ( لَهُ دَعْوَةُ الحَقّ ) لأجل إفادة الحصر ، ويؤيّده ما بعده من نفي الدعوة عن غيره.
    كما أنّ إضافة الدعوة إلى الحقّ من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي الدعوة الحقّة له ، لأنّ الدعوة عبارة عن توجيه نظر المدعو إلى الداعي ، والاِجابة عبارة عن إقبال المدعو إليه ، وكلا الأمرين يختصان بالله عزّ اسمه. وأمّا غيره فلا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ـ وعند ذاك ـ كيف يمكن أن يجيب دعوة الداعي.
    فالنتيجة انّ الدعوة الحقّة التي تستعقبها الإجابة هي لله تبارك وتعالى ، فهو حي لا يموت ، ومريد غير مكره ، قادر على كلّ شيء ، غني عمّن سواه.
1 ـ الرعد : 14.

(153)
    وبذلك يعلم أنّ الدعوة على قسمين : دعوة حقّة ودعوة باطلة ، فالحقّة لله ودعوة غيره دعوة باطلة ، أمّا لأنّه لا يسمع ولا يريد ، أو يسمع ولا يقدر. وأشار إلى القسم الباطل بقوله : ( وَالّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجيبُونَ لَهُمْ بِشَيءٍ ) ، وقد عرفت وجه عدم الاستجابة.
    ثمّ إنّه سبحانه استثنى صورة واحدة من عدم الاستجابة ، لكنّه استثناء صوري وهو في الحقيقة تأكيد لعدم الاستجابة ، وقال : ( إلاّ كَباسِط كَفَيّه إِلى الماء لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ ).
    فدعوة الأصنام والأوثان وطلب الحاجة منهم ، أشبه بحال الظمآن البعيد من الماء كالجالس على حافة البئر والباسط كفه داخل البئر ليبلغ الماء فاه ، مع البون البعيد بينه وبين الماء.
    قال الطبرسي : هذا مثل ضربه الله لكلّ من عبد غير الله ودعاه رجاء أن ينفعه ، فانّ مثله كمثل رجل بسط كفيه إلى الماء من مكان بعيد ليتناوله ويسكن به غلته ، وذلك الماء لا يبلغ فاه لبعد المسافة بينهما ، فكذلك ما كان يعبده المشركون من الأصنام لا يصل نفعها إليهم ولا يستجيب دعاءهم. (1)
    وربما تفسّر الآية بوجه آخر ، ويقال : لا يستجيبون إلاّ استجابة الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه ، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم. (2)
    والظاهر رجحان الوجه الأوّل ، لأنّ الآلهة بين جماد لا يشعر أو ملك أو جن
1 ـ مجمع البيان : 3 / 284.
2 ـ الكشاف : 2 / 162.


(154)
أو روح يشعر ولكن لا يملك شيئاً ، فهذا الوجه يختص بما إذا كان الإله جماداً لا غير.
    ثمّ إنّه سبحانه يقول في ذيل الآية : ( وَما دُعاء الكافرينَ إلاّ في ضَلالٍ ) ، فانّ الضلال عبارة عن الخروج عن الطريق وسلوك ما لا يوصل إلى المطلوب ، ودعاء غيره خروج عن الطريق الموصل إلى المطلوب ، لأنّ الغاية من الدعاء هو إيجاد التوجّه ثمّ الإجابة ، فالآلهة الكاذبة إمّا فاقدة للتوجّه ، وإمّا غير قادرة على الاستجابة ، فأي ضلال أوضح من ذلك.


(155)
سورة الرعد
21


    ( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فسالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْربُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأمَّا مَا يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ ). (1)
    تفسير الآية
    « الوادي » : سفح الجبل العظيم ، المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر ، ولعل منه اشتقاق الدية ، لأنّه جمع المال العظيم الذي يوَدى عن القتيل.
    « القدر » : اقتران الشيء بغيره دون زيادة أو نقصان ، فإذاكانا متساويين فهو القدر ، والقدْر والقَدَرْ لغتان مثل الشَّبْر والشَّبَر.
    والاحتمال : رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل.
    و « الزبد » : هو خبث الغليان ومنه زبد القدر وزبد السيل.
    و « الجفاء » ممدوداً يقال : أجفأت القدر بزبدها ، إذا ألقَتْ زبدها.
    و « الإيقاد » : إلقاء الحطب في النار.
1 ـ الرعد : 17.

(156)
    « والمتاع » ما تمتّع به.
    و « الحق » في اللغة هو الأمر الثابت ويقابله الباطل ، فالأوّل بمفهومه الواسع يشمل كلّ موجود أو ناموس ثابت لا يطرأ عليه التحول والتبدل حتى أنّ القوانين الرياضية والهندسية وكثير من المفاهيم الطبيعية إذا كانت على درجة كبيرة من الثبات فهي حقّ لا غبار عليها.
    و « المكث » : الكون في المكان عبر الزمان.
    إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الآية تمثل للحق والباطل مثلاً واحداً يستبطن تمثيلات متعددة :
    الأوّل : انّ السيل المتدفق من أعالي الجبال الجاري في الوديان يحمل معه في سيره زبداً رابياً عليه ، فالحقّ كماء السيل والباطل الزبد الطافح عليه.
    الثاني : انّ المعادن والفلزات المذابة في القدر إذا أوقدت عليها النار ، تذاب ويعلو عليها الخبث ، فالغاية من الإذابة هو فصل المعادن والفلزات النفيسة عن خبثها وزبدها.
    وعندئذٍ فالحقّ كالذهب والفضة والمعادن النفيسة والباطل كخبثها وزبدها الطافح.
    الثالث : انّ ما له دوام وبقاء ومكث وينتفع به الناس كالماء وما يتخذ للحلية أو المتاع يمثّل الحق ، وما ليس كذلك كزبد السيل وخبث القدر الذي يذهب جفاءً يمثّل الباطل.
    وأمّا التفصيل فإليك توضيح الآية :
    ( أَنْزَلَ مِنَ السماء ماءً فَسالَتْ أَودِيَة ) الواقعة في محل الأمطار المختلفة في


(157)
السعة والضيق ، والكبر والصغر ( بقدرها ) أي كلّ يأخذ بقدره ، ففيضه سبحانه عام لا يحدد وإنّما التحديد في الآخذ ، فكلّ يأخذ بقدره وحده ، فقدر النبات يختلف عن قدر الحيوان ، وهو عن الإنسان ، فكلّ ما يفاض عليه الوجود إنّما هو بقدر قابليته ، كما أنّ السيل المنحدر من أعالي الجبال مطلق غير محدد ، ولكن يستوعب كل وادٍ من ماء السيل بقدر قابليته وظرفيته.
    ( فَاحْتَمَل السَّيْلُ زَبداً رابِياً ) أي طافياً عالياً فوق الماء.
    إلى هنا تمّت الإشارة إلى التمثيل الأوّل.
    ثمّ إنّ الزبد لا ينحصر بالسيل الجارف بل يوجد طافياً على سطح أنواع الفلزات والمعادن المذابة التي تصاغ منها الحلي للزينة والاَمتعة ، كما قال سبحانه ( ومِمّا يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ).
    إلى هنا تمّت الإشارة إلى التمثيل الثاني ، كما قال : ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحقّ وَالباطل ) أي كذلك يوصف الحقّ والباطل ليأخذ طريقه بين الناس ، ثمّ أشار إلى التمثيل الثالث وهو انّ من سمات الحق بقاءه وانتفاع الناس به ( فَأمّا الزبد فيذهب جفاءً ) حيث إنّ زبد السيل وزبد ما يوقدون عليه ينطفئ بعد مدة قصيرة كأن لم يكن شيئاً مذكوراً فيذهب جفاءً باطلاً متلاشياً.
    ( وَأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) فانّ الماء الخالص أو المعادن الخالصة التي فيها انتفاع الناس يمكث في الأرض.
    ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله : ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثال ) وقد مرّ في المقدمات معنى ضرب المثل ، وقلنا انّ المراد هو وصف حال المشبه وبيانه.
    هذا ما يرجع إلى تفسير ظاهر الآية ، لكن الآية من غرر الآيات القرآنية التي


(158)
تبحث عن طبيعة الحقّ والباطل وتكونهما وكيفية ظهورهما والآثار المترتبة عليهما ، ولا بأس بالإشارة إلى ما يمكن الاستفادة من الآية.
    1. انّ الإيمان والكفرمن أظهر مصاديق الحق والباطل ، ففي ظل الإيمان بالله تبارك وتعالى حياة للمجتمع وإحياء للعدل ، والعواطف الإنسانية ، فالأمّة التي لم تنل حظها من الإيمان يسودها الظلم والاَنانية وانفراط الأواصر الإنسانية التي تعصف بالمجتمع الإنساني إلى الهاوية.
    2. انّ الزبد أشبه بالحجاب الذي يستر وجه الحقّ مدة قصيرة ، فسرعان ما يزول وينطفئ ويظهر وجه الحقيقة أي الماء والفلزات النافعة.
    فهكذا الباطل ربما يستر وجه الحقيقة من خلال الدعايات المغرضة ، ولكنّه لا يمكث طويلاً فيزول كما يزول الزبد ، يقول سبحانه : ( وَقُلْ جَاءَ الحَقّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ). (1)
    وقال تعالى : ( وَيَمْحُ اللهُ الباطِلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ ). (2)
    3. انّ الماء والفلزات منبع البركات والخيرات له ، والزبد خبث لا ينتفع منه ، فهكذا الحق والباطل ، فما هو الحقّ كالإيمان والعدل ينتفع به الناس ، وأمّا الباطل كالكفر والظلم لا ينتفع منه الناس.
    4. انّ الماء فيض مادي يفيضه الله سبحانه إلى السماء على الوديان والصحاري ، فكل يأخذ بمقدار سعته ، فالوادي الكبير يستوعب ماء كثيراً بخلاف الوادي الصغير فلا يستوعب سوى قليلاً من الماء وهكذا الحال في الأرواح والنفوس فكل نفس تنال حظها من المعارف الإلهية حسب قابليتها ، فهناك نفس
1 ـ الإسراء : 81.
2 ـ الشورى : 24.


(159)
كعرش الرحمن ونفس أخرى من الضيق بمكان يقول سبحانه : ( ولَقَدْ خَلَقكُمْ أَطواراً ).
    وفي الحديث النبوي : « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ». (1)
    وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لكميل : « إنّ هذه القلوب أوعية وخيرها أوعاها ». (2) فالمعارف الإلهية كالسيل المتدفق والقلوب كالأودية المختلفة.
    ويمكن أن يكون قوله ( بقدرها ) إشارة إلى نكتة أخرى ، وهي انّ الماء المتدفق هو ماء الحياة الذي ينبت به الزرع والأشجار المثمرة في الأراضي الخصبة. دون الأراضي السبخة التي لا ينبت فيها إلاّ الأشواك .
    5. انّ الماء يمكث في الأرض وينفذ في أعماقها ويبقى عبر القرون حتى ينتفع به الناس من خلال استخراجه ، فهكذا الحقّ فهو ثابت لا يزول ، ودائم لا يضمحل ، على طرف النقيض من الباطل ، فللحق دولة وللباطل جولة.
    6. انّ الباطل ينجلي بأشكال مختلفة ، كما أنّ الزبد يطفو فوق الماء والمعدن المذاب بأنحاء مختلفة ، فالحقّ واحد وله وجه واحد ، أمّا الباطل فله وجوه مختلفة حسب بعده من الحقّ وتضادّه معه.
    7. انّ الباطل في وجوده رهن وجود الحقّ ، فلولا الماء لما كان هناك زبد ، فالآراء والعقائد الباطلة تستمد مقوماتها من العقائد الحقّة من خلال إيجاد تحريف في أركانها وتزييفها ، فلو لم يكن للحقّ دولة لما كان للباطل جولة ، وإليه يشير سبحانه : ( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً ).
1 ـ بحار الأنوار : 4 / 405.
2 ـ نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم 127.


(160)
    8. انّ في تشبيه الحقّ بالماء والباطل بالزبد إشارة لطيفة إلى أنّ الباطل كالزبد ، فكما أنّه ينعقد في الماء الذي له هيجان واضطراب والذي لا يجري على منوال هادئ ، فهكذا الباطل إنّما يظهر في الاَوضاع المضطربة التي لا يسودها أي نظام أو قانون.
    9. انّ حركة الباطل وإن كانت مؤقتة إنّما هي في ظل حركة الحقّ ونفوذه في القلوب ، فالباطل يركب أمواج الحق بغية الوصول إلى أهدافه ، كما أنّ الزبد يركب أمواج الماء ليحتفظ بوجوده.
    10. انّ الباطل بما انّه ليس له حظ في الحقيقة ، فلو خلص من الحقيقة فليس بإمكانه أن يظهر نفسه ، ولو في فترة قصيرة ، ولكنّه يتوسم من خلال مزجه بالحقّ حتى يمكن له الظهور في المجتمع ، ولذلك فالزبد يتكون من أجزاء مائية ، فلو خلص منها لبطل ، فهكذا الباطل في الآراء والعقائد.
    قال أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) :
    « فلو انّ الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين ، ولو انّ الحقّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين ، ولكن يوَخذ من هذا ضغث ، ومن هذا ضغث فيمزجان ، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى ». (1)
    ثمّ إنّ بعض من كتب في أمثال القرآن جعل قوله سبحانه : ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الّتي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّهُا تِلْكَ عُقْبَى الّذينَ
1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 49.

(161)
اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكافِرينَ النّارُ ). (1) من الأمثال.
    ولكن الظاهر انّه ليس من باب التمثيل ، لأنّه فرع وجود مشبه ومشبه به مع أنّ الآية هي بصدد بيان جزاء المتقين والكافرين ، فقال : إنّ جزاء المتقين هو انّهم يسكنون الجنة التي تجري من تحتها الأنهار وأُكلها وظلها دائم.
    وهذا بخلاف الكافرين فانّ عقباهم النار ، وليست هاهنا أُمور أربعة بل لا تتجاوز الاثنين ، وعلى ذلك فيكون المثل بمعنى الوصف ، أي حال الجنة ووصفها التي وعد المتقون هو هذا.
    نعم ذكر الطبرسي وجهاً ربما يصح به عدّ الآية مثلاً ، فلاحظ. (2)
1 ـ الرعد : 35.
2 ـ مجمع البيان : 3 / 296.


(162)
سورة إبراهيم
22



    ( مَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرّيحُ في يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيد ). (1)
    تفسير الآية
    « العصف » : شدة الريح ، يوم عاصف أي شديد الريح ، وإنّما جعل العصف صفة لليوم مع أنّه صفة للريح لأجل المبالغة ، وكأنّ عصف الريح صار بمنزلة جعل اليوم عاصفاً ، كما يقال : ليل غائم ويوم ماطر.
    انّه سبحانه يشبّه عمل الكافرين في عدم الانتفاع به برماد في مهب الريح العاصف ، فكما لا يقدر أحد على جمع ذلك الرماد المتفرق ، فكذلك هؤلاء الكفار لا يقدرون مما كسبوا على شيء فلا ينتفعون بأعمالهم البتة.
    وقال سبحانه في آية أخرى : ( وَقَدِمْنَا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ). (2)
    والمراد من أعمالهم ما يعد صالحاً في نظر العرف كصلة الأرحام وعتق الرقاب
1 ـ إبراهيم : 18.
2 ـ الفرقان : 23.


(163)
وفداء الأسارى وإغاثة الملهوفين ، لأنّهم بنوا أعمالهم على غير معرفة الله والإيمان به فلا يستحقون شيئاً عليه.
    وأمّا الأعمال التي تعد من المعاصي الموبقة ، فهي خارجة عن مصبّ الآية لوضوح حكمها.والآية دليل على أنّ الكافر لا يثاب بأعماله الصالحة يوم القيامة إذا أتى بها لغير وجه الله.
    نعم لو أتى بها طلباً لرضاه ورضوانه فلا غرو في أن يثاب به ويكون سبباً لتخفيف العذاب.


(164)
سورة إبراهيم
23



    ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيّبَة أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ * تُوَْتي أُكُلَهَا كُلَّ حينٍ بِإذْنِ رِبّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون ). (1)
    تفسير الآيات
    انّه سبحانه تبارك وتعالى مثل للحق والباطل ، أو الكفر والإيمان بتمثيلات مختلفة ، وقد جاء التمثيل في هذه الآية بأنّ مثل الإيمان كشجرة لها الصفات التالية :
    أ : انّها طيبة : أي طاهرة ونظيفة في مقابل الخبيثة ، فانّ الشجر على قسمين : منها ما هو طيب الثمار كالتين والنخل والزيتون وغيرها ، ومنها ما هو خبيث الثمار كالحنظل.
    ب : أصلها ثابت ، أي لها جذور راسخة في أعماق الأرض لا تزعزعها العواصف الهوجاء ولا الأمواج العاتية.
    ج : فرعها في السماء ، أي لها أغصان مرتفعة ، فهي بجذورها الراسخة تحتفظ بأصلها وبفروعها في السماء وتنتفع من نور الشمس والهواء والماء.
1 ـ إبراهيم : 24 ـ 25.

(165)
    وهذه الفروع والأغصان من الكثرة بحيث لا يزاحم أحدها الآخر ، كما أنّها لا تتلوث بما على سطح الأرض.
    د : ( تعطى أكلها كل حين ) أي في كلّ فصل وزمان ، لا بمعنى كلّ يوم وكل شهرحتى يقال بأنّه ليس على وجه البسيطة شجرة مثمرة من هذا النوع.
    وبعبارة أخرى : انّ مثل هذه الشجرة لا تبخس في عطائها ، بل هي دائمة الأثمار في كل وقت وقّته الله لاثمارها.
    هذا حال المشبه به ، وأمّا حال المشبه ، فقد اختلفت كلمتهم إلى أقوال لا يدعمها الدليل ، والظاهر انّ المراد من المشبه هو الاعتقاد الحقّ الثابت ، أعني التوحيد والعدل وما يلازمهما من القول بالمعاد.
    فهذه عقيدة ثابتة طيبة لا يشوبها شيء من الشرك والضلال ولها ثمارها في الحياتين.
    والذي يدل على ذلك هو انّه سبحانه ذكر في الآية التالية ، قوله : ( يُثَبّتُ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآخِرَةِ ) (1) ، وهذا القول الثابت عبارة عن العقيدة الصالحة التي تمثلها كلمة التوحيد والشهادة بالمعاد وغيرهما ، قال السيد الطباطبائي :
    القول بالوحدانية والاستقامة عليه ، هو حقّ القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كلّ تغير وزوال وبطلان ، وهو الله عزّ اسمه أو أرض الحقائق ، وله فروع نشأت ونمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقة فرعية وأخلاق زاكية وأعمال صالحة يحيا بها المؤمن حياته الطيبة ويعمر بها العالم الإنساني حق
1 ـ إبراهيم : 27.
الأمثال في القران الكريم ::: فهرس