الأمثال في القران الكريم ::: 1166 ـ 180
(166)
عمارته ، وهي التي تلائم سير النظام الكوني الذي أدى إلى ظهور الإنسان بوجوده المنظور على الاعتقاد الحق والعمل الصالح. (1)
    ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله : ( وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثال للنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون ) ، أي ليرجعوا إلى فطرتهم فيتحقّقوا من أنّ السعادة رهن الاعتقاد الصحيح المثمر في الحياتين.
    وبذلك يعلم انّ ما ذكره بعض المفسرين بأنّ المراد كلمة التوحيد لا يخالف ما ذكرنا ، لأنّ المراد هو التمثل بكلمة التوحيد لا التلفظ بها وحده حتى أنّ قوله سبحانه : ( إِنَّ الّذينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوفٌ عََلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون ) (2) يراد منه التحقّق بقوله ( ربّنا الله ) لا التلفظ بها ، وقد أشار سبحانه إلى العقيدة الصحيحة ، بقوله : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (3).
    فالكلم الطيّب هو العقيدة ، والعمل الصالح يرفع تلك العقيدة.
    وبذلك يعلم أنّ كلّ عقيدة صحيحةلها جذور في القلوب ، ولها فروع وأغصان في حياة الإنسان ولهذه الفروع ثمار ، فالاعتقاد بالواجب العادل الحكيم المعيد للإنسان بعد الموت يورث التثبت في الحياة والاجتناب عن الظلم والعبث والفساد إلى غير ذلك من العقائد الصالحة التي لها فروع.
    إلى هنا تمّ المثل الأوّل للمؤمن والكافر أو للإيمان والكفر.
1 ـ الميزان : 12 / 52.
2 ـ الأحقاف : 13.
3 ـ فاطر : 10.


(167)
    وربما يقال : الرجال العظام من المؤمنين هم كلمة الله الطيبة ، وحياتهم أصل البركة ، ودعوتهم توجب الحركة ، آثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم وتاريخهم ... وحتى قبورهم جميعها ملهمة وحيّة ومربّية.
    ولكن سياق الآيات لا يؤيده ، لأنّه سبحانه يفسر الكلمة الطيبة بما عرفت ، أعني قوله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ).
    والمراد من القول الثابت هو الكلمة الطيبة ، وقلب المؤمن هو الأرض الطيبة التي ترسخ فيها جذور تلك الشجرة.


(168)
سورة إبراهيم
24



    ( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ منْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَار ). (1)
    تفسير الآية
    مثّل سبحانه تبارك وتعالى للعقيدة الصالحة بالمثل السابق ومقتضى الحال أن يمثل للعقيدة الباطلة بضد المثل السابق ، فهي على طرف النقيض مما ذكر في الآية السابقة ، وإليك البيان :
    فالكفر كشجرة لها هذه الأوصاف :
    أ : انّها خبيثة مقابلة الطيبة ، أي لا يطيب ثمارها كشجرة الحنظل.
    ب : ( اجتثت من فوق الأرض ) في مقابل قوله ( أصلها ثابت ) وحقيقة الاجتثاث هي اقتلاع الشيء من أصله ، أي اقتطعت واستؤصلت واقتلعت جذورها من الأرض.
    ج : ( ما لها من قرار ) أي ليس لتلك الشجرة من ثبات ، فالريح تنسفها وتذهب بها ، وبالتالي ليس لها فروع وأغصان أو ثمار.
1 ـ إبراهيم : 26.

(169)
    هذا هو المشبه به ، وأمّا المشبه فهو عبارة عن العقيدة الضالة الكافرة التي لا تعتمد على برهان ولا دليل ، يزعزعها أدنى شبهة وشك.
    فينطبق صدر الآية التالية على التمثيل الأوّل ، وذيله على التمثيل التالي ، أعني : قوله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) هذا هو المنطبق على التمثيل الأوّل
    وأمّا المنطبق على التمثيل الثاني فهو قوله : ( وَيُضِلُّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) أي يضل أهل الكتاب بحرمانهم من الهداية ، وذلك لأجل قصورهم في الاستفادة عن الهداية العامة التي هي متوفرة لكل إنسان ، أعني : الفطرة ودعوة الأنبياء .
    وقوله : ( يفعل الله ما يشاء ) بمعنى انّه تعلّقت مشيئته بتثبيت المؤمنين وتأييدهم وإضلال الظالمين وخذلانهم ، ولم تكن مشيئته عبثاً وإنّما نابعة من حكمة بالغة.


(170)
سورة إبراهيم
25



    ( وَأَنذِرِ النّاسَ يَوم يَأْتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الّذينَ ظَلَمُوا رَبّنَا أَخّرْنَا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الأمْثالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولَ مِنْهُ الجِبال ). (1)
    تفسير الآيات
    إنّ الآية تمثل حال قوم شاهدوا نزول جزء من العذاب والبلاء فعادوا يظهرون الندم على أعمالهم البغيضة ويطلبون الإمهال حتى يتلافوا ما فاتهم من الإيمان والعمل الصالح ، كما يحكي عنه سبحانه ، ويقول : ( وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ) أي مشاهدة نزول العذاب في الدنيا بشهادة استمهالهم ، كما في قوله تعالى : ( فَيَقول الذين ظلموا ربّنا أخّرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل ).
    فيرد دعوتهم بأنّ هذا الطلب ليس طلباً صادقاً وإنّما ألجأهم إليه رؤية
1 ـ إبراهيم : 44 ـ 46.

(171)
العذاب.
    فيخاطبهم سبحانه بقوله : ( أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ).
    وعلى ما ذكرنا يكون مفاد الآية : حلفتم قبل نزول العذاب بأنّه ليس لكم زوال من الراحة إلى العذاب ، وظننتم انّكم بما تمتلكون من القوة والسطوة أمّة خالدة مالكة لزمام الأمور ، فلماذا تستمهلون ؟ ثمّ يخاطبهم بجواب آخر وهو قوله : ( وَسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ) أي سكنتم ديار من كذب الرسل فأهلكهم الله وعرفتم ما نزل بهم من البلاء والهلاك والعذاب كقوم عاد وثمود ، وضربنا لكم الأمثال وأخبرناكم بأحوال الماضين لتعتبروا فلم تتعظوا.
    وعلى ذلك فالمشبه به هو حال الأمم الهالكة بأفعالهم الظالمة.
    والمشبه هو الأمم اللاحقة لهم الذين رأوا العذاب فاستمهلوا الأجل وندموا ولات حين مناص.


(172)
النحل
26



    ( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمّا رَزَقْناهُمٍ تَاللهِ لَتُسئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَه وَلَهُمْ ما يَشْتَهون * وإِذا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاَُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيم * يَتوارَى مِنَ القَومِ مِنْ سُوءِ ما بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُون * لِلَّذينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخِرَة مثلُ السَّوءِ وَللهِ المَثَلُ الأعلى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيم ). (1)
    تفسير الآيات
    إنّ الله سبحانه هو الواجب الغني عن كل من سواه ، قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيد ) (2) فلا يصحّ وصفه بما يستشمُّ منه الفقر والحاجة ، لكن المشركين غير العارفين بالله كانوا يصفونه بصفات فيها وصمة الفقر والحاجة ، وقد حكاها سبحانه في غير واحد من الآيات ، فقال : ( وَجَعَلُوا للهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاََنْعامِ نَصِيباً فَقَالُوا هذا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَمَا كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللهِ وَمَا كانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ سَاءَ ما يَحْكُمُون ). (3)
1 ـ النحل : 56 ـ 60.
2 ـ فاطر : 15.
3 ـ الأنعام : 136.


(173)
    فقد أخطأوا في أمرين :
    أ : فرز نصيب لله من الحرث والأنعام ، وكأنّه سبحانه فقير يجعلون له نصيباً ممّا يحرثون ويربّون من أنعامهم.
    ب : الجور في التقسيم والقضاء ، فيعطون ما لله إلى الشركاء دون العكس ، وما هذا إلاّ لجهلهم بمنزلته سبحانه وأسمائه وصفاته.
    وقد أشار إلى ما جاء تفصيله في سورة الأنعام على وجه موجز في المقام ، وقال : ( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفتَرُون ).
    ونظير ما سبق انّهم كانوا يبغضون البنات ويجعلونها لله ، ويحبون البنين ويجعلونهم لأنفسهم ، وإليه يشير سبحانه بقوله : ( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَناتِ سُبحانهُ وَلَهُم ما يَشتَهُون ) والمراد من الموصول في ( ما يشتهون ) هو البنون ، وبذلك تبيّن معنى قوله سبحانه : ( لِلّذِينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوء ) أي انّ المشركين المنكرين للآخرة يصفونه سبحانه بصفات السوء التي يستقبحها العقل ويذمّها ، وقد عرفت كيفية وصفهم له فوصفوه عند التحليل بالفقر والحاجة والنقص والاِمكان ، والله سبحانه هو الغني المطلق ، فهو أعلى من أن يوصف بأمثال السوء ، ولكن الموحّد يصفه بالكمال كالحياة والعلم والقدرة والعزّة والعظمة والكبرياء ، والله سبحانه عند المؤمنين ( هُوَ الْمَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ الْمُوَْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبّارُ الْمتَكَبّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبَارِئ الْمُصَوّرُ لَهُ الأسْماءُ الْحُسْنى ) (1) ويقول سبحانه : ( وَلَهُ المَثَلُ الأعلى فِي
1 ـ الحشر : 23 ـ 24.

(174 )
السَّموات وَالأرض ) (1) وقال : ( لَهُ الاََسماءُ الحُسْنى ). (2)
    ومنه يظهر جواب سؤال طرحه الطبرسي في « مجمع البيان » ، وقال : كيف يمكن الجمع بين قوله سبحانه ( وَلله المثل الأعلى ) وقوله : ( فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الأمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون ). (3)
    والجواب انّ المراد من ضرب الأمثال هو وصفه بما يدل على فقره وحاجته أو تشبيهه بأُمور مادية ، وقد تقدم انّ المشركين جعلوا له نصيباً من الحرث والأنعام ، كما جعلوا الملائكة بناتاً له ، يقول سبحانه : ( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الّذينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمن اناثاً ) ، (4) ويقول سبحانه : ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنّة نَسباً ). (5) إلى غير ذلك من الصفات التي يتنزه عنها سبحانه ، فهذا النوع من التمثيل أمر محظور ، وهو المراد من قوله ( فَلا تَضْرِبُوا لله الأمْثال ).
    وأمّا التمثيل لله سبحانه بما يناسبه كالعزّة والكبرياء والعلم والقدرة إلى غير ذلك ، فقد أجاب عليه القرآن ولم ير فيه منعاً وحظراً ، بشهادة انّه سبحانه بعد هذا الحظر أتى بتمثيلين لنفسه ، كما سيتضح في التمثيل الآتي.
    وربما يذكر في الجواب بأنّ الأمثال في الآية جمع « المِثْل » بمعنى « الند » ، فوزان قوله ( لا تضربوا لله الأمثال ) كوزان قوله : ( فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً ) (6) ، ولكنّه معنى بعيد ، فانّ المثل بفتح العين يستعمل مع الضرب ، دون المثل بسكون
1 ـ الروم : 27.
2 ـ طه : 8.
3 ـ النحل : 74.
4 ـ الزخرف : 19.
5 ـ الصافات : 158.
6 ـ البقرة : 22.


(175)
العين بمعنى الند فلم يشاهد اقترانه بكلمة الضرب.
    ويقرب ممّا ذكرنا كلام الشيخ الطبرسي حيث يقول :
    إنّ المراد بالأمثال الاَشباه ، أي لا تشبّهوا الله بشيء ، والمراد بالمثل الأعلى هنا الوصف الأعلى الذي هو كونه قديماً قادراً عالماً حياً ليس كمثله شيء.
    وقيل إنّ المراد بقوله : ( المثل الأعلى ) : المثل المضروب بالحق ، وبقوله : ( فلا تضربوا لله الأمثال ) : الأمثال المضروبة بالباطل. (1)
    وفي الختام نودُّ أن نشير إلى نكتة ، وهي انّ عدّ قوله سبحانه ( للّذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ) من قبيل الأمثال القرآنية لا يخلو من غموض ، لأنّ الآية بصدد بيان نفي وصفه بصفات قبيحة سيئة دون وصفه بصفات عليا فأين التمثيل ؟
    إلاّ أن يقال : إنّ التشبيه ينتزع من مجموع ما وصف به المشركون ، حيث شبّهوه بإنسان له حاجة ماسّة إلى الزرع والأنعام وله بنات ونسبة مع الجن إلى غير ذلك من أمثال السوء ، فالآية بصدد ردّ هذا النوع من التمثيل ، وفي الحقيقة سلب التمثيل ، أو سوق المؤمن إلى وصفه سبحانه بالأسماء الحسنى والصفات العليا.
1 ـ مجمع البيان : 3 / 367.

(176 )
النحل
27



    ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالأرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمن رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَستَوون الحمدُ للهِ بَلْ أَكْثَرهُمْ لا يَعْلَمُون ). (1)
    تفسير الآيات
    ندّد سبحانه بعمل المشركين الذين يعبدون غير الله سبحانه ، بأنّ معبوداتهم لا تملك لهم رزقاً ولا نفعاً ولا ضراً ، فكيف يعبدونها مع أنّها أشبه بجماد لا يرجى منها الخير والشر ، وإنّما العبادة للإله الرازق المعطى المجيب للدعوة ؟
    هذا هو المفهوم من الآية الأولى.
    ثمّ إنّه سبحانه يمثّل لمعبود المشركين والمعبود الحق بالتمثيل التالي :
    افرض مملوكاً لا يقدر على شيء ولا يملك شيئاً حتى نفسه ، فهو بتمام معنى الكلمة مظهر الفقر والحاجة ، ومالكاً يملك الرزق ويقدر على التصرف فيه ، فيتصرف في ماله كيف شاء وينعم كيف شاء. فهل هذان متساويان ؟ كلاّ.
1 ـ النحل : 73 ـ 75.

(177)
    وعلى ضوء ذلك تمثّل معبوداتهم الكاذبة مثل العبد الرق المملوك غير المالك لشيء ، ومثله سبحانه كمثل المالك للنعمة الباذل لها المتصرف فيها كيف شاء.
    وذلك لأنّ صفة الوجود الإمكاني ـ أي ما سوى الله ـ نفس الفقر والحاجة لا يملك شيئاً ولا يستطيع على شيء.
    وأمّا الله سبحانه فهو المحمود بكلّ حمد والمنعم لكلّ شيء ، فهو المالك للخلق والرزق والرحمة والمغفرة والإحسان والإنعام ، فله كلّ ثناء جميل ، فهو الربّ ودونه هو المربوب ، فأيّهما يصلح للخضوع والعبادة ؟
    ويدل على ما ذكرنا انّه سبحانه حصر الحمد لنفسه ، وقال : الحمد لله أي لا لغيره ، فالحمد والثناء ليس إلاّ لله سبحانه ، ومع ذلك نرى صحة حمد الآخرين بأفعالهم المحمودة الاختيارية ، فنحمد المعطي بعطائه والمعلم لتعليمه والوالد لما يقوم به في تربية أولاده.
    وكيفية الجمع انّ حمد هؤلاء تحميد مجازى ، لأنّ ما بذله المنعم أو المعلم أو الوالد لم يكن مالكاً له ، وإنّما يملكه سبحانه فهو أقدرهم على هذه الأعمال ، فحمد هؤلاء يرجع إلى حمده وثنائه سبحانه ، ولذلك صح أن نقول : إنّ الحمد منحصر بالله لا بغيره. ولذلك يقول سبحانه في تلك الآية : ( وَالحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرهُمْ لا يَعْلَمُون ) أي الشكر لله على نعمه ، يقول الطبرسي : وفيه إشارة إلى أنّ النعم كلّها منه. (1)
1 ـ مجمع البيان : 3 / 375.

(178 )
النحل
28



    ( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَينَمَا يُوَجّههُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقيم ). (1)
    تفسير الآية
    كان التمثيل السابق يبيّن موقف الآلهة الكاذبة بالنسبة إلى العبادة والخضوع وموقفه تبارك وتعالى حيالها ، ولكن هذا التمثيل جاء لبيان موقف عبدة الأصنام والمشركين وموقف المؤمنين والصادقين ، فيشبّه الأوّل بالعبد الأبكم الذي لا يقدر على شيء ، ويشبّه الآخر بإنسان حرّ يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.
    نفترض عبداً رِقاً له هذه الصفات :
    أ : أبكم لا ينطق وبالطبع لا يسمع لما في الملازمة بين البكم وعدم السماع ، بل الأوّل نتيجة الثاني ، فإذا عطل جهاز السمع يسري العطل إلى اللسان أيضاً ، لأنّه إذا فقد السمع فليس بمقدوره أن يتعلم اللغة.
    ب : عاجز لا يقدر على شيء ، ولو قلنا بإطلاق هذا القيد فهو أيضاً لا
1 ـ النحل : 76.

(179)
يبصر ، إذ لو أبصر لا يصح في حقّه انّه لا يقدر على شيء.
    ج : ( كَلّ على مولاه ) : أي ثقل ووبال على وليّه الذي يتولّى أمره.
    د : ( أَينما يُوجّهه لا يَأْتِ بِخَير ) لعدم استطاعته أن يجلب الخير ، فلا ينفع مولاه ، فلو أرسل إلى أمر لا يرجع بخير.
    فهذا الرق الفاقد لكلّ كمال لا يرجى نفعه ولا يرجع بخير.
    وهناك إنسان حرٌّ له الوصفان التاليان :
    أ : يأمر بالعدل.
    ب : وهو على صراط مستقيم.
    أمّا الأوّل ، فهو حاك عن كونه ذا لسان ناطق ، وإرادة قوية ، وشهامة عالية يريد إصلاح المجتمع ، فمثل هذا يكون مجمعاً لصفات عليا ، فليس هو أبكمَ ولا جباناً ولا ضعيفاً ولا غير مدرك لما يصلح الأمة والمجتمع. فلو كان يأمر بالعدل فهو لعلمه به فيكون معتدلاً في حياته وعبادته ومعاشرته التي هي رمز الحياة.
    وأمّا الثاني : أي كونه على صراط مستقيم ، أي يتمتع بسيرة صالحة ودين قويم.
    فهذا المثل يبيّن موقف المؤمن والكافر من الهداية الإلهية ، وقد أشار سبحانه إلى مغزى هذا التمثيل في آية أخرى ، وقال : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلى الحَقِّ أحَقُّ أن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدِّي إلاّ أن يُهَدى فَما لكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون ). (1)
    هذا التفسير مبني على أنّ التمثيل بصدد بيان موقف الكافر والمؤمن غير انّ هناك احتمالاً آخر ، وهو انّ التمثيل تأكيد للتمثيل السابق وهو تبيين موقف الآلهة الكاذبة والإله الحق.
1 ـ يونس : 35.

(180 )
النحل
29



    ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون * وَلا تَكُونُوا كالّتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوةٍ أَنكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمّةٌ هِي أَرْبى مِنْ أُمّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيّننَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون ). (1)
    تفسير الآيات
    التوكيد : التشديد ، يقال أوكدها عقدك ، أي شدّك ، وهي لغة أهل الحجاز و « الأنكاث » : الأنقاض ، وكلّ شيء نقض بعد الفتح ، فقد انكاث حبلاً كان أو غزلاً.
    و « الدخل » ما أُدخل في الشيء على فساد ، وربما يطلق على الخديعة ، وإنّما استعمل لفظ الدخل في نقض العهد ، لأنّه داخل القلب على ترك البقاء ، وقد نقل عن أبي عبيدة ، انّه قال : كلّ أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل ، وكلّ ما دخله عيب فهو مدخول.
    هذا ما يرجع إلى تفسير لغات الآية وجملها.
1 ـ النحل : 91 ـ 92.
الأمثال في القران الكريم ::: فهرس