الاطفال ومشاعر الخوف والقلق ::: 166 ـ 180
(166)
    احياناً يرى المضطرب نفسه صغيراً جداً الى حد يرى الحقارة تسيطر عليه وانه متعب امام الامراض والمصاعب وغير قادر على المحافظة على نفسه من الاخطار وتظهر المصاعب امامه كبيرة جداً ويجد نفسه منزعجاً وحقيراً امام حلها.
    ينظرون الى انفسهم انهم حقراء في بعض الحالات ويجرهم هذا الشعور الى المسكنة. اذا واجهتهم مشكلة صغيرة يعتبرونها مثل جبل يصعب السير نحو قمته او صعود سفحه. ان اساس الشعور لديهم هي انهم يظنون انهم كانت لديهم قدرة ولكن اوضاعاً معينة ادت الى افراغهم من تلك القوة. ففي هذه الحالة ليس لديهم غير الموقف السلبي اذا واجهتهم أية مشكلة.

    ويحصل هذا الشعور بشأن الامور التي ليس لها سبب على الظاهر. فهو يرى نفسه مذنباً ويشعر بالتشويش والقلق بسبب ذلك ويشعر انه لم يؤد تكليفه كما يجب ، وان عليه ان يتحمل بعض العقوبات ، وما هذا الانزعاج الا مظهر لذلك.
    ان الرعب من الذنب والتصور بأنه سيتعرض للاستجواب ذات يوم يجعله خائفاً. ويزداد الشعور بالبؤس والانهيار والفناء كلما كان ذلك الشعور اشد. من الممكن ان تقترحوا عليه التوبة ويتوب ، ولكنه يظل منزعجاً لانه يقول ليس من المعلوم ان توبتي قد قبلت. وهكذا يجد لنفسه الذريعة المناسبة.


(167)
    ويشعر بجدية هذا التصور عندما يصبح اضطرابه كثيراً ويؤدي به الى ايذاء نفسه والى العناد فهو يتألم من نفسه والوضع الذي هو فيه ؛ فيحسب ان شخصيته لا تستحق بعد ذلك ان يفكر بشأنها او يفكر من اجل سعادتها وخيرها.
    يتحول هؤلاء الى اعداء لأنفسهم ، وفي بعض الحالات يهيئون مستلزمات التسكين والهدوء لانفسهم من خلال ايذائها. وبعبارة اخرى يسعون الى الدخول في مواجهة مع انفسهم والانتقام منها بسبب عدم القدرة على مواجهة الآخرين.

    يظن المضطرب انه يعيش في عالم مليء بالمزاحمين بحيث لايقدر على اظهار الخصام وطرده ولا يستطيع ان ينسى ذلك ولايتمكن من قمعه ، ويتصور ان كافة الضروف والامكانات مهيئة لايذائه والجميع يريدون ايذاءه. ويشعر ان داره واثاثه وادوات الزينة وحتى ثيابه وقلمه تضايقه ، وكلما ابتعد عن المضايقات شعر بالارتياح ، لذا تراه يفقد الرغبة بالعمل والاهتمام بالحياة.

    يشعر المضطرب بحصول خلل في شخصيته ، لأنه مصاب بقلق داخلي وخوف مرضي وشعور بالخطر. وفي الوقت الذي يشعر بحب الجاه ، يتصور ان شعوره بالحقارة قوي أيضاً. ويشعر بضيق في صدره. ويضغط البغض على عنقه ولايتمكن ان يتغلب عليه.


(168)
    يقترن هذا الشعور بالخلل مع شعور بالعجز في اتخاذ الموقف تجاه ذلك وعدم معرفة الحل او القدرة على رفع هذا الخلل. فيتصور انه غير قادر على المقاومة ومجابهة ذلك ، ولا بد له ان يستسلم للوضع القائم ويقبل بالابتلاء ، ويشعر ان موته قريب نتيجة الخلل وعليه قبول هذه الحقيقة.

    يشعر انه مظلوم ويجب عليه التحرك والسعي لرفع الظلم ، حتى أنه يتكلم بحزم ويطلب من الآخرين ان يكونوا في خدمته حتى يقول باستئصال ذلك. ويظن ان الآخرين قبلوا الظلم له وهو يتألم على نفسه لانه مظلوم ويشعر بعدم الامن على وضعه لانه غير قادر على الدفاع.
    ان الشعور بالمظلومية يؤدي به الى ان يظن ان من حقه ان يغضب ويخاصم الآخرين وانه اذا قام بخصام ذات يوم فهو حقه واذا افتعل نزاعاً ومواجهة فهو انما يأخذ جزءاً من حقه.

    يظن هؤلاء الاشخاص ان هناك خطراً يترصدهم ويبغي مداهمتهم وتدميرهم. لا يعرفون ذلك الخطر ولكنهم يشعرون بوطأه ويخافون من الاصابة بالجنون وان يهجموا على شخص آخر أو يلقون شخصاً من مرتفع الى الارض ويسببون قتله و ... إن انواع المخاوف هذه ، وهذا الشعور بالخطر يصل في بعض الحالات الى ذروته ويؤدي الى نوبات عصبية عند الشخص المضطرب وهو لا يعلم اساس ذلك ولكنه يتألم منه كثيراً.


(169)
    فتارة يشعر بالخطر من انه سيموت بسبب المرض الفلاني لأن احد اقربائه مات بذات السبب ؛ وقد يؤدي هذا الخوف الى تدهور احواله أو يرى نفسه راغباً في الهجوم على شخص للانتقام منه.

    فهو يشعر بالتعب من عمل لم يقم به. إذ ينهض من النوم صباحاً ويشعر انه يتألم من التعب ولا يرى في نفسه قدرة على العمل ويصر على البقاء في سرير النوم ليزول تعبه او يراجع هذا الطبيب او ذلك بحثاً عن طريق العلاج.
    هؤلاء يحتفظون في بعض الحالات بانواع الادوية في بيوتهم وكأنهم يلتذون من استمرار مرضهم. واخيراً يصلون الى تصور عدم امكانية علاجهم ، وهذا التصور يؤثر فيهم بشدة وتتهيأ موجبات اشتداد الالم لهم فعلاً.

    يظن المضطربون انهم محرومون من بعض المزايا ، ويتواصل هذا الظن لديهم حتى عدة ايام.
    ويجتمع الشعور بالبؤس والمسكنة والشعور بسوء الحظ والشعور بالتقصير والدمار والفناء ، كلها تجتمع معاً وتقضي على حياتهم. واحياناً يكون هناك اساس لهذا الشعور. فهم على الاقل لا يتمتعون بهدوء واستقرار نفسي وهم يدركون هذه الناحية. انهم يعلمون ماذا يحصل ، ولكنهم غير مطلعين على اساسه وعلى علاقات العلة والمعلول في الامور ، يعلمون انهم منزعجون ويتألمون ، ولكنهم لايستطيعون ادراك عمق المسألة وفهم سرها ، فيبحثون عن أسباب مفتعلة وغير موزونة.


(170)
    يرغب المضطرب احياناً بالعناد مع الآخرين ، وحتى مع نفسه ، ويؤدي هذا الى نهوضه من مكانه بأقل اثارة وإلقائه شخصاً ما على الارض باسلوب الخشونة والعنف وهذا ما يدفع بالبعض الى التصور بانه مصاب بالروح العدوانية والغضب بينما هو ليس كذلك في الحقيقة.
    كثيراً ما ينشغل بتصورات وتخيلات متنوعة ، وقد يوجه عناده في البيت نحو اعضاء العائلة رغم انه كبير السن ولديه زوجة واولاد ، وذريعته هي انهم دفعوه الى هذا التصرف لانهم اثاروا ضجيجاً ولم ينفذوا مايريد و ... الخ.

    وهذا هو اليأس امام مشاكل عديدة يشعر بها في حياته وهي وان لم تكن واقعية الا انها تؤدي الى عجزه عن مواجهة المشكلة بجرأة واتخاذ موقف تجاهها.
    ان يأسه ليس من غير سبب ، فهو يشعر في بعض الحالات انه استخدم كل طاقته لحل ورفع المشكلة ولكنه لم ينجح في ذلك ... صرف قواه في مقاومة المصاعب ولكنه لم يستطيع التغلب عليها. لهذا فهو يشعر باليأس.

    كثيرة هي المشاعر الاخرى التي تتغلب على الشخص المضطرب وتسبب له الألم في الحياة اليومية ؛ منها :


(171)
    ـ الشعور بانعدام الامن والقلق ، الشعور بالخوف في الاصابة بالتلوث او المرض الفلاني وهو لا يعلم. الشعور بوطأة الحياة ، الشعور بوجع في الرأس وضغط في الصدر ، الشعور بخوف من ان تدهسه سيارة نتيجة عدم الانتباه ، الشعور بان موته قد اقترب او انه ستحصل له حادثة مؤلمة. والشعور بـ ... الخ.
    ان هذه المشاعر متنوعة ومتغيرة ، والانسان يشعر بذلك بشكل ما كل يوم ويبحث عن ذريعة لاذكائها وتشديدها ، ولكنه لايستطيع ان يبينها بالشكل الذي هي عليه. ان الخوف الناتج عن الاضطراب يسيطر على كل وجوده ولكنه لا يملك جواباً على اسئلتكم حول سبب ذلك.


(172)

(173)


(174)

(175)
    نريد ان نرى ما هي اشكال الاضطراب في السنين المختلفة للحياة وكيف هي بالنسبة للاشخاص المختلفين في الظروف المختلفة. هل هو بدرجة واحدة لدى كل الاشخاص ام انه لدى شخص واكثر لدى آخر. وسنبحث هذا الباب في فصلين :
    الاول تحت عنوان الاضطراب في المراحل المختلفة للحياة ، وفيه تذكر المقدمة ونبحث صور الاضطراب لدى الاشخاص في سني الطفولة والشباب والبلوغ والكبر ، ونبين مظاهر ذلك.
    وفي الفصل الاخر نتحدث عن الاشخاص الاكثر اضطراباً ، وفي ذلك نذكر المقدمة ، ونبحث وضع الاضطراب من حيث السن والجنس والنحو والعاطفة وانواع الخلل العصبي والسابقة ونبحث حول كل واحدة منها.


(176)
الاضطراب في مراحل الحياة المختلفة
    تمهيد :
    في هذا البحث نشير اولاً الى ان الاضطراب لايحدث بصورة مفاجئة. بل له نقطة بداية دائماً لا يمكن مشاهدتها الا قليلاً. وبعد ان ينمو الانسان بالتدريج وتبقى الاوضاع والامكانات في حالة غير مقبولة ينمو الاضطراب ويشتد حتى يصل الى حد تعريض حياة الانسان الى الخطر.
    والنقطة الثانية التي يجب طرحها في هذا البحث هي ان الاضطراب ليس متساوياً لدى جميع الاشخاص في جميع السنين. فلا يتألم الجميع بدرجة واحدة من الالم والانزعاج الناجم عن ذلك. ومن الطبيعي انه كلما ازداد مستوى الفكر والعمر تكون مصيبة الاضطراب لدى الاشخاص اشد.
    ونحاول في هذا الفصل بحث مسألة الاضطراب في السنين المختلفة ، ونأمل ان نوجه اهتمامنا نحو الاطفال.


(177)
    توجد مسائل ونكات جديرة بالاشارة في هذا القسم وهي تتضمن الامور التالية :
    1 ـ كافة الاشخاص في سنين الطفولة ( تقريباً ) معرضين له بسبب :
    ـ ان الطفل ضعيف.
    ـ انه عاجز عن مواجهة المشكلة.
    ـ تجاربه ليست في حدود الكفاية.
    ـ يتدهور وضعه بأقل تحول وتغيير.
    ـ يرى نفسه مستحقاً للعقوبة إذا قام بعمل خاطئ.
    ـ يتصور ان كل مايقال له صحيح.
    2 ـ يزداد الاضطراب في سنين ( 4 ـ 6 ) بسبب :
    ـ التخيل قوي في هذا السن.
    ـ يشعر الطفل بشخصيته.
    ـ الشعور بان وجوده عرضة الخطر يثير قلقه.
    ـ يعرف بضعفه وعدم القدرة على الدفاع عن نفسه.
    ـ يدرك مفهوم الصواب والخطأ.
    ـ ارتباطه شديد بالوالدين.
    وطبيعي في هذه الحالة ان تمر عليه كل مشاعر الخطر فينمي ذلك الشعور في ذهنه ويضخمه وهذا يسلب منه الاستقرار والهدوء.
    3 ـ يتفاوت الاضطراب لدى الاطفال في الظروف والازمنة والاماكن المختلفة فلا يكون دائماً وفي اوضاع وحالات متساوية.


(178)
    ـ مثلا عندما يكون ابوه وامه في حالة خوف واضطراب يكون لدى الاطفال اضطراب اشد.
    ـ يتعرضون لهذه الحالة اكثر اثناء الليل والظلام والوحدة.
    ـ يشعرون بالالم اكثر اذا حصلت لهم مشكلة في محيط مجهول ومنطقة مجهولة.
    ـ يصابون بالقلق اكثر عندما يطرح موضوع الاستجواب فتتعرض كرامتهم للخطر.
    4 ـ الاضطراب لدى الاطفال الاكثر ذكاء غالباً مايكون اكثر مما لدى غيرهم لأنهم : ـ
    ـ يرون جوانب اكثر من غيرهم.
    ـ يتوقعون المستقبل وظروفه اكثر من الاخرين.
    ـ هم اكثر احتياطاً ، وخطواتهم اكثر دقة.
    ـ يحبون شخصياتهم اكثر.
    ـ اضعف من غيرهم في تحمل الامور غير المطلوبة.
    5 ـ لايمكن التفريق بين الخوف والاضطراب لدى الاطفال الا بصعوبة ، خاصة اذا طرحت مسألة البحث عن الاساس وهذا الامر ينطبق على الاطفال الصغار.
    فالناس الاكبر سناً بوسعهم التفريق بين الخطر الداخلي والخارجي ، وهذه مساعدة للمربي.
    6 ـ ان الاضطراب يبدأ لدى الاطفال بصورة مبكرة ولا يزول الا بمشقة. ويمكن توضيح مفهوم الاضطراب لدى الاطفال منذ نهاية السنة الاولى تقريباً. واذا طرحت مسألة عصبية الاب والام او اضطرابهما ، فان هذا الامر يبدأ مبكراً اكثر ، ويمكن ملاحظة مظهر ذلك جيداً في الاستيقاظ المفاجئ من النوم وعدم استقرارهم ، وانزعاجهم في الحالات التي يحصل لديهم شعور بالانزعاج ، وهذه الحالة تنضج بالتدريج طبعاً.


(179)
    ان الاضطراب امر شائع في فترة المراهقة والبلوغ ، ويظهر باشكال مختلفة. وقليل هم الاشخاص الذين يكونون في مأمن من شره ، وذلك للاسباب التالية :
    ـ شعورهم بشخصياتهم قوي جداً ويرون لانفسهم اعتباراً غير عادي.
    ـ مهاراتهم الاجتماعية قليلة ولايعلمون كيف يجب ان يتغيروا.
    ـ ليسوا مطلعين على فنون الحياة الجماعية ولايعلمون كيف يجب ان يكون نمط تصرفهم.
    ـ يعتبرون كثرة التوبيخ سبباً للاستهانة ويحبون ان تبقى كرامتهم مصانة.
    ـ يشعرون انهم كبار ويجب ان لا يقبلوا باي كلام ويستسلموا له.
    ـ يضخمون الاشياء.
    ـ يدركون اكثر من غيرهم علاقات العلة والمعلول ونتيجة الامور ، ويصرون على ان يكونوا اكثر تحفظاً.
    ـ ينمو استدلالهم ومنطقهم ، ولهذا يدركون المسائل اكثر.
    ـ يرون المسائل بنظرة اكثر شمولية ، ونظرهم واسع وشامل.
    ـ يمتازون بالتكبر والغرور وهم قلقون من احتمال النيل من كبريائهم.
    ـ ان افراز الهرمون الجنسي ودخولهم في مرحلة البلوغ والتحول الناتج عن ذلك له دور في إيجاد هذه المشاعر.
    مظاهر ذلك : ان مظهر هذه الحالة لديهم هو كما يلي :
    ـ انعدام الشهية للطعام وكأنه ليست لديهم رغبة كافية ، وهذا الامر لدى الفتيات اكثر ( طبعاً ـ يجب الاخذ بنظر الاعتبار ان الفتيات يمتنعن احياناً عن تناول الطعام رغبة في تخفيف اوزانهن وهذه مسألة اخرى ).


(180)
    ـ الخوف من مواجهة مشكلة لايتمكنون من مقاومتها.
    ـ الرعب من انواع التوبيخ حتى وان كان مصحوباً باللين.
    ـ عدم الحضور في الاوساط الاجتماعية خوفاً من التعرض للسؤال.
    ـ ينامون متأخرين ويقضون جزءاً مهماً من اوقاتهم يتقلبون في الفراش.
    ـ وتكثر لديهم اعراض اخرى مثل ارتفاع نبض القلب والشعور بوجع في الرأس وتوتر العضلات وقد يتحولون في بعض الحالات الى اشخاص عصبيين وغاضبين.
    وهذه الظاهرة واضحة لدى كثير من الفتيان والبالغين ولكنها اكثر وضوحاً عند الذين لديهم آباء متشددون ومربون حساسون وكذلك بالنسبة للذين يعيشون في ظروف غير آمنة ويشعرون كثيراً بالوحدة.

    اذا كان للاضطراب سابقة في مرحلة الطفولة والفتوة وقد عولج فانه يشتد في هذه السنين ويزعجهم بشدة. ولا يتخلص الانسان في سنين الكبر من شره حتى وان كان سليماً وقوياً. وهنالك منافذ في حياة الكبار تمهد الطريق لنفوذ الاضطراب اليهم.
    ان الأضرار التي يتعرض لها الكبار من الاضطراب تكون شديدة في بعض الحالات الى درجة انهم قد لا يستطيعون التخلص منها. فيتعكر عليهم صفو الحياة وتوقعهم افكارهم في مصاعب كبيرة ، فوضعهم وسلوكهم عادي والدقائق تمر عليهم ببطء الى حد انهم يتمنون انقضاء الليل ؛ وحين النهار ينتظرون الليل كي يستقروا ويهدأوا ، وهم في كلا الوقتين منزعجون ومضطربون.
الاطفال ومشاعر الخوف والقلق ::: فهرس