البخاري وصحيحه ::: 16 ـ 30
(16)
الحنفية » (1).
    وعلى كل ذلك ، قال ابن حجر في « فتح الباري » في الاعتذار للبخاري عن عدم إخراجه ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية ) ما لفظه : إعلم أن هذه الزيادة لم يذكرها الحميدي في الجمع ، وقال إن البخاري لم يذكرها أصلاً ، وكذا قال أبو مسعود ، قال الحميدي : لعلها لم تقع للبخاري ، أو وقعت فحذفها.
    قال ابن حجر : قلت : يظهر لي أن البخاري حذفها عمداً ، وذلك لنكتة خفية وهي أن أبا سعيد اعترف انه لم يسمع هذه الزيادة من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فدل على أنها في هذه الرواية مدرجة والرواية التي بينت ذلك ليست على شرط البخاري ; وقد أخرجها البزار من طريق داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد فذكر الحديث في بناء المسجد وحملهم لبنة لبنة وفيه : « فقال أبو سعيد : فحدَّثني أصحابي ، ولم اسمعه من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : يا بن سمية تقتلك الفئة الباغية » ابن سمية وهو عمار وسمية اسم أمه وهذا الاسناد على شرط مسلم.
    ثم قال : وقد عين أبو سعيد من حدَّثه بذلك ، فعن مسلم والنسائي من طريق أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : حدَّثني من هو خير مني أبو قتادة فذكره ، فاقتصر البخاري على القدر الذي سمعه أبو سعيد من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دون غيره ، وهذا دالٌّ على دقَّة فهمه وتبحره في الاطلاع
1 ـ فقه أهل العراق وحديثهم : 109.

(17)
على علل الاحاديث ، انتهى (1).
    والعجب من الحافظ ابن حجر في قوله : « إنه حذفها البخاري بعد سماع أبي سعيد لها من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع قوله : « حدثني أصحابي » وقوله : « حدثني من هو خير مني أبو قتادة » ولا يعلم أنهم يُعلّون حديثاً بكونه لم يشافه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) به الصحابي الذي رواه ، أو بكون رواية سمعه من صحابي آخر يزكيه ويفضله على نفسه ، فقوله : « إن حذفها دالّ على تبحر البخاري في الاطلاع على علل الاحاديث » !! أعجب ، فايّ علة أبداها ؟ ويلزم على جعل هذه علةً أن جميع رواية ابن عباس كلها معلولة ، لتصريحهم بأنه لا يبلغ ما سمعه عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مشافهة عشرين حديثاً وكذلك غيره من صغار الصحابة.
    إذا عرفت هذا ، فعذر المصنف للبخاري أرفع من عذر ابن حجر ، ولابن حجر في شرح الحديث في « فتح الباري » كلام تمجه الاسماع ، عند من له تحقيق واطلاع ، وقد بنيا ما فيه في حواشيه وروايته عن أحمد صحة الحديث وأمثال ذلك (2).
    وما يثير الدهشة إنه ومع كثرة المناقشات في حذف رواية عمّار المذكورة هو وجودها في النسخ التي بين أيدينا !! فمن أين مصدر ذلك إذن ؟!! وقد بحثنا في ذلك في كتابنا وقفة مع البخاري فراجع.
1 ـ فتح الباري 1 : 430 باب التعاون على بناء المسجد.
2 ـ توضيح الافكار لمعاني تنقيح الانظار 2 : 260.


(18)
    ومن هنا يمكن القول أن ما يوجد بين دفتي البخاري وفي جميع مجلداته ليس كلّه من تصنيف محمد بن إسماعيل البخاري ، وهذه نقطة أخرى.
    والثالثة تتعلق بنفس الكتاب أيضاً وهي مسألة تصحيحه ، فالصحيح يعني إطلاق الصحة على جميع رواياته ، مع أن تخصيص الاكثر في العمومات قبيحة ، وفي الوقت الذي يؤكد فيه البعض خروج الاكثر أو القريب منها عن إطار الصحة وفيها : التعليقات ، والتراجم ، والشواهد ، والمقرونات.
    وتعليقات البخاري وهي على قسمين : تعليقات مجزومة معتبرة وتعليقات غير مجزومة ليست معتبرة (1) ، وهكذا المتابعات والشواهد والتراجم والمكررات ، وجميعها يشتمل على نصف الكتاب تقريباً ،
    وهذا العدد ليس قليلاً ، لانه يشكل علامة استفهام كبرى ، فهل يبقى صحيح البخاري على صحته بعد إخراج هذا الكم ؟
    وهناك روايات البخاري التي تنقسم إلى أربعة أقسام :
    1 ـ مسندات (2).
    2 ـ تعليقات (3).

1 ـ انظر علوم الحديث : 73 ، المقنع 1 : 211 ، التقييد والايضاح : 115 ، فتح المغيث 1 : 55 ، تدريب الراوي 1 : 91 ـ 93.
2 ـ المسند : هو ما اتصل سنده بسماع كل راو عن فوقه إِلى منتهاه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
3 ـ المعلق : هو ما حذف مبتدأ سنده ، سواء كان المحذوف واحداً أو أكثر على سبيل التوالي ، ولو إلى آخر السند ، وقد سمي « معلقاً » لانه ـ بحذف أوله ـ صار كالشيء المقطوع عن الارض المعلق بالسقف ، وهذه الاحاديث في البخاري كثيرة وفي كتاب مسلم قليلة.
    انظر المنهل الراوي من تقريب النووي : 61 وقواعد التحديث للقاسمي : 124.


(19)
    3 ـ متابعات (1).
    4 ـ شواهد ، وهي في الاغلب من المرسلات (2).

    ولكل قسم منها حكمه الخاص.
    وما ادعاه البخاري حول صحيحه ينحصر في الروايات المسندة ، يعني اتصال السند بالمتون الخبرية ، وما يخرج عن هذا العموم متابعات وشواهده وتعليقاته ، ولذا فاننا وعندما نريد الاستدلال على صحيح البخاري فانه ينبغي الاشارة في الاستدلال إلى أي قسم من هذه الاقسام : الشواهد ، التعليقات ، المسندات ؟
    والمسألة الاخرى في هذا الكتاب ، وتطرح بعنوان إشكال ، وهي مسألة التراجم ، والعناوين الواردة تحت الصحيح ..
    هناك مقولة مشهورة تقول : إن فقه البخاري يكمن في تراجمه ،
1 ـ التابع : المتابعة في الرواية هي أن يوافق الحديث على ما رواه من قبل راو آخر وهي نوعان تامة وقاصرة.
2 ـ الشاهد : هو حديث مروي عن صحابي آخر يشابه الحديث سواء في اللفظ والمعنى أو في المعنى فقط ، فالفرق بين الشواهد والمتابعات الاختلاف في الصحابي في الشواهد واتحاده في المتابعات على الاصح.
    انظر : علوم الحديث لابن الصلاح : 74 ، الباعث الحثيث لابن كثير 1 : 186 ، المقنع لابن الملقن 2 : 188 ، التقييد والايضاح للعراقي : 109 ، فتح المغيث للسخاوي 1 : 108 ، تدريب الراوي للسيوطي 1 : 203 ، توضيح الافكار للصنعاني 2 : 14.


(20)
وهذا يعني أن فقاهة محمد بن اسماعيل البخاري تستكشف من هذا القسم ، أي تحسب من اجتهاداته وآرائه الفقهية ، ومن المحتمل أن يكون هذا صحيحاً أو غير صحيح.
    والمسألة الاخرى التي ترتبط بذلك الكتاب هي العناوين التي لم يرد تحتها أي من الروايات ، يعني انحصارها في الترجمة فقط دون وجود ذكر للرواية.
    ويعدّ هذا نقصاً في الكتاب ; وعادة ما يبرره البعض بأن البخاري يبتدأ عمله بادراج العنوان أولاً فاذا وجد رواية سجلها وإلاّ فلا (1).
1 ـ هدى الساري : 6 و 12.

(21)
    شخصية محمد بن اسماعيل البخاري من وجه نظر رجالية هناك توثيقات كثيرة له ، كما ذكر أيضاً اسمه في طبقات المدلسين! وتدليسه ورد على لسان جماعة من المحدِّثين منهم ابن حجر في « طبقات المدلسين » (1) ، « تبيين اسماء المدلِّسين » لسبط بن العجمي طبع في كراس ذكر فيه محمد بن اسماعيل البخاري وجماعة من مشايخه (2).
    وبالطبع هذا بحث رجالي في أن تدليس الائمة مضرّ أم لا ، فيناقش في محلّه.
1 ـ طبقات المدلِّسين لابن حجر : 24 رقم 23.
2 ـ تبيين أسماء المدلِّسين لابن العجمي : 77 رقم 64.


(22)

(23)
    ويبحث في هذه المسألة فقه أبي حنيفة ، وخلافات أهل الحديث وأهل الرأي بهذا الخصوص.
    رأى المحدّثون انتشار الصحابة بعد النبي في البلدان ، وتحديثهم الناس بقدر ما سمعوه من أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فاذا صادفهم شيء لم يسمعوا فيه من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حديثاً فامّا توقفوا حتى استفتوا أهل المدينة عنه ، أو يعملون بآرائهم الشخصية ، ففتح بذلك أبواب الرأي والنظر.
    وعبدالله بن مسعود من الذين قدموا الكوفة فلم يكن على غرار الصحابة في موقفه ، فقد كان يحدّث ما سمعه عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاذا صادفته مسألة لم يسمع فيها حديثاً أشار إلى ذلك بقوله : أقول برأيي (1) ، فهو إذن اجتهاد منه.
    وجاء بعد ابن مسعود تلميذه علقمة الذي سار على خطى معلمه ،
1 ـ أنظر : مسند أحمد ـ مسند المكثرين من الصحابة رقم 3891 ، سنن النسائي الاسماء المبهمة في الانباء المحكمة للخطيب البغدادي : 476.

(24)
وجاء بعد علقمة إبراهيم النخعي (1) ، وبعد إبراهيم حماد بن أبي سليمان (2) ، وبعد حماد جاء أبو حنيفة.
    وقد صعّد أبو حنيفة من اتجاه أهل الرأي في دمجه الاجتهاد بالقياس.
    فمثلاً قوله : إن أبا هريرة لم يكن مجتهداً ، وكان يسمع أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقط ، ولا علم له بالناسخ والمنسوخ ، وإذن فلم يكن مجتهداً ولا طائل من وراء رواياته.
    وينسحب رأيه أيضاً على بعض رواة الحديث مثل طاووس اليماني وعطاء بن أبي رباح وطعنه على بعض التابعين.
    ومن هنا فقد انتشر فقه أبي حنيفة في البلدان وتلقفه الناس دونما اعتراض حتى بلغ ذروة انتشاره في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث.
    وقد أثار ذلك حنق المحدّثين ، فقد أُعتبروا « صيادلة » في قبال الفقهاء الذين هم « أطباء ».
1 ـ ابراهيم بن يزيد النخعي الكوفي المتوفى 96هـ ، كان مفتي الكوفة وهو مختف من الحجاج ، روى عن خاله الاسود بن يزيد بن قيس ، وقال : « أدخلني خالي الاسود على عائشة وهو يقول : لم يكن أبو هريرة فقيهاً. ميزان الاعتدال 1 : 75.
2 ـ حماد بن أبي سليمان الكوفي المتوفى 120هـ ، انه قال لاهل الكوفة : « ابشروا يا أهل الكوفة! رأيت عطاءً وطاووساً ومجاهداً ، فصبيانكم بل صبيان صبيانكم أفقه منهم » إنّما قال هذا تحديثاً بالنعمة وردّاً على بعض شيوخ الرواية ممَّن لم يؤت نصيباً من الفقه ، وكانوا يسألون عن رأيه. ميزان الاعتدال 1 : 596.


(25)
    فالاطباء من طبقة أبي حنيفة هم القادرون على استنباط الاحكام الفقهية ، والافادة من نبوغهم الفكري.
    ولان أبا حنيفة يقول بصحة الحديث الذي يقول : « من كذب علي متعمداً .. » ولذا خطّأ العمل بالاخبار قائلاً بأن العقل هو حجة الباطن وملاكه في الافتاء رأيه الذاتي في تصويب حديث ورواية ما ، إضافة إلى الاستناد إلى آيات القرآن ولا حاجة لاعتماد أخبار الاحاد.
    هذا هو فكر أبي حنيفة وحجته الشرعية ، فهو لا يريد كما يزعم التورّط في الكذب على النبي ، لانه غير واثق من صحة الروايات والاحاديث النبوّية ، ولذا كان لديه كمّ ضئيل من الاخبار الصحاح في رأيه ، مما جعله يتشبث بالقياس.
    وقد دفع إعلانه حول المحدّثين واعتبارهم صيادلة مقابل الفقهاء دفع بالمحدّثين إلى اللجوء إلى أجهزة الدولة والافادة من سلطات الخلفاء في قمع أهل الرأي (1).
    ومن هنا فأنا أوصي بمطالعة التاريخ ، لانه ينطوي على كثير من الحقائق التي تلقي الضوء على المسار الفكري والحركة الفقهية في
1 ـ وذلك أحد الدواعي إلى وضع الحديث وانتشارها بين الناس ، هذا أبو عصمة نوح بن أبي مريم يسأل : من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة ؟ فقال : « إنّي رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذه الاحاديث حسبة.
    انظر موضوعات ابن الجوزي 1 : 41 ، التقييد والايضاح للعراقي 132 ، تدريب الراوي 1 : 282.


(26)
تاريخ الاسلام ، وسوف نواجه من خلال ذلك صوراً مؤلفة من ثلاثة أبعاد ، ويجب أن ندقق في هذه الصور جيداً ، لتبدو الصورة الحقيقية في كيفية تدوين تاريخ الاسلام ؟ وكيف اتجهت المسيرة الفكرية والفقهية ؟ وكيف وصل كل ذلك إلى أيدي المسلمين ؟
    فمثلاً ورد في التاريخ أن أول من نهض ضد أبي حنيفة هو عبدالله بن الزبير الحميدي في مكة ، وهذا الاخير وصفه البخاري : شيخ كبير كثير الرواية ، ولعبدالله الحميدي هذا كتاب « مسند الحميدي » مطبوع وموجود في المكتبات.
    ويعد الحميدي من أبرز ثقات المشايخ الذين اعتمدهم البخاري في الرواية.
    وهناك امتياز للحميدي في الصحيح حيث يتعدّى الرواية عنه ، وخلو الكتاب من مقدّمة ، والرواية عن الحميدي هي بمثابة افتتاحية للكتاب وخطبة له ، كما يشرع كتابه : بسم الله .. وبعدها : حدثنا الحميدي.
    والحميدي هذا وكما نقل الخطيب البغدادي في تاريخه والذهبي في تاريخ الاسلام والسير : أنه شيخ الحرم كان يجلس في المسجد الحرام ويحدّث فإذا وصل إلى ذكر أبي حنيفة قال : « أبو جيفة » فهو يعبّر عن أبي حنيفة ـ بأبي جيفة !!
    ومن هنا يمكن الاستنتاج بأن البخاري إنما يريد من وراء ذلك الاعلان عن موقفه من أبي حنيفة.


(27)
    كما أن البدء برواية حديث « النيات » (1) يؤكد ذلك ، لان الاحناف يشكلون على هذا الحديث وشموليته في أحكام العبادات والمعاملات (2) !
    وقد كرر البخاري ذلك الحديث سبع مرّات (3) ، ليؤكد نافذيته في المعاملات والنكاح وحتى في الطلاق.
    هناك مسألة هامّة في هذا الموضوع ، وهي كتاب الحيل الذي لم يكتب فيه أي من محدّثي أهل السنة.
    فأبو حنيفة أو بعض تلاميذه ربما كان الشيباني أو أبو يوسف ، إذ دوّن أحدهم كتاباً بعنوان « كتاب الحيل » ، وهو يشتمل على طرق الالتفاف على الاحكام وبكلمة واحدة تحليل الحرام.
1 ـ « إنما الاعمال بالنيات ».
2 ـ قال فخر الاسلام البزدوي الحنفي في « كشف الاسرار » من كتب الاصولية للاحناف : اما قوله ( عليه السلام ) : « الاعمال بالنيات ... » فمن القسم الرابع ( أي : ظني الثبوت والدلالة كأخبار الاحاد التي مفهومها ظني ).
    وقال أبو جعفر الطبري : « حديث الاعمال بالنيات ... » على طريقة بعض الناس مردود ، لكونه فرداً ، لا يروى عن عمر إلاّ علقمة ، ولا عن علقمة إلاّ من رواية محمد بن إبراهيم ... كشف الاسرار 1 : 84.
3 ـ
    1 ـ افتتاح الكتاب.
    2 ـ كتاب الايمان.
    3 ـ كتاب العتق.
    4 ـ كتاب مناقب الانصار.
    5 ـ كتاب النكاح.
    6 ـ كتاب الايمان والنذور.
    7 ـ كتاب الحيل.


(28)
    فهناك أحكام تنص على حرمة موضوع معيّن ، ولكن عند تغيير الموضوع فان حكم الحرمة سوف يتغير بالتبع ، فمثلاً في باب الزكاة .. فهي مثلاً تجب عند اكتمال النصاب ، ولكن أبا حنيفة يفتح باباً للهروب من دفع الزكاة بأن يعمد صاحب المال الى هبة ابناءه جزءً منه فيخرج المال قبل حلول رأس السنة بليلة واحدة من حدّ النصاب ، وهكذا في كثير من المسائل الاخرى التي وضعت لها طرق التفاف على الموضوع والحكم بصورة مدهشة.
    وقد سبب هذا الاتجاه ردّ فعل عنيف لدى أهل الحديث ، الذي عدّو اهمال الحديث النبوي اهانة كبرى.
    وقد أسفر موقفهم عن تأليف كتاب الحيل ، وقد تم ذلك على يد محمد بن اسماعيل البخاري ، حيث بدأه بحديث الاعمال بالنيات.
    فأصبح الملاك في العمل النيّة في العبادات والمعاملات ، سواء بقي الموضوع أو تغيّر ، فالنية هي وحدها الاساس في العقاب والثواب الالهي.
    وهل أن نيّتي من وراء هذا الفعل مثلاً ضرب النصاب الموجب للزكاة للفرار من أدائها فان فعلاً كهذا سيكون حراماً .. غير أن أبا حنيفة يرى ألاّ مدخليّة للقصد والنية في ذلك ، ومن هنا برزت الحاجة إلى


(29)
إجراء مقارنة بين فقه أبي حنيفة وروايات صحيح البخاري ، حيث تظهر بوضوح العلاقة خاصّة في كتاب الحيل (1).
    وذكر البخاري أئمة المذاهب الاربعة بالاسم باستثناء أبي حنيفة ، فقد ذكر اسم الشافعي صراحة وذكر اسم أحمد بن حنبل ومالك ، ولكنه عندما يتعرض إلى أبي حنيفة فانه يكنّي عنه بهذه العبارة : « وقال بعض الناس » أو « قول بعض الناس ».
    وقد ورد هذا التعبير 27 مرّة ، أربع عشر منها في كتاب الحيل وحده.
    ويؤكد الشارحون أن هذه العبارة هي كناية عن أبي حنيفة وبعض تلامذته كالشيباني وأبي يوسف.
    والجدير ذكره في هذا الموضوع أن البخاري قد شدَّد بصورة أخرى على أبي حنيفة في كتاب الهبة ، فانه بعد عبارته : « وقال بعض الناس ، يصرّح أن ما يقوله « بعض الناس » يعدّ مخالفة لسنّة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (2).
    وفي الكتاب الذي ذكر في أسماء الكتب تحت عنوان « الضعفاء والمتروكين » للبخاري يورد ابن عبدالبر لعن أبا حنيفة (3) ، وفي التاريخ
1 ـ انظر كتابنا « الامام البخاري وفقه أهل العراق » الثاني عشر : في الزكاة : 189 ـ 190.
2 ـ وهذا نصّه : وقال بعض الناس : إن وهب هبة ألف درهم أو أكثر ، حتى مكث عنده سنين واحتال في ذلك ثم رجع الواهب فيهما ، فلا زكاة على واحد منهما ، فخالف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الهبة واسقط الزكاة.
    صحيح البخاري كتاب الحيل ، وانظر في ذلك « الامام البخاري وفقه أهل العراق » : 197 ـ 199.
3 ـ قال ابن عبدالبر في كتاب « الانتقاء في فضائل الثلاثة الائمة الفقهاء » : فممن طعن عليه وجرحه : أبو عبدالله محمد بن اسماعيل البخاري فقال : في كتابه « الضعفاء والمتروكين » : أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي .. وقال نعيم بن حماد : كنت عند سفيان فجاء نعي أبي حنيفة فقال : لعنه الله كان يهدم الاسلام عروةً عروةً ، وما ولد في الاسلام مولودا أشرّ منه ، هذا ما ذكره البخاري.
    راجع : « الانتقاء في فضائل الائمة الثلاثة الفقهاء » : 149 ، وليست العبارة موجودة في كتاب « الضعفاء والمتروكين » المطبوع اليوم.


(30)
الاوسط المطبوع مواضع أخرى عن قول نعيم بن حماد المروزي وهو من مشايخ البخاري ، وهذه مسألة هامّة في تأثر البخاري بشيوخه.
    وهناك مزاعم حول انتماء محمد بن اسماعيل البخاري إلى المذهب الحنفي حتى وصوله مكّة ، فالمذهب الحنفي هو المذهب السائد في بخارى ومرو وخراسان بشكل عام ، والفقه الحنفي هو الفقه المعمول به في تلك الاقاليم.
    كما أن آباء البخاري كانوا أحنافاً ، باستثناء جدّه الثالث الذي كان مجوسياً في الاصل.
    فمذهب البخاري كان في البدء على مذهب أبي حنيفة ، ولكنه انتقل إلى الشافعي لدى وروده مكة ، وهو كما يقال قد تلقاه عن شيوخه !
    فمن شيوخه نعيم بن حماد المروزي ، ونعيم هذا كان من شيوخ البخاري بلا واسطة ، وهو وضاع للحديث يفعل ذلك من أجل تعزيز موقع السنة.
    فابن حجر ومعه الذهبي يقولان بأن نعيم المروزي وضاع للحديث
البخاري وصحيحه ::: فهرس