الاِيقاظ مِنَ الهجْعَةِ بالبرهان على الرجعة ::: 406 ـ 420
(406)

(407)
    لا يخفى أنّه لا يكاد يوجد حقٌّ خالياً من شبهة تعارضه ، فإنّ الجهل أكثر من العلم في هذه النشأة ، وشياطين الإنس والجنّ يجهدون في ترويج الشبهات وتكثيرها ، وقد قال الله (1) سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ ) (2) ومعلوم أنّه لابدّ من حكمة في خلق الشهوات ونصب الشبهات ، وإنزال المتشابهات ، وممّا ظهر لنا من الحكمة في ذلك إرادة امتحان العقول ، وتشديد التكليف ، والتعريض لزيادة الثواب ، والعوض على تحصيل الحقّ والعمل به ، ومع ذلك فمن أخلص نيّته وأراد الوصول إلى الحقّ من كلام الله وكلام نبيّه وأوصيائه ( عليهم السلام ) ، وجده راجحاً على الشبهات جدّاً.
    إذا عرفت هذا فنقول : قد ثبت أنّ الرجعة حقّ بتصريح (3) الآيات الكثيرة ، وتصريحات الأحاديث المتواترة ، بل المتجاوزة (4) حدّ التواتر ، وبإجماع الإمامية ، حتّى أنّا لم نجد أحداً من علمائهم صرّح (5) بإنكار الرجعة ، ولا تعرّض
1 ـ لفظ الجلالة ( الله ) لم يرد في « ش ، ح ، ك ».
2 ـ سورة آل عمران 3 : 7.
3 ـ في « ط » : بصريح.
4 ـ في « ط » : المتجاوز.
5 ـ في « ط » : خرج.


(408)
لتضعيف حديث واحد من أحاديثها ، ولا لتأويل شيء منها ، وأكثرها كما رأيت لا تناله يد التأويل ، وكلّ منصف يحصل له من أدلّة الرجعة اليقين ، وحينئذ يمكنه (1) دفع كلّ شبهة بجواب إجمالي بأن يقول : هذا معارض لليقين ، وكلّ ما كان كذلك فهو باطل ، وأنا أذكر ما يخطر (2) لي من الشبهات التي استند إليها منكرها ، واُجيب عنها (3) تفصيلاً فأقول :
    الشبهة الاُولى : الإستبعاد ، وهذا كان أصل إنكار من أنكرها ، وذلك أنّ كثيراً من العقول الضعيفة لا تجوّز ذلك ولا تقبله ، وخصوصاً ما روي في بعض الأحاديث السابقة ممّا ظاهره أنّ مدّة رجعة آل محمّد ( عليهم السلام ) ثمانون ألف سنة ، إلى غير (4) ذلك من الاُمور البليغة الهائلة.
    والجواب أوّلاً : إنّ خصوص هذا التحديد لم يحصل به اليقين (5) ، ولا وصل إلى حدّ التواتر ، وكلّ من جزم بالرجعة لا يلزمه الجزم بهذه المدّة.
    وثانياً (6) : إنّ الإستبعاد ليس بحجّة ولا دليل شرعي ، فلا يجوز الإلتفات إليه.
    وثالثاً (7) : إنّ هذا لا يصل إلى حدّ الامتناع ، بل هو ممكن لا يجوز الجزم بنفيه ؛ لأنّه يستلزم دعوى علم الغيب.
    ورابعاً (8) : إنّه لا يوجد له معارض صريح بعد التتبّع التام فلا يجوز ردّه.
1 ـ في « ك » : عليه.
2 ـ في « ح » : ما يحضر.
3 ـ في « ط » : واستند منها.
4 ـ في « ط » : وغير. بدل من : إلى غير.
5 ـ في « ط » : بعد اليقين.
6 ـ في « ش » : ثانيها.
7 ـ في « ك ، ش » : وثالثها.
8 ـ في « ش » : ورابعها.


(409)
    وخامساً (1) : إنّه يحتمل حمله على المبالغة ، وأن يكون مثل قوله تعالى : ( وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَة مِمَّا تَعُدُّونَ ) (2) وقوله تعالى ( يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة ) (3) كما ذكر بعض (4) المفسِّرين أنّ المراد ما يقضى في ذلك اليوم ويفصل ، ويقع من الاُمور العظيمة يحتاج إلى مثل هذه المدّة من السنين في الدنيا.
    وسادساً : إنّ ذلك إن كان المراد منه ظاهره ، فهو بالنسبة إلى فضل الأئمّة ( عليهم السلام ) قليل ، وبالنسبة إلى قدرة الله سبحانه وكرمه أقلّ ، وما أحسن ما قاله في هذا المقام رجب البرسي في كتابه بعدما أورد حديثاً عجيباً في فضلهم ( عليهم السلام ) في أوائل كتابه ، وقال بعده ما هذا لفظه : أنكر هذا الحديث من في قلبه مرض ، فقلت له : تنكر القدرة أم النعمة أم ترد على المؤيّدين بالعصمة ؟ فإن أنكرت قدرة الرحمن فانظر إلى ما روي عن سليمان ( عليه السلام ) ، أنّ سماطه كان كلّ يوم ملحه سبعة أكرار (5). فخرجت دابّة من دواب البحر وقالت : يا سليمان أضفني اليوم.
    فأمر أن يجمع لها مقدار سماطه شهراً ، فلمّا اجتمع ذلك على ساحل البحر وصار كالجبل العظيم ، أخرجت الحوت رأسها وابتلعته ، وقالت : يا سليمان أين تمام قوتي اليوم ؟ فإنّ هذا بعض طعامي ، فتعجّب سليمان ، وقال لها : هل في البحر دابّة مثلك ؟ فقالت : ألف ألف اُمّة. فقال سليمان : سبحان الله الملك العظيم ويخلق ما لا تعلمون.
1 ـ في « ش » : وخامسها.
2 ـ سورة الحج 22 : 47.
3 ـ سورة المعارج 70 : 4.
4 ـ في « ح » : ذكره.
5 ـ أكرار : مفردها كرّ : وهو ثلاثمائة وثلاثة وتسعون كيلو ومائة وعشرون غراماً. اُنظر الاوزان والمقادير لابراهيم البياضي : 98.


(410)
    وأمّا نعمته الواسعة فقد قال الله سبحانه لداود ( عليه السلام ) : وعزّتي وجلالي لو أنّ أهل سماواتي وأرضي أمّلوني فأعطيت كلّ مؤمّل أمله ، وبقدر دنياكم سبعين ضعفاً ، لم يكن ذلك إلا كما يغمس أحدكم إبرة في البحر ويرفعها ، فكيف ينقص شيء أنا قيّمه (1) « انتهى كلام الحافظ البرسي » ثمّ ذكر أحاديث في كثرة العوالم الموجودة الآن وراء هذا العالم.

    الثانية : إنّ أحاديث الرجعة لم تثبت في الكتب المعتمدة (2) ، ولا وصلت إلى حدّ يوجب العلم ، وذلك أنّ رسالة الرجعة التي جمعها بعض المعاصرين ووصلت إلى هذه البلاد ، اشتملت على أحاديث كثيرة ذكر في أوّلها أنّه نقلها من كتب المتقدّمين ، ولم يذكر في كلّ حديث من أيّ كتاب نقله ، فكان ذلك أيضاً شبهة وسبباً للإنكار ، وظنّ بعضهم أنّ ذلك لم يوجد في الكتب المعتمدة والاُصول الصحيحة ، إلا أن يكون بطريق الآحاد ، ولذلك لم أنقل هنا من تلك الرسالة شيئاً ، مع أنّ أحاديثها لا تقصر عن الأحاديث التي جمعناها في العدد والاعتماد.
    والجواب : قد عرفت أنّ كتب الحديث والمصنّفات المعتمدة مملوءة من ذلك ، وقد ذكرنا أسماء الكتب التي نقلنا منها ، مع أنّا لم نتمكّن من مطالعة الجميع ، لضيق الوقت وكثرة الموانع ، ولا حضرنا جميع ما هو بأيدي الناس الآن من الكتب المشتملة على ذلك ، فضلاً عن كتب المتقدّمين التي ألّفوها في ذلك وفي غيره (3) ممّا هو أعمّ منه ، وقد عرفت ثبوت أحاديث الرجعة في الكتب المعتمدة ، وأنّه لا يخلو كتاب منها إلا نادراً ، فبطلت الشبهة ولا وجه للتوقّف بعد ذلك.
1 ـ مشارق أنوار اليقين : 41 ـ 42.
2 ـ في « ح ، ش ، ك » : كتاب معتمد.
3 ـ في « ط » : وغيره. بدل من : وفي غيره.


(411)
    الثالثة : ما ورد في بعض أحاديث التلقين ـ عند وضع الميّت في القبر ـ أنّه ينبغي أن يقال له : هذا أوّل يوم من أيّام الآخرة ، وآخر يوم من أيّام الدنيا. فهذا يدلّ على نفي الرجعة.
    والجواب أوّلاً : إنّ الرجعة غير عامّة لكلّ أحد ، وإنّما ينبغي تلقين الميّت (1) بذلك ، لعدم العلم بأنّه من أهل الرجعة قطعاً ، والأصل عدم كونه منهم إلى (2) أن يتحقّق ويثبت.
    وثانياً : إنّ الرجعة واسطة بين الدنيا والآخرة ، فيجوز أن يطلق عليها كلّ واحد منهما ، وقد عرفت إطلاق أهل اللغة إسم الدنيا عليها ، ورأيت الأحاديث التي تفيد إطلاق كلّ واحد من اللفظين عليها باعتبارين ، وتقدّم حديث صريح في إطلاق اسم الآخرة عليها.
    وثالثاً : إنّ أهل الرجعة يحتمل كونهم غير مكلّفين ، والمراد بالدنيا في حديث التلقين دار التكليف كما يفهم منه بالقرينة (3).
    ورابعاً : إنّ الحياة الاُولى بالنسبة إلى الثانية يجوز أن يطلق عليها اسم الدنيا بحسب وضع اللغة ، بأن تكون وضعت للاُولى خاصّة ، إمّا من الدنو أو من الدناءة ، ويكون إطلاقها على الحياة الثانية محتاجاً إلى القرينة ; لأنّه إنّما يصدق عليها ذلك المعنى بالنسبة إلى القيامة الكبرى لا مطلقاً.
    وخامساً : إنّ الحديث المشار إليه غير متواتر ، فلا يقاوم أحاديث الرجعة وأدلّتها لو كان صريحاً في المعارضة (4) ، فكيف واحتمالاته كثيرة.
1 ـ في « ط » : وإنّما تلقين ينبغي.
2 ـ ( إلى ) أثبتناه من « ح ، ش ، ك ».
3 ـ في نسخة « ش » : منهم. بدل : منه بالقرينة.
4 ـ في المطبوع و « ط » : المعارض. وما في المتن من « ح ، ش ، ك ».


(412)
    الرابعة : الأدلّة العقلية والنقلية الدالّة على امتناع خلوّ الأرض من إمام طرفة عين ، وامتناع تقديم المفضول على الفاضل ، مع الأحاديث (1) الصريحة في حصر الأئمّة ( عليهم السلام ) في اثني عشر ، وأنّ الإمامة في ولد الحسين ( عليه السلام ) إلى يوم القيامة.
    وقولهم ( عليهم السلام ) في وصف الإمام : « الإمام واحد دهره ، لا يدانيه عالم ، ولا يوجد له مثل ولا نظير » (2) وما تقرّر من أنّ الإمامة رئاسة عامّة ، وأنّ المهدي ( عليه السلام ) خاتم الأوصياء والأئمّة (3) ، فلا يجوز أن تكون الرجعة في زمان المهدي ( عليه السلام ) ولا بعده ؛ لأنّه يلزم إمّا عزله ( عليه السلام ) ، وقد ثبت استمرار إمامته إلى يوم القيامة ، وإمّا تقديم المفضول على الفاضل أو زيادة الأئمّة على اثني عشر ، وعدم عموم رئاسة الإمام ، وهذه أقوى شبهات منكر الرجعة.
    والجواب من وجوه :
    أحدها :
إنّه يحتمل كون أهل الرجعة غير مكلّفين ، كما يفهم من بعض الأحاديث السابقة ، وإنّهم إنّما يرجعون ليحصل الفرج (4) والسرور للمؤمنين ، وينتقموا (5) من أعدائهم ، ويظهر تملّكهم وتسلّطهم ، ويحصل الغمّ والذلّ للكافرين وأعداء الدين ، وليس عندنا دليل قطعي على كونهم مكلّفين ، وإلا لجاز أن يتوب كلّ واحد من أعداء الدين ، لاطّلاعه على جملة من أحوال الآخرة.
1 ـ في « ك » : والأحاديث. بدل من : مع الأحاديث.
2 ـ أورده الكليني في الكافي 1 : 201 ، والصدوق في الأمالي : 776 ، وعيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 1 : 219 ، وكمال الدين : 678 ، ومعاني الأخبار : 98 ، والنعماني في الغيبة : 220 ، وفي الكلّ : عن عبد العزيز بن مسلم ، عن الإمام الرضا ( عليه السلام ).
3 ـ ( والأئمّة ) لم يرد في « ط ».
4 ـ في « ش ، ك » : الفرح.
5 ـ في « ط » والمطبوع : وينتقم.


(413)
    والأدلّة الدالّة على انقطاع التكليف بالموت بل قبله عند المعاينة كثيرة في الكتاب والسنّة ، فمن ادّعى تكليفاً بعد الموت فعليه الدليل ، ولا سبيل إليه ، وعمومات الخطاب قابلة للتخصيص ، على أنّها لم تتناول جميع الأزمان إلا بالإجماع (1) وليس هنا إجماع ، وكونهم يجاهدون ويفعلون أفعالاً كثيرة لا يدلّ على أنّهم مكلّفون بها ، كما أنّهم في الآخرة يفعلون أشياءً كثيرة جدّاً لا يمكن عدّها من المشي إلى موقف الحساب ، وأخذ الكتاب باليمين أو الشمال (2) ، والجواب عن كلّ ما يُسألون عنه ، ومن المرور على الحوض ، وسقي من يُسقى ، وطرد من يُطرد ، ومن حمل اللواء ، وتمييز أهل الجنّة والنار ، وسوقهم (3) إلى منازلهم ، والشفاعة ، وهبة بعضهم حسناته لبعض (4).
    وغضّ (5) أبصارهم عند مرور فاطمة ( عليها السلام ) ، وركوب بعضهم ، ومشي الباقين ، وقسمة الجنّة والنار ، والجثو على الركب تارةً والقيام اُخرى ، ودخول الجنّة والنار ، والنزول بمنزل خاصّ ، وما يصدر من الكلام الطويل بينهم ، ومن الأكل والشرب والجماع والنوم والجلوس والمشي (6) ، وزيارة بعضهم بعضاً ، ومن التحميد والتسبيح ، وغير ذلك ممّا هو كثير جدّاً ، وليسوا مكلّفين بشيء من ذلك ، وقد ذكر هذا الوجه صاحب كتاب « الصراط المستقيم » فقال بعدما ذكر بعض الآيات والأخبار في رجوع الأئمّة الأطهار ( عليهم السلام ) :
1 ـ في المطبوع و « ط » : بالإجماع. وما في المتن من « ح ، ش ، ك ».
2 ـ في المطبوع و « ط » : والشمال. وفي « ح » : واليسار ، وما في المتن من « ش ، ك ».
3 ـ في « ح » : وشوقهم.
4 ـ في « ح » : حسناتهم لبعض. وفي « ط » : حسنات لبعضهم.
5 ـ في « ش ، ك » : وغظّهم.
6 ـ ( والمشي ) لم يرد في « ش ».


(414)
    فإن قيل : فيكون عليّ ( عليه السلام ) في دولة المهدي ( عليه السلام ) وهو أفضل منه ؟ قلنا : قد قيل : إنّ التكليف يسقط عنهم ، وإنّما يحييهم الله تعالى ليريهم ما وعدهم ، وبهذا يسقط ما خيّلوا به من جواز رجوع معاوية وابن ملجم وشمر ويزيد وغيرهم ، فيطيعون الإمام وينتقلون من العقاب إلى الثواب ، وهو ينقض مذهبكم من أنّهم يُنشرون لمعاقبتهم والشفاية فيهم.
    قلنا : أوّلاً : لا تكليف يومئذ ولا توبة.
    وثانياً : قد ورد السمع بخلودهم في النيران ، وتبرّي الأئمّة ( عليهم السلام ) منهم ، ولعنهم إلى آخر الزمان ، فقطعنا بأنّهم لا يختارون الإيمان ( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) (1) ولأنـّه (2) إذا نشرهم للإنتقام منهم فلا تقبل توبتهم كما وقعت في الآخرة ، وقد تظافرت الأحاديث عنهم ( عليهم السلام ) بمنع التوبة عند خروج المهدي ( عليه السلام ) (3) « انتهى ».
    وإذا كانوا غير مكلّفين فلا حرج في اجتماعهم كما في القيامة.
    وثانيها : إنّه يمكن أن يكونوا مكلّفين بتكليف خاصّ لا بنبوّة وإمامة (4) بعد الموت والرجعة ، لما روي في الأحاديث : « من أنّ الله أوحى إلى نبيّه في آخر عمره أنّه : قد انقضت نبوّتك وانقطع أكلك ، فاجعل العلم والإيمان وميراث النبوّة في العقب من ذرّيّتك » (5) وغير ذلك.
1 ـ سورة الأنعام 6 : 28.
2 ـ في « ط » : ولأنّهم.
3 ـ الصراط المستقيم 2 : 252.
4 ـ في « ح » : ولا إمامة.
5 ـ اُنظر أمالي الصدوق : 565 / 24 ، وفيه : يا محمّد ، وكمال الدين : 134 / 3 ، وفيه : يا نوح ، وعلل الشرائع : 195 / 1 ، وفيه : يا آدم ، والكافي 8 : 114 ، وفيه : يا آدم ، و 285/ 430 ، وفيه : يا نوح.


(415)
    وثالثها : إنّه يمكن كون الرجعة للأئمّة ( عليهم السلام ) (1) كلّها بعد موت المهدي ( عليه السلام ) وهو الظاهر ، لما روي من طرق كثيرة : « إنّ أوّل من يرجع إلى الدنيا الحسين ( عليه السلام ) في آخر عمر المهدي ( عليه السلام ) » فإذا عرفه الناس مات المهدي ( عليه السلام ) وغسّله الحسين ( عليه السلام ) ، وتلك المدّة اليسيرة جدّاً تكون مستثناة للضرورة ، أو لخروج المهدي ( عليه السلام ) عن التكليف ساعة الاحتضار ، لكن لابدّ من رجعة المهدي ( عليه السلام ) بعد ذلك في وقت آخر كما يُفهم من الأحاديث ، ووقع التصريح به في أحاديث نقلت من كتب المتقدّمين ، ولم أنقلها هنا لما مرّ ، ورجعة الرعية تحتمل التقدّم والتأخّر والتعدّد ولا مفسدة فيها أصلاً ، فلذلك أقرّ بها منكر رجعة الأئمّة ( عليهم السلام ) ، مع أنّ النصوص على الثانية ـ أعني رجعة النبيّ والأئمة ( عليهم السلام ) ـ أكثر ممّا دلّ على الاُولى ، وأمّا ما دلّ على أنّ المهدي ( عليه السلام ) خاتم الأوصياء وأنّه ليس بعده دولة فلا ينافي (2) لما تقدّم بيانه.
    ورابعها : إنّه يمكن اجتماعهم في زمن المهدي ( عليه السلام ) ولا يكونون من رعيّته ؛ لعدم احتياجهم إلى إمام لعصمتهم ، فإنّ سبب الاحتياج إلى الإمام عدم العصمة ، وإلا لاحتاج الإمام إلى إمام ويلزم التسلسل ، وإذا لم يكونوا من رعية المهدي ( عليه السلام ) لايلزم تقديم المفضول على الفاضل كما هو ظاهر ، ويكون الإمام على الأحياء والأموات الذين رجعوا هو المهدي ( عليه السلام ) ، فإنّ الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيّته ، ولا يلزم أن يكون أفضل من جميع الموجودات وأشرف من سائر المخلوقات ، وإن كان أئمّتنا ( عليهم السلام ) كذلك بالنسبة إلى من عداهم ، ومعلوم أنّهم إذا اجتمعوا لا يحتاج أحد منهم إلى الآخر لعدم جهلهم ، واستحالة صدور فساد
1 ـ في « ح » : رجعة الأئمة. وفي « ك » : كون الرجعة. من دون كلمة : للأئمة.
2 ـ في « ح » : ينافي.


(416)
منهم ، وعدم جواز الاختلاف عليهم ، ومعارضة بعضهم بعضاً ، ويؤيّده الأحاديث الدالّة على أنّه لا يكون إمامان إلا وأحدهما صامت ، ولا يلزم كون حكم الرجعة موافقاً لما قبلها ، إذ ليس على ذلك دليل قطعي.
    وخامسها : إنّه يمكن اجتماعهم واجتماع اثنين منهم فصاعداً ، ويكون كلّ واحد منهم (1) إماماً لجماعة مخصوصين أو أهل بلاد منفردين ، أو كلّ واحد إمام أهل زمانه الذين رجعوا معه بعد موتهم ، ولا يكون أحد منهم إماماً للآخر ، ولا أحد من الرعية مشتركاً بينه وبين غيره ، وهذا الوجه ربّما يُفهم من الأحاديث (2) السابقة ، وتؤيّده الأحاديث الكثيرة : « في أنّ كلّ ما كان في الاُمم السالفة يكون مثله في هذه الاُمّة ، حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة » ، وقد كان يجتمع في الاُمم السابقة حجّتان فصاعداً من الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) ، بل مئات وألوف (3) في وقت واحد كما ذكرنا ، لاعلى شخص واحد ، بأن يكون رعيّة لنبيّين أو إمامين ، وحينئذ يتمّ توجيه الظواهر المشار إليها سابقاً كما لا يخفى.
    وسادسها : إنّ أحاديث الرجعة صريحة غير قابلة للتأويل بوجه كما عرفت ، ولا وُجِدَ لها معارض صريح أصلاً ، والأحاديث المشار إليها في هذه الشبهة ظواهر ليس دلالتها قطعيّة بل لها احتمالات متعدّدة.
    أمّا ما دلّ على حصر الأئمّة ( عليهم السلام ) في اثني عشر فظاهره (4) أنّه بالرجعة لا يزيد العدد ، فإنّ من مات ثمّ عاش لا يصير اثنين ، وما الموت إلا بمنزلة النوم في مثل ذلك.
1 ـ ( منهم ) أثبتناه من « ك ».
2 ـ في « ط » : بعض الأحاديث.
3 ـ ( بل مئات وألوف ) لم يرد في « ح ».
4 ـ في « ح » : فظاهر في ، وفي « ش ، ك » : فظاهر.


(417)
    وأمّا ما دلّ على أنّ الإمامة في ولد الحسين ( عليه السلام ) إلى يوم القيامة فلا ينافي الرجعة على جملة من الوجوه السابقة ، مع احتمال حمل القيامة على ما يشمل الرجعة كما مرّ ، واحتمال استثناء مدّة الرجعة بدليل خاصّ قد تقدّم ، ومعلوم أنّه يمكن الاستثناء من هذه المدّة ، ولا تناقض أصلاً ؛ لأنّها تدلّ على شمول أجزائها بطريق العموم ، وهو قابل للتخصيص.
    ألا ترى أنّه يجوز أن يقال : يجب الصوم في شهر رمضان من أوّله إلى آخره إلاّ الليل ، ويجوز صوم ذي الحجّة من أوّله إلى آخره إلا العيد وأيّام التشريق ، وقولهم ( عليهم السلام ) : « الإمام واحد دهره » (1) محمول إمّا على ما عدا مدّة الرجعة ، فإنّه يوجد فيها من يماثله (2) وليس من رعيّته ، أو على إرادة تفضيله على جميع رعيّته بقرينة قوله ( عليه السلام ) : « لا يدانيه عالم » ، فإنّ جبرئيل أعلم منه ومن الأنبياء ، ولا أقلّ من المساواة ، فإنّ علمهم وصل إليهم بواسطته ، فكيف يصدق أنّه لا يدانيه عالم ، والحاصل أنّه ظاهر لا نصّ ، فهو محتمل للتخصيص والتقييد وغيرهما ، وعموم رئاسة الإمام ليس عليها دليل (3) قطعي ؛ لأنّهم قد تعدّدوا في الاُمم السابقة ، والظواهر لا تمنع من العمل بمعارضها الخاصّ لو ثبت التعارض ، فإنّ أدلّة الرجعة خاصّة ، والخاصّ مقدّم على العام ، والعجب ممّن يأتي تخصيص العام وينكر تقييد المطلق ، ويجترئ على ردّ الدليل الخاصّ ، أو تأويل بعضه وردّ الباقي ، ويقدّم ما يحتمل التأويل على ما لا يحتمله ، مع أنّ أحاديث الرجعة كما عرفت ليس لها معارض صريح.
1 ـ أورده الكليني في الكافي 1 : 201 ، والصدوق في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 197 ، والأمالي : 776 ، وكمال الدين : 678 ومعاني الأخبار : 98 ، والنعماني في الغيبة : 220.
2 ـ في « ح ، ش ، ك » : مماثله.
3 ـ في « ح ، ك » زيادة : عقلي. وفي « ط » بدل القطعي : عقلي.


(418)
    وسابعها : إنّه ما ذكر في الشبهة معارض بما تقدّم إثباته من وقوع الرجعة في الأنبياء والأوصياء السابقين في بني إسرائيل وغيرهم ، فإنّ كلّ نبي أفضل من وصيّه قطعاً ، وكذا (1) كلّ وصيّ أفضل ممّن بعده أيضاً ؛ لامتناع تقديم المفضول على الفاضل ، وكلّ وصيّ كان النصّ عليه مقيّداً بمدّة ، إمّا خروج نبيّ آخر أو موت ذلك الوصي (2) وقيام غيره مقامه ، فلمّا رجع من رجع من الأنبياء والأوصياء السابقين لم يلزم فساد ولا بطلان تدبير ، ومهما أجبتم هنا فهو جوابنا هناك.
    وبالجملة : الأدلّة القطعية لا تنافي الرجعة. والظواهر محتملة لوجوه (3) متعدّدة ، فلاتعارض الدليل الخاصّ أصلاً ، وناهيك أنّ جميع علماء الإمامية قد رووا أحاديث الرجعة المتواترة الصريحة ، وما ضعّفوا شيئاً منها ، ولا تعرّضوا لتأويله ، بل صرّحوا باعتقاد صحّتها ، فكيف نظنُّ أنّه ينافي اعتقاد الإمامية.
    وثامنها : إنّه معارض بما دلّ على رجعة النبي والأئمّة ( عليهم السلام ) في هذه الاُمّة ، وحياتهم بعد موتهم خصوصاً حياة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بعد تغسيله وتكفينه قبل الدفن (4) ، وعند كلامه لأبي بكر (5) ، فقد روي أنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) دفن يوم الرابع من موته ، وقيل : الثالث ، ويحتمل كون رجعته ثلاثة أيّام وثلاث ليال أو أقلّ أو أكثر ، وعلى كلّ حال فقد كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إماماً وحجّة وخليفة ، ولم يلزم من ذلك
1 ـ في « ش » : وكذلك.
2 ـ ( الوصي ) أثبتناه من « ح ، ك ، ش ».
3 ـ في « ك » : بوجوه.
4 ـ في « ط » زيادة : ولا عدم عموم رئاسته ، فقد كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إماماً وحجّة وخليفة ، ولم يلزم من ذلك عزله.
5 ـ في « ط » وعند كلام أبي بكر.


(419)
عزله ولا عدم عموم رئاسته (1) ، ولا تقدّم (2) المفضول على الفاضل ؛ لأنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن من رعيّة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ومهما أجبتم به فهو جوابنا ، والإمكان لازم للوقوع.
    وتاسعها : إنّه معارض بالمعراج ، بيانه : إنّ الأحاديث الكثيرة دالّة على أنّ الأرض لا تخلو من حجّة طرفة عين ، ولو خلت لساخت بأهلها ، والأدلّة العقلية دالّة على ذلك وثبوت المعراج لا شكّ فيه وقد نطق به القرآن ، وقد روى الكليني : « أنّه عرج برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مرّتين » (3).
    وروى ابن بابويه في « الخصال » : « أنّه عرج به مائة وعشرين مرّة » (4) ولا شكّ أنّ المرّة الواحدة متواترة مجمع عليها ، ففي حال المعراج إمّا أن تكون الأرض خالية من إمام وحجّة فيلزم تخصيص تلك الأحاديث. والأدلّة أو القول (5) بأنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يومئذ إماماً ، فإن كان الأوّل فيمكن التخصيص بمدّة الرجعة أيضاً ، وإن كان الثاني انتفت المفسدة التي ادّعيتموها في اجتماعهم.
    والأحاديث الدالّة على أنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إمام وخليفة في زمن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وبعده كثيرة ، ومن جملتها وفاة فاطمة بنت أسد اُمّ عليّ ( عليه السلام ) ، وتلقين الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لها ، وأنّها سُئلت عن إمامها ، فقال لها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) (6) : « ابنك ابنك » (7)
1 ـ من قوله : ( وعلى كلّ حال فقد ) إلى هنا لم يرد في « ط ».
2 ـ في « ح » : ولا تقديم.
3 ـ الكافي 1 : 442 / 13.
4 ـ الخصال : 600 / 3.
5 ـ في « ط » : والقول.
6 ـ من قوله : ( لها وأنها ) إلى هنا لم يرد في « ط ».
7 ـ أورده الكليني في الكافي 1 : 453 / 2 ، الصدوق في الاعتقادات : 59 ( ضمن مصنّفات المفيد ج 5 ) والشريف الرضي في خصائص الأئمّة : 65 ـ 66.


(420)
وحينئذ (1) فلا مفسدة ، والحاصل أنّك لا ترى في شيء من الشبهات المذكورة ما هو صريح في المنافاة أصلاً ، بل يمكن توجيه الجمع بوجوه قريبة قد ذكرنا جملة منها (2).

    الخامسة : قوله تعالى : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (3).
    والجواب من وجوه :
    أحدها :
إنّه ليس فيها شيء من ألفاظ العموم ، فلعلّ المشار إليهم لا يرجع أحد منهم ؛ لأنّ الرجعة خاصّة كما عرفت.
    وثانيها : إنّه على تقدير إرادة ظاهرها غير شاملة لأهل العصمة ( عليهم السلام ) قطعاً (4) ؛ لأنّه لا يقول أحد منهم ذلك ، فلا يصحّ الاستدلال بها على نفي رجعتهم.
    وثالثها : إنّ الذي يفهم منها أنّ المذكورين طلبوا الرجعة قبل الموت لا بعده ، والمدّعى هو الرجعة بعده ، فلا ينافي صحّة الرجعة بهذا المعنى.
    ورابعها : إنّ الآية تحتمل إرادة الرجعة مع التكليف بل هو الظاهر منها ، بل يكاد يكون صريح معناها ، ونحن لا نجزم بوقوع التكليف في الرجعة فإن اُريد منها نفيه فلا فساد فيه.
    وخامسها : إنّ الرجعة التي نقول بها واقعة في مدّة البرزخ ، فلا تنافي مدلول
1 ـ ( وحينئذ ) أثبتناه من « ح ، ك ».
2 ـ من قوله : ( وحينئذٌ فلا مفسدة ) إلى هنا لم يرد في « ش ».
3 ـ سورة المؤمنون 23 : 99 ـ 100.
4 ـ في « ح » زيادة : ولا الصلحاء.
الاِيقاظ مِنَ الهجْعَةِ بالبرهان على الرجعة ::: فهرس