|
|||||||||||||||||||||||||||
اللآلئ العبقرية
في شرح العينيّة الحميرية نابغة عصره تأليف
بهاء الدين الاصبهاني المعروف بالفاضل الهندي ( 1062 ـ 1137 هـ ) قدم له
جعفر السبحاني (3)
اللآلئ العبقرية
في شرح العينية الحميرية (4)
روى المرزباني ، قال : حدثني فضيل بن عمر الحبال ، قال : دخلت على أبي عبد الله ( عليه السَّلام ) بعد قتل زيد ( عليه السَّلام ) فجعل يبكي ، ويقول : رحم الله زيداً انّه العالم الصدوق ، ولو ملك أمراً لعرف أين يضعه.
فقلت : أنشدك شعر السيد ؟ فقال : امهل قليلاً ، وأمر بستور ، فسدلت ، وفتحت أبواب غير الأُولى ، ثمّ قال : هات ما عندك فأنشدته :
( أخبار شهراء الشيعة : 159 ).
(5)
تقديم
بقلم : جعفر السبحاني
بسم الله الرحمن الرحيم
يتميّز الإنسان عن سائر الموجودات بالتفكير وهو موهبة عظيمة ، كرّمه اللّه بها ، وراح يعكس تفكيره من خلال الكلام إمّا منثوراً أو منظوماً ، فالكلام المنثور هو ما يتكلّم به ارتجالاً ، والثاني عبارة عن الكلام الموزون المقفّى الذي لا يحصل إلا بالتروّي والأناة.
ثمّ إنّ للإنسان نزوعاً إلى هذا النوع من الكلام قد يبلغ به تهييج العواطف والتذاذ الأسماع بمكان أنّه ربما يفقد وعيه. والشعر في الوقت نفسه سلاح شديد الوقع ، فإن استعمله الشاعر في الحماسة هاجت النفس لاقتحام الردى والهلكة ، وإن استغله في الاستعطاف والاستعطاء حرك العواطف وهيّجها ، وإن استعان به في التشبيب أغرى الأفئدة بالهوى والمجون ، إلى غير ذلك من غايات خاصّة للشعر على وجه الإطلاق ، كما أنّه سلاح ذو حدين ، فالشعر الهادف هو ما يبني المجتمع ويوقظ الشعب ويسوقه نحو العلم والصلاح والفلاح ، وغير الهادف منه هو ما يكرّس النزعات الأنانية في المجتمع ويسير به نحو هاوية الانحطاط ، ويبعثه نحو الانحلال الخلقي ، وللّه در الشيخ محمد رضا الشبيبي شاعر العراق الفحل إذ (6)
يقول :
ورب بيت واحد يفضَّل على قصيدة ، لأنّه ينشد إلى حكمة بالغة يأخذ بيد الإنسان في مزالق الحياة ، وقد أشار إلى ذلك الشاعر المذكور. 1 ـ إشارة إلى قوله سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ انّهُمْ في كُلِّ واد يهيمون * وانّهم يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُون ) ( الشعراء : 225 ـ 226 ). 2 ـ محمد جمال الهاشمي : الأدب الجديد : 1 ـ 2 ، طبعة النجف الأشرف. (7)
يقول امرؤ القيس في معلّقته :
1 ـ شرح المعلّقات السبع لأحمد بن الحسين الزوزني : 13 ـ 15 ، ط عام 1381 هـ. (8)
وهناك من يبعث روح الشجاعة والتضحية والفداء في المجتمع ويحثّه في المضي قُدماً في سلالم العز والكمال ، وهذا ما نلمسه بوضوح في الأبيات التالية لعميد الدين المعروف بالطغرائي ( المتوفّى عام 510 هـ ) في لاميته المعروفة بلامية العجم :
1 ـ الشعراء : 224 ـ 226. (9)
فهو راجع إلى الشعراء الذين لا همّ لهم سوى الحصول على المزيد من حطام الدنيا من خلال مدح ذوي الجاه والمقام أملاً في نيل عطائهم ، أو إثارة شهواته الجامحة التي تعصف بالمجتمع في ورطة الانحلال الاخلاقي.
ثمّ إنّه سبحانه لا ينظر إلى الجميع على حدّ سواء بل يستثني منهم طائفة ، بقوله : ( إِلاّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَذَكَروُا اللّه كَثِيراً وَانْتَصروا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الّذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلب يَنْقَلِبُون ) (1). وبذلك يتبين موقف الأحاديث الواردة في هذا المضمار ، فهي بين مندِّدة بالشعر وبين مادحة له ، كما في قوله : إنّ من الشعر لحكمة ، وإنّ من البيان لسحرا. (2) وقد كان الشعر هو الوسيلة الوحيدة للإعلام و إثارة العواطف والأحاسيس وبثّ الأفكار من خلاله ، وكان للشعر والشعراء في عصر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وبعده مقام شامخ ، وكان أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) يغدقون عليهم بالعطايا والصلات. قال البراء بن عازب : إنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قيل له : إنّ أبا سفيان بن حارث بن عبد المطلب يهجوك ، فقام عبد اللّه بن رواحة فقال : يا رسول اللّه : ائذن لي فيه ، فقال : « أنت الذي تقول ثبَّت اللّه » ، قال : نعم ، قلت يا رسول اللّه.
1 ـ الشعراء : 227. 2 ـ مسند أحمد : 1 / 269 ، 273 ؛ سنن الدارمي : 2 / 296. 3 ـ مستدرك الحاكم : 3 / 488. (10)
و قد أنشد كعب بن زهير قصيدته التي قالها في مدح النبي في مسجده الشريف ، و التي مطلعها :
ويروى أنّ كعباً أنشد « من سيوف الهند » فقال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : من سيوف اللّه. قال المقريزي في حوادث السنة الثامنة من الهجرة : ففي هذه السنة كان إسلام كعب بن زهير بن أبي سُلمى ، فأسلم وقدم على رسول اللّه المدينة وأنشده القصيدة فكساه بُردة كانت عليه ، وقال ابن قتيبة : أعطى رسول اللّه كعب بن زهير راحلة وبُردًا ، فباع البُرد من معاوية بعشرين ألفاً ، فهو عند الخلفاء إلى اليوم. (2) وقد تأسّى أئمّة العترة الطاهرة بالنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في تكريم الشعراء المجاهرين بولائهم ، المخلصين من الذين كانوا ينظمون القريض لغايات دينيّة ، معرضين عن التردّد على بلاط الخلفاء الأمويين والعباسيين ، وقد كان لشعرهم يومذاك تأثير بالغ في قلوب الناس ، وإيقاظ ضمائرهم ، ولهذا الهدف الأسمى كان أئمّة أهل البيت يبجّلون بشعرهم ويدعون لهم ويغدقون عليهم بالصلات ، ولهذه الغاية راجت بين شيعة أئمّة أهل البيت ميميّة الفرزدق ، وهاشميّات الكميت ، وعينية الحميري ، وتائية دعبل الخزاعي ، وميميّة الأمير أبي فراس ، وكانوا يحفظونها 1 ـ مستدرك الحاكم : 3 / 580. 2 ـ المقريزي : الإمتاع : 1 / 356 ، ط عام 1401 هـ. (11)
وينشدونها في مجالسهم ومحافلهم ، فصارت هذه القصائد كالسيف الصارم بيد الموالين.
ومن هذه الطليعة الشاعر المفلق المكْثر لثناء أهل البيت السيد الحميري الذي نحن بصدد التقديم له وللشرح الذي قام به نابغة عصره الشيخ بهاء الدين الاصبهاني المعروف ب « الفاضل الهندي » ، فيلزم علينا الإلمام بترجمة الشاعر أوّلاً ، ثمّ الشارح ثانياً حسب ما تقتضيه الحال. السيد الحميري هو إسماعيل ، وكنيته أبو هاشم ، بن محمد بن يزيد بن وداع الحِمْيري الملقب بالسيد ، وانّه من بني حدّان تزوّج بها أبوه ، لأنّه كان نازلاً فيهم ، ولد عام 105 هـ (1) ، بعُمان و نشأ في البصرة في حضانة والديه الإباضيّين إلى أن عقل وشعر فهاجرهما و اتصل بالأمير عقبة بن مسلم و تزلّف لديه حتى مات والداه ، فورثهما ـ كما سيوافيك خبره ـ ثمّ غادر البصرة إلى الكوفة وأخذ فيها الحديث عن الأعمش وعاش متردّداً بينهما. و مات (2) عام 173 هـ. ترجمه غير واحد من رجال الفريقين نذكر نصوصهم : 1. فقد ذكره الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب الإمام الصادق عليه السَّلام ، قال : إسماعيل بن محمد الحميري ، السيد الشاعر يكنّى أبا عامر. (3) 2. وذكر في الفهرست ، وقال : السيد بن محمد ، أخباره تأليف الصولي ، 1 ـ أخبار السيد للمرزباني : 151 ـ 152. 2 ـ لسان الميزان : 1 / 383. 3 ـ رجال الطوسي برقم 108. (12)
أخبرنا بها ابن عبدون عن أبي بكر الدوري عن الصولي. (1)
3. ولم يترجمه النجاشي مستقلاً ، وإنّما ذكر من جمع أخباره وسيوافيك أسماء من جمع أخبار السيد. 4. وقال ابن شهر آشوب في المعالم في فصل الشعراء المجاهدين : السيد أبو هاشم إسماعيل بن محمد بن يزيد (2) ( بن محمد ) (3) بن وداع بن مفرغ الحميري. من أصحاب الصادق ( عليه السَّلام ) ولقي الكاظم ( عليه السَّلام ) وكان في بدء الأمر خارجياً ثمّ كيسانيّاً ثمّ إمامياً. (4) 5. وقال العلاّمة في الخلاصة في القسم الأوّل من الباب الثاني من فصل الهمزة. إسماعيل بن محمد الحميري : ثقة ، جليل القدر ، عظيم الشأن والمنزلة رحمه اللّه. (5) إلى غير ذلك من كلمات الإطراء في حقّه في معاجم أصحابنا ، وأمّا ما ذكره غيرهم ، فإليك نصوص بعضها : 6. قال ابن عبد ربّه : السيد الحميري وهو رأس الشيعة ، وكانت الشيعة من تعظيمها له تلقي له الوسادة في مسجد الكوفة. (6) 7. وقال أبو الفرج الاصفهاني ( المتوفّى عام 356 هـ ) : كان السيد شاعراً 1 ـ الفهرست برقم 350. 2 ـ وفي المصدر مزيد و لعله مصحف يزيد كما في اخبار السيد للمرزباني. 3 ـ هذه الزيادة ليست في أخبار السيد المرزباني. 4 ـ معالم العلماء : 146. 5 ـ الخلاصة ، باب الهمزة ، برقم 22. 6 ـ العقد الفريد : 2 / 289. (13)
متقدماً مطبوعاً ، يقال له انّ أكثر الناس شعراً في الجاهلية و الإسلام ثلاثة : بشّار ، أبو العتاهية ، والسيد ، فانّه لا يعلم انّ أحداً قدر على تحصيل شعر أحد منهم أجمع. (1)
كان السيد أسمر ، تامّ القامة ، أشنب (2) ، ذا وفرة ، حسن الألفاظ ، جميل الخطاب ، إذا تحدث في محل قوم أعطى كلّ رجل في المجلس نصيبه من حديثه. (3) 8. ونقل عن التوزي ، أنّه قال : رأى الأصمعي جزءاً فيه من شعر السيد ، فسترته عنه لعلمي بما عنده فيه ، فأقسم عليّ ان أخبره فأخبرته ، فقال : أنشدني قصيدة منه ، فأنشدته قصيدة ثمّ أُُخرى ، وهو يستزيدني ، ثمّ قال : قبّحه اللّه ما أسلكه لطريق الفحول! لولا مذهبه ، ولولا ما في شعره ما قدمت عليه أحداً من طبقته. (4) أقول : « كلّ إناء بالّذي فيه ينضح » (5) ، انّ الاصمعي ناصبي عنيد يبغض علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) والعترة الطاهرة ( عليهم السَّلام ) فلا غرو في أن يدعو على السيد بما عرفت ، ولكن مع ذلك لم يستطع أن يُسدل الستار على عظمة السيد في مجال الشعر ، وانّه سلك طريق الفحول في عالم القريض ، ويتلوه في المذهب والإطراء أبو عبيدة ، ومع ذلك يقول في حقّ السيد أشعر المُحْدَثِين السيّد الحميري وبشار. (6) 9. وروى عمر بن شبّة ، قال : أتيت أبا عبيدة معمر بن المثنى يوماً وعنده رجل من بني هاشم يقرأ عليه كتاباً ، فلمّا رآني أطبقه ، فقال له أبو عبيدة : إنّ أبا 1 ـ الأغاني : 7 / 229. 2 ـ الشنب : البياض والبريق والتحديد في الاسنان. 3 ـ الأغاني : 7 / 231. 4 ـ الأغاني : 7 / 232. 5 ـ « مثل يُضرب ». 6 ـ الأغاني : 7 / 232. (14)
زيد ليس ممن يحتشم منه فأقرأ ، فأخذ الكتاب وجعل يقرأه ، فإذا هو شعر السيد ، فجعل أبو عبيدة يُعجب منه ويستحسنه ، قال أبو زيد : وكان أبو عبيدة يرويه ، قال : وسمعت محمد بن أبي بكر المقدمي ، سمعت جعفر بن سليمان الضُّبعي ينشد شعر السيد. (1)
10. وحكى عن الموصلي عن عمِّه ، قال : جمعت للسيد في بني هاشم الفين وثلاثمائة قصيدة فخِلْتُ أن قد استوعبت شعره حتى جلس إليّ يوماً رجل ذو أطمار رثّة ، فسمعني أنشد شيئاً من شعره فأنشدني له ثلاث قصائد لم تكن عندي ، فقلت في نفسي لو كان هذا يعلم ما عندي كلّه ، ثمّ أنشدني بعده ما ليس عندي ، لكان عجيباً ، فكيف وهو لا يعلم وإنّما أنشد ما حضره ، وعرفت حينئذ انّ شعره ممّا لا يدرك ولا يمكن جمعه كلّه. (2) 11. قال غانم الوراق : خرجت إلى بادية البصرة فصرت إلى عمر بن تميم ، فأثبتني بعضهم ، فقال : هذا الشيخ واللّه راوية ، فجلسوا إليّ وأنسوا بي وأنشدتهم وبدأت بشعر ذي الرمة ، فعرفوه ، وبشعر جرير فعرفوهما ثمّ أنشدتهم للسيد. قال : فجعلوا يمرقون لإنشادي ويطربون ، وقالوا : لمن هذا ، فأعلمتهم ، فقالوا : هو واللّه أحد المطبوعين ، لا واللّه ما بقي في هذا الزمان مثله. (3) 12. قال الزبير بن بكار : سمعت عمي يقول : لو انّ قصيدة السيد التي يقول فيها :
1 ـ الأغاني : 7 / 236. 2 ـ الأغاني : 7 / 237. 3 ـ الأغاني : 7 / 239. (15)
قرأت على منبر ما كان فيها بأس ولو انّ شعره كله كان مثله لرويناه وما عيّبناه. (1)
13. حدث الحسين بن ثابت ، قال : قدم علينا بدويّ ، وكان أروى الناس لجرير ، فكان ينشدني الشيء من شعره ، فأُنشد في معناه للسيد حتى أكثرتُ ، فقال لي : ويحك ! من هذا ؟ هو واللّه ، أشعر من صاحبنا. (2) وهذه الكلمات التي نقلها ابي الفرج الاصفهاني تعرب عن تضلّع السيد في الأدب العربي وبلوغه الذروة في القريض بحيث لا يجاريه فيه أحد ، وقد نال اعجاب عباقرة الشعر وجهابذة الأدب ، ولولا كفاحه ونضاله وتهالكه في حب أهل البيت ، ومناهضته للجهاز الأموي و العباسي ، لحظي بمكانة مرموقة في بلاط الخلفاء ، وعلى الرغم من ذلك ، فقد شهدت بفضله الأعداء ، والفضل ما شهدت به الأعداء ، وقد أتاح سبحانه لسان أعدائه على تمجيده وتعظيمه. أُسرة السيد والعجب انّ أُسرة السيد الحميري كانت من بني حمير الذين قطنوا عمان وكانوا أباضية المذهب يكنُّون العداء لعلي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ). وعلى الرغم من كلّ ذلك فقد ظهر من هذا المنبت السوء ، موال لأهل البيت ( عليهم السَّلام ) ، مخلص في حبهم ، ذابّ عن حريم ولايتهم بشعره وبيانه وجسمه وروحه ، على نحو لم يُر له مثيل فيمن غبر. روى سليمان بن أبي شيخ عن أبيه : انّ أبوي السيد كانا إباضيّين ، وكان منزلهما بالبصرة في غرفة بني ضبّة ، وكان السيد يقول : طالما سُبّ أمير المؤمنين في 1 ـ الأغاني : 7 / 239. 2 ـ الأغاني : 7 / 239. |
|||||||||||||||||||||||||||
|