اللآلئ العبقرية في شرح العينيّة الحميرية ::: 211 ـ 225
(211)
وَ ما أَدْرِي وَسَوْفَ إِخالُ أدري أقومٌ آلُ حِصْن أَمْ نِساءُ (1)
    وهو في الأصل مصدر ، وصف به ثمّ غلب على الرجال لقيامهم بأمور النساء ، كما قال سبحانه : ( الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساء ). (2)
    « أتيته » إتياً وإتياناً وإتيانة وإتياً ، كعنى ـ بضمّ العين أو كسرها ـ : جئته بسهولة ، ومنه : تأتّى له الأمر ، إذا تسهّل وتهيّأ له ، وأتيت الماء تأتيه وتأتياً : إذا سهّلت طريقه.
    وواتيته مواتاة إذا وافقته ، ثمّ اتّسع فاستعمل في مطلق المجيئ ، وجاء أتوته أتوه بمعناه ، قال الرّاجز :
يا قَوْمِ ما لي وأباذُؤَيبِ يَشَمُّ عطفي ويَبَزُّ ثوبي كُنْتُ إذا أتوته مِنْ غَيْبِ كَأَنَّني أَرَبْتُهُ بُريْبِ (3)
    « الواو » هنا ضمير جمع المذكر العاقل ، وذهب المازني إلى أنّها علامة الجمع كما « التاء » علامة التأنيث ، وإنّ الضمير مستكن كاستكنانه في : زيد قام ، وهند قامت ، وكما يقوله الجمهور في نحو : قاما أخواك ، وقاموا أخويك ، وقمن الهندات.
    ومن النّحاة من قال : إنّ بعض العرب يقول في الجمع : الزيدون قام ـ بضمّ الميم ـ فيكتفى به عن « الواو » ، والتزموا في الكتابة أن يريدوا بعد « واو » الجمع المتطرّفة في الفعل : « ألفاً » ، فرقاً بينها وبين « واو » يكون لام الفعل ، وبينها و بين واو
1 ـ البيت من قصيدة للشاعر زهير بن ربيعة ، الملقّب بأبي سلمى ، مطلعها :
عفا من آل فاطمة الجواءُ فَيَمْنٌ فالقوادِمُ فالحِساءُ
( شرح ديوان زهير : ص 97 ، وديوانه : ص 7 ).
2 ـ النساء : 34.
3 ـ ذكره الخليل في كتاب العين : 8 / 145 ، وفي هامشه نسب البيتان ل‍ « خالد بن زهير الهذلي » كما في لسان العرب أيضاً : 1 / 442 ، وذكره ابن جرير الطبري في جامع البيان : 12 / 83.


(212)
العطف في نحو : إن عبروا ضربتهم ، بخلاف ما إذا لم تكن متطرفة ولذا كتبوا نحو : ضربوهم ، بلا ألف إذا كان هم مفعولاً ، وبالألف إذا كان تأكيداً.
    وأمّا واو الجمع اللاحقة للأسماء نحو : شاربو الماء ، فالأكثرون لا يكتبون بعدها « ألفاً » لقلّة استعمالها بالنسبة إلى المتّصلة بالفعل ، فلم يبال بالالتباس بها.
    ومنهم من لا يكتب الألف في اسم ولا فعل.
    « أحمد » من أعلام النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) التي نصّ عليها في القرآن المجيد (1) ، وهو منقول من « أفعل » الذي هو اسم تفضيل من الفعل المجهول ، أي أكثر محموديّة لكثرة خصاله الحميدة ، أو المعلوم أي أكثر حمداً للّه سبحانه ، أو بمعنى اكسب للحمد ، لكثرة خصاله المحمودة كما يقال في قولهم : العود أحمد (2) ، أنّه بمعنى اكسب للحمد.
    و « الألف » التي بعده لإشباع الفتحة.
    « الباء » إمّا للتعدية ، أو المصاحبة ، أو السببية.
    « الخطبة » ـ بالضم وبالكسر ـ من الخطب والمخاطبة والتخاطب بمعنى المراجعة في الكلام ، إلاّ أنّ المضمومة اختصّت بالكلام المتضمّن وعظاً وإبلاغاً ، والمكسورة بما تضمّن طلب نكاح امرأة وأصلها الحالة التي عليها الخاطب حين يخطب ، كالحلة والعقدة. ويقال من المضمومة : خاطب وخطيب ، ومن المكسورة : خاطب لا غير ، وقد اتّسع فيهما فاستعملت المضمومة في كلّ كلام كما ورد في الخبر :
1 ـ في الآية الشريفة ، من سورة الصف : 6 ( وَإذْ قالَ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إسرائِيلَ إنّي رسُولُ اللّهِ إلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَينَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُول يَأتي مِنْ بَعْدىِ اسْمُهُ أَحْمَد ... ).
2 ـ في الدرّ المنثور للسيوطي : 5 / 15 في حديث ... فأتاهم أبوبكر فقال : هل لكم في العود ، فإنّ العود أحمد. وذكره الشوكاني في : فتح القدير : 4 / 216.


(213)
أنّ أعرابياً جاء النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فقال : يا رسول اللّه علّمني عملاً يدخلني الجنّة ، قال صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم : لئن كنت أقصرت الخطبة ، لقد أعرضت المسألة (1).
    والأكثر استعمالها في الكلام الطويل ، لأنّ الخطب في الأغلب طوال واستعملت المكسورة في طلب كلّ شيء ، يقال : فلان يخطب عمل كذا أي يطلبه.
    « ليس » عند الجمهور : فعل ناقص أصله « لَيِسَ » كَهَيِبَ فَخفّف ، كما قيل : علم في علم ، وصيّد في صيّد ، ولا يجوز أن يكون مضموم الياء في الأصل ، فإنّ الأجوف اليائي لم يجئ مضموم العين ؛ ولا أن يكون مفتوحها لأنّ الفتحة لا تسكن فلا يقال في ضرب ضرب ، وإنّما لم يقلب ياؤه ألفاً مع تحرّكها وانفتاح ما قبلها للدلالة على مفارقته لأخواته ، لعدم تصرفه.
    وعن أبي علي في أحد قوليه : إنّه حرف (2) ، بدليل أنّه لو كان فعلاً لكانت الياء منه متحرّكة في الأصل ، ولو كانت كذلك لعادت إلى حركتها عند اتّصال الضمير به كما يقال : صيدت. أو حذفت مع كسر الفاء ك‍ « هبت » ، قال : وأمّا اتصال الضمير به فلتشبّهه بالفعل لكونه على ثلاثة أحرف ، وكونه بمعنى « ما كان » ، وكونه رافعاً ناصباً.
    والجمهور استدلّوا على فعليّته باتّصال الضمائر ، وأجابوا عن دليل أبي علي بأنّ ذلك لمفارقته أخواته في عدم التصرّف.
    وعن الكوفيين والبغداديّين أنّه قد يكون حرف عطف يقال : ضربت عبد اللّه ليس زيداً ، وقال عبد اللّه ليس زيد ، ومررتُ بعبد اللّه ليس بزيد ، ولا يجوّزون نحو : إنّ زيداً ليس عمراً قائم ، لأنّهم يقدّرون العامل بعد المعطوف فيصير التقدير :
1 ـ تفسير القرطبي : 8 / 183 ، الطبرسي : تفسير مجمع البيان : 10 / 365.
2 ـ شرح ابن عقيل : 1 / 262 ، و « أبو علي » هو « الفارسي ».


(214)
إنّ زيداً ليس عمراً ان قائم ، وأن لا يعمل فيما قبلها. وأجازوا ، نحو : ظننت زيداً ليس عمراً قائماً ، فإنّ « ظنّ » يعمل فيما قبله.
    وأمّا غيرهم فإن وقع مثل هذه الأمثلة قدّروا ل‍ « ليس » اسماً أو خبراً. وأوّل بعضهم كلام الكوفيين بمثل ذلك وجعل قولهم : إنّه حرف ، بمعنى أنّه جرى مجرى الحرف.
    ومن المعربين من ذهب إلى أنّه في باب الاستثناء حرف بمعنى « إلاّ ».
    ثمّ إنّ معنى « ليس » عند سيبويه النفي مطلقاً ، تقول في الماضي : ليس خلق اللّه مثله ، وقال عزّ قائلاً : ( أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ) (1) في المستقبل ومنهم من جوّز المستقبل فقط.
    وعند الجمهور أنّه للنفي في الحال. وذهب أبو علي إلى أنّه إن لم يقيّد بزمان فهو لنفي الحال وإلاّ فيجب القيد ، واختاره أبوحيان ونجم الأئمة رضي اللّه عنه.
    وادّعى الأندلسي أنّه لا نزاع بين القبيلين فإنّ الأوّلين إنّما يعممونه بحسب القيود والآخرين يخصّصونه بالحال إذا لم يكن قيد ، فهم متّفقون على أنّه مع عدم القيد يحمل على الحال ومع القيد يكون بحسبه.
    « اللام » للاستحقاق.
    « الموضع » ـ بكسر الضاد ـ : اسم مكان أو زمان من وضعه يضعه بفتح الضاد فيهما ، وضعاً وموضعاً بكسر الضّاد وموضوعاً أي حطه ، وقد يفتح ضاد الموضع : اسم مكان وزمان ومصدر ، أو الأكثر على كسر مفعل مصدراً ، أو اسم مكان أو زمان من المثال الواوي.
    وإن كان مضارعه على يفعل بالفتح قال سيبويه : إنّما قال الأكثرون
1 ـ هود : 8.

(215)
« موجل » بالكسر ، لأنّهم ربّما غيّروه في توجل ويوجل فقالوا : ييجل ويأجل ، فلمّا أعلوه بالقلب شبّهوه بواو « يوعد » المعلّ بالحذف ، فكما قالوا هناك : موعد ـ بالكسر ـ ، قالوا هيهنا : موجل (1).
    والمراد به هنا إمّا الزّمان أو المكان حقيقة أو الأمر الداعي إلى المتكلّم فإنّ الأمر الدّاعي قد يشبه عند أهل المعاني بالزمان فيسمّى الحال ، وقد يشبّه بالمكان فيسمّى بالمقام.
    الأعراب :
    المراد بالتعجّب من القوم التعجب من حالهم وصنيعهم إمّا تقديراً أو عناية من مجرّد لفظ القوم ، أو من وصفهم بما بعدهم على أن يكون المقصود بالإثبات هو القيد ، كما يكون المقصود بالنفي في الأكثر القيد فكأنّه قال : عجبت من قوم كذا ، من حيث إنّهم كذا ما بعد قوم ، من قوله « أتوا » إلى ما سيأتي من قوله تبّاً لما كان به أزمعوا ؛ صفة لهم.
    و « الباء » في « بخطبة » إن كانت للتعدية فمدخولها مفعول « أتوا ».
    وإن كانت للسببيّة كانت متعلّقة به.
    وإن كانت للمصاحبة كان الظرف مستقراً حالاً مع عامله المقدّر عن فاعله ، وما بعد خطبة صفة لها.
    والبيت مستأنف إمّا خبر ، أو إنشاء للتعجّب.
    المعنى : حصل لي العجب ، أي الكيفيّة المخصوصة أو الانفعال المخصوص من صنيع ، أو حال قوم جاءوا إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بكلام أو بطلب ليس له
1 ـ شرح شافية ابن الحاجب لرضي الدين الاسترابادي : 1 / 170. دارالكتب العلمية ، بيروت 1395 هـ.

(216)
موضع ، أوجاءُوه بسبب كلام أو طلب ، أو مصحوبين بكلام أو طلب ، أو عجبت من قوم فعلوا كذا من جهة أنّهم فعلوا كذا لكون هذا الصنيع منهم أمراً نادراً خفي السّبب ، أو أنكرتُ منهم هذا الصّنيع ، أو عظم عندي لغرابته جدّاً وإنّما لم يكن له موضع لأنّه كان معلوماً من حال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه ومن الآيات النازلة في شأنه و من الأقاويل النبويّة في حقّه : أنّه الخليفة بعده ، وإن كان المراد بالموضع الداعي فالمراد نفي الداعي : الحق ، فإنّ الداعي إلى هذا السؤال إنّما كان رجاء أن ينصّ على أحد منهم أو يفوّض الأمر إليهم.
    المعاني :
    فيه مسائل :
    الأُولى : الإتيان بالجملة الفعلية للإيجاز وللدلالة على التجدّد ، ولكونها أقرب إلى الإنشاء من الاسمية ، وذلك لتقاربهما من جهة أنّ مضمونها متجدّد حادث بعد أن لم يكن ، كما في مضمون الإنشاء ، وللتصريح بالزمان المقصود مع الاختصار.
    الثانية : تنكير قوم لتحقيرهم بإيهام أنّهم لحقارتهم لا يعرفون ولا يعهدون ، وللدلالة على نكارتهم ، لنكارة صنيعهم كأنّهم لمّا صنعوا ما نُكر ولا يعرف ، فكأنّهم ينكرون ولا يعرفون ، وليتعيّن وصفهم بالنكرة ، إذ لو عرفهم ، لوصفهم بالموصول وصلته ؛ والأصل في الصلة أن تكون معلومة للمخاطب ؛ والأصل في الصفة أن تكون مجهولة له ، ولذا قيل : إنّ الأوصاف بعد العلم بها صلات ، والصلات قبل العلم بها صفات ، فأراد أن يدلّ على أنّ هذا الفعل الشنيع الغريب العجيب ليس ممّا يعرفه المخاطب فإنّه من الغرابة بحيث ينكره العقلاء ، فنكر القوم ليقع صفته نكرة فيفيد هذه الفائدة.


(217)
    الثالثة : في الإتيان بلفظ « أتوا » الدالّ على المجيئ بسهولة ، دلالة على أنّهم إنّما طلبوا النصّ على الخليفة بأنفسهم من غير إجبار ولا إكراه ، وعلى أنّهم كانوا يتمكّنون من استفسار المطالب الدينية بسهولة ، وأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يكن يمنعهم عن ذلك بوجه فيكون أدخل في ذمهم ، فإنّهم إمّا أن استفسروا واستعلموا الوصي واستيقنوه ثمّ أنكروه ، أو لم يبالغوا في استعلامه.
    وعلى كلّ تقدير فهم المفرطون الغاصبون.
    الرابعة : التصريح باسم النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) للتبرّك والاستلذاذ. والتصريح باسم المختصّ به لئلاّ يبقى اشتباه وتردد فإنّه مقام التسجيل عليهم بعصيانهم الرسول صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ، ولتعظيم عصيانهم فإنّهم عصوا مثل أحمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كما يقال : أمير المؤمنين يأمرك بكذا ، وللكناية باسمه الشريف على أنّه أحمد الخلائق خصالاً وفعالاً ، فلم يكن من شأنه أن يبهم عليهم أمر الخليفة ، أو ينصّ عليه لهم بما يبقى لهم فيه شكّ وارتياب ، أو ينصّ على من لم يؤمن بالنص عليه من اللّه سبحانه ويتبع في ذلك هواه ، أو تكلم به على لسانهم تنبيهاً على أنّهم لم يكونوا مؤمنين بنبوّته ليدعوه بالنبي أو الرسول و إن دعوه بهما لم يكن ذلك على وفق اعتقادهم بل اللائق بحالهم أن يدعوه باسمه.
    الخامسة : إنّما عبّر عن مقالهم بالخطبة. أمّا إن كانت بضم الخاء فللدلالة على أنّهم طوّلوا الكلام وبالغوا في ذلك ، أو أنّهم قالوا ذلك في صورة الوعظ ، وفيه دلالة على سوء أدبهم مع نبيّ اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وإن كانت بكسر الخاء فلدّلالة على غاية رغبتهم في التنصيص كرغبة الخاطب فيمن يخطبها لنفسه.
    السّادسة : تقديم الظرف ، أعني : خبر ليس على اسمه للقافية ، وتقريب الضمير من مرجعه وزيادة تخصيص الاسم.


(218)
    البيان :
    في التعبير عن مقالتهم بالخطبة ، استعارة مصرّحة ، ثمّّ إن كانت الباء للتعدية أو المصاحبة كانت فيه استعارة أُخرى مكينة ، فإنّه شبّه مقالهم بجسم ينتقل ويحوّل ويؤتى به أو بشيء يستصحب. أو يكون إيقاع الإتيان عليها مجازياً تنزيلاً للدّاعي إلى الإتيان منزلة مفعوله وإقامته لملابسة الداعي به مقام ملابسة المفعول به. أو يكون أتوا استعارة تبعيّة تشبيهاً لإلقاء هذا الكلام بالإتيان به. أو تكون « الباء » استعارة تبعيّة تنزيلاً لملابسة غاية الفعل والداعي إليه ، منزلة ملابسة ما يصحب الفاعل وتشبيهاً لها بها.
    وإن أراد بالموضع الأمر الداعي إلى الكلام كان فيه أيضاً استعارة مصرّحة تشبيهاً للملابسة التي بين الداعي والكلام بالملابسة التي بين الظرف ومظروفه في الملازمة بينهما عند البلغاء ومساواة كلّ منهما للآخر ، بحيث لا تفصل عنه عندهم ، فإنّ البليغ من الكلام ما كان على وفق مقتضى المقام من غير زيادة ولا نقصان ثمّ بيّن خطبتهم ، فقال :


(219)
قالوا له لو شئت أعلمتنا إلى مَنْ الغايــةُ والمَفزعُ
    اللّغة :
    قالَ يَقُولُ قَولاً وقَوْلَةً وَمَقالاً وَمَقالَةً وقِيلاً وَقالاً : تكلّم بمفرد أو مركّب تامّ أو ناقص ، أو تكلّم بكلام تامّ. أو القول في الخير ، والقال والقيل والقالة في الشر ، والقيل والقال اسمان لا مصدران ، أو فعلان أُجريا مجرى الأسماء. وفي الخبر : نُهي عن قيل وقال و كثرة السؤال وإضاعة المال.
    يروى بالكسر والتنوين وبالفتح ، قال الزمخشري في « الفائق » : بناؤهما على كونهما فعلين محكيّين متضمّنين للضمير ، والإعراب على إجرائهما مجرى الأسماء خِلْوَين من الضمير ـ قال ـ : ومنه قولهم : إنّما الدنيا قال وقيل. وإدخال حرف التعريف عليهما لذلك في قولهم : ما يعرف القال من القيل ـ قال ـ : وعن بعضهم : القال الابتداء ، والقيل الجواب ، ـ قال ـ ونحوه قولهم : أعيَيتني من شُبّ إلى دُبّ ، ومن شُبّ إلى دُبّ (1).
1 ـ الفائق في غريب الحديث : 3 / 231.

(220)
    وفي حرف ابن مسعود : « ذلك عيسى ابن مريمَ قال الحقّ الذي فيه يَمْتَرون » (1) وأصل قال : قول بفتح العين لا بكسرها ، بدليل يقول ، ولا بضمّها لتعدّيه.
    قال ابن جنّي : إنّ معنى قاول أنّى وُجدت وكيف وقعت مِن تقدّم بعض حروفها على بعض ، وتأخّره عنه إنّما هو للخفوف والحركة ، وجهات تراكيبها الست مستعملة كلّها لم يهمل شيء منها وهي قاول ، قال ، وقل ول ق ل ق ، ول و ق.
    الأصل الأوّل « قاول » وهو القول ، وذلك أنّ الفم واللسان يخفان له ويقلقلان ويمذلان به ، وهو بضد السكوت الذي هو داعي إلى السكون ، ألا ترى أنّ الابتداء لمّا كان أخذاً في القول لم يكن الحرف المبدوء به إلاّ متحرّكاً ، ولمّا كان الانتهاء أخذاً في السّكوت لم يكن الحرف الموقوف عليه إلاّساكناً. ثمّ ذكر باقي الأُصول على التفصيل.
    « اللام » في « له » لام التبليغ ، وهي الداخلة على اسم السامع ، لقول ، أو ما في معناه وقيل : إنّها للتعدية.
    « لو » حرف ثنائي الوضع له وجوه :
    منها : أن يكون من حروف التعليق ، ويقال : من حروف الشرط. ويراد أنّه يدلّ على الشرط التقديري ، أي الثاني فيها مرتبط بالأوّل على تقدير وجودهما وإليه أشار سيبويه حيث قال : إنّها لما كان سيقع لوقوع غيره ، والمشهود أنّها تدلّ على عدم الجزاء لعدم الشرط ، وذهب الحاجبي إلى أنّها لعدم الشرط لعدم الجزاء ، والحقّ مجيئها للآخَرين.
1 ـ في قراءة الآية 34 من سورة مريم.

(221)
    فالأوّل كقولك : لو جئتني لأكرمتك.
    والثاني : كقوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ اللّه لَفَسَدَتا ) (1) فإنّه مسوق للاستدلال على نفي تعدّد الإله.
    والسرّ في ذلك أنّها تدل على علّيّة الشرط على تقدير وجوده للجزاء ، وكما يصحّ الاستدلال على عدم المعلول بعدم العلّة يصحّ العكس إذا كانت العلّة منحصرة فيه حقيقة أو ادّعاه.
    وقد تؤتى بها فيما الجزاء مستمرّ الوجود على تقديري وجود الشرط وعدمه ، وذلك في كلّ ما يكون نقيض الجزاء أليق بالشرط ، ونقيض الشرط أوفق بالجزاء ، كقولك : لو أهنتني لأكرمتك.
    ومنه قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّما فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرة أَقْلام ) (2) الآية.
    وقول النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فيما روي عنه في بنت أبي سلمة : أنّها لو لم تكن ربيبتي في حجري (3) ما حلّت لي ، إنّها لابنة أخي من الرضاعة (4).
    وقول عمر : نعم العبد صهيب لو لم يخف اللّه لم يعصه (5).
    ومن ذلك ذهب بعض النُّحاة إلى أنّها إنّما تدل على امتناع الشرط ولا دلالة لها على امتناع الجزاء ، بل إن كان مساوياً للشرط في العموم لزم انتفاؤه ؛ للزوم انتفاء المسبب من انتفاء سببه المساوي نحو : لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً ، وإن كان أعمّ لم يلزم ؛ لعدم استلزام انتفاء السبب الخاص انتفاء المسبّب
1 ـ الأنبياء : 22.
2 ـ لقمان : 27.
3 ـ من المصدر.
4 ـ الإمام الشافعي : المسند : ص 434 وفيه أيضاً ( بنت أُمّ سلمة ) ، وكتاب الأُم : 5 / 152.
5 ـ محمد بن عبد الله الزركشي : البرهان في علوم القرآن : 365 ، دار إحياء الكتب العربية ـ 1377 هـ القاهرة ، ولسان العرب : 9 / 190.


(222)
العام نحو : لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجوداً.
    وقسم ما بعد « لو » إلى ثلاثة أقسام :
    الأوّل : ما اقتضى العقل أو الشرع انحصار مسببية الثاني في سببيّة الأوّل نحو : ولو شِئنا لرفعناه بهما ، ونحو : لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً ، وهذا يلزم فيه من امتناع الأوّل امتناع الثاني.
    والثاني : ما يوجب العقل أو الشّرع عدم الانحصار المذكور نحو : لو نام لا ينقض وضوؤه ، ونحو : لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجوداً ، وهذا لا يلزم فيه من امتناع الأوّل امتناع الثاني.
    والثالث : ما يجوّز العقل فيه كلاً من الانحصار وعدمه ، نحو : لو جاءني لأكرمته ، وهذا يدلّ على امتناع الثاني دلالة قطعيّة ، ولكن المتبادر منه في العرف والاستعمال ذلك ، و عندي ليس هذا التحقيق والتقسيم بشيء ، فإنّه لا شبهة لمن له أدنى استقراء وتتبّع أنّ المتبادر في جميع هذه الأقسام انتفاء كلّ من الشرط والجزاء ولا يعانده عدم انحصار سبب الجزاء في الشرط ، فإنّ المتكلّم حين يقول : لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجوداً ، فرض أنّه ليس شيء من أسباب الضوء موجوداً ولا مفروض الوجود إلاّ طلوع الشمس ، فإذا انتفى انتفى الضوء البتة ، وكذا إذا قال : لو نام انتقض وضوؤه ، فرض انتفاء جميع نواقض الوضوء حقيقة وفرضاً إلاّ النوم ، فانحصار السبب في جميع الأقسام لازم بادّعاء المتكلّم وإن لم يكن منحصراً في الحقيقة.
    و من الغريب ما ذهب إليه الشلوبين (1) ، و تبعه عليه ابن هشام
1 ـ ترجمه ابن قايماز في سِير أعلام النُّبلاء : 23 / 207 قائلاً : الأُستاذ العلام ، إمام النحو أبو علي عمر بن محمد بن عمر الأزدي الاشبيلي الاندلسي النحوي الملقّب ب‍ « الشلوبين ».
    و ذكره الشيخ عباس القمي في : الكُنى والألقاب : 2 / 368 و ذكر وفاته في إشبيلة سنة 645 هـ.


(223)
الخضراوي (1) من أنّها لا تدلّ على امتناع شيء من الشرط والجزاء ، قال ابن هشام المتأخّر : وهذا الذي قالاه كإنكار الضروريات إذ فهم الامتناع منها كالبديهي ، فإنّ كلّ من سمع لو فعل ، فهم عدم وقوع الفعل ، من غير تردّد ، ولهذا يصحّ في كلّ موضع استعملت فيه أن تعقبه بحرف الاستدراك داخلاً على فعل الشّرط منفياً لفظاً أو معنى ، تقول : ( لو جاءني أكرمته لكنّه لم يجئ ).
    ومنه قوله :
ولَوْ أنّما أسْعَى لأدْنَى مَعِيشَة و لَكِنَّما أسْعَى لِمَجْد مُؤَثَّلِ كفاني ولم أُطْلُبْ قليلٌ (2) مِنَ المالِ وقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمثالي (3)
    وقوله :
فَلَوْ كانَ حَمْدٌ يُخْلِدُ النّاسُ لَمْ يَمُتْ ولكنَّ حَمْدَ النّاسِ لَيْسَ بِمُخْلِدِ (4)
    ومنه قوله تعالى : ( وَلَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلّ نَفس هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَولُ مِنّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ ) (5) أي ولكن لم أشأ ذلك فحقّ القول منّي ، وقوله تعالى : ( وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ ) (6) أي فلم يريكموهم
1 ـ هو محمد بن يحيى المعروف ب‍ « ابن هشام » الخضراوي ( المتوفّى سنة 646 هـ ) ، وله « الاقتراح في تلخيص الإيضاح » في النحو ، وكتاب « غرر الصباح في شرح أبيات الإيضاح » انظر كشف الظنون للخليفة الحاجبي : 1 / 213 وإيضاح المكنون ، لإسماعيل باشا البغدادي عن ذكر كتابيه.
2 ـ إنّما رفع « قليل » لأنّه لم يجعل القليل مطلوباً ، وإنّما المطلوب ، عنده « المُلْكُ » وجعل القليل كافياً ، ولو لم يُرد ذلك ونصبَ فَسَد المعنى. ( كتاب سيبويه : 1 / 79 ).
3 ـ ديوان امرئ القيس : 139 ، في قصيدته التي مطلعها ( ألا عِمْ صباحاً أيّها الطللُ البالي ) يتغزّل ويصف مغامراته وصيده وسعيه إلى المجد.
4 ـ البيت من قصيدة لزهير بن أبي سُلمى ، يمدح بها هَرَم بن سنان. انظر شرح ديوانه : ص 130.
5 ـ السجدة : 13.
6 ـ الأنفال : 43.


(224)
كذلك. وقول الخماسي :
لَو ْ كُنْتُ مِنْ مازِن لَمْ تَسْتَبِحْ إبِلي بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْل بن شَيْبَانا (1)
    ثمّ قال :
لكنَّ قَوْمي وإن كانُوا ذَوِي عَدَد لَيْسُوا مِنَ الشرِّ في شيَء وإن ْهَانا (2)
    إذ المعنى : لكنني لست من مازن (3). بل من قوم ليسوا في شيء من الشر ، وإن هان وإن كانوا ذوي عدد فهذه المواضع ونحوها بمنزلة قوله تعالى : ( وَما كَفَرَ سُلَيْمان ُوَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ) (4) ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ ) (5) ( وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّهَ رَمى ) (6). (7)
    وفي تعليله صحّة الاستدراك داخلاً على فعل الشرط منفياً بفهم عدم
1 و 2 ـ البيتان لرجل من بَلْعَنْبر اسمه قُريط بن أنيف ، هكذا ذكره البياوي في شرحه ، يُعيّر قومه بتخاذلهم عن نصره ، و قد أغارت عليه بنو شيبان و استباحت إبله. شرح شواهد المغني : 1 / 68 الشاهد 17.
3 ـ مازن بطن من بني تميم ، و خصهم بالذكر لأنه أبلغ فيما أراد من انحطاط قومه بني العنبر حيث تثاقلوا عن نصرته واستنقاذ ماله ، إذ هم أقرب نسباً بهم وجواراً ، من أجل أن الحسد والبغضاء أسرع إلى الأقرباء منه إلى البُعداء وكذلك الجيران.
    واستباح الشيء : وجده أو جعله مباحاً واستأصله. وكل ذلك صحيح هاهنا.
    وقال التبريزي في شرح الحماسة : الاستباحة ، قيل : هي الإباحة ، وقيل : الإباحة التي بين الشيء وبين طالبه ، والاستباحة : اتخاذ الشيء مباحاً ، والأصل في الإباحة ، إظهار الشيء للناظر ليتناوله متى شاء ، ومنه : باح بسرّه.
    ونسبوا اللقيطة نسبهم إلى أُمّهم ، و هنا أراد أنها نبذت فلقطت ، فليس لها أصل يعرف. ( منه ).
4 ـ البقرة : 102.
5 و 6 ـ الأنفال : 17.
7 ـ مغني اللبيب : 1 / 256 ـ 257.


(225)
الشرط ، غرابة ، فإنّه على عدم فهمه أدلّ منه على فهمه ، فإنّ الأصل في الكلام التأسيس وعلى العدم يكون تأسيساً وعلى الفهم تأكيداً.
    ثمّ إنّ من المعلوم أنّ هذا الاستدراك جار في أن تقول : إن كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً ، لكن الشمس ليست طالعة ، بل الأولى أن تقول : ولهذا لا يصحّ الاستدراك داخلاً على فعل الشّرط كما يجوز ذلك في « إن » فإنّه يدل على أنّ الشرط لا يحتمل الثبوت كما يحتمله مع « ان » فيكون الاستدراك بذلك مناقضاً له ، ثمّ جعلها بمنزلة نحو : ( وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ) وما بعده أغرب ، لأنّها كلّها استثناء للإثبات من النفي ، والمطلوب استثناء النفي من النفي ، وإن قال إنّ الإثبات فيها بمعنى نفي المنفى سابقاً ، حتى إنّ قوله : ( لكِنَّ الشَّياطينَ كَفَرُوا ) بمعنى : لكن ما كفر سليمان ، وكذا ما بعده كان عليه منع ظاهر.
    نعم نسلّم الاستلزام فيما بعده لا فيه ، لأنّ كفر الشياطين لا ينافي كفر سليمان ، وما الداعي إلى جعل هذه الجمل بذلك المعنى مع أنّ عليه يلزم أن تكون تأكيدات والتأسيس راجح.
    فإن أجاب عن الاعتراض الأوّل : بأنّ هذا الاستدراك يدلّ على أنّ المتكلّم يعلم انتفاء الشرط ، فلا يكون لو كان.
    وأمّا الاستدراك بعد « ان » فليس على وفق وضعها وحقيقتها فإنّها موضوعة لما يكون المتكلّم شاكّاً في وقوعه ولا وقوعه ، ولا يصحّ استدراكه للإيجاب ولا للنفي ، فإن وقع شيء من ذلك لم تكن « ان » على حقيقتها.
    قلنا : غاية ذلك أن لا تكون « لو » مختصّة بمقام الشكّ ، وأن يكون إذا تعقبها الاستدراك كانت فيما يمنع الشرط ، ولا يلزم اختصاصها بذلك لجواز أن تكون مشتركة بين المقامين.
    وغاية ما يقال في الجواب : أنّه إنّما ذكره تأييداً وتنبيهاً على البديهي ومثله في
اللآلئ العبقرية في شرح العقينيّة الحميرية ::: فهرس