اللآلئ العبقرية في شرح العينيّة الحميرية ::: 196 ـ 210
(196)
و : قاموا ما خلاني ، وما عداني ، وحاشاني ، أو باسم فعل نحو : دراكني وتراكني وعليكني ، أوبحرف نحو : انّني وكأنّني ولكنّني.
    أو مجرورة بالحرف نحو : منّي وعنّي ، وبالاسم نحو : لدنّي وقدني إذا كان اسماً بمعنى حسب.
    « الياء » هنا : ضمير للمتكلّم وحده.
    واختلف في أصله أنّه الفتح أو السكون ؟
    فقيل بالأوّل لأنّ الواضع إنّما ينظر إلى الكلمة حال إفرادها ، فكلّ كلمة على حرف واحد لزم أن يكون وضعها على الحركة لامتناع الابتداء بالساكن.
    ثمّ الأصل في حركتها الفتحة ، لأنّ الحرف الواحد لا سيما حرف العلّة ضعيف لا يحتمل حركة ثقيلة.
    وقيل بالثاني لأنّ الأصل عدم الحركة وكون نظر الواضع إلى الكلمة حال إفرادها مطلقاً في محل المنع ، إذ من البيّن أنّه نظر في المظمرات إلى حال تركّبها ، ولذا وضعها مرفوعة ومنصوبة ، ومجرورة والإعراب لا يكون إلاّ حالة التركيب ، ولو لم ينظر في شيء من الكلمات إلى حال تركّبها فلِمَ فرّق بين ما لا تستعمل إلاّ مركّبة وما تستعمل مفردة فأطرد وضع القبيل الثاني على أزيد من حرفين دون الأوّل ، بل كان ينبغي كما أنّه وضع القسم الأوّل على حرف ك‍ « الياء » و « الكاف » ونحوهما وعلى حرفين ك‍ « ما » و « من » وضع القسم الثاني أيضاً كذلك.
    هذا ولا خلاف في أنّها جاءت في الاستعمال ساكنة ومتحركة وأنّه يلزم تحريكها إذا اجتمعت مع ساكن نحو : عصاي ، وإنّها إذا لم تجتمع مع ساكن كان الإسكان أكثر لعدم الافتقار إلى الحركة من كونها حرف علّة يثقل عليها التحريك ، وقد جاء إسكانها مع كون ما قبلها ألفاً في قراءة نافع : ( مَحْيايَ وَمَماتي ) (1) ، فإمّا
1 ـ الأنعام : 162.

(197)
لإجراء الوصل مجرى الوقف ، أو لأنّ الألف لما كان أكثر مَدّاً من أخويه قام مقام الحركة ؛ ثمّ إنّها إذا تحرّكت فبالفتح إلاّ في لغة بني يربوع فإنّهم يكسرونها إذا كانت قبلها ياء نحو « في » تشبيهاً لها بالهاء في نحو : « فيه » و « لديه » وعليها قراءة حمزة والأعمش ويحيى بن ثابت ( ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ) (1) وأقرّهُم عليه الفرّاء وأبو عمرو بن العلاء وقطرب ، وردّه غيرهم ولحقهم طائفة منهم.
    « من » حرف جرّ : إمّا للبيان ، أو للتعليل ، أو للتبعيض ، أو زائدة.
    « الحبّ » ـ بالضم والكسر ـ والمحبّة ، و الحباب ـ بالضم والكسر ـ إرادة ما يراه المحبّ خيراً ، أُضيف إلى المعنى ، وإرادة صحبة الشيء أو وجوده إن أُضيف إلى العين لكن الإرادة في الموضعين شديدة ، أو هو كيفيّة أُخرى للنفس فائقة على الإرادة واصلة على ما قيل من حبّه القلب ، لأنّ شهوة المحبوب تخلص إلى حبّة القلب فيقال : حبّيت فلاناً ، بمعنى أصبت حبة قلبه ، كما يقال : شغفته وكبدته و فادته ، وقيل في قوله تعالى : ( حبّب إليكم الايمان ) (2) المعنى أوصله إلى حبّة القلب.
    « أروى » اسم امرأة ، والاروى إمّا جمع أو اسم أجمع للأروية للأُنثى من الوعول للأكثر من العشر ، يقال : ثلاث أراوى ـعلى أفاعيل ـ إلى عشر ، فإذا تعدّتها قيل : الأروى.
    « الكبد » ككتف في وجوهه الثلاثة من فتح الأوّل فكسر الثاني ، أو سكونه وكسر الأوّل فسكون الثاني : العضو المعروف ، وهي مؤنّثة ، وقد تذكّر ، وكبد الشيء معظمه ووسطه ، وأصلهما من المعنى الأوّل.
    لذعته النار لذعاً : أحرقته.
1 ـ إبراهيم : 22.
2 ـ الحجرات : 8.


(198)
    الإعراب :
    « لمّا » إن كان ظرفاً كان مضافاً إلى الجملة الأُولى متعلّقاً بالثانية أي ذكرت ، وإلاّ كان حرف تعليق. والجملتان شرط وجزاء. والمجموع على التقديرين مستأنفة صفة أُخرى لدار. والمصراع الثاني حال عن فاعل « وقفت » لأنّ الألف واللام في العين بمنزلة العائد ولا يعود إلاّ على المتكلّم. والأقوى في الجملة الاسمية أن يكون بالواو والعائد جميعاً ، ولأنّها إنّما تبيّن هيئة الفاعل حين الوقف لا هيئة المفعول.
    ويجوز على بعد أن يكون حالاً عن المفعول فيكون خالياً عن العائد ، نحو : جاء زيد والشمس طالعة ، ومثله جائز واقع. وقد استشكلوه لما أنّها لا تنحل إلى مفرد ولا تبيّن هيئة فاعل أو مفعول ، ولا هي مؤكّدة. فأوّلها ابن جنّي بتقدير العائد فيقدّر في المثال والشمس طالعة عند مجيئه ، فيكون كالنعت أو الحال السببيّين نحو : مررت برجل قائم غلمانه ، ومررت بالدار قائماً سكّانها.
    وقال ابن عمرون : إنّها مؤوّلة بنحو : « مبكرا ». وقال الزمخشري : إنّها من الأحوال التي حكمها حكم الظرف ، فلذلك عريت عن ضمير ذي الحال. وذهب المطرزي (1) إلى أنّها مفعول معه.
    ففي البيت إذا جعلنا المصراع الثاني حالاً عن العيس ؛ إمّا أن يؤوّل بتقدير العائد أي : وعيني فوقها من عرفانه تدمع.
1 ـ ذكره الكلباسي في « سماء المقال في علم الرجال 2 / 395 » قائلاً : هو ناصر بن عبدالسيد بن علي المطرزي الخوارزمي الحنفي ( توفى سنة 610 هـ ) له كتاب « المغرب في ترتيب المعرب » اختصر من كتاب المعرب ، تكلم فيه عن الألفاظ التي يستعملها فقهاء الحنفيّة من الغريب ، وراجع معجم المطبوعات العربية والمعربة : 2 / 1760.
وذكره السيد بحر العلوم في الفوائد الرجاليّة وذكر ولادته سنة 538 هـ ووفاته سنة 616 هـ.


(199)
    أو يؤوّل إلى مفرد نحو : متكياً عليها أو فوفها ، أو يقال فيه مقال الزمخشري ، وعلى قول المطرزي يكون مفعولاً معه.
    ويحتمل أن يقال على جعله حالاً عن العيس : إنّ المراد بالعين عين العيس فيكون من الإغراق الشائع بين الشعر ، أو المبالغة البليغة وحينئذ لا إشكال.
    ثمّ إنّ من النّحاة من أوجب في الحال عن الفاعل التقديم على المفعول إن لم تكن قرينة تدل على ذلك ، فعلى رأيه لا يكون هذا الحال إلاّ عن المفعول إلاّ أن يكتفي في القرينة بما ذكر من جهتي الرجحان ، وهنا احتمال آخر ؛ وهو أن يكون حالاً عن مجموع الفاعل والمفعول خصوصاً إذا كان المراد بالعين عينه وعيون العيس جميعاً ، فإنّه حينئذ في قوة أن يقال : وعيني تدمع وعينها تدمع.
    « العين » : مبتدأ خبره « تدمع » والظرف أعني « من عرفانه » متعلّق ب‍ « تدمع » والضمير فيه عائد على رسمها ، والإضافة فيه إلى المفعول ذكرت جواب « لمّا ».
    « من » موصولة أو موصوفة مفعول له ، والجملة بعده صلة أو صفة.
    « قد » إمّا للتحقيق ، أو للتكثير ، أو للتقريب إلى الحال استحضاراً للحال الماضية تلذّذاً أو تنزيلاً لحضورها في الذهن منزلة حضورها في الخارج.
    « كنت » : فعل ناقص مع اسمه ، والإتيان به إمّا للتصريح بالمضي فإنّ « قد » لما كان يقرب الفعل الماضي إلى الحال ، فلو كان فعلاً آخر غير لفظ « كان » كاد أن يتوهّم منه إرادة الحال حقيقة فجيئ بلفظ « كان » لبعده عن هذه الإرادة ، لأنّه لتمحّضه للمضي يتوصل به لإفادة النص عليه فيما لولاه لكان احتمال لعدم إرادته ، ولإفادة المضي في المضارع وأتى به ليدل على أنّ التقريب إلى الحال المفهوم من « قد » ليس حقيقيّاً ، بل إنّما المراد استحضار الصورة الماضية ، أو أنّه أراد الاستمرار في الزمان الماضي فأتى ب‍ « كان » الذي كثيراً ما يجيئ بذلك المعنى حتى توهّم بعضهم أنّ ذلك معناه كما تقدّم ، وأردفه بالمضارع الدالّ على الاستمرار


(200)
التجدّدي فأفاد أنّه كان لا يزال يلهو به.
    « ألهو » : جملة فعليّة خبر « لكان » والظّرف متعلّق بها.
    « الفاء » إمّا للعطف مع السببيّة ، أو للسببيّة المجرّدة. وعلى التقديرين فالمقصود من السبب بالذات هو القيد أي الجملة الحالية ، فإنّ الذكر إنّما هو سبب للشج والإيجاع لا البيتوتة. أو يقدر ظرف ، أي فبتّ هناك أو فيه ، فيصحّ أن يكون المقيّد نفسه أيضاً مقصوداً في السّبب ، أي لما ذكرت من كنت ألهو به ، وإنّ الدار داره بت هناك.
    وأمّا الفاء لمجرّد العطف ، فالمقصود أيضاً كلّ من المقيّد والقيد.
    وأمّا التعقيب المفهوم منها على هذا التقدير والتقدير الأوّل ؛ فباعتبار حدوث الذكر لأنّه في الاستدامة مجامع للبيتوتة.
    وأمّا « الفاء » بمعنى الواو وحينئذ فيعتبر وجود الذّكر حدوثاً واستدامة لئلاّ تكون البيوتة عقيبه.
    « بات » إمّا تامّة وهو الظاهر ، وإمّا ناقصة.
    فعلى الأوّل يكون الضمير فاعله والواو للحال والجملة الاسمية حالاً عنه.
    وعلى الثاني يكون الضمير اسمه والواو زائدة والجملة خبره ، أي : شجى القلب موجعة ، أو خبره البيت الذي بعده.
    « القلب شج » اسمية.
    « موجع » خبر بعد خبر ، أو صفة ل‍ « شج ».
    ثمّ لفظ « شج » لما جاز أن يكتب بلاياء وأن يكتب بالياء كقاضي ، اختلفت النسخ في رقمه فجاز أن يكون مراد الناظم رحمه اللّه شجى كعمى مصدراً لا صفة ، وحينئذ يكون موجع هو الخبر ، وشجى مفعولاً له (1) أي موجع للشجى ، وأن يكون
1 ـ في الأصل : « له له » ، تظهر إحداهما زائدة.

(201)
حالاً بمعنى اسم الفاعل ، أو للمبالغة.
    « كان » اسمه « كبدي » وخبره « تلذع » ، والظرف الأوّل أعني « بالنّار » متعلّق بتلذع ، أي : كان كبدي تلذع بالنار.
    ويحتمل أن يكون « بالنار » خبره ، و « كبدي » اسمه ، والباء بمعنى « في » و « تلذع » حالاً عن الاسم أو خبراً بعد خبر ، والظرف الثاني أعني « لما » على التقديرين متعلّق بما يفهم من « كأنّ » من معنى المشابهة.
    وقد اختلف في تعلّق الظرف بأحرف المعاني ، فالمشهور منعه مطلقاً ، وقيل بجوازه مطلقاً ، وقيل : إن كان نائباً عن فعل حذف جاز على سبيل النيابة وإلاّ فلا ، وهو الذي اختاره أبو علي وأبو الفتح وقالا : إنّ اللاّم في « يا لزيد » متعلّقة ب‍ « يا ».
    والمجوزون مطلقاً قالوا في قول كعب :
وما سُعادُ غَداةَ البَينِ إذ رَحَلُوا إلاّ أغَنُّ غَضيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ (1)
    إنّ الظّرف أعني « إذ » متعلّق ب‍ « ما » النافية.
    وقال ابن الحاجب : إنّ « اليوم » في قوله : ( وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ ) (2) إمّا متعلّق بالنفع المنفي ، أو بلن ، لما فيه من معنى انتفى.
    وقال في قوله تعالى : ( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون ) (3) : إنّ « الباء » الأُولى متعلّقة بالنفي.
1 ـ البيت لكعب بن زهير بن أبي سلمى المزني ، من قصيدته المعروفة ب‍ « قصيدة البردة » التي يمدح بها النبي محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والتي مطلعها :
بانت سُعادُ فقلبي اليوم متبولُ متيم إثرها لم يُفْدَ مَكْبُولُ
2 ـ الزخرف : 39.
3 ـ القلم : 2.


(202)
    وممّا يدلّ على جواز التعلّق بحرف المعنى خصوصاً :
كَأَنَّ قُلُوب َالطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً لَدَى وَكْرَها العُنّابُ والحَشَفُ البالي (1)
    فإنّ « كأنّ » هنا قد عمل في الحال والظرف جميعاً وإذا عمل في الحال فبالطريق الأولى يجوز عمله في الظرف.
    وأمّا المانعون من التعلّق بالحرف فيقدّرون في أمثال ما ذكر فعلاً مناسباً لمعنى ذلك الحرف يتعلّق به الظرف ، فعلى قولهم يكون الظرف هنا متعلّقاً بأشبه أو شبهت مقدّراً.
    و « ما » إمّا موصولة اسمية أو موصوفة.
    و « شَفَّنِي » صلة أو صفة.
    و « من » في « من حب أروى » : للبيان أو التبعيض ، والظرف مستقر حال عن الضمير في « شفّ » أو عن « ما » أو صفة أُخرى ل‍ « ما » ، وإمّا موصولة حرفية و « من » زائدة ، فيكون مجرورها فاعل « شفّ ».
    أو للتبعيض ، ويجوز جعلها مع مجرورها فاعلاً لكونها بمنزلة « بعض » كما وقع مفعولاً في قوله تعالى : ( حتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّون ) (2) ، أو تقدّر له موصوفاً أي شيء من حبّ أروى كما تقدّر في الآية مثل ذلك.
    ومجموع البيت إمّا مستأنف أو خبر « ليت » كما عرفت ، أو خبر آخر له إن كان « والقلب شج موجع » خبراً له ، أو حال أُخرى إن كان ذلك حالاً.
1 ـ من قصيدة لامرئ القيس بن حجر الكندي مطلعها : « الاعم صباحاً ايها الطلل البالي » ( ديوانه : ص 33 ).
2 ـ آل عمران : 92.


(203)
    المعنى :
    لمّا جعلت إبلي البيض التي يخالط بياضها شقرة واقعة في رسم تلك الدار أو في جنب رسمها ، والحال أنّ عيني ، أو عين العيس ، أو عيني وعينها جميعاً ، تدمع لعرفان ذلك الرسم ، أخطرت ببالي ، الذي ـ أو شخصاً ـ كنت ألعب أو أشتغل به عن غيره ، أو ألعب بسببه أو استعانته ، أي كان لي بسببه ، سرور و فرح ونشاط حتى كنت ألعب معه وبعد أن تذكّرته وبسببه ، أو بسببه ، أو بعد أن تذكّرته بتُّ أو وبتُّ والحال أنّ قلبي حزين مؤلم ، أو أنّ قلبي من الحزن مؤلم ، أو حال كونه حزيناً مؤلم ، أو صرت حزين القلب مؤلم ، أو مؤلم القلب من الحزن ، أو مؤلم القلب حال كونه حزيناً في الليل بتمامه كأنّ كبدي يحرق في النار ، أو كأنَّ كبدي في النار ويحرق ، أو حال كونها تحرق ، أو صرت والحال أنّ قلبي كذا كان كبدي كذا ، أو صرت قلبي كذا كأنّ كبدي كذا.
    أوبتّ والحال أنّ قلبي كذا والحال أنّ كبدي كذا وإنّما صار كبدي كأنّه كذا للّذي أو لشيء أذابني أو أحرقني كائناً أو كائن ذلك حب أروى ، أي الحبيبة التي اسمها « أروى ».
    أو جماعة من إناث الوعول أي النساء اللاتي يشبهن الوعول في العيون أو في التوحّش أو في عسر الوصول إليها ، لأنّ الوعول في الغالب في قلل الجبال الوعرة المسالك أو يشبهنها في الجميع ، أو كائناً أو كائن ذلك بعض حب أروى.
    أو لأنّه شفّني حبّ أروى أو بعض منه ، للذي أو لشيء أحزنني وأذابني من أجل حبّ أروى ، وذلك الشيء هو الفراق أو الحزن.
    هذا وإن كان أراد بالدار الرئاسة والخلافة ، فمراده توقّف العيس في رسمها ، وعرفانه الاهتداء إليها والاطّلاع على علاماتها والاستدلال بها عليها ، أو


(204)
الإيمان بها لمن هو أهله والإقامة على ذلك ، ومعرفة أربابها على أن يكون وقف العيس مجازاً على الإقامة ، كحط الرحل وإلقاء العصا والإقامة مجازاً عن الإيمان الثّابت بأهلها.
    ويحتمل أن يريد بالعيس مطايا العزم وإثبات المطايا للعزم كإثبات اليد للشمال في قوله : « إذْ أصْبَحَتْ بِيَدِ الشِّمالِ زِمامُها » (1) ، و تخصيص العيس لكونها كرام المطايا.
    ويحتمل أن يريد بها نفسه وقواه وجوارحه وكنّى به عن أنّ الإيمان قد انثبت في جميع ذلك وشبّهها بالمطايا لأنّها محامل الأفعال والأخلاق ، وخصّ العيس تنبيهاً على تبرّئها عن شوب مواد الكفر و النفاق والشكّ والارتياب ، ولما تضمّن لفظ العيس مخالطة الشقرة تضمّن التنبيه على أنّها لارتكابها المعاصي ليست خالصة البياض بل فيها كدرة ، ثمّ في التعبير عن إيمانه بالجملة الفعلية المقرونة ب‍ « لما » إيماء إلى أنّه تجدّد إيمانه بعد أن لم يكن.
    والأمر كذلك لما عرفت من أنّه كان كيسانياً وحيئنذ فيحتمل أن يكون بكاؤه على زلّته السابقة ومضى ما مضى من عمره في عدم الإيمان ، أي والعين لما عرفت الحق تدمع تأسّفاً وتحسّراً على ما فاته من معرفته فيما مضى.
    ومراده بمن كان يلهو به : إمّا أئمّة الحقّ إن كان المراد أنّه كان يشتغل به عن غيره أو يسرّ ويبتهج بسببه أو استعانته أو في صحبته.
    وإمّا أئمّة الكيسانية ورؤساؤهم ، أو محمد ابن الحنفيّة رضي اللّه عنه إن كان المراد أحد تلك المعاني ، أو أنّه كان يلعب به فإنّ اعتقاد الإمامة بغير أئمّة الهدى
1 ـ عجزُ بيت ، للبيد بن أبي ربيعة ، أحد أصحاب المعلقات ، والبيت بكامله :
وغداة ريح قد وزعت وقرة إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
    كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي : 8 / 101 ، عن ديوانه : 315.


(205)
صلوات عليهم ـ وإن كان محمد ابن الحنفيّة وأضرابه ـ فهو مثل اللّعب.
    وحينئذ فحزنه على الأوّل لفقد من كان يلهو به.
    وعلى الثاني لارتكابه ذلك الأمر ومضى شطر من عمره على ذلك الدِّين.
    ومراده ب‍ « أروى » : من كان يحبّه من أئمّة الدِّين و رؤسائه لأنّهم عنده بمنزلة أروى عند عشاقها.
    ولا بُعد في التعبير بها عن الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أيضاً كما عرفت في « أُمّ عمرو » إذ لم يلاحظ المعنى العلمي ولا الوضعي وإنّما الوصف الذي اشتهر به المسمّى من المعشوقية كما يقال : حاتم ، ولا يلاحظ إلاّ معنى الجود.
    ويحتمل أن يكون مراده بها الرئاسة ؛ والتعبير بها لكونها معشوقة لأهل الدُّنيا ، ولكونها حسنة المنظر كالأروى ، ولتوحّشها عن الأكثر وعسر الوصول إليها ، ولرفعتها في الرتبة.
    ومراده بحبّها حبّها لأهلها الذين هم الأئمة صلوات اللّه عليهم ، أو ما كان عليه أوّلاً من حبّها لغير أهلها.
    فعلى الأوّل كان كبده يحرق بالنار لما يراها عند غير أهلها من أئمّة الجور.
    وعلى الثاني كان كبده يحرق بالنار تأسّفاً على ما مضى شطر من عمره على حبّها لغير أهلها.
    المعاني :
    فيه مسائل :
    الأُولى : في الإتيان ب‍ « لمّا » دلالة على عدم انفصال ذكر من كان يلهو به عن الوقف.
    فإنّها إمّا حرف وجود لوجود فيدلّ على أنّ الأوّل علّته الثّاني والمعلول


(206)
ينفكّ عن علّته.
    وإمّا ظرف فيدلّ على أنّ الثاني موجود في زمان الأوّل فهو أصرح في عدم التراخي من الأوّل.
    الثانية : الإتيان بالجملة فعلية للدلالة على التجدد والمضي ولمقارنة « لمّا » فإنّها لا تدخل إلاّ على الماضي.
    الثالثة : إيقاع الوقوف على العيس والعدول عن نسبته إلى نفسه إن كان المراد به الإيمان أدلّ على ثبوت إيمانه ، فإنّه كإلقاء الرحل أدلّ على الإقامة كما لا يخفى ، وأمّا على باقي المعاني فلابدّ من ذلك لتوقّف إفادة المراد عليه.
    الرابعة : تعريف العيس لترتبه الفائدة ، و لأنّ الكناية به عن الإقامة والثبات إنّما هي معه ، لأنّ المتعارف في إفادة ذلك المعنى حطّ رحله فكذا مثله وقف عيس لا وقف عيسا.
    الخامسة : في العدول عن تعريف العين بالإضافة إلى تعريفها باللاّم التوجيه والإبهام ، لإيهام أنّ مطلق العين أي ماهيتها أو كلّ عين تدمع ، والتحقير لنفسه بعدم ذكره.
    السادسة : في إفراد العين التوجيه ، لأنّه لو لم يفرد فإمّا أن كان يثنّيها فيخص نفسه ، أو يجمعها فيعمّ البتة. والدلالة على كثرة البكاء واتّصال الدموع واتّحادها حتى كأنّها من عين واحدة والإبهام لإيهام أنّ ماهية العين تدمع.
    السابعة : تقديم الظرف أعني « من عرفانه » على الفعل لرعاية الوزن والقافية وإفادة الحصر وتقريب الضمير من مرجعه.
    الثامنة : الإتيان بهذه الحالة جملة ، لكونها الأصل فيها ، وللتّوجيه وللدلالة


(207)
على الاستمرار التجددي و للإبهام في العين إذ لو أفرد لقال : دامع العين أو دامعة عيني أو عيننا أو عينها ، وعلى كلّ لا يكون العين مبهم.
    التاسعة : في التعبير عمّن كان يلهو به بلفظ « من » للإبهام ـ للتعظيم أو للتحقير ـ إن أراد به رؤساء الكيسانية ، أو الدلالة على أنّه لمعلوميته لا يحتاج إلى البيان ، أو الاستعفاف عن ذكره إن كان امرأة ، وللاختصار وللتوجيه لتردّد « من » بين الموصولة والموصوفة.
    العاشرة : التعبير عن لهوه به بالمضارع مع توسيط كنت الدالّة على الماضي للدلالة على الاستمرار في الزمن الماضي.
    الحادية عشرة : في الإتيان ب‍ « قد » من الفوائد ما عرفت.
    الثانية عشرة : إبهام القلب للتحقير ، والإبهام المذكور في إبهام العين.
    الثالثة عشرة : جملية هذه الحال لكونها الأصل هنا ، ولرعاية القافية ، وليكون صريحاً في الحالية إن لم يجوّز زيادة الواو ، فإنّه لو أفردها كان محتملاً للخبرية ، وإن جوّزنا زيادة الواو فلتكون الحالية أظهر ، وللإبهام في القلب إذ لو قال شجى القلب أو شجياً قلبي ، لم يبق إبهام.
    الرابعة عشرة : اسميتها للدلالة على الثبات.
    الخامسة عشرة : تأخير هذه الصّفة للدار إن كان جملة ل‍ « ما » وجمليتها صفة لطولها بالنسبة إلى الأوّل لا سيّما إذا كان البيت الأخير خبراً ل‍ « بيت » أو حالاً أُخرى لفاعله ، ولأنّ الأولى وصف لها باعتبار نفسها ، والثانية وصف لها باعتبار ملابسته بينها وبين وردها.
    السّادسة عشرة : تقديم « بالنّار » على متعلّقه للقافية والوزن والتوجيه والحصر


(208)
والتعجيب ، وتقديمه على اسم كان ـ إن كان خبراً له ـ للحصر والتعجيب ، وإلاّ فللتعجيب ، وتقديمه على الظرف الثاني أعني : لما شفّني للتعجيب ، وأمّا « لما شفَّني » فمحلّه إمّا قبل ذكر شيء ممّا في حيز « كأنّ » أو بعد تمام الكلّ ، فإنّه كما عرفت متعلّق إمّا ب‍ « كأنّ » أو بما يفهم منه من الفعل.
    السابعة عشرة : جعل المجرور في « لمّا شفّني » موصولاً للإبهام إمّا مقروناً بالإيضاح بعده إن كان « من » في « من حبّ أروى » بيانيّة ، أو تبعيضيّة ، أو لا إن كانت تعليلية للتعظيم والدلالة ، على أنّه من العظم بحيث لا يكتنه كقوله تعالى : ( فَغَشِيَهُمْ مِنَ اليَمِّ ما غَشِيَهُمْ ) (1) إن لم يكن ما بعده إيضاحاً ، وإلاّ فالتعظيم من جهة أنّه للاهتمام بشأنه أورده مرّتين : مبهماً مرّة ، وموضّحاً أُخرى ليتمكّن في ذهن السامع فضل تمكّن من جهتين : إحداهما ذكره مرّتين ، والأُخرى وقوع إيضاحه بعد التشوّق إليه. ولذكره مرّتين وجه آخر وهو الالتذاذ بذكره.
    الثامنة عشرة : في الإتيان ب‍ « من » التبعيضيّة في « من حبّ أروى » إن كانت تبعيضيّة ، إشارة إلى أنّ ما أصاب ، حصة من حبّها فإنّ المحبّ لها ليس منحصراً فيه. وأمّا إن كانت زائدة ففائدتها التأكيد.
    البيان :
    إن لم يحمل وقف العيس على حقيقته كان إمّا تمثيلاً ، أو كان العيس استعارة مصرّحة والوقف ترشيحاً لها.
    وإن أراد بمن كان يلهو به رؤساء الكيسانية كان « ألهو » استعارة تبعته ، فإنّه شبّه أتباعهم باللّعب بهم. والاستعارة في الفعل تسمّى تبعيّة لأنّها تابعة للاستعارة
1 ـ طه : 78.

(209)
في الحدث ، وأروى إن لم يكن علماً كان استعارة.
    وإسناد « شف » إلى ضمير الموصول مجازي سواء أُريد بالشف الإذابة أو الاحزان فإنّ الحبّ إنّما هو سبب للحزن الذي هو سبب التحول ، وهو من الأحكام المجازية التي ذهب الشيخ الإمام عبد القاهر إلى أنّه لا حقيقة لها ، نحو : اقدمني بلدك حق لي على فلان ، لأنّ الموجود إنّما هو القدوم ، وأمّا الإقدام فهو أمر توهّم المتكلّم فلا فاعل حقيقيّاً له ، لأنّه بنفسه لا حقيقة له ليكون له فاعل حقيقة. ويمكن أن لا يكون من ذلك القبيل ويكون الحقيقة فيه شفّني اللّه لحبّ أروى.
    البيت الأخير تشبيه إمّا للنحول والذوبان الذي حصل له بالحزن للحب بالذوبان بالنار ، أو للوجع و الألم الحاصل بالحزن للحبّ بالوجع للاحتراق بالنار ، فالأوّل إن كان المراد بالشف الإذابة ، والثاني إن كان المراد به الأحزان. ووجه الشبه هو الشدّة. ويحتمل على الأوّل أن يكون السرعة وأن يكون الإيجاع والإيلام.
    لمّا فرغ من ذكر الحبيب والدار والمنزل ، والتأسّف على إقفار المنزل ، وبيان ما طراه ، للتذكّر من الحزن والتوجّع شرع في المقصود واقتضبه اقتضاباً كما هو دأب القدماء. فقال :


(210)
عجبتُ مِن قوم أتَوا أحمدا بخطبــة ليس لهَا موضِـعُ
    اللّغة :
    « العجب » بالفتح وبفتحتين ، والتعجّب : انفعال للنّفس من إدراك الأشياء النادرة الخفيّة الأسباب ، أو كيفيّة تابعة لذلك الانفعال ، وفي القاموس أنّه إنكار ما يرد عليك.
    ثمّ لمّا كان المتعجّب منه ممّا يعظم في نفس المتعجّب ورد في الخبر : عجب ربّك من قوم يساقون إلى الجنة في السلاسل (1) ، أي عظم عنده ، وفيه أيضاً : عجب ربّك من شاب ليست له صبوة. (2)
    « من » للابتداء ، أي ابتداء عجبي ، ونشأ من قوم.
    « القوم » ، اختلف فيه أهل اللغة فقيل : هو الجماعة من الرجال والنساء أو منهما.
    وقيل : بل هو الجماعة من الرجال خاصّة ، وهو المتصوّر ، لقوله تعالى : ( لا يَسْخَرْقَومٌ مِنْ قَوْم ... وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساء ) (3) و لقوله :
1 و 2 ـ ابن الأثير : النهاية في غريب الحديث : 3 / 183.
3 ـ الحجرات : 11 ، والآية : ( ... لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوم عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساء ... ).
اللآلئ العبقرية في شرح العقينيّة الحميرية ::: فهرس