اللآلئ العبقرية في شرح العينيّة الحميرية ::: 181 ـ 195
(181)
    ومنها : الموصوفة إمّا بمفرد نحو : مررت بمن معجب لك ، وقوله :
فَكَفَى بِنا فَضْلاً على مَن غَيْرِنا حُـبُّ النبـيّ محمّد إيّانـا (1)
    على رواية جرّ « غيرنا » ، ويُروى بالرفع فيكون خبراً ل‍ « هو » مقدّراً ، و « من » حينئذ يحتمل الموصولية والموصوفية جميعاً ، وزعم الكسائي أنّها لا تكون موصوفة إلاّ فيما يخصّ النكرات ، والاحتمالان جاريان في قول الفرزدق :
إنّي وإيّاك إن بَلَّغْنَ أرحُلَنا كَمَن بَواديه بَعَدَ المحل ممطُورِ (2)
    أي كالذي أو كشخص ممطور بواديه بعد المحل ، ويجريان هنا أيضاً ، إلاّ على رأي من رأى أنّها لا تكون موصوفة إلاّ فيما يخصّ النكرات. وخرج البيتين على زيادة وهي غير مسموعة.
    « قد » على وجهين : اسم وحرف.
    والاسم على وجهين : اسم فعل ، وبمعنى حسب.
    والحرف مختص بالفعل المتصرّف الخبري المثبت المجرّد من جازم وناصب وحرف تنفيس وله معاني :
    منها : التحقيق ، نحو : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها ) (3) ونحو : ( وَلَقَد
1 ـ البيت لكعب بن مالك الصحابي ، وقيل لحسان بن ثابت ، وقيل لبشير بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك. ( شرح شواهد المغني : 1 / 337 ، الشاهد : 153. ولم نعثر عليه في ديوان حسان.
2 ـ ديوان الفرزدق : 1 / 237 رقم 182 وفي الأصل : « إذ دخلت بأرحلنا ». والبيت من جملة أبيات فيها يمدح يزيد بن عبد الملك ويهجو يزيد بن المهلّب ( البحر البسيط ).
3 ـ الشمس : 9.


(182)
عَلِمْتُمُ الّذينَ اعتَدَوا مِنْكُم فِي السَّبْتِ ) (1).
    ومنها التكثير قاله سيبويه في قول الهذلي.
قَدْ أترُكُ القِرْنَ مُصْفَرّاً أنامِلُه كأنَّ أثوابَهُ مجّتْْ بِفرْصادِ (2)
    وقاله صاحب الكشّاف في قوله تعالى : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ). (3)
    وهذا معنى مجازي له كما يتحور عنه بربّ وربّما.
    ومنها : تقريب الماضي إلى الحال ، نحو : قد قام زيدٌ ، أو : كان قيامه عن قريب.
    وقال نجم الأئمة رحمه اللّه : هذه الحرف إذا دخلت على الماضي أو المضارع فلابدّ فيها من معنى التحقيق ، ثمّ إنّه ينضاف في بعض المواضع إلى هذا المعنى في الماضي : التقريب من الحال مع التوقّع ، أي يكون مصدره متوقّعاً لمن تخاطبه واقعاً عن قريب ، كما تقول لمن يتوقّع ركوب الأمير : قد ركب ... ، أي حصل عن قريب ما كنت تتوقّعه ، ومنه قول المؤذّن : قد قامت الصّلاة.
    ففيه إذن ثلاثة معان مجتمعة : التحقيق والتوقّع والتقريب.
    وقد يكون مع التحقيق : التقريب فقط ، ويجوز أن تقول : قد ركب لمن لم يكن يتوقّع ركوبه. قال : ويدخل على المضارع المجرّد من ناصب وجازم وحرف تنفيس ، فينضاف إلى التحقيق في الأغلب التقليل ، نحو : إنّه الكَذوبَ قد يصدق ،
1 ـ البقرة : 65.
2 ـ البيت لشماس الهذلي ، كما ذكر الشنتمري. ويحتمل الصحيح ان البيت لعبيد بن الأبرص في ديوانه / 71. وكما جاء ايضاً عن الرضي الاسترابادي في شرح الكافية : 4 / 445.
3 ـ البقرة : 144.


(183)
أي بالحقيقة يصدر منه الصّدق ، وإن كان قليلاً.
    وقد يستعمل للتحقيق مجرّداً عن معنى التقليل نحو : ( قَدْنَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماء ) (1).
    ويستعمل أيضاً للتكثير في موضع التمدّح (2).
    وأنكر أبو حيّان في « الارتشاف » إفادتها التقليل ، وابن هشام في المغني إفادتها التوقّع قال : أمّا في المضارع ؛ فلأنّ قولك قد يقدم الغائب ، يفيد التوقّع بدون « قد » إذ الظاهر من حال المخبر عن مستقبل أنّه متوقّع له ، وأمّا في الماضي فلأنّه لو صحّ إثبات التوقع لها بمعنى أنّها تدخل على ما هو متوقّع لصحّ أن يقال في : لا رجل ـ بالفتح ـ : أنّ « لا » للاستفهام لأنّها لا تدخل إلاّ جواباً لمن قال : هل من رجل ، ونحوه ، فالّذي بعد « لا » مستفهم عنه من جهة شخص آخر كما أنّ الماضي بعد « قد » متوقّع كذلك.
    وأنكر بعضهم كونها للتوقع في الماضي ، لأنّ التوقّع إنّما هو انتظار الوقوع والماضي قد وقع.
    وقال الراغب : إنّها إنّما تدخل على فعل متجدّد ، نحو : ( قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنا ) (3) ، ( قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ ) (4) ، ( قَدْ سَمِع َاللّهُ ) (5) ، ( لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَن المُؤْمِنِينَ ) (6) ، ( لَقَدْ تاب َاللّهُ عَلىَ النَّبِيِّ ) (7) وغير ذلك ـ قال ـ : ولما قلت لا يصحّ أن يستعمل في أوصاف اللّه تعالى الذاتية فيقال : قد كان اللّه عليماً حكيماً.
    « كان » أصله كون بفتح العين ، خلافاً للكسائي على ما نقل عنه أنّ وزنه فعُل بضم العين. وهو على وجهين :
1 ـ الشعراء : 219.
2 ـ شرح الرضي : 4 / 445.
3 ـ يوسف : 90.
4 ـ آل عمران : 13.
5 ـ المجادله : 1.
6 ـ الفتح : 18.
7 ـ التوبة : 117.


(184)
    ناقص ناسخ للمبتدأ والخبر ؛ رافع للأوّل ناصب للثاني.
    ومنها الشأنية التي يستتر فيها ضمير الشأن ، خلافاً لمن زعم أنّها قسم برأسها ؛ ولمن زعم أنَّها تامّة ، وتامّ بمعنى ثبت ، والثبوت مختلف بحسب اختلاف الأشياء ، فمنه ثبوت أزلي نحو : كان اللّه ولا شيء معه ، ومنه حدوثي نحو : إذا كان الشتاء فأدفئوني ، ومنه بمعنى الحضور نحو : وإن كان ذو عسرة على وجه ، ومنه بمعنى الوقوع نحو : ما شاء اللّه كان على ما قيل ، ومنه بمعنى الإقامة نحو : كانوا وكنّا فما ندري على مهل ، وربما جاء بمعنى كفل نحو : كنت الصبي أي كفلته ، وبمعنى غزل نحو : كنت الصوف ، وقد يكون زائداً نحو :
جِياد بني أبي بَكْر تَسامَـى علَى كان َالمُسَوَّّمَةِ العِرابِ (1)
    ومعنى الناقص : الدلالة على ثبوت خبره لاسمه في الزمان الماضي ، وزعم بعضهم أنّه يدلّ على الاستمرار في جميع زمن الماضي ، قال نجم الأئمة سلام اللّه عليه : وشبهته قوله تعالى : ( وَكانَ اللّه سَمِيعاً بَصِيراً ) (2) وذهل أنّ الاستمرار مستفاد من قرينة وجوب كون اللّه سميعاً بصيراً لا من لفظ « كان » ، ألا ترى أنّه يجوز : كان زيد نائماً نصف ساعة فاستيقظ ، وإذا قلت : كان زيد ضارباً ، لم يستفد الاستمرار ، قال : وكان قياس ما قال أن يكون كن ويكون أيضاً للاستمرار.
    وقال صاحب « الارتشاف » : أكثر النحاة ذهبوا إلى أنّ « كان » تقتضي الانقطاع كسائر الأفعال الماضية ، وذهب بعضهم إلى أنّها لا تقتضيه وجعل من ذلك مثل قوله تعالى : ( وَكانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً ). (3) أي لم يزل.
    والذي تلقّفناه من أفواه الشيوخ إنّ « كان » يدلّ على الزمان الماضي المنقطع
1 ـ أنشد الفرّاء هذا البيت ولم ينسبه إلى قائل ؛ ولم يعرف العلماء له قائلاً ويروى المصراع اللأوّل :
« سَرَاةُ بَني أبي بَكر تَسامَى » ( شرح ابن عقيل : الشاهد 70 ).
2 ـ النساء : 134.
3 ـ النساء : 152 و 100 ...


(185)
كغيرها من الفعل الماضي.
    وقد يكون بمعنى « صار » كقوله :
بتيهاء قفر والمطي كأنّها قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها (1)
    واختلف فيه وفي سائر الأفعال الناقصة أنّها هل تدلّ على الحدث ، فنفاه كثير من المعربين وجعلوه السبب في تسميتها ناقصة.
    والمشهور خلافه ، قال نجم الأئمة رضوان اللّه عليه : لأنّ « كان » في نحو : كان زيد قائماً ، يدلّ على الكون الذي هو الحصول المطلق ، وخبره يدلّ على الكون المخصوص وهو كون القيام أي حصوله ، فجيئ أوّلاً بلفظ دالّ على حصول ما ، ثمّ عُيّن بالخبر ذلك الحاصل ، فكأنّك قلت : حصل شيء ، ثمّ قلت : حصل القيام ، فالفائدة في إيراد مطلق الحصول أوّلاً ثمّ تخصيصه ، كالفائدة في ضمير الشأن ، قبل تعيين الشأن ، مع فائدة أُخرى هيهنا ، وهي دلالته على تعيين زمان ذلك الحصول المفيد ، ولو قلنا : قام زيد ، لم تحصل هاتان الفائدتان معاً ، ف‍ « كان » يدلّ على حصول حدث مطلق تقييده في خبره ، وخبره يدلّ على حدث معيّن واقع في زمان مطلق تقييده في « كان ».
    لكن دلالة « كان » على الحدث المطلق أي الكون وضعيّة ، ودلالة الخبر على الزمان المطلق : عقلية ـ وقال ـ : وأمّا سائر الأفعال الناقصة نحو « صار » الدالّ على الانتقال ، و « أصبح » الدالّ على الكون في الصبح أو الانتقال ، ومثله
1 ـ ذكره الشريف الرضي في « حقائق التأويل » : 222 ، وفي هامشه نسب البيت إلى الشاعر ابن أحمر وفيه : « بفيفاء » بدل « بتيهاء » و قال البغدادي : انه من ابيات لابن أحمر شاعر اسلامي مخضرم ( شرح الرضي : 4 / 189 ). وفي تاج العروس للزبيدي : 5 / 11 : قال عمرو بن أحمر :
أريهم سهيلاً والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها

(186)
أخواته (1) ، و « مادام » الدالّ على معنى الكون الدائم ، و « ما زال » الدالّ على الاستمرار وكذا أخواته ، و « ليس » الدالّ على الانتفاء : فدلالتها على حدث معيّن لا يدل عليه الخبر في غاية الظهور. (2)
    وظنّي أنّ النزاع بين الفريقين لفظي لأنّه لا شبهة في نحو : إن قام زيد ، يدلّ على كون القيام ، فإذا قيل : كان زيد قائماً ، لم يكن الغرض من الإتيان ب‍ « كان » إلاّ إفادة أنّ القيام في الزمان الماضي ، وكذا صار زيد غنياً ، إنّما جيئ فيه ب‍ « صار » للدلالة على أنّ بثبوت القيام بعد أن لم يكن ، وكذا في البواقي ، فهذه الأفعال وإن كانت دالة على الاحداث بلا شبهة إلاّ أنّه لا شبهة في أنّ الظاهر أنّه لا يتعلّق غرض المتكلّم باحداثها وإنّما يتعلق بالأزمنة المفهومة منها ، وإن تعلّق فلا قصد إليها بالذات وإنّما قصد إليها لتكون رابطة للنسبة ، ولذا عدّها المنطقيون حروفاً وروابط ، وما ادّعاه نجم الأئمة رحمه اللّه في معانيها يكذّبه موارد الاستعمال ، إذ لو صحّ لكان استعمالها مخصوصاً بما يقصد فيه التأكيد ويكون له عظيم من الشأن كما في ضمير الشأن مع أنّه ليس كذلك ، ولذا قالوا : إنّه إذا أُريد إبقاء معنى الماضي مع أنّ الشرطيّة جُعل الشرط لفظ « كان » نحو : ( إِن كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ) (3) ، ( إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُل ) (4) لأنّ الحدث المطلق الذي هو مدلوله يستفاد من الخبر وإنّما يُذكر للدلالة على الزمان ، وأما « ليس » فمن الظاهر أنّه لا يراد منه إلاّ « النفي » ، ولذا ذهب جماعة من المعربين إلى أنّه حرف نفي ، فقد تبيّن أنّ الذين من قالوا إنّ الأفعال الناقصة لا تدل على الحدث أرادوا أنّ الحدث لا يقصد بها ، والذين قالوا : يدلّ عليه ، أرادوا أنّ ذلك داخل في معانيها والكل صحيح.
1 ـ المراد ب‍ « أخواته » : الأفعال الدالّة على وقت ، مثل « أمسى » و « أضحى ».
2 ـ شرح الرضي على الكافية : 4 / 182. مؤسّسة الصادق ، طهران.
3 ـ المائدة : 116.
4 ـ يوسف : 26.


(187)
    « اللَّهو » : ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه ويهمّه ، ويعبّر عن كلّ ما به استمتاع باللّهو ، كما قال تعالى : ( لَوْ أََرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً ) (1) ويقال : لهوت بالشيء ألهو لهواً أو تلهيت إذا لعبت به وتشاغلت وغفلت به عن غيره ، وألهاه من كذا ، أي شغله ، ولهيت عن الشيء ألهى ، كرضيت أرضى ، لهياً إذا سلوت عنه وتركت ذكره ، وإذا غفلت عنه واشتغلت بغيره.
    وفي الحديث : إذا استأثر اللّه بشيء فإله عنه (2) ، أي اتركه وأعرض عنه.
    وكذا حديث الحسن في البلل بعد الوضوء.
    إله عنه ، ولهيت بالشيء أيضاً إذا أحببته.
    « الباء » في « به » إمّا للتعدية ، أو للسببية ، أو الاستعانة أو المصاحبة.
    « الفاء » المفردة مشتركة بين الحرف والفعل ، أمّا الفعل فهو « فِ » مكسوراً أمراً من « وفى ».
    وأمّا الحرف فحرف هجاء وحرف معنى.
    أمّا الكلام عليه من الجهة الأُولى : فاعلم أنّ مخرجها من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا عند الجمهور وهو المتصوّر.
    وذهب الفرّاء إلى أنّ مخرجها ما بين الشفتين وليس بشيء ، وهي مهموسة رخوة منفتحة منخفضة ذلقية على رأي.
    وأمّا الكلام عليه من الجهة الثانية : فاعلم أنّها حرف لا عمل لها ، خلافاً لبعض الكوفيين فإنّهم جعلوها ناصبة للفعل. والمبرّد فإنّه جعلها خافضة ، في نحو
1 ـ الأنبياء : 17.
2 ـ من أمثال العرب ( مسند زيد بن علي : ص 361 ) وفي التبيان في تفسير القرآن : ج 10 / 270 وفي ج 4 / 417 ( إذا استأثر اللّه بشي لاه عنه ).


(188)
قوله :
فَمِثْلَكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِع فَأََلْهَيتُها عَنْ ذِي تَمائِمَ مُحُولِ (1)
    في رواية جر المثل.
    والمشهور المتصوّر أنّ النصب في الأوّل ب‍ « أن » مضمرة ، وأنّ الجرّ في الثاني ب‍ « ربّ » مضمرة.
    ثمّ « الفاء » ترد على وجوه :
    منها : أن تكون عاطفة وحيئنذ تفيد ثلاثة أُمور :
    أوّلها : الترتيب ، فإن عطفت مفرداً على آخر فإن كان مسنداً أفادت أنّ إسناد المسند الثاني إلى المسند إليه بعد إسناد المسند الأوّل نحو : زيد قام فقعد ، وكذا إن كان موقعاً على مفعول أو متعلّق أفادت أنّ وقوع الثاني على المفعول أو تعلّقه بالمتعلق بعد وقوع الأوّل ، أو تعلّقه نحو : ضرب فأكرم زيداً عمرو ، فإن كان مسنداً إليه أفادت أنّ إسناد المسند إلى الثاني بعد إسناده إلى الأوّل نحو : قام زيد فعمرو. وكذا إن كان مفعولاً أو متعلّقاً أفادت أنّ وقوع المسند أو ملابسته بالنسبة إلى الثاني بعد وقوعه أو ملابسته بالنسبة إلى الأوّل ، وإن كان صفة معطوفة على صفة أُخرى لموصوف واحد أفادت أنّ اتّصاف الموصوف بمصدر الثانية بعد اتّصافه بمصدر الأُولى نحو : زيد الآكل فالنائم.
    وإن عطفت جملة على أُخرى فإن كان لها محلّ من الإعراب كان الحكم فيها كالحكم في عطف المفردات ، وإلاّ أفادت أنّ حصول مضمون الثانية بعد حصول مضمون الأُولى ، وعن الفرّاء أنّها لا تفيد الترتيب أصلاً. قال ابن هشام : وهذا مع
1 ـ من معلّقة امرئ القيس والّتي مطلعها : « قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِ » ( ديوان امرئ القيس : 33 ).

(189)
قوله : إنّ « الواو » تفيد الترتيب غريب ، واحتجّ بنحو قوله تعالى : ( أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُون ). (1)
    والجواب عنه من وجهين :
    الأوّل : أنّه يجوز أن يكون المراد : أردنا إهلاكهم فإنّ إطلاق الفعل الاختياري على إرادته كثير.
    والثاني : أنّ الترتيب على نوعين : ترتيب معنوي : وهو الذي مرّ ذكره. وذكري : وهو في نحو عطف المفصل على المجمل نحو : ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً ) (2) ( وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) (3) ( ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرينَ ) (4) وهو كثير.
    وذهب الجرمي إلى أنّها للترتيب إلاّ في الأماكن والأمطار.
    فالأوّل لقوله :
قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حَبيب ومَنْزِل بِسِقْطِ اللّوى بَيْنَ الدَّخولِ فَحَومَلِ (5)
    والثاني : لأنّا نقول : مطرنا مكان كذا فمكان كذا ، وإن كان وقوع المطر فيهما في وقت واحد.
    والأمر الثاني من الثلاثة التي يفيدها « الفاء » هو للتعقيب ، أي حصول المعطوف ، أو حصول المسند له عُقَيب حصول المعطوف عليه ، أو حصول المسند له بلا مهلة ، وهو إمّاحقيقي بأن لا يتراخى بينهما حقيقة زمان ، وحكمي بتنزيل ما بينهما زمان منزلة ما لا زمان بينهما ، إمّا لقصره ، أو لأنّه لا يمكن حصول الثاني بعد
1 ـ الأعراف : 4.
2 ـ النساء : 153.
3 ـ هود : 45.
4 ـ الزمر : 72 و غافر : 76.
5 ـ ديوان امرئ القيس : 144 مطلع معلقته المشهورة.


(190)
الأوّل إلاّ بعد مضي زمان فلم يتراخ بينهما إلاّ ذلك الزمان ، كما يقال : تزوج فلان فولد له ، إذا لم يفصل بين التزوّج والولادة إلاّ زمن الحمل.
    ونحو قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِماءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً ) (1).
    وقال نجم الأئمة ـ رضي اللّه عنه ـ : إنّ « الفاء » في مثل ذلك فإن اخضرار الأرض يبتدئ بعد نزول المطر لكن إنّما يتمّ في مدة ومهلة ، فجيئ بالفاء ، نظراً إلى أنّه لا فصل بين نزول المطر وابتداء الاخضرار ، قال : ولو قيل : ثمّ تصبح الأرض مخضرّة ، نظراً إلى تمام الاخضرار جاز (2).
    ونحن نقول : لو قال : ثمّ تصبح الأرض نظراً إلى حقيقة الأمر جاز. وإذا تأمّلت وجدت مآل الكلامين واحداً ، وكذا مال ما قيل من أنّ التعقيب في كلّ شيء بحسبه مآلهما ، وبعضهم يقدر لنحو تصبح هنا معطوفاً عليه نحو : فأنبتنا به وطال النبت فتصبح.
    وقيل : إنّ « الفاء » هنا للسببية ، وفاء السبب لا يدلّ على التعقيب لصحّة أن يقال : إن أسلم فهو يدخل الجنّة ، مع ما بينهما من المهملة الظاهرة.
    وقيل : إنّ الفاء ربّما كانت بمعنى « ثمّ » كالآية ، وقوله تعالى : ( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَونَا العِظامَ لَحْماً ). (3)
    والأمر الثالث بما يفيده الفاء السببيّة ، وهو غالب في عطف الجملة أو الصفة نحو : ( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (4) ( فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمات فَتابَ
1 ـ الحج : 63.
2 ـ شرح الرضي : 4 / 389.
3 ـ المؤمنون : 14.
4 ـ القصص : 15.


(191)
عَلَيْهِ ). (1) ( لآكِلُونَ مِنْ شَجَر مِنْ زَقُّوم * فَمالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُون ). (2)
    ومن وجوه « الفاء » أن يكون للسببية من غير عطف ، نحو التي في أجوبة الشروط ، ونحو : جاءك زيد فأكرمه.
    قال نجم الأئمة ( رض ) : وتعريفه (3) بأن يصلح تقدير « إذا » الشرطية قبل « الفاء » وجعل مضمون الكلام السّابق شرطها ، فالمعنى في مثالنا : إذا كان كذا فأكرمه ، قال تعالى : ( أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمواتِ وَالأَرْض وَما بَيْنَهُما فَلْيَرتَقُوا فِي الأَسْباب ). (4) وقال تعالى : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين * قالَ فَاخْرُجْ مِنْها ) (5) أي إذا كان عندك هذا الكبر فاخرج ، وقال : ( رَبِّ فَأَنْظِرْني ) (6) أي إذا كنت لعنتني فأنظرني ، وقال : ( فَإِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ ) (7) أي إذا اخترت الدنيا على الآخرة فإنّك من المنظرين ، و قال : ( فَبِعِزَّتِكَ ) (8) أي إذا أعطيتني هذا المراد ( فَبِعزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُمْ ) (9). (10)
    ومن وجوهها أن يكون بمعنى « الواو » كما في قوله : بين الدّخول فحومِلَ.
    « بات » الرجل يبيت وبيات بيتاً وبياتاً وبيتوتة : إذا دخل في اللّيل ، ومنه « البيت » فإنّه في الأصل مأوى الإنسان باللّيل ، وبات يفعل كذا ، إذا فعله ليلاً ، كما يقال : ظلّ يفعل كذا ، إذا فعله نهاراً.فقد جاء تامّاً وناقصاً.
    « الواو » للحال ، أو زائدة لزيادة الخبر بالاسم إن صحّ مجييُها زائدة ، كما قال الأخفش والكوفيون وحملوا عليها ( فَلَمّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبينِ * وَنادَيْناهُ ). (11)
1 ـ البقرة : 37.
2 ـ الواقعة : 52 و 53.
3 ـ اي الضابط الذي يمكن معرفته به.
4 ـ سورة ص : 10.
5 ـ سورة ص : 76 ـ 77.
6 ـ سورة ص : 79.
7 ـ سورة ص : 80.
8 و 9 ـ سورة ص : 82.
10 ـ شرح الرضي : 4 / 288.
11 ـ الصافات : 103 ـ 104.


(192)
    « الألف واللام » للعهد عوضاً عن المضاف إليه ، أي قلبي شج ، أصله شجي ، على فعل كفرح ، من الشجو ، وهو الحزن ، يقال : شجاه شجوه شجواً إذا أحزنه ، وأشجاه يشجيه اشجاء إذا أغصه ، وتقول منهما جميعاً : شجى يشجي شجًى كرضي ، إذا حزن. ومنه اشتقّ شج; يقال : رجل شجي وامرأة شجيّة ، بتخفيف الياء.
    « الوجع » : المرض ، والأظهر أن يقال : إنّه الألم ، والإيجاع : الإيلام.
    « كأنّ » حرف مركّب عند الخليل وسيبويه وأكثر البصريين وادّعى ابن الخبّاز وابن هشام الخضراوي عليه الإجماع ، ومن البصريين من ذهب إلى أنّه حرف بسيط وهو الأقوى. والأوّلون قالوا : إنّ أصله كاف التشبيه و « إن » ، وإنّ أصل كان زيد الأسد ، أنّ زيداً كالأسد فقدّمت الكاف للاعتناء بالتشبيه.
    ثمّ منهم من قال : إنّه فتحت « أنّ » لفظاً لرعاية لفظ الكاف ، لأنّها لا تدخل إلاّ على المفردات ففتحت لفظاً لتشبه « أن » التي تقلب ما بعدها إلى معنى المصدر وهي في المعنى باقية على حالها لم تصر حرفاً مصدرياً.
    ومنهم من قال : إنّ فتح « أن » لطول الحرف بالتركيب.
    وعلى هذين الرأيين لا يكون للكاف هنا عمل فيما بعدها ، ولا محلّ لها من الإعراب ولا تعلّق لها بشيء لما صارت جزء الحرف ككاف « كأين ».
    ومنهم من قال : إنّ « أن » هي تقلب ما بعدها إلى معنى المصدر ، وإنّ الكاف هنا اسم بمعنى « مثل » وهو مبتدأ مضاف إلى مابعده محذوف خبره ، والتقدير في المثال مثل كون زيد أسداً ، ثابت.
    وعلى كلّ تقدير فهي من الحروف التي أشبهت الأفعال لفظاً ، ومعنى ، فعملت عملاً شبيهاً بعملها وهو رفع أحد الاسمين ونصب الآخر كما هو عمل الفعل المتعدّي ، لمشابهتها الأفعال المتعدّية وإنّما قدّم منصوبها على مرفوعها فرقاً


(193)
بينها وبين « ما » الحجازية فإنّها أيضاً تشبه الفعل ، أعني ليس إلاّأنّ مشابهتها إنّما هي بالفعل الناقص الغير المتصرّف وإنّما تشبهه معنى ، فكان شبهها بالفعل أضعف فأوجب فيها تقديم مرفوعها ، وهذه الحروف لما كان شبهها أقوى كانت أقوى في العمل فقدّم منصوبها.
    ورأي الكوفيين أنّها إنّما تعمل في الاسم ، وأمّا إخبارها فهي مرتفعة بما كانت مرتفعة به.
    وقد أجاز بعض أصحاب الفرّاء نصب الاسمين بها كقوله :
كَأنَّ إِذْنَيْهِ إذا تَشَوّفَا قادِمَةً أوْ قَلَماً مُحَرَّفَا (1)
    وقوله :
إذَا اسْوَدَّ جُنْحُ اللّيلِ فَلْتَأتِ وَلْتَكُنْ خطاكَ خِفافاً إنَّ حُرّاسَنا أُسْدَا (2)
    ولـ « كأنّ » معان : منها التشبيه : وهو المعنى الغالب المتّفق عليه. وزعم جماعة أنّها لا تكون للتشبيه إلاّ إن كان خبرها جامداً نحو : كأنّ زيداً أسد ، فإن كان مشتقّاً كانت بمعنى الظن.
    « الباء » للآلة ، أو السببية ، أو بمعنى « في ».
    « الألف واللام » للعهد الذهني.
    « اللام » للتعليل.
    « ما » إمّا اسمية أو حرفية.
1 ـ البيت لمحمد بن ذؤيب العماني النهشلي الفقيمي الراجز يصف فرساً وهو أحد شعراء الرشيد ويقال انّه عاش 130 سنة. ( شرح شواهد المغني : 2 / 515 الشاهد 304 ، شرح ابن عقيل : 1 / 347 ).
2 ـ وينسب إلى عمر بن أبي ربيعة ، ولم يوجد في ديوانه.


(194)
    و « ما » الاسمية على وجوه :
    منها : الموصولة وهي عند الجمهور مختصّة بما لا يعقل ، وعن أبي عبيدة وابن درستويه ومكي بن أبي طالب وابن خروف : أنّها تقع على من يعقل. وادعى ابن خروف أنه مذهب سيبويه.
    قال السهيلي : إنّها لا تقع على أُولي العلم إلاّ بقرينة وهي قرينة التّعظيم والإبهام كما يطلق على اللّه سبحانه.
    وعن المعري في « اللامع » أنّ الشيء إذا كان لا يدرك وحقيقته يجعل كالشيء المجهول ويطلق عليه « ما » نحو : سبحان ما سبّح الرّعد بحمده. (1)
    وقال ابن مالك : إنّها تقع على ما لا يعقل مع من يعقل نحو : ( وَللّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّمواتِ وَما فِي الأَرْضِ مِنْ دابَّة ) (2). وعلى صفات من يعقل نحو : ( فَأَنْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساء ) (3) ونحو : ( وَالسَّماء وما بَناها ). (4)
    وقدعبّر غيره عن ذلك بأنّها تقع على أنواع من يعقل.
    ومنها : الموصوفة : إمّا بمفرد نحو : مررت بما معجب لك ، أو بجملة نحو :
ربّما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال (5)
    على وجه.
    والحرفية : أيضاً على وجوه :
    منها : المصدرية وتسمّى الموصولة ، وهي نوعان : زمانيّة ، وغير زمانيّة.
1 ـ اقتباس من سورة الرعد ، آية 13 : ( ويسبح الرعد بحمده ).
2 ـ النحل : 49.
3 ـ النساء : 3.
4 ـ الشمس : 5.
5 ـ البيتان من قصيدة لأُمية بن أبي الصلت ، من شعراء الجاهلية المتقدمين ، ذكر فيها قصة سيدنا إبراهيم الخليل وما حدث من رؤياه ( شرح الرضي : 3 / 51 ومختار الصحاح : 257 ). وجاء في مغني اللبيب : 1 / 297 وتاج العروس : 2 / 84 وفيه « الأُم » بدل « الأمر ».


(195)
    فالزمانيّة : ما يقدّر قبلها فيها لفظ الزمان وشبهه مضافاً إليها نحو ( ما دمت حيّاً ) (1) أي زمان دوامي ، ونحو : جَلَستُ ما كنتُ جالِساً ، أي زمن جلوسك.
    وغير الزمانية : بخلافها نحو : ( ودُّوا ما عَنِتُّم ) (2) ( عَزِيزٌ عَليهِ ماعَنِتُّم ) (3) ( وضاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرض بِما رَحبت ) (4) إلى غير ذلك.
    « شَفَّ » جسمه يَشِفُّ شُفُوفاً : نحل ، وشَفَّه الهمُّ يَشُفُّهُ ـ بالضم ـ شفّاً : هزله.
    وفي الخلاص للنطنزي : شف : أذاب وأحزن.
    « النون » حرف هجاء ، وحرف معنى.
    أمّا الكلام عليها من الجهة الأُولى : فاعلم أنّ مخرجها إذا كانت ساكنة خفيفة فمخفاة لم يبق منها إلاّ الغنة من الخيشوم. وأمّا إذا كانت ساكنة غير خفيفة كالتي في « اضربن » ، أو متحرّكة : فمن طرف اللّسان بينه وبين ما فويق الثنايا. كذا في الكتاب وزاد غيره متّصلاً بالخيشوم تحت اللاّم قليلاً.
    وزعم قطرب والجرمي والفرّاء وابن دريد أنّ مخرج النون واللام والراء واحد وهو طرف اللسان وأُصول الثنايا ، وهي مجهورة منفتحة منخفضة ذلقيّة بين الشديدة والرخوة.
    وأمّا الكلام عليها من الجهة الثانية : فاعلم أنّها نوعان : ساكنة ، ومتحركة.
    والكلام هنا في المتحرّكة ، وهي أنواع منها « نون الوقاية » وتسمّى « نون العماد » وهي تتوسط بين ياء المتكلّم وما قبله وقاية له عن الكسر اللازم لمناسبة الياء كانت الياء منصوبة بفعل متصرّف ك‍ « أكرمني » ، أو جامد ك‍ « عساني »
1 ـ مريم : 31.
2 ـ آل عمران : 118.
3 ـ التوبة : 128.
4 ـ التوبة : 25 وفي الأصل جاء خطأ : « الأرض عليه ».
اللآلئ العبقرية في شرح العقينيّة الحميرية ::: فهرس