اللآلئ العبقرية في شرح العينيّة الحميرية ::: 271 ـ 285
(271)
    وقال آخر : « الاَُْم قوم أصغراً أو أكبراً » (1).
    وحملوا عليه قوله تعالى : ( وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه ) (2) إذ ليس شيء أهونُ عَليه من شيء ، وهذه الجملة كما يحتمل أن تكون داخلة في المحكي يحتمل أن تكون من كلام الحاكي.
    المعنى :
    فقال النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لو كنت عرَّفتكم شخصاً يكون ملجأً لكم ، وأعلمتكم أحداً أو فلاناً ملجأ ، أو أعلمتكم ملجأً لكم أو التجاء إلى أحدكم عستيم أو كنتم عسيتم ، أي أتوقع أمركم أن تصنعوا في شأن ذلك الملجأ أو في الفلان ، أو الأحد ، أو في شأن المعلم أعني الإيصاء والنصب ، أو لأجله ، أو معه ، أو مع ذلك الملجأ ، أو الفلان ، أو الأحد ، أو بذلك الملجأ ، أو الأحد ، أو الفلان صنيعاً مثل صنيع عبدة العجل أو ما صنعه عبدة العجل ، أي مثله في زمان مفارقتهم ، أو لأنّهم فارقوا هارون الذي جعله أخوه موسى خليفة له وجعله مفزعهم وملجأهم ، أو أتوقّعكم ذوي أن تصنعوا ، أو أتوقعكم نفس أن تصنعوا مبالغة ، أو قاربتم أن تصنعوا ، أو قربتم أن تصنعوا أي قرب صنيعكم ، أو قربتم من أن تصنعوا ، أو تهيّأتم لأن تصنعوا ، أو أتوقّعكم أن تصنعوا أي أتوقّع أن تصنعوا ، أو ألفيتم حال كونكم كذلك ، أو إن عرفتكم ، أو أعلمتكم صرتم ، أو ألفيتم كذلك ، أو خالفتم
1 ـ عجز بيت ذكره شيخ الطائفة الطوسي في « التبيان في تفسير القرآن » : 8 / 245 وذكر صدره : « قبحوا يا آل زيد نفرا ». وفي شرح الرضي : 3 / 459 ذكرالبيت :
قبحتم يا آل زيد نفرا الام قوم اصغراً واكبرا
    وقال البغدادي : لم أقف على خبره.
2 ـ الروم : 27.


(272)
لأنّكم كنتم عسيتم ، وإذا كان كذلك فترك الإعلام أوسع لكم من الإعلام إن فرض فيه سعة أو واسع ، أو فترك الإعلام لأجل ما قلته أوسع أو فتركه أوسع لأجل ما قلته ، أو أوسع لذلك المفزع.
    وحاصل هذه الأبيات الأربعة : أنّهم سألوا النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أن ينصّب خليفة لنفسه يفزعون إليه بعده ، فقال لهم : إنّي أخاف أن تفارقوه وتخالفوا وصيّتي فيه فترتدّوا عن الدين ، كما خالفت بنو إسرائيل وصيّة موسى صلوات ( الله ) عليه في أخيه هارون ففارقوه وعبدوا العجل ، فترك الوصيّة ونصب الخليفة أوسع لكم وأنّي الآن لا يحضرني خبر يصدق هذا المقال ، وإنّما يحضرني ممّا يتضمّن سؤال الأصحاب منه النص أخبار أذكر عدّة منها :
    فمنها : ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده بإسناده عن أنس ـ يعني ابن مالكـ قال : قلنا لسلمان : سل النبيّ مَن وصيّه ؟ فقال له سلمان : يا رسول اللّه مَن وصيّك ؟ فقال : يا سلمان من كان وصيّ موسى ؟ فقال : يوشع بن نون ، قال : قال : وصيّي ووارثي ومَنْ يَقضي دَيني وينجز موعدي علي بن أبي طالب (1).
    ومنها : ما رواه محمد بن جرير الطبري في كتاب « مناقب أهل البيت صلوات اللّه عليهم » بإسناده عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري ، عن سلمان الفارسي رضي اللّه عنه قال : قلنا يوماً : يا رسول اللّه من الخليفة بعدك حتى نعلمه ؟ قال لي : يا سلمان ادخل عليَّ أبا ذر والمقداد وأبا أيّوب الأنصاري ـ وأُمّ سلمة زوجة النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من وراء الباب ـ ، ثمّ قال لنا : اشهدوا وافهموا عنّي أنّ علي بن أبي طالب وصيّي ووارثي وقاضي دَيني وعداتي ، وهو الفاروق بين الحقّ والباطل
1 ـ عثرنا على الحديث في : شواهد التنزيل ، للحسكاني : 1 / 99 ، ومجمع الزوائد ، للهيثمي : 9 / 113 باختلاف يسير.

(273)
وهو يعسوب المسلمين ( وإمام المتّقين وقائد الغُرّ المحجّلين ) (1) والحامل غداً لواء ربّ العالمين ؛ و هو ووالداه من بعده ؛ ثمّ من وُلدِ الحسين ابني أئمّة تسعة هداة مهديّون إلى يوم القيامة ؛ أشكو إلى اللّه جحود أُمّتي لأخي ( وتظاهرهم عليه ) (2) وظلمهم له وأخذهم حقّه.
    قال : فقلنا : يا رسول اللّه ويكون ذلك ؟ قال : نعم يقتل مظلوماً من بعد أن يُملأ غيظاً ويوجد عند ذلك صابراً ، قال : فلمّا سمعت فاطمة صلوات اللّه عليها أقبلت حتى دخلت من وراء الحجاب وهي باكية فقال لها رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : ما يبكيك يا بُنيّه ؟ قالت : سمعتك تقول في ابن عمّي وولدي ما تقول ، قال : وأنت تُظلمين وعن حقّك تُدفَعين ؛ وأنتِ أوّل أهل بيتي لحوقاً بي ، بعد أربعين ؛ يا فاطمة أنا سلمٌ لمن سالمَكِ وَحربٌ لمَنْ حاربَكِ أستودعك اللّه وجبرئيل وصالح المؤمنين ، قال : قلت : يا رسول اللّه من صالح المؤمنين ؟ قال : علي بن أبي طالب. (3)
    ومنها : ما حكاه السيد المرتضى علم الهدى أبو القاسم علي بن الحسين الموسوى سلام اللّه عليه في شرح البائية التي للناظم التي أوّلها :
هلاّ وَقَفْتَ على المَكان المعشبِ بين الطُّوَيْلِعِ فاللِّوى من كَبْكَبِ
    فقال : وروى الثقفي عن مخول بن إبراهيم ، عن عبدالرحمن بن الأسود اليشكري ، عن محمد بن عبيد اللّه ، عن محمد بن أبي بكر ، عن سلمان الفارسي رحمه اللّه ، قال : سألت رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : مَن وصيّك من أُمّتك فإنّه لم يُبعث نبيّ إلاّ كان له وصيّ من أُمّته ؟ فقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : لم يبيّن لي بعدُ ، فمكثتُ ما شاء اللّه أن أمكث ثم دخلت
1 و 2 ـ ما بين القوسين من المصدر.
3 ـ المناقب : 112 ح 121 ، و بحارالأنوار : 32 / 264 ، ح 5 ، عن كشف اليقين.


(274)
المسجد ، فناداني رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فقال : يا سلمان سألتني مَنْ وصيّي من أُمّتي فهل تدري من كان وصيّ موسى من أُمّته ؟ فقلت : كان وصيّه يوشع بن نون فتاه ، فقال : فهل تدري لِمَ كان أوصى إليه ؟ قلت : اللّه ورسوله أعلم ، قال : أوصى إليه لأنّه كان أعلم أُمّته بعده ، ووصيّي هو أعلم أُمّتي بعدي : عليّ بن أبي طالب (1).
    ومنها : ما رواه أخطب خطباء خوارزم في مناقبه عن أنس عن سلمان ، قال : قلت : يا رسول اللّه عمّن نأخذ بعدك وبمن نثق ؟ قال : فسكت عنّي حتى سألت عشراً ، ثمّ قال : يا سلمان إنّ وصيّي وخليفتي وأخي ووزيري وخير من أُخلفه بعدي علي بن أبي طالب ، يؤدّي عنّي وينجز موعدي (2).
    ومنها : ما رواه عن ابن مسعود ، قال : كنت مع رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وقد أصحر فتنفّس الصعداء ، فقلت : يا رسول اللّه ما لك تتنفّس؟ قال : يا ابن مسعود نعيت إليَّ نفسي ، قلت : استخلف يا رسول اللّه قال : من ؟ قلت : أبا بكر ، فسكت ثمّ تنفّس ، فقلت : ما لي أراك تتنفّس يا رسول اللّه ؟ قال : نعيت إليَّ نفسي ، فقلت : أستخلف يا رسول اللّه ؟ قال : من ؟ قلت : عمر بن الخطّاب ، فسكت ثمّ تنفّس ، فقلت : مالي أراك تتنفّس يا رسول اللّه قال : نعيت إليّ نفسي ، فقلت : يا رسول اللّه استخلف قال : من ؟ قلت : علي بن أبي طالب ، قال : اوه لن تفعلوه إذاً أبداً ، واللّه لئن فعلتموه ليدخلنّكم الجنّة (3).
    ومنها : ما ذكّرت به أُمّ سلمة رضي اللّه عنها عائشة ، فقالت : أتذكرين مرض رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) الذي قبض فيه فأتاه أبوكِ يعوده ومعه عمر ، وقد كان عليّ يتعاهد ثوب رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ونعله وخفّه ويصلح ما وَهيَ منها ، فدخل قبل ذلك فأخذ
1 ـ بحارالأنوار : 38 / 19 عن أمالي الصدوق : 9.
2 ـ بحارالأنوار : 34 / 12.
3 ـ أبو نعيم : حلية الأولياء : 1 / 64 باختصار ، كتاب مائة منقبة لابن شاذان : 29 ح 10.


(275)
نعل رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يخصفها ـ وكانت حضرميةـ وجلس خلف الباب ، فاستأذنا عليه فأذن لهما فقالا : يا رسول اللّه كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت أحمد اللّه ، قالا : ما بدّ من الموت ، قال : أجل لابدّ منه ، قالا : يا رسول اللّه فهل استخلفت أحداً ؟ فقال : ما خليفتي فيكم إلاّ خاصف النعل ، فخرجا فمرّا بعلي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) وهو يخصف نعل رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ). (1)
    ومنها : ما رواه الفقيه ابن المغازلي بإسناده عن حارثة بن زيد أنّه قال : شهدت مع عمر بن الخطاب حجّته في خلافته فسمعته يقول : اللّهم إنك تعلم محبّتي لنبيّك وكنت مطلعه من سرّك ممّا صدّقناه عنك اللّهم فحبّبني إلى وصيّه وصاحب سرّه ، فلمّا رآني أمسك وحفظتُ الكلام منه ، فلمّا انقضى الحج ّوانصرفنا إلى المدينة تعمّدتُ الخلوة به ، فرأيته يوماً على راحلته يسير وحده فقلت له : يا أمير المؤمنين بالذي هو أقرب إليك من حبل الوريد إلاّ أخبرتني عمّا أُريد أن أسالك ، فقال : سل عمّا شئت ، فقلت له : سمعتك يوم كذا تقول كذا وكذا فكأنّما فتّ في وجهه الزمان ، فقلت : فو الّذي استنقذني من الجهالة وأدخلني الإسلام ما أردت بما سألتك عنه إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، فضحك.
    وقال : يا حارثة دخلت على رسول اللّه وقد اشتدّ وجعه وأحببت الخلوة به وكان عنده الفضل بن العباس (2) ، فجلستُ حتّى نهض وبين رسول اللّه ما أردت فالتفت إليّ وقال : يا عمر أردت أن تسألني لمَن يصير هذا الأمر بعدي ؟ قلت : نعم يا رسول اللّه.
    فقال : هذا وصيّي من بعدي وهو خليفتي وكاتم سرّي ؛ مَن أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني ومن عصاني فقد عصى اللّه عزّوجلّ ، ألا
1 ـ رسائل الشريف المرتضى : 4 / 67 ، منشورات دارالقرآن الكريم ، 1410 هـ.
2 ـ من المصدر وفي الاصل « العباس ».


(276)
ومبغضه مبغضي ومبغضي مبغض اللّه ، يا علي والى اللّه من والاك وخذل من يخذلك.
    ثمّ علا بكاؤه وانهملت عبرته فجعلت آخذها بيدي وهي تنحدر على لحيته وعلى خدّه ( عليه السَّلام ) ، وأنا أمسح بيدي وجهه.
    ثمّ التفت إليّ وقال : يا عمر إذا نكث الناكثون وقسط القاسطون ومرق المارقون قام هذا مقامي حتى يفتح اللّه عليه وهو خير الفاتحين.
    قال حارثة : فتعاظمني ذلك فقلت : يا عمر فقد تقدّمتموه وقد سمعت هذا من رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) !
    فقال : يا حارثة بأمر كان ذلك ، قلت : بأمر رسول اللّه أو بأمر علي ؟ قال : بأمر علي (1). (2)
    وشيء من هذه الأخبار كما ترى لا يتضمّن ردّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لهم عمّا سألوه إلاّ في الثالث ، وهو إنّما تضمّن أنّه لم يبيّن له بعد ، وفي الخامس إنّما كان السائل ابن مسعود لا غير ، وإنّما تضمّن أنّهم لا يقبلونه ولكن الناظم رحمه اللّه أعْرَف بما قال وأعرف بالأخبار لكونه في زمن الأئمّة الأطهار صلوات اللّه عليهم.
    ويحتمل أن يكون أراد بالقول الذي نسبه إليه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) القول الباطني أو التقديري ، أي أحجم عن جوابهم لمّا خاف عليهم من أن يخالفوا النص فيكفروا.
    واستعمال القول بمعنى ما في النفس كثير ، يقال : في نفسي قول لم أظهره ، قال جلّ ذكره : ( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنا اللّهُ ) (3) وعلى هذا فتصدّقه أخبار
1 ـ في المصدر « فقال لابل الملك عقيم والحق لعلي بن أبي طالب » بدل « قال بأمر علي ».
2 ـ الروضة في المعجزات والفضائل : 133 ، عنه بحارالأنوار : 40 / 121 ـ 122.
3 ـ المجادلة : 8.


(277)
غدير خم كما ستقف عليها إن شاء اللّه.
    فإن قال قائل : كيف جاز ردّهم عمّا سألوه وإخفاء هذا الأصل الأصيل من أُصول الدين مع ما تضافرت النصوص على التهديد على كتمان الشهادة وإخفاء العلم ، قال تعالى : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّهِ ) (1) ثمّ أيّ فائدة في هذا الإخفاء ؟ مع أنّ معرفة الإمام واجبة على كلّ مكلّف وأنّ من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة ؛ وقد نطقت النصوص المتضافرة باختلاف ألفاظها بذلك ، فالكفر لازم لهم على تقديري الإعلام وعدمه.
    قلنا : أمّا الجواب عن الأوّل ، فهو أنّه لا يخلو إمّا أن يكون المراد ب‍ « لو » معناها الحقيقي ، أو معنى « إن ».
    فإن كان الأوّل لم يكن يزيد على أنّه أخبر بأنّه لو أعلمهم ذلك كان يتوقّع منهم الإنكار فيكون مقابله لعناً بهم إيّاه بعتابه إيّاهم ، فإنّ المفهوم من قولهم كما عرفت ، عتابه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على تركه إعلامهم ، فعاتبهم بأنّه لو أعلمهم لما نفع فيهم بل أضرّ بهم.
    وإن كان الثاني لم يكن يزيد على أنّه أخبر بأنّه يتوقّع منهم الإنكار ، وفيه تهديد لهم ونصيحة بليغة.
    وأمّا الإعلام فهو عنه ساكت لا رادّله ، وسكوته إنّما كان لخوفه على نفسه ووصيّه وعليهم كما تصرّح به أخبار غدير خم كما ستطّلع عليه إن شاء اللّه ، على أنّه أعلمهم في ضمن هذا الكلام أبلغ إعلام وأكّد الأمر فيه عليهم أوثق تأكيد كما سيشير إليه الناظم رحمه اللّه ، وليس هذا السكوت من قبيل كتمان الشهادة أو العلم بالنسبة إليه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فإنّه كان واثقاً بحياته عالماً بأنّ اللّه سبحانه سيوفّقه لهذا الأمر
1 ـ البقرة : 140.

(278)
ويرفع عنه الموانع ، ومعرفة الوصيّ لم تكن من الواجبات المضيّقة التي لا يجوز تأخيرها بالنسبة إلى الصحابة ، بل إنّما كان عليهم أن يعرفوه بعد النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فلم يكن إعلامهم أيضاً واجباً مضيّقاً ، فإذا انضافت إلى ذلك موانع ربّما تحرمه لم يكن بالتأخير من الناس شيء ولو سلّم أنّه من قبيل كتمان الشهادة والعلم ، إلاّ أنّه إنّما يحرّم إذا لم يكن ما يوجبه ، ولقد كان من الموانع ما يحتّمه عليه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
    وأمّا الجواب عن الثاني : فيظهر من الجواب عن الأوّل فإنّه إذا لم يكن إلاّ مجرّد إخبار وعتاب وسكوت عن الإعلام لمصلحة لم تكن فيه دلالة على أنّهم على تقدير عدم الإعلام لم يكن عليهم شيء في عدم عرفانهم إمام زمانهم إلاّ ظاهر قوله : فالترك له أودع ، وهو كما عرفت يحتمل أن يكون من كلام الناظم فيسهل الأمر ، ومع ذلك فيحتمل أن يكون ذلك مقولاً على لسان حالهم فإنّهم إذا كانوا بحيث يخالفون المنصوص عليه فيهم في سعة من ذلك بزعمهم فإذا لم ينص ، كان أوسع لهم البتة.
    وأيضاً فلا شبهة في أنّ إنكار الإمام مع النصّ أقبح والعذاب المستحق به أشدّ من إنكاره بدونه ، على أنّه لا شبهة في أنّه على تقدير عدم النص لم يكن إمام لتكون مخالفته كفراً ، فقد صحّ أنّ الترك أودع لكن على فرض جوازه. وإن كان المفروض محالاً فكأنّه قيل : إنّه لو جاز ترك الوصاية ولم يوجبها اللّه إيجاباً حتمياً كان أودع لكم.
    وأيضاً يجوز أن يكون ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ربّما جوّز أن يموت بعض الصحابة في حياته فلا تكون معرفة الإمام بعده واجبة عليه ، ولو نص لم يذعن وكفر ، فترك النصّ بالنسبة إليه أودع.
    وأيضاً يجوز أن يكون المراد أنّه أودع لهم في الدنيا ، فإنّه حينئذ لم يكن لهم منازع ولم يعاتبوا على مخالفة الوصي ولم ينكر عليهم في ذلك.


(279)
    وأيضاً يجوز أن يكون المراد أنّه أودع للوصي إذ لا تقوى فيهم عداوته ولم يخف من غوائلهم ، سواء أرجع العائد في له إليه أو إلى غيره.
    وأيضاً يجوز أن يكون أنّه أودع للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فإنّه حينئذ لا يكذب ولا يخالف وصيّه وابن عمّه.
    وأيضاً فإنّهم لمّا كانوا ممّن لا ينفع فيهم الإعلام ، بل كانوا ينكرون النصّ ويرتدّون لم يكن للإعلام فائدة بالنسبة إليهم إلاّ إتمام الحجّة ، ولا شكّ أنّ عدمه أوسع لهم.
    المعاني :
    فيه مسائل :
    الأُولى : للتعبير ب‍ « لو » إن أُريد بها معنى « أن » وجوه :
    منها : موافقة كلام السائلين.
    ومنها : الدلالة على أنّه من الصعوبة وكثرة الموانع منه بمنزلة الممتنع.
    ومنها : الدلالة على أنّهم غير لائقين به لأنّه لا ينفعهم.
    ومنها : الدلالة على أنّه لمّا لم يكن ممّا ينفعهم ولم يكونوا عاملين بمقتضاه ، كان بمنزلة الممتنع ، فإنّ العلم كثيراً ما ينزل منزلة الجهل ؛ لعدم العمل بمقتضاه ، قال اللّه عزّ قائلاً : ( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مالَهُ فِي الآخِرَة مِنْ خَلاق وَلَبِئْسَ ما شَرَوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) (1).
    ومنها : التوجيه.
1 ـ البقرة : 102.

(280)
    ومنها : موافقة زعمهم بأحد الوجوه التي عرفتها في قولهم.
    الثانية : في التعبير بالماضي إن أُريد معنى « أن » ؛ وجوه :
    منها : الأوّلان والأخير ممّا مرّت في تعبيرهم بالماضي.
    ومنها : المبالغة في إنكارهم بتخييل أنّه قد حصل الإعلام وخالفوا.
    ومنها : إظهار صعوبة في الغاية حتى كأنّه يُسلّي نفسه ؛ بأنّ الزمان اللائق به إنّما هو الماضي وقد مضى فلا حاجة إليه بعد.
    ومنها : أنّ جزاء هذا الشرط لمّا كان غاية في الكراهة وأراد المتكلّم توطين النفس عليه ، أبرزه في صورة الواقع لتتسرّع في التهيّؤ له ، أو ليسلّي نفسه بأنّه كأنّه قد وقع وانقضى ، نظير ما عرفته في قوله : إِذا توفيت.
    الثالثة : في التعبير عن التعريف بالإعلام ، وجوه :
    منها : التوجيه.
    ومنها : الإشارة إلى أنّ معرفته من الظهور والوضوح ليس ممّا يفتقر إلى تفكّر وتدبّر ، لما عرفت أنّ المعرفة هو إدراك الشيء ، بتفكّر.
    ومنها : التنبّه على أنّ العلم به ليس ممّا يحصل لهم بعد أن لم يكن ، أو بعد أن غفلوا ونسوا ، فإنّه تكرّرت عليه النصوص الواضحة التي لا تبقي لسامعها شكّاً إن ( كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهيدٌ ) (1).
    ومنها : أنّك قد عرفت أنّه قيل : إنّ المعرفة تخصّ البسيط ، أي العلم التصوّري وهذه المعرفة تتضمّن العلم بالمركّب ، أي العلم التصديقي ، وهو المقصود ، فإنّ تصوّر المفزع من حيث هو لا جدوى فيهم ، وإنّما يجديهم العلم فإنّ فلاناً مفزع.
1 ـ ق : 37.

(281)
    ومنها : التوجيه ، لا يقال : إنّ التوجيه حاصل على تقدير التعبير بالتعريف أيضاً ، فإنّه كما جاء الإعلام بمعنى التعريف جاء العكس ؛ لأنّا نقول : وإن كان الأمر كذلك إلاّ أنّه لما لم يكن له في اللفظ إلاّ مفعول واحد لم يكن داع إلى حمل التعريف على الإعلام ، بل كان حمله على معناه الحقيقي متعيّناً.
    الرابعة : في حذف أحد مفعولي الإعلام إن لم يكن بمعنى التعريف ؛ وجوه :
    منها : الإيجاز.
    ومنها : التوجيه في الإعلام وفي المفزع ؛ من جهتين :
    إحداهما احتماله المصدريّة والمكانية ، وأُخراهما احتماله كونه أوّل المفعولين أو ثانيهما.
    ومنها : أنّ المقصود بالذات إنّما هو هذا المفعول.
    ومنها : تعظيم المحذوف.
    ومنها : المبالغة في إبهامه.
    ومنها : المبالغة في تعميمه زيادة في تقرّبهم ، حتى أنّه إن أوصى إلى أيّ رجل فرض ، فهم بصدد مخالفته ومفارقته.
    الخامسة : تنكير « مفزعاً ».
    أمّا إن كان مفعولاً ثانياً ، فلأنّه الأصل لأنّه مخبر به وفي الأصل خبر المبتدأ ، وخصوصاً إذا قدّر المفعول الأوّل منكراً فإنّه يصحّ أن يكون المخبر عنه نكرة والمخبر به معرفة.
    وأمّا إن كان مفعولاً أوّل ، فللتعظيم والإبهام ، ويشمل التقديرين رعاية الوزن.
    السادسة : زيادة قوله : « كنتم ».


(282)
    أمّا إن كان المراد به المعنى الأصلي ، فللمبالغة في إفادة المعنى كما عرفت سابقاً خصوصاً والجزاء لفظ « عسى » وهو قد يجرّد عن إفادة المضيّ ، وهذا الجزاء ان يبالغ في مضيّه ، للدلالة على أنّ هذا التوقع بالنسبة إليهم لم يكن ممّا حدث الآن أو سيحدث ، بل كان النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أبداً متوقّعاً منهم ذلك ، وأيضاً لأنّ « عسى » إنشاء للترجّي فهو بنفسه لا يصلح جزاء إلاّبتأويل ، فأتى ب‍ « كنتم » توصّلاً إلى جعله جزاء أو دلالة على أنّه لا يراد به المعنى الإنشائي ؛ لوقوعه خبراً ل‍ « كان » ، فإنّه لا يقع خبراً له إلاّ بتأويله بالمعنى الخبري ، فكأنّه قيل : « كنتم مقولاً في شأنكم كذا » أو « متوقّعاً منكم كذا ».
    وأمّا إن كان المراد به معنى صرتم ، فالإتيان به للتوصّل المذكور ، والتعبير بهذا اللفظ للتوجيه والمبالغة في إفادة المضي ، فإنّ المتبادر من هذا اللفظ هو المضي ، وإن كان (1) بمعنى « صار » حكمه حكمه ، وكذا الحكم إذا كان تامّاً بمعنى « وجد » ثمّ في الإتيان ب‍ « كنتم » على كلّ : التوجيه.
    السابعة : في تقديم الظرف أعني « فيه » على متعلّقه إن تعلّق ب‍ « تصنعوا » ؛ وجوه :
    منها : رعاية الوزن والقافية.
    ومنها : التوجيه.
    ومنها : تقريب الضمير من مرجعه لا سيّما إذا لم يكن مرجعه هو المذكور ، لأنّه أحوج إلى التقريب.
    الثامنة : في التعبير عن معنى التعليل ، أو معنى الباء ب‍ « في » ، مبالغة في العليّة أو الإلصاق كما لا يخفى ، وتوجيه من جهتين : إحداهما من جهة لفظة « في » والأُخرى من جهة محل الظرف.
1 ـ في الأصل : « و إن كان إذا كان » ، و تظهر « إذا كان » زائدة.

(283)
    التاسعة : في التعبير عن عبدة العِجل بأهل العجل ، ما لا يخفى من المبالغة في إصرارهم على عبادته ورسوخها في قلوبهم كما قال جلّ من قائل : ( وأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ العِجْلَ ) (1).
    العاشرة : في إبهام صنيع أهل العجل ثمّ إيضاحه بقوله : « فارقوا » إن كانت « إذ » زائدة ، أو للتعليل ، أو مجرّد الإبهام إن كانت ظرفية إشارة إلى تعظيمه في الفظاعة والشناعة. الحادية عشرة : العدول عن تركه إلى الترك له ، للتوجيه والوزن.
    الثانية عشرة : تقديم الظرف ، أعني « له » على عامله إن كان متعلّقاً ب‍ « أودع » للوزن والقافية والتوجيه وتقريب الضمير من مرجعه.
    الثالثة عشرة : التعبير عن معنى اسم الفاعل باسم التفضيل إن أُريد ب‍ « أودع » معنى « وادع » للدلالة على اشتماله على فضل يسعه أي ليس ضعيفاً في السعة بل له فيها قوّة وفضل.
    الرابعة عشرة : ترك المفضل عليه للاحتراز عن العبث في الظاهر ، لأنّ القرينة جليّة جدّاً وللتوجيه.
    البيان :
    إن أُريد ب‍ « لو » معنى « إن » كانت استعارة تبعيّة ، وكذا الماضيان اللّذان هما الشرط والجزاء ، وإن كان المراد ب‍ « عسيتم » متوقّعاً منكم ، كان مجازاً ، ولفظة « في » أيضاً استعارة تبعيّة إن أُريد بها التعليل أو الإلصاق ، والأهل استعارة مصرّحة ؛ لأنّهم شبّهوا في اجتماعهم على عبادة العجل و اشتراكهم بما بين أهل بيت واحد من الاجتماع والاشتراك.
1 ـ البقرة : 93.

(284)
وفي الّذِي قالَ بَيانٌ لِمَنْ كانَ إذا يَعْْقِـلُ أوْ يَسْمَعُ
    اللغة :
    « الواو » : إمّا للعطف أو الحال أو الاعتراض ، أو للاستئناف البياني.
    « في » : إمّا للظرفية المجازيّة ، وإمّا بمعنى الباء للسببية كما قيل في قوله تعالى ( يَذْرَؤكُمْ فِيهِ ) (1).
    وإمّا بمعنى « من » التي للتبعيض كما قيل في قوله :
ألا عِم صَباحاً أيُّها الطَّللُ البالي وهل يَعِمَن مَنْ كان أحدَث عهده وَهَلْ يَعمَن مَنْ كان في العُصُر الخالي ثلاثين شَهراً في ثلاثة أحوالِ (2)
    ومن نفى كون « في » بمعنى « من » قال المعنى في عقب ثلاثة أحوال.
1 ـ الشورى : 11.
2 ـ البيتان مطلع قصيدة لامرئ القيس ؛ ديوانه 158 ( الطويل ).


(285)
    والحقّ أن « في » فيه بمعناها الحقيقي من غير شائبة ، تجوز إلاّ في ظرفية الكل للجزء ، ومن غير أن يلزم تكلّف أو خروج عن الظاهر.
    وإمّا زائدة للتوكيد على ما أجازه الفارسي في الضرورة وأنشد :
أنا أبو سَعد إذا الليلُ دَجَا يَخالُ في سوادِهِ يَرَنْدَجا (1)
    وأجازة بعضهم في قوله تعالى : ( وَقالَ ارْكَبُوا فِيها ) (2).
    « الذي » : من الموصولات الاسمية ، أي الأسماء التي لا يصحّ الإخبار عنها أو بها إلاّ إذا اتّصل بها جملة ، وتسمّى تلك الجملة صلة لها.
    والجمهور على أنّها لا تكون إلاّخبرية.
    وأجاز الكسائي كونها أمرية أو نهية.
    والمازني : أن تكون دعائية لفظها خبر ، نحو : الذي يرحمه اللّه زيد.
    وهشام : أن تكون مصدرة ب‍ « ليت » أو لعلّ » أو « عسى ».
    ثمّ المشهور أنّها لا تكون تعجبيّة وإن كانت خبراً. ومن النحاة من أجازه وهو مذهب ابن خروف (3).
    وذهب جماعة إلى أنّها لا تكون قسمية. وأجازه آخرون إن كان في إحدى جملتي القسم وجوابه عائد إلى الموصول.
1 ـ قال في الأغاني : 3 / 100 هو لسويد بن أبي كاهل اليشكري. وسويد يكني أبا سعد ، وهو شاعر متقدم من مخضرمي الجاهلية والاسلام. انظر ( شرح شواهد المغني : 1 / 486 الشاهد 271 ).
2 ـ هود : 41.
3 ـ علي بن محمد بن علي بن محمد بن خروف الحضرمي الاشبيلي المعروف بابن خروف ، صاحب شرح كتاب سيبويه ، و شرح الجمل للزجاجي وغير ذلك ، توفّى سنة ( 610 ). ( هدية العارفين : 1 / 704 ، سير اعلام النبلاء : 22 / 26 ، الكنى والألقاب : 1 / 276 ، شرح الرضي : 1 / 523 الهامش ).
اللآلئ العبقرية في شرح العقينيّة الحميرية ::: فهرس