اللآلئ العبقرية في شرح العينيّة الحميرية ::: 301 ـ 315
(301)
ثمّ أتَتْهُ بَعْدَ ذا عَزْمَةٌ أبْلِغْ وَإلاّ لَمْ تَكُنْ مُبْلِغاً فَعِنْدَها قام النَبيّ الّذيِ يَخْطبُ مأموراً وفي كَفِّه رافِعُها أكرِم بكَفِّّ الّذي يقولُ والأملاكُ من حَوْله مَنْ كُنْتُ مَولاهُ فهذا لَـهُ مِنْ رَبِّه ليسَ لَها مدفعُ واللّهُ مِنْهُمْ عاصِمٌ يَمْنَعُ كانَ بما يأمرهُ يَصْـــدَعُ كفُّ علىّ ظاهراً يَلْمعُ يَرفَعُ والكفِّّ الذي يرفَعُ واللّهُ فيهِمْ شاهِدٌ يَسْمَــعُ مَوْلًى فَلَم يَرضُوا وَلَمْ يَقْنَعُوا
    اللّغة :
    « ثُمّ » (1) مشترك بين فعل و اسم وحرف.
    فالفعل : ماضي مبني للمفعول ، أو أمر من ثمَّ وطاه وأصلحه وجمعه.
    والاسم : ما في قولهم : ماله ثمٌ و لا ذم ، بضمّها ؛ أي لا قماش ولا مرمة بيت.
    والحرف : حرف عطف تفيد عند الجمهور : التشريك في الحكم ، والترتيب
1 ـ « ثم » و يقال فيها : فُمَّ ، كقولهم في « جدث » : جدف. انظر مغني اللبيب : 1 / 150.

(302)
يكون المعطوف متأخّراً عن المعطوف عليه ، و المهملة بينهما.
    وحكي عن الفراء والأخفش وقطرب أنّها بمعنى « الواو » وجعلوا من ذلك قوله تعالى : ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس واحِدَة ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) (1).
    وزعم بعضهم أنّها قد تكون بمعنى « الفاء » كقوله :
كَهَزِّ الرُّدَيْنِيِّ تحتَالعَجَاج جَرَى في الأنابِيبِ ثُمَّ اضْطَربْ (2)
    وقد تجيئ لمجرّد الترتيب في الذكر كقوله :
إنّ مَنْ سادَ ثُمّ سادَ أبُوهُ ثُمَّ قَدْسادَ قبلَ ذلك جَدُّهُ (3)
    وقد تجيئ في الجمل خاصة لبعد مضمون المعطوفة عن مضمون المعطوف عليها ، كقوله تعالى : ( وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) (4).
    وقد يبدّل ثاؤها فاء في بعض اللّغات فيقال : فم ، كما قيل في جدث جدف.
    وقد يلحق بها التاء الساكنة أو المتحركة ، وهي في البيت يحتمل أن تكون
1 ـ الزمر : 6. وفي الأصل جاءت الآية سهواً هكذا : ( هو الّذي خلقكم ... ).
2 ـ من القصيدة البائية ل‍ « أبي دؤاد جارية بن الحجاج الأيادي » أحد وصافي الخيل ، وهنا يصف فيهاالفرس. والقصيدة في ديوان حميد بن ثور : 43 و ليست له. ( شرح شواهد المغني : 1 / 358 الشاهد167 ).
3 ـ جاء في شرح الرضي : 4 / 390 ، من أبيات لأبي نواس : الحسن بن هاني في مدح العباس بن عبيداللّه بن جعفر ، البيت بعدها :
وأبــو جـــده فـــساد إلى أن يتلاقى نزاره ومعده
    وليس القصد الاستشهاد وإنّما هو تمثيل لأمر معنوي
    وانظر كتاب « المنخول » لأبي حامدالغزالي : 151.
4 ـ الانعام : 1.


(303)
بمعنى الّذي قالته الجمهور فتكون بعد « ذا » تأكيداً لها ، وأن تكون بمعنى « الواو » أو للترتيب في الذكر أو لبعد مضمون ما بعدها عما قبلها ، لأنّ الشأن بعد إتيان القرينة من اللّه تعالى بعيد في الغاية عن الشأن قبل ذلك ، فيكون بعد « ذا » تأسيساً.
    « التاء » : الساكنة التي في « أتته » علامة لتأنيث الفاعل وهي من خواص الفعل وإلحاقها بالفعل غير لازم إذا كان الفاعل مؤنّثاً غير حقيقي ، أو مفصولاً بينه وبين الفعل. وهنا قد اجتمع الأمران ، وفي مثله نصّ جماعة ، منهم نجم الأئمة رضي اللّه عنه على أنّ المختار ترك الإلحاق ، كقوله تعالى : ( جاءَهُ مَوْعِظَةٌ ) (1).
    ويحتمل أن لا يكون الناظم قد ألحق التاء ، وإنّما الذي على صورتها ألف « أتى » التي هي لامها كتبت بصورة الياء التحتانيّة كما هو دأب طائفة من الكتاب ، وحينئذ فقد راعى الأُولى على قول الجماعة من ترك الإلحاق.
    « بعد » ظرف زمان غالباً وربما كان للمكان كما يقال : دار زيد بعد دار عمرو.
    « ذا » اسم إشارة موضوع للإشارة إلى مفرد مذكّر ، واختلف في وضعه على أقوال : فالبصريون على أنّه ثلاثي الوضع.
    فمنهم من قال : إنّ أصله « ذيَيْ » بيائين مفتوحة فساكنة حذفت الأخيرة التي هي اللاّم اعتباطاً وقُلبت الأُولى ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، ولم يمنع من ذلك حذف الياء الأخيرة كما منع من مثله حذف ياء من « تولان » المحذوف اعتباطاً بمنزلة المعدوم.
    ومنهم من قال : إنّ الياء الأُولى ساكنة وهي المحذوفة والثانية مفتوحة وهي التي قلبت ألفاً. ورجّح الأُوّل بأنّ حذف اللام اعتباطاً أكثر من حذف العين.
    ومنهم من قال : إنّ أصله « ذوي » لأنّ باب طويت أكثر من باب حييت ، ثمّ
1 ـ البقرة : 275.

(304)
اختلف فقيل : إنّ المحذوف هو اللام وقيل : العين على مثل المتقدّم
    والكوفيّون على أنّ الاسم إنّما هو « الذال » وحدها ، و « الألف » زائدة ؛ لأنّ مثنّاه « ذان ».
    وجماعة ، منهم السيرافي وابن يعيش على أنّه ثنائي الوضع كماء ، بدليل أنّه إذا سمّي به قيل ذاء ، بإلحاق إلف أُخرى ثمّ قلبها همزة ، كما يقال « لاء » إذا سمّي ب‍ « لا » ، ولو كان ثلاثيّاً في الأصل لردّ إلى أصله فقيل : « ذاي ».
    ومن لغاته في الإشارة « ذاء » بالمدّ و « ذائه » بزيادة هاء مكسورة أو ساكنة بعد همزة مكسورة ، و « ذاؤه » بهاء مضمومة بعد همزة مضمومة.
    « العَزم » والعزيمة : الإرادة المتأكّدة لفعل ، وعقد للقلب عليه ، يقال : عزمت على كذا إذا أردت فعله وقطَعتُ عليه ، ويقال : عزمت عليه أن يفعل ، أي أقسمتُ عليه.
    والمراد بالعزيمة هنا الكلام المشتمل عليها أو معناها الحقيقي ويكون المراد بإتيانها إتيان الكلام الدال عليها إمّا تقديراً أو عنايةً.
    أو يكون المراد بالإتيان إتيانها على المجاز الغير المشهور ، فإنّ إتيان الأقاويل استعمال شائع بخلاف إتيان معانيها.
    وفي شرح السيد المرتضى علم الهدى ( عليه السَّلام ) لقول السيّد في قصديته البائية التي مرّ مطلعها :
وبخم إذ قالَ الإلهَ بعزمه قُم يا محمّد في البرية فاخطُبِ (1)

1 ـ شرح القصيدة الذهبية : 87. ويقول بعدها :
وانصب أبا حسن بقومك إنّه فدعاهُ ثمّ دَعاهُم فأقامهُ جَعَل الولاية بعــدَهُ لمهـــذَّب هاد وما بلَّغــتَ إنْ لم تَنْصبِ لَهُمْ فبينَ مُصــدِّق ومُكذِّبِ ما كان يجعلهــا لغير مُهذّبِ

(305)
    فأمّا قول السيد : « إذ قال الإله بعزمه » والعزم لا يجوز على اللّه تعالى ، لأنّه اسم لإرادة متقدّمة على الفعل ، وإرادة القديم تعالى لفعله لا تتقدّم عليه ؛ لأنّ تقدّمها عبث.
    فالوجه فيه أنّ السيد إنّما أراد بالعزمة هاهنا القطع للأمر ، والثبات له ، والإيجاب لفعله ؛ لأنّهم يقولون : عزمت عليك أن تفعل كذا وكذا أي ألزمتك وأوجبت عليك ، والإرادة إذا تناولت فعل الغير لا تسمّى عزماً ، ويسمّون الواجبات : « عزائم » ولا يسمّون المندوبات بذلك ، ولهذا قالوا : عزائم السجود في القرآن وهي السور التي فيها سجود واجب ، فما أخطأ السيّد في ذكر العزمة ولا وضعها في غير موضعها. انتهى.
    قيله طاب مقيله وكلّ ما قاله سديد إلاّ أنّ في نفيه بقدم إرادة اللّه تعالى على فعله تأمّلاً ليس هنا مقام بسط الكلام عليه فليطلب من مواضعه.
    « من » للابتداء.
    « الربّ » يكون بمعنى السيّد ، قال عزّ قائلاً : ( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) (1) وقال الأعشى :
واهلكني يوماً رب كندة وابنه وربّ معد بني خبت وعرعر (2)
    ويكون بمعنى « المالك » ، روي عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال لرجل : أربّ إبل أنت أم ربّ غنم ؟
    وقال طرفة :
كقنطرة الرومي أقســم ربّها لتكتنفن حتّى تشاد بقرمد (3)

1 ـ يوسف : 42.
2 ـ ذكره الشيخ الطوسي في « التبيان في تفسير القرآن » : 1 / 31 ونسبه إلى لبيد بن ربيعة. وذكره ابن جريرالطبري في « جامع البيان » : 1 / 93.
3 ـ ذكره ابن منظور في لسان العرب : 5 / 233 : « قنطر ».


(306)
    ويكون بمعنى الصاحب ، قال أبو ذؤيب :
قد نالهُ ربّ الكِلاب بكفه بيض رهاب ريشهنّ مقزع (1)
    ويكون بمعنى المربّي إمّا على أنّه اسم موضوع له كبر وطب ، أو على أنّه مصدر أُريد به معنى اسم الفاعل.
    وعلى الأوّل فهو من أسماء الفاعلين التي بمعنى الثبوت لا الحدوث ، فهو صفة مشبّهة ، ولما لم يكن بناء الصفة المشبّهة إلاّ من فعل لازم قيل إنّه نقل الفعل من التعدّي إلى اللزوم كما فعل ب‍ « رحم » حتّى بني منه « الرحيم » ، وذلك بتنزيل الفعل منزلة اللازم.
    وعلى كلّ فهو من « ربّ » الذي أصله ربه يربه بمعنى ربّاه ، يقال : ربّيت الصبيّ وربيته أي ربيته ، وكذا ترببته ، و فلان مربوب أي مربَّى.
    ويكون بمعنى الصالح وبمعنى المصلح للشيء ، يقال : ربُّ ضيعته ، أي أصلحها ، وبسقاء مربوب أصلح بالربّ من العنب ، وغيره.
    قال :
كانُوا كَسالِئة حَمْقاءَ إِذْ حَقَنَتْ سِلاءَها في أدِيم غــَــير مَرْبُوبِ (2)
    ويقال : فرس مربوب ، أي مصلح.
    قال سلامة :
مِنْ كُلِّ حَثًّ إذا ما ابْتَلَّ مُلْبَدهُ صافي الأديمِ أسِيلِ الحَدِّ يَعْبُوبِ

1 ـ ذكره الطبرسي في « تفسير مجمع البيان » : 1 / 55 ، والزبيدي في « تاج العروس » : 1 / 280 ، وقال الرهب : السهم الرقيق ، والرهاب كجبال.
2 ـ والقائل : الفرزدق
    سلأ السَّمْن يَسْلَؤُه سَلأً واستَلاَءَهُ طَبَخَه وعالَجَه فأذاب زُبْدَه
    والاسم : السَّلاءُ ، بالكسر ، ممدود ، وهو السمن ، والجمع : أسلئة. ( لسان العرب : 1 / 95 ).


(307)
ليسَ بأسْفَى ولا أقْنَى ولا سَغِل يُسْقَى دَواءَ قِفِيَّ السَّكْنِ مَرْبُوبِ (1)
    وقال الثعلبي في تفسيره « الكشف والبيان » : وقال الحسين بن الفضل ، الربّ : الثابت من غير إثبات أحد يقال : ربّ بالمكان وأربّ ولبّ وألبّ ؛ إذا أقام.
    وفي الحديث : إنّه كان يتعوّذ باللّه من فقر مُرِبّ أو مُلِبّ (2) ، فقال الشاعر : « ربّ بأرض ما تخطّاها الغنم » (3). يعني لكثرة رعيها لا يجاوزها إلى غيرها من الأراضي.
    قال : وهو الاختبار لأنّ المتكلّمين أجمعوا على أنّ اللّه عزّوجلّ لم يزل ربّاً.
    قال : وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبي يقول : سئل أبو بكر محمد بن موسى الواسطي عن معنى الرب ، فقال : هو الخالق ابتداءً ، أو المربّي عناء ، أو الغافر انتهاء.
    ثمّ لا يطلق الربّ على غيره تعالى إلاّمضافاً إلى شيء ، ولا يطلق معرّفاً باللام إلاّعليه تعالى ؛ لإفادته العموم ولا تعمّ ربوبية غيره تعالى.
    « اللام » في « لها » للاختصاص.
    « المدفع » إمّا اسم مكان ، أو زمان ، أو مصدر.
    « الإبلاغ » : الإيصال ، يقال : أبلغ عنّي السلام إلى فلان ، أي أوصله إليه.
    « الواو » للاستئناف البياني فإنّ ما قبلها مؤد إلى أن يُسئل عن السبب في
1 ـ البيتان ل‍ « سلامة بن حنبل » يصف فرساً وهنا « السَّغِل » : المُضطرب الخَلق ( لسان العرب : 1 / 401 ).
2 ـ الطريحي : مجمع البحرين : 2 / 129.
3 ـ ذكره الزبيدي في تاج العروس : 1 / 464 و نسب إنشاده إلى الأحمر. وذكره السيد محسن الحكيم في : مستمسك العروة الوثقى : 11 / 394 قائلاً : حكى بعض عن الخيل ...


(308)
وجوب الإبلاغ أو للاعتراض.
    « إلاّ » مركّبة من « ان » الشرطيّة و « لا » النافية كما في نحو قوله تعالى : ( إِلاّ تنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّه ) (1).
    فلنتكلّم في كلّ من « أن » و « لا » على ما يقتضيه المقام : فاعلم أنّ « أن » يكون فعلاً ويكون حرفاً.
    أمّا الفعل : فهو أمر من أنّ أينك ، أي حان حينك.
    وأمّا الحرف : فعلى وجوه :
    منها : أن يكون حرف شرط ، وهي أُم حروف الشرط ، ولذا قد يحذف منها جملتا الشرط والجواب في الشعر إذا قامت قرينة ، كقوله :
قالَتْ بناتُ العم يا سلمى وإن كان فقِيراً مُعدَماً قالـت وإن (2)
    ويحذف شرطها مع لا في السعة كثيراً ، وهي موضوعة لما لا يقطع المتكلّم بوقوعه ولا بلا وقوعه ، وإذا رأيتها في كلام اللّه عزّ و جلّ ، فإمّا التنزيل المقطوع به منزلة المشكوك فيه لاعتبار مناسب ، أولعدم قطع المخاطب فنزل شكّه منزلة شك المتكلّم ، أو لأنّ أكثر كلامه تعالى جار على ألسنة عباده.
    وأمّا « لا » فهي حرف ، تأتي على وجوه : تكون عاملة وغير عاملة ، والعاملة تكون عاملة للجزم وعاملة عمل « إن » وعاملة عمل ليس. والتي هنا غير عاملة وهي لا تختص بشيء دون شيء.
    « لم » حرف نفي مخصوص بنفي المضارع وقلبه إلى معنى الماضي ، فهي تدلّ على انتفاء معناه في الزمن الماضي ، ولا دلالة لها على انقطاع الانتفاء في الحال ولا على الاتّصال إلى زمن الحال ، بل يرد على الوجهين : فمن الأوّل قوله تعالى : ( لَمْ
1 ـ التوبة : 40.
2 ـ شرح الرضي : 4 / 86 ، مغني اللبيب : 2 / 649 ولم ينسباه.


(309)
يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) (1) ، ومن الثاني قوله تعالى حكاية : ( وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ) (2).
    « الواو » إمّا للاستئناف ، أو الحال ، أو الاعتراض إن جاز الاعراض في آخر الكلام.
    « اللّه » اسم لا خلاف في اختصاصه بالذات الأحديّة تعالى وتقدّس ، لا يُطلق على غيره وإلاّلم يكن « لا إله إلاّ اللّه » توحيد ، إلاّ أنّهم اختلفوا في أنّ هذا الاختصاص لكونه علماً موضوعاً له في الأصل ، أو لكونه من الأسماء الغالبة في فرد من أفراد مفهومه غلبة بالغة إلى حد العلميّة ، حتى صار من الأعلام الغالبة كالنجم ، أو لا إلى حدّ العلمية بل إنّما صار من الأسماء الغالبة.
    ثمّ اختلفوا في كونه اسماً جامداً ، أو صفة مشتقّة ، فالأوّلون قالوا : إنّ أصله « لاها » بالسيريانيّة ، وذلك لأنّ في أواخر أسمائهم مَدّة ، كقولهم للروح : « روحا » ، وللقدس : « قدسا » ، وللمسيح « مسيحا » وللابن : « أودا » فلمّا طرحوا المدّة بقي « لاه » فعرّبته العرب وعرّفته بالألف واللام.
    والآخرون اختلفوا فيما اشتقّ منه ، فقيل : إنّه في الأصل « لاه » مصدر لاه يليه ليها و لاها إذا احتجب أو ارتفع. ومنه الآلهة للشمس ، لارتفاعها. وأنشدوا.
كَحَلْفَة من أبي رياح يََسْمَعُها لاهه الكُبارُ (3)
    وقيل إنّه في الأصل « إله » فحذفت همزته وعوّض عنها لام التعريف وأُدغم اللاّم في اللاّم ، ولذا لزمته فلا يعرى عنها في السعة.
1 ـ الإنسان : 1.
2 ـ مريم : 4.
3 ـ ديوان الأعشى : 72 والأبيات قالها فيما كان بينه و بين بني جحدر. و ذكره ابن منظور في لسان العرب و فيه « أبورباح » بدل « أبورياح ».


(310)
    ثمّ قيل : إنّه من « أله » ، أي تحيّر لتحيّر العقول فيه ، قال :
وبيدائية (1) تأله العين وسطها محقّقة غبراء هرماء سملق (2)
    وقيل : من ألهت إلى فلان ، أي فزعت إليه واعتمدت عليه ، قال : « ألهت إليها والركائب وقف » (3).
    وقيل : من ألهت إليه أي سكنتُ إليه ، لأنّ النفوس تسكن إلى معرفته والقلوب تطمئن بذكره.
    قال : ألهت إليها والحوادث جمّة.
    وقيل : إنّه من الوله ، وهو ذهاب العقل فأصله « ولاه » قلبت الواو همزة كأشاح وأكاف ، وأرّخت الكتاب واقتت لأنّ العقول تتولّه في معرفته.
    وقيل : من لاهت العروس تلوه لوهاً إذا احتجبت قال :
لاهت فما عرفت يوماً بخارجة يا ليتها خرجت حتى رأيناها (4)
    وقيل : من ألهت بالمكان أي أقمت به ، لأنّه الدائم الثابت الذي لا يزول ، قال :
ألهنا بدار ما تبيد رسومهـــا كأنّ بقاياها وشام على اليـــد (5)
    وقيل : من ألّههم أي أحوجهم إليه فإن العباد محتاجون مضطرّون إليه فهذا ما يليق بهذا الكتاب ، والتفصيل محوج إلى إفراد رسالة له وفّقنا اللّه لذلك. وقد حضرني من الأخبار التي تدل على اشتقاقه ، وما اشتقّ منه من طريق الخاصّة عدة :
1 ـ كذا.
2 ـ لم أعثر على البيت وقائله.
3 ـ ذكره ابن منظور في لسان العرب : 3 / 951 ، والزبيدي في تاج العروس : 9 / 375 ولم ينسباه.
4 ـ ذكره القرطبي في تفسيره : 17 / 101 و لم ينسبه.
5 ـ تاج العروس : 9 / 375 ولم ينسبه ، وفيه « تبين » و « شوم » بدل « تبيد » و « شام ».


(311)
    فمنها : ما في تفسير الإمام الهمام الحسن بن علي العسكري صلوات اللّه وسلامه عليهما قال : اللّه هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلُّ مخلوق ، وعند انقطاع الرجاء من كلّ من دونه ، وتقطّع الأسباب من جميع من سواه. وقد روي مثل ذلك عن علي بن الحسين صلوات اللّه عليهما. (1)
    ومنها : ما رواه الشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي رضوان اللّه عليه في كتاب « التوحيد » بإسناده عن أمير المؤمنين صلوات عليه قال : « اللّه » معناه : المعبود الذي يأله فيه الخلق ويولّه إليه ؛ واللّه هو المستور عن درك الأبصار ، المحجوب عن الأوهام والخطرات.
    وقال : قال الباقر ( عليه السَّلام ) : اللّه معناه المعبود الذي أله الخلق عن درك ماهيته والإحاطة بكيفيّته. (2)
    ومنها : ما رواه الشيخ الصدوق ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني في كتاب « التوحيد من كتاب « الكافي » بإسناده عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السَّلام قال : سئل عن معنى « اللّه » ؟ فقال : استولى على ما دق وجل. (3)
    ومنها : ما رواه أيضاً بإسناده عن هشام بن الحكم ، أنّه سأل أبا عبد اللّه ( عليه السَّلام ) عن أسماء اللّه واشتقاقها : اللّه ممّا هو مشتق ؟ قال : فقال لي : يا هشام ، اللّه مشتقٌّ من إله ؛ والإله يقتضي مألوهاً. إلى آخر الحديث. (4)
    « من » للتعدية.
    « العصمة » المنع ، يقال : عصمه الطعام ، أي منعه من الجوع والحفظ يقال :
1 ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري ( عليه السَّلام ) : 201.
2 ـ التوحيد : 85 ، ح 2 ، باب 4 ، تفسير « قل هواللّه أحد » ( الخ ).
3 ـ الكافي : 1 / 114 ـ 115 ، ح 3 ، باب معاني الأسماء واشتقاقها.
4 ـ الكافي : 1 / 87 ، ح 2 ، باب المعبود.


(312)
عصمته فانعصم.
    « منعه » يمنعه عن كذا وعنه كذا : إذا لم يعطه ؛ وعن فعل كذا : نهاه عنه ، ومن فلان : إذا كفّ أذاه عنه وهو في عز.
    ومنعه : محرّكة وتسكّن ، أي له من يمنعه عمّن يؤديه ، وهو منيع أي عزيز. وقد منع ككرم : صار منيعاً.
    « الفاء » عاطفة تفيد السببية أو لمجرّد السببية.
    « عند » مثلثة : الأوّل اسم للحضور الحسّي ، أو المعنوي ، وللقرب الحسّي أو المعنوي.
    فمن الأوّل : قوله تعالى : ( فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ ) (1).
    ومن الثاني : قوله تعالى : ( قالَ الّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ ) (2).
    ومن الثالث : قوله : ( عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنّةُ الْمَأْوى ) (3).
    ومن الرابع : قوله : ( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيارِ ) (4).
    وإذا استعمل في الزمان فقد يراد به الحضور المعنوي ؛ وقد يراد به القرب المعنوي ، فإذا قيل : ائتني عند الظهر ، جاز أن يراد به وقت الظهر وأن يراد به قريباً منه.
    والمراد به في البيت : الحضور المعنوي العرفي أوالقرب المعنوي الحقيقي ، فإنّه لا شبهة في أنّ القيام ليس في عين وقت إتيان العزمة بل بعده ولكن ربّما يكون للوقت الواحد العرفي امتداد فيسع الإتيان والقيام.
    « قام » يقوم قوماً وقومة وقياماً : انتصب ، وقامت المرأة تنوح ، طفقت ، وقامت الدابّة : وقفت.
1 و 2 ـ النمل : 40.
3 ـ النجم : 14 و 15.
4 ـ سورة ص : 47.


(313)
    « الألف واللام » للعهد الخارجي.
    « النبيّ » إمّا من النبأ بمعنى الخبر لأنّه يأتي بالأنباء من اللّه سبحانه. وأصله الهمز قال سيبويه : ليس أحد من العرب إلاّ ويقول : تنبّأ مُسَيْلِمَةُ بالهمز ، غير أنّهم تركوا الهمز في النبيّ كما تركوه في الذُرِّية والبَريَّة والخابية ، إلاّ أهل مكّة فإنّهم يهمزون هذه الأحرف الثلاثة ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب في ذلك.
    وإمّا من النبوّة والنباوة وهي الارتفاع.
    وربّما أطلقنا على الأرض المرتفعة ، ويقال « النبي » أيضاً للأرض المرتفعة ، قال الزمخشري في الفائق : وهو غير متقبّل عند محققة أصحابنا ولا مُعرج عليه. (1)
    أقول : ولكن يؤيده ما رواه الشيخ الصدوق أبو جعفر ابن بابويه في كتاب « معاني الأخبار » بسنده عن ابن عباس قال : قال أعرابيّ لرسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : السلام عليك يا نبيء اللّه. قال : لستُ نبيء اللّه ولكنّي نبيّ اللّه. (2)
    ومن طريق العامّة : أنّ رجلاً قال له يا نبيء اللّه ، فقال : لا تنبز باسمي فإنّما أنا نبيّ اللّه. (3) وأوّله الأوّلون بأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إنّما أنكر عليه لأنّ الهمز فيه ليس من لغة قريش.
    ثمّ إنّه على الأوّل بمعنى فاعل بمعنى ذي كذا ك‍ « تامر » و « لابن ».
    أو بمعنى مُفْعِلْ ك‍ « بديع » بمعنى مُبْدِعْ.
    أو بمعنى مُفْعَلْ ك‍ « بديع » أيضاً بمعنى مُبْدَعْ.
    وعلى الثاني : بمعنى فاعل ك‍ « رفيع » لا بمعنى مفعول كما قاله الجوهري.
1 ـ الفائق في غريب الحديث : 3 / 403 « النبوة ».
2 ـ معاني الأخبار : 113 ـ 114 ، ح 1 ، باب معنى النبوة ، مستدرك الحاكم : 2 / 231 وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
3 ـ الفائق في غريب الحديث : 3 / 401 وفيه « لاتنبِر ».


(314)
    وقيل : إنّه النبيّ مهموزاً أو غير مهموز بمعنى الطريق الواضح أو الطريق ، لأنّ الأنبياء صلوات اللّه عليهم طرقٌ إلى معرفة اللّه تعالى وإلى الجنان.
    ثمّ إنّ المشهور أنّ النبيّ أعمّ من الرسول وإنّ الرسول هو من كان صاحب شريعة وكتاب والنبيّ أعمّ من ذلك.
    وقد روى ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني في كتاب الحجّة من « الكافي » ، بإسناده عن زرارة قال : سألت أبا جعفر ( عليه السَّلام ) عن قول اللّه عزّوجلّ ( وَكان رَسُولاً نَبِيّاً ) (1) ما الرسول وما النبيّ ؟
    قال : النبيّ : الذي يرى في منامه و يسمع الصوت ولا يعاين الملك ؛ والرسول : الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك.
    قلت : الإمام ما منزلته ؟ قال : يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك ثمّ تلا هذه الآية : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلا نَبِىّ ) (2) ولا مُحَدِّث. (3)
    وروى أيضاً بإسناده عن إسماعيل بن مرار ، قال : كتب الحسن بن العبّاس المعروفي إلى الرضا ( عليه السَّلام ) : جعلت فداك أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبيّ والإمام ؟
    قال : فكتب ، أو قال : الفرق بين الرسول والنبيّ والإمام : أنّ الرسول الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي ، وربّما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ( عليه السَّلام ).
    والنبيّ ربّما سمع الكلام وربّما رأى الشخص ولم يسمع.
    والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص. (4)
1 ـ مريم : 51 و 54.
2 ـ الأنبياء : 25.
3 ـ الكافي : 1 / 176 ، ح 1 ، باب الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدّث.
4 ـ المصدر نفسه : ح 2.


(315)
    وروي نحو ذلك عدّة روايات (1).
    و أمّا قوله تعالى أنّه ( كانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) ، فله وجوه من التأويل :
    منها : أن يكون النبيّ هنا بمعناه اللغويّ ، أي رفيعاً.
    ومنها : أنّ الرسول من الأنبياء رسالته متقدّمة على نبوّته فإنّه يُرسل لإنباء الخلق.
    ومنها : أنّ « نبيّاً » خبر بعد خبر ل‍ « كان » لا صفة ل‍ « رسولاً » ليكون قيداً له ، وإنّما أُخر عنه تنبيهاً على أنّ كلاً من الوصفين ممّا يستقلّ في استحقاق المدح به.
    « الباء » إمّا للتعدية ، أو السببية ، أو الاستعانة.
    « ما » إمّا موصولة ، أو موصوفة ، أو مصدريّة.
    « الأسر » : إلقاء كلام يدلّ على طلب فعل على سبيل الاستعلاء ، وربّما أُطلق على ذلك الطلب وإن لم يكن بإلقاء كلام.
    « الصدع » في الأصل : الشق في شيء صلب من زجاج ونحوه ، ولمّا كان هذا الشقّ بيّناً لا يمكن إخفاؤه ، قيل : صدعت الشيء بمعنى بيّنته وأظهرته إذا بولغ في تبيينه وإظهاره ، ويقال : صدعت بالحق ، إذا تكلمت به جهاراً.
    وقوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَر ) (2) إمّا بمعنى أظهر ما تؤمر ، أو بمعنى أفرق بين الحقّ والباطل بسبب ما تؤمر ، أو باستعانته ، أو شقّ جماعتهم بما تؤمر ، أو أجهر بالقرآن.
    وهذه المعاني وإن أمكن إجراؤها في البيت أيضاً لكن لا سترة بأنّ المناسب
1 ـ راجع في ذلك مفاهيم القرآن للعلاّمة السبحاني : 4 / 360 ـ 371 ، وأحاديث باب المصدر السابق.
2 ـ الحجر : 94.
اللآلئ العبقرية في شرح العقينيّة الحميرية ::: فهرس