اللآلئ العبقرية في شرح العينيّة الحميرية ::: 376 ـ 390
(376)
إلاّ فيما يقتضي فرض الطاعة له عليهم ونفوذ أمره ونهيه فيهم ، ولن يكون كذلك إلاّ من كان إماماً.
    فإن قال : دلّوا على صحّة الخبر ثمّ على أنّ لفظ « مولى » محتملة لأولى وأنّه أحد أقسام ما يحتمله ، ثمّ على أنّ المراد بهذه اللفظة في الخبر هو الأولى دون سائر الأقسام ، ثمّ على أنّ الأولى يفيد معنى الإمامة.
    قيل له : أمّا الدلالة على صحّة الخبر ، فما يطالب بها إلاّ متعنّت لظهوره وانتشاره وحصول العلم لكلّ من سمع الإخبار به ، وما المطالب بتصحيح خبر الغدير والدلالة عليه إلاّ كالمطالب بتصحيح غزوات النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) الظاهرة المنشورة ؛ وأحواله المعروفة ؛ وحجّة الوداع نفسها ، لأنّ ظهور الجميع وعموم العلم به بمنزلة واحدة.
    وبعد ، فإنّ الشيعة قاطبة تنقله وتتواتر به ، وأكثر رواة أصحاب الحديث ترويه بالأسانيد المتّصلة ، وجميع أصحاب السير ينقلونه عن أسلافهم خلفاً عن سلف نقلاً بغير اسناد مخصوص كما نقلوا الوقائع والحوادث الظاهرة وقد أورده مصنّفو الحديث في جملة الصحيح ، وقد استدل هذا الخبر بما لا يشركه فيه سائر الأخبار ، لأنّ الأخبار على ضربين :
    أحدهما لا يعتبر في نقله الأسانيد المتّصلة ، كالخبر عن وقعة بدر وخيبر والجمل وصفّين ، وما جرى مجرى ذلك من الأُمور الظاهرة التي يعلمها الناس قرناً بعد قرن بغير اسناد وطريق مخصوص.
    والضرب الآخر يعتبر فيه اتّصال الأسانيد كأخبار الشريعة.
    وقد اجتمع في خبر الغدير الطريقان مع تفرّقهما في غيره من الأخبار ، على


(377)
أنّ ما اعتبر في نقله من أخبار الشريعة اتّصال الأسانيد ، لو فتشت عن جميعه لم تجد رواية إلاّ الآحاد ، وخبر الغدير قد رواه بالأسانيد الكثيرة المتّصلة الجمع الكثير ، فمزيّته ظاهرة.
    وممّا يدلّ على صحّة الخبر : إطباق علماء الأُمّة على قبوله ولا شبهة فيما ادّعيناه من الإطباق ؛ لأنّ الشيعة جعلته الحجّة في النصّ على أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) بالإمامة ومخالفو الشيعة تأوّلوه على خلاف الإمامة على اختلاف تأويلاتهم !
    فمنهم من يقول : إنّه يقتضي كونه ( عليه السَّلام ) الأفضل.
    ومنهم من يقول : إنّه يقتضي موالاته على الظاهر والباطن.
    وآخرون يذهبون فيه إلى ولاة العتق ويجعلون سببه ما وقع عن زيد بن حارثة أو ابنه أُسامة بن زيد من المشاجرة. إلى غير ما ذكرناه من ضروب التأويلات والاعتقادات.
    وما نعلم أنّ فرقة من فرق الأُمّة ردّت هذا الخبر ، أو اعتقدت بطلانه ، أو امتنعت من قبوله.
    وما يجمع الأُمّة عليه لا يكون إلاّ حقّاً عندنا وعند مخالفينا وإن اختلفنا في العلّة والاستدلال.
    فإن قال : وما في تأويل مخالفيكم للخبر ممّا يدلّ على قبولهم له أو ليس قد يتأول المتكلّمون كثيراً ممّا لا يقبلونه ؛ كأخبار المشبّهة وأصحاب الرؤية وما المانع من أن يكون في الأُمّة من يعتقد بطلانه أو يشكّ في صحّته ؟
    قيل له : ليس يجوز أن يتأوّل أحد من المتكلّمين خبراً يعتقد بطلانه أو يشكّ في صحّته إلاّ بعد أن يبيّن ذلك من حاله ويدلّ على بطلان الخبر أو على فقد ما


(378)
يقتضي صحّته ، ولم نجد مخالفي الشيعة في ماض ولا مستقبل يستعملون في تأويل خبر الغدير إلاّ ما يستعمله المتقبّل ، لأنّا لا نعلم أحداً منهم يعتدّ به قدّم الكلام في إبطاله والدفع له أمام تأويله ، فإن كانوا أو بعضهم يعتقدون بطلانه أو يشكّون في صحّته ، لوجب مع ما نعلمه من توفّر دواعيهم إلى ردّ احتجاج الشيعة به وحرصهم على دفع ما يجعلونه الذريعة إلى تثبيته أن يظهر عنهم دفعه سالفاً وآنفاً ويشيع الكلام منهم في تصحيح الخبر كما شاع كلامهم في تأويله ، لأنّ دفعه أسهل من تأويله وأقوى في إبطال المتعلّق به وأنفى للشبهة.
    فإن قال : أليس قد حكي عن ابن أبي داود السجستاني في دفع الخبر وحكي عن الخوارج مثله ، وطعن الجاحظ في كتاب العثمانية فيه ؟
    قيل له : أوّل ما نقول : إنّه لا يعتبر في باب الإجماع بشذوذ كلّ شاذّ عنه ، بل الواجب أن يعلم أنّ الذي خرج عنه ممّن يعتبر قوله في الإجماع ، ثمّ يعلم أنّ الإجماع لم يتقدّم خلافه فإنّ ابن أبي داود والجاحظ لو صرّحا بالخلاف لسقط خلافهما ؛ بما ذكرناه من الإجماع خصوصاً بالذي لا شبهة فيه من تقدّم الإجماع وفقد الخلاف وقد سبقهما ثمّ تأخّر عنهما ، على أنّه قد قيل : إنّ ابن أبي داود لم ينكر الخبر وإنّما أنكر كون المسجد الذي بغدير خم متقدّماً ، وقد حكي عنه التنصّل من القدح في الخبر والتبرّؤ ممّا قذفه به محمد بن جرير.
    وأمّا الجاحظ فلم يتجاسر أيضاً على التصريح بدفع الخبر ، وإنّما طعن على بعض روايته ، وادّعى اختلاف ما نقل من لفظه ، ولو صرّح الجاحظ والسجستاني وأمثالهما بالخلاف لم يكن قادحاً لما قدّمناه.
    فأمّا الخوارج ، فما يقدر أحد على أن يحكي عنهم دفعاً لهذا الخبر وامتناعاً من قبوله ، وهذه كتبهم ومقالاتهم موجودة معروفة وهي خالية ممّا ادّعي ، والظاهر من


(379)
أثرهم حملهم الخبر على التفضيل أو ما جرى مجراه من صنوف تأويل مخالفي الشيعة ، وإنّما أنس بعض الجهلة بهذه الدعوى على الخوارج ، ما ظهر عنهم من القول الخبيث في أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) وظنّ أنّ خلافهم له ورجوعهم عن ولايته يقتضي أن يكونوا جحدوا فضائله ومناقبه ، وقد أبعد هذا المدّعى غاية البعد ؛ لأنّ انحراف الخوارج إنّما كان بعد التحكيم للسبب المعروف وإلاّ فاعتقادهم لأمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) وفضله وتقدّمه قد كان ظاهراً ، وهم على كلّ حال بعض أنصاره وأعوانه ومن جاهد مع الأعداء وكان في عداد الأولياء إلى أن كان من أمرهم ما كان.
    وقد استدلّ قوم على صحّة الخبر بما تظاهرت به الروايات من احتجاج أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) به في الشورى على الحاضرين في جملة ما عدّده من فضائله ومناقبه وما خصّه اللّه تعالى به ، حيث قال : أُنشدكم اللّه هل فيكم أحد أخذ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بيده فقال : « من كنت مولاه فهذا مولاه اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » غيري ؟ فقال القوم : اللّهمّ لا (1) ، وإذا اعترف به من حضر الشورى من الوجوه واتّصل أيضاً بغيرهم من الصّحابة ممّن لم يحضر الموضع كما اتّصل بهم سائر ما جرى ولم يكن من أحد نكير له ولا إظهار الشكّ فيه ، مع علمنا بتوفر الدّواعي إلى إظهار ذلك لو كان الخبر بخلاف ما حكمنا به من الصحّة ، فقد وجب القطع على صحّته ، على أنّ الخبر لو لم يكن في الوضوح كالشمس لما جاز أن يدّعيه أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) سيما في مثل المقام الذي ذكرناه لأنّه ( عليه السَّلام ) كان أنزه وأجلّ قدراً من ذلك ، قالوا : وبمثل هذه الطريقة يحتجّ خصومنا في تصحيح ما ذكره أبوبكر يوم السقيفة وأسنده إلى الرّسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من قوله : الأئمّة من قريش ، وما جرى مجراه من
1 ـ وفيات الأئمّة : 32 ، معالم الفتن : 399.

(380)
الأخبار.
    فإن قال : كيف يصحّ احتجاجكم بهذه الطريقة ، وغاية ما فيها أن يكون الحاضرون في الشورى صدّقوا خبر الغدير وشهدوا بصحّته ، وأن يكون من عداهم من الصحابة الذين لم يحضروا وبلغهم ما جرى أمسكوا عن ردّه وإظهار الشكّ فيه على سبيل التصديق أيضاً وليس في جميع ذلك حجّة عندكم ، لأنّكم قد رددتم فيما مضى من الكتاب على من جعل تصديق الصحابة بخبر الإجماع وإمساكهم عن ردّه حجّة في صحّته.
    قيل له : إنّما رددنا على من ذكرت من حيث يصحّ عندنا لولا إطباق الصحابة على الخبر المدّعى في الإجماع ، ثمّ لما سلّمنا للخصوم ما يدّعونه من إطباق الصحابة ، أريناهم أنّه لا حجّة فيه على مذاهبهم وأُصولهم ؛ لأنّهم يجيزون على كلّ واحد منهم الخطأ عقلاً واعتقاد الباطل بالشبهة ، فلا أمان قبل صحّة ما يدّعونه بالسّمع من وقوع ما جاز عليهم ، وأبطلنا ما يتعلّقون به من عادة الصحابة من قبول الصحيح من الأخبار وردّ السقيم ، وبيّنا أنّهم لم يقولوا ذلك إلاّ عن دعوى لا يعضدها برهان ، وأنّهم رجعوا في أنّ الخطأ لا يجوز عليهم إلى قولهم أو ما يجري مجرى قولهم ، وهذا لا يمنعنا من القطع على صحّة ما يجمع عليه الأُمّة على مذهبنا ، لأنّا لا نجيز على كلّ واحد منهم الخطأ والضلال كما اختاروه من طريق العقل ، وإنّما نجيزهما على من عدا الإمام ، لأنّ العقل قد دلّنا على وجود المعصوم في كلّ زمان ، ومنعنا من اجتماع الأُمّة على باطل إنّما هو لأجله ، فمن لم يسلك طريقتنا يجب أن يمنعه من الثقة بالإجماع وتمسكه به.
    فإن قال : جميع ما ذكرتموه إنّما يصحّ في متن الخبر الّذي هو قوله ( عليه السَّلام ) : « من كنت مولاه فعليٌّ مولاه » دون المقدمة المتضمّنة للتقرير ، لأنّ أكثر من روى الخبر لم


(381)
يروها ، والإطباق من العلماء على القبول واستعمال التأويل غير موجود فيها ، لأنّكم تعلمون خلاف خصومكم فيها ، وإنشاد أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) أهل الشورى لم يتضمنها في شيء من الروايات ، ودليلكم على إيجاب الإمامة في الخبر ممّا يتعلّق بها فدلّوا على صحّتها.
    قيل له : ليس ينكر أن يكون بعض من روى خبر الغدير لم يذكر المقدّمة ، إلاّ أنّ من أغفلها ليس لأكثر ممّن ذكرها ولا يقاربه ، وإنّما حصل الإخلال بها من آحاد من الرواة ، والشيعة كلّهم ينقلون الخبر ومقدّمته ، وأكثر من شاركهم من رواة أصحاب الحديث أيضاً ينقلون المقدّمة ، ومن تأمّل الخبر وتصفّحه علم صحّة ما ذكرناه. وإذا صحّ فلا نكرة في إغفال من أغفل المقدّمة لأنّ الحجّة تقوم بنقل من نقلها بل بعضهم.
    فأمّا إنشاد أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) أهل الشورى وخلّوه من ذكر المقدمة فلا يدلّ على نفيها أو الشكّ في صحّتها ؛ لأنّه ( عليه السَّلام ) قرّرهم بالخبر بما يقتضي الإقرار بجميعه على سبيل الاختصار ، ولا حاجة إلى ذكر القصّة من أوّلها إلى آخرها وجميع ما جرى فيها لظهوره ، لأنّ الاعتراف بما اعترف به منها هو اعتراف بالكلّ وهذه عادة الناس فيما يقرّرون به ، ألا ترى أنّ أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) لمّا أن قرّرهم في ذلك المقام بخبر الطائر في حمل الفضائل والمناقب اقتصر على أن قال ( عليه السَّلام ) : أفيكم رجل قال له النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « اللّهمّ ابعث إليّ أحبّ خلقك إليك يأكل معي » غيري. ولم يذكر إهداء الطائر وما تأخّر عن هذا القول من كلام الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
    وكذلك لمّا أن قرّرهم بقول الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فيه لمّا ندبه لفتح خيبر ، ذكر بعض الكلام دون بعض ولم يشرح القصة وجميع ما جرى فيها ، وإنّما اقتصر ( عليه السَّلام ) على القدر المذكور اتّكالاً على شهرة الأمر ، وإنّ في الاعتراف ببعضه اعترافاً بكلّه ، فلا


(382)
ينكر أن يكون هذا علّة من أغفل رواية المقدّمة من الرواة ، فإنّ أصحاب الحديث كثيراً ما يقولون : فلان يروي عن الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كذا. ويذكرون بعض لفظ الخبر والمشهور منه على سبيل الاختصار ، والتعويل على الظهور في الباقي وإنّ الجميع يجري مجرى واحداً ، ويستبين فيما بعد بعون اللّه ما يقتصر من الأدلّة على إثبات الإمامة من خبر الغدير إلى المقدمة وما لا يقتصر إليها إن شاء اللّه.
    وأمّا الدلالة على أنّ لفظة « مولى » تفيد في اللّغة « أولى » ، فظاهر ؛ لأنّ من كان له أدنى اختلاط باللغة وأهلها يعرف أنّهم يضعون هذه اللفظة مكان « أولى » ، كما أنّهم يستعملونها في ابن العم.
    وما المنكر لاستعمالها في « الأولى » إلاّ كالمنكر لاستعمالها في غيره من أقسامها. ومعلوم أنّهم لا يمتنعون من أن يقولوا في كلّ شيء كان أولى بالشيء ، أنّه مولاه. ومتى شئت أن تفحم المطالب بهذه المطالبة فاعكسها عليه ثمّ طالبه بأن يدلّ على أنّ لفظة « مولى » تفيد ابن عم ، أو الجار أو غيرهما من الأقسام ، فإنّه لا يتمكّن من ذلك إلاّ بإيراد بيت شعر ، أو مقاصاة إلى كتاب ، أو عرف لأهل اللّغة وكلّ ذلك موجود ممكن لمن ذهب إلى أنّها تفيد « الأولى » على أنّا نتبرع بإيراد جملة تدلّ على ما ذهبنا إليه فنقول :
    قد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى ، ومنزلته في اللّغة منزلته في كتابه المعروف ب‍ « المجاز في القرآن » لمّا انتهى إلى قوله تعالى : ( مَأْواكُمُ النّارُ هِيَ مَوليكُمْ ) أنّ معنى « مولاكم » : أولى بكم ، وأنشد بيت لبيد شاهداً له :
فغدت كلا الفرجين يحسِب أنّه مَولى المخافة خلفها و أمامها (1)
    وليس أبو عبيدة ممّن يغلط في اللّغة ، ولو غلط فيها أو وهم لما جاز أن
1 ـ شرح المعلّقات العَشر : 198.

(383)
يمسك عن النكير عليه ، والردّ لتأويله غيره من أهل اللّغة ممّن أصاب ما غلط فيه ، على عادتهم المعروفة في تتبّع بعضهم لبعض وردّ بعضهم على بعض ، فصار قول أبي عبيدة الذي حكيناه مع أنّه لم يظهر من أحد من أهل اللغة ردّله ، كأنّه قول الجميع.
    ولا خلاف بين المفسّرين في أنّ قوله تعالى : ( وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَ آتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْء شَهِيداً ) (1) أنّ المراد بالأولياء من كان أملك بالميراث وأولى بحيازته وأحقّ به. وقال الأخطل :
فأصبَحْتَ مَولاها مِنَ النّاسِ بَعْدَهُ وأحرى قُريش أن يُهابَ ويُحمدا (2)
    وقال أيضاً يخاطب بني أُميّة :
أعطاكُمُ اللّهُ جداً لتنصرون به لم يأشَروا فيه إذ كُنْتُمْ مَواليــه لا جد إلاّ صغير بعـد محتقـــــر ولو يكون لقوم غيركم أشِـــــروا (3)
    وقال غيره :
كان موالي حقّ يطلبــون بـــه فأدركـــــوه وما ملّوا ولا تعبــوا

1 ـ النساء : 33.
2 ـ ديوان الأخطل : 28.
3 ـ ديوان الأخطل : 85.


(384)
    وقال العجاج :
الحمدُ للّه الّذي أعطى الخــير موالِيَ الحـــقِّ إن المَــــولى شَكَر (1)
    وروي في الحديث : « أيّما امرأة تزوّجت بغير إذن مولاها ، فنكاحها باطل » (2).
    وكلّ ما استشهدنا به لم يرد بلفظ « مولى » فيه إلاّ معنى « أولى » دون غيره. وقد تقدّمت حكايتنا عن المبرّد قوله : إنّ أصل تأويل الولي الذي هو أولى ، أي أحقّ ، ومثله المولى ، وقال في هذا الموضع بعد أن ذكر تأويل قوله تعالى : « إنّ اللّه موليالذين آمنوا » والولي والمولى معناهما سواء ، وهو الحقيق بخلقه المتولي لأُمورهم.
    وقال الفرّاء في كتاب « معاني القرآن » : الولي والمولى في كلام العرب واحد ، وفي قراءة عبد اللّه بن مسعود أنّها « مولاكم اللّه ورسوله » مكان « وليّكم ».
    وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري في كتابه في القرآن المعروف ب‍ « المشكل » : والمولى في اللّغة ينقسم إلى ثمانية أقسام : أوّلهنّ المولى المنعم ، ثمّ المنعَم عليه المعتق ، والمولى الولي ، والمولى الأولى بالشيء وذكر شاهداً عليه الآية التي قدّمنا ذكرها وبيت لبيد ، والمولى الجار ، والمولى ابن العم ، والمولى الصهر ، والمولى الحليف. واستشهد على كلّ واحد من أقسام مولى بشيء من الشعر لم نذكره ، لأنّ غرضنا سواه.
    وقال أبو عمر غلام ثعلب في تفسير بيت الحارث بن حَلّزة الذي هو :
1 ـ ذكره في لسان العرب : 2 / 35. وقال : العجاج يمدح عمر بن عبداللّه بن معمر.
2 ـ بحارالأنوار : 27 / 238.


(385)
زعموا أنّ كلّ من ضرب العير (1) موال لنا وأنّا الولاء (2)
    أقسام المولى ، وذكر في جملة الأقسام أنّ المولى السيّد وإن لم يكن مالكاً ، والمولى الولي.
    وقد ذكر جماعة ممّن يرجع إلى أمثاله في اللّغة أنّ من جملة أقسام مولى السيّد الذي ليس هو بمالك ولا معتق. ولو ذهبنا إلى ذكر جميع ما يمكن أن يكون شاهداً فيما قصدناه لأكثرنا وفيما قد أوردناه كفاية ومقنع.
    فإن قال : أليس ابن الأنباري قد أورد أبيات الأخطل التي استشهدتم بها ، وشعر العجاج والحديث الّذي رويتموه وتأوّل لفظ « مولى » في جميع ذلك على « ولي » دون « أولى » فكيف ذكرتم أنّ المراد بها « الأولى » ؟
    قيل له : الأمر على ما ذكرته عن ابن الأنباري غير أنّه معلوم في اللغة أنّ لفظة « ولي » تفيد معنى « أولى » وقد دللنا على ذلك فيما تقدّم من الكلام في تأويل
1 ـ قال : ابن قُتيبة في مشكل القرآن ، في تفسير هذا البيت بعد أن حدّث عن أبي الحاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنّه ذهب من يحسّنه ، وأمّا « العَيْر » ، فقد اختلفوا فيه ، فكان بعضهم يجعله الوتد سمّاه عَيراً لنتوِئه مثل عير نصل السهم وهو الناتئ وسطه. يريد كلّ من ضرب خباءً من أهل العمد فضرب له وتداً رَمَوْنا بذنبه.
    و قال بعضهم : هو كليب وائل. و « العَيْر » سيد القوم سمّي بذلك لأنّ العير أكبر الوحش ، ولذلك قال رسول اللّه ( عليه السَّلام ) لأبي سفيان : « وكُلُّ الصيدِ في جوف الفراء ».
    وقال آخر : « العير » جبل بالمدينة ، ومنه أنّ النبي ( عليه السَّلام ) حرّم ما بين عَير إلى ثور ، يريد كلّ من ضرب إلى ذلك الموضع وبَلَغه. وقال آخر : هو الحمار نفسه ، يريد أنّهم يضيفون إلينا ذنوب كل من ساق حِماراً. ومعنى هذا كله : أنهم يُلزموننا بذنوب الناس جميعاً ويجعلونها أولياءهم. انتهى بلفظه. ( منه ). انظر تأويل مشكل القرآن : 97.
2 ـ من معلّقته ، انظر « شرح المعلّقات العَشر : » 319.


(386)
قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ). (1)
    وجميع ما استشهدنا به من الشعر والخبر لا يجوز أن يكون المراد ب‍ « مولى » فيه إلاّ « الأولى » ومن كان مختصّاً بالتدبير ومتولّياً للقيام بأمر ممّا قيل إنّه مولاه ؛ لأنّه متى لم يحمل على ما قلناه ، لم يفد ، وكيف يحمل قوله بغير إذن مولّها إذا قيل : إنّ المراد به وليّها على غير من يملك تدبير أمرها وإليه العقد عليها ؟
    فإن قال : قد دللتم على استعمال لفظة « مولى » في « أولى » فما الدليل على أنّ استعمالهم جرى على سبيل الحقيقة ؟ لأنّ المجاز قد يدخل في الاستعمال كما تدخل الحقيقة.
    قيل له : إنّما يحكم في اللغة بأنّه يستعمل في اللغة على وجه الحقيقة ، بأن يظهر استعماله فيها من غير أن يثبت ما يقتضي كونه مجازاً من توقيف أهل اللغة ، أو ما يجري مجرى التوقيف ، فأصل الاستعمال يقتضي الحقيقة ، وإنّما يحكم في بعض الألفاظ المستعملة بالمجاز لأمر يوجب علينا الانتقال عن الأصل.
    فأمّا الدلالة على أنّ المراد بلفظة « مولى » في خبر الغدير : « الأولى » ، فهو أنّ من عادة أهل اللسان في خطابهم إذا أوردوا جملة مصرّحة وعطفوا عليها بكلام محتمل لما تقدّم التصريح به ولغيره ، لم يجز أن يريدوا بالمحتمل إلاّ المعنى الأوّل ، فيُبيّن صحّة ما ذكرناه ، أنّ أحدهم إذا قال ـ مقبلاً على جماعة مفهماً لهم وله عدّة عبيد ـ : ألستم عارفين بعبدي فلان ، ثمّ قال عاطفاً على كلامه : فاشهدوا أنّ عبدي حرّ لوجه اللّه. لم يجز أن يريد بقوله : « عبدي » بعد أن قدّم ما قدّمه ، إلاّ العبد الذي سمّاه في أوّل كلامه دون من سائر عبيده ومتى أراد سواه كان عندهم ملغوّاً خارجاً عن طريق البيان ، ويجري قوله « فاشهدوا أنّ عبدي حرّ » إذا كرّر مجرى تسميته وتعيينه. هذه حالة كلّ لفظ محتمل عطف على لفظ مفسّر على الوجه الذي
1 ـ المائدة : 55.

(387)
صوّرناه ، فلا حاجة بنا إلى تكرير الأمثلة فيه.
    فإن قال : وكيف يشبه المثال الذي ذكرتموه خبر الغدير وإنّما تكرّرت فيه لفظة واحدة وإنّما وردت لفظة « مولى » فادّعيتم أنّها تقوم مقام لفظ « أولى » المتقدّم ؟!
    قيل له : إنّك لم تفهم بموضع التشبيه من المثال وخبر الغدير وكيفيّة الاستشهاد به ، لأنّ لفظة « عبدي » وإن كانت متكرّرة فيه ، فإنّها لما وردت أوّلاً موصولة ب‍ « فلان » جرى مجرى المفسّر المصرّح الذي هو ما تضمنته المقدمة في خبر الغدير من لفظ « أولى » ، ثمّ لما وردت من بعد غير موصولة حصل فيها احتمال واشتباه لم يكن في الأوّل ، فصارت كأنّها لفظة أُخرى يحتمل ما تقدم ويحتمل غيره ، وجرت مجرى لفظة « مولى » من خبر الغدير في احتمالها ، لما تقدّم ولغيره.
    على أنّا لوجعلنا مكان قوله « فاشهدوا أنّ عبدي حرّ » « اشهدوا أنّ غلامي أو مملوكي حرّ » لزالت الشبهة في مطابقة المثال للخبر ، وإن كان لا فرق في الحقيقة بين لفظة « عبدي » إذا تكرّرت ، وبين ما يقوم مقامها من الألفاظ في المعنى الذي قصدناه.
    فإنّ ما تنكرون أن يكون إنّما قبح إن يريد القائل الذي حكيتم قوله بلفظة « عبدي » الثانية والتي تقوم مقامها ، من عدا المذكور الأوّل الذي قرّرهم بمعرفته من حيث تكون المقدمة إذا أراد ذلك ، لا معنى لها ولا فائدة فيها ، ولأنّه أيضاً لا تعلّق لها بما عطف عليها بالفاء التي تقتضي التعلّق بين الكلامين وليس هذا في خبر الغدير ، لأنّه إذا لم يرد بلفظة « مولى » : « أولى » وأراد أحد ما يحتمله من الأقسام ، لم تخرج المقدّمة من أن تكون مفيدة ومتعلّقة بالكلام الثاني ، لأنّها تفيد التذكير ، لوجوب الطاعة ، وأخذ الاقرار بها ليتأكد لزوم ما أوجبه في الكلام الثاني


(388)
لهم ، ويصير معنى الكلام : إذا كنت أولى بكم وكانت طاعتي واجبة عليكم فافعلوا كذا وكذا فإنّه من جملة ما آمركم بطاعتي فيه ، وهذه عادة الحكماء فيما يلزمونه من يجب عليه طاعتهم ، فافترق الأمران وبطل أن يجعل حكمهما واحداً ، قيل : لو كان الأمر على ما ذكرت لوجب أن يكون متى حصل في المثال الذي أوردناه فائدة لمقدمته ، وإن قلت وتعلّق بين المعطوف والمعطوف عليه أن يحسن ما حكمنا بقبحه ووافقنا عليه ونحن نعلم أنّ القائل إذا أقبل على جماعة فقال : ألستم تعرفون صديقي زيداً الذي كنت ابتعت منه عبدي فلاناً الّذي صفته كذا وأشهدناكم على أنفسنا بالمبايعة ؟ ثمّ قال عقيب قوله « فاشهدوا إنّي قد وهبت له عبدي » : « أو قد رددت إليه عبدي » لم يجز أن يريد بالكلام الثّاني إلاّ العبد الذي سمّاه وعيّنه في صلب الكلام ، وإن كان متى لم يرد ذلك يصحّ أن يحصل فيما قدّمه فائدة ، ولبعض كلامه تعلّق ببعض لأنّه لا يمنع أن يريد بما قدّمه من ذكر العبد تعريف الصديق ، ويكون وجه التعلّق بين الكلام أنّكم إذا كنتم قد شهدتم (1) بكذا وعرفتموه فاشهدوا أيضاً بكذا ، وهو لو صرّح بما قدّمناه حتى يقول بعد المقدّمة : فاشهدوا أنّي قد وهبت له أو رددت إليه عبدي فلاناً الذي كنت ملكته منه ، ويذكر من عبيده غير من تقدّم ذكره ، لَحَسُن وكان وجهُ حسن ما ذكرناه ، فثبت أنّ الوجه في قبح حمل الكلام الثاني على غير معنى الأوّل مع احتماله له ، خلاف ما ادّعاه السائل وأنّه الذي ذهبنا إليه.
    فأمّا الدليل على أنّ لفظة « أولى » يفيد معنى الإمامة ، فهو أنّا نجد أهل اللغة لا يضعون هذا اللفظ إلاّ فيمن كان يملك ما وصف بأنّه أولى بتدبيره وتصريفه وينفذ فيه أمره ونهيه ، ألا تراهم يقولون : السّلطان أولى بإقامة الحدود من
1 ـ « شهدتهم » : الأصل.1. المعارج : 1.

(389)
الرعية ، وولد الميّت أولى بميراثه من كثير من أقاربه ، والزوج أولى بها قرابة ، والمولى بعبده. ومرادهم في جميع ذلك ما ذكرناه.
    ولا خلاف بين المفسّرين في أنّ قوله : بعد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، المراد بتدبيرهم والقيام بأمرهم حيث وجبت طاعته عليهم ، ونحن نعلم أنّه لا يكون أولى بتدبير الخلق وأمرهم ونهيهم من كلّ أحد إلاّ من كان إماماً لهم مفترض الطاعة عليهم.
    فإن قال : اعملوا على أنّ المراد بلفظة « مولى » في الخبر : ما تقدّم من معنى « أولى » ، من أين لكم أنّه أراد كونه أولى بهم في تدبيرهم وأمرهم ونهيهم ، دون أن يكون أراد : أولى بأن يوالوه ويحبّوه ويعظّموه ويفضّلوه ، لأنّه ليس يكون أولى بذواتهم بل بحالهم وأمر يرجع إليهم ، فأيّ فرق في ظاهر اللفظ بين أن يريد ما يرجع إليهم في تدبيرهم وتصريفهم ، وبين أن يريد أحد ما ذكرناه ؟
    قيل له : سؤالك يبطل من وجهين :
    أحدهما : أنّ الظاهر من قول القائل : « فلان أولى بفلان » أنّه أولى بتدبيره وأحقّ بأمره ونهيه ، فإذا انضاف إلى ذلك القول « أولى به من نفسه » زالت الشبهة في أنّ المراد ما ذكرناه ، ألا تراهم يستعملون هذه اللفظة مطلقة في كلّ موضع حصل فيه تحقّق بالتدبير واختصاص الأمر والنهي ، كاستعمالهم لها في السّلطان ورعيّته ، والوالد وولده ، والسيّد وعبده وإن جاز أن يستعملوها مقيّدة في غير هذا الموضع إذا قالوا : فلان أولى بمحبة فلان أو بنصرته أو بكذا أو بكذا منه ، إلاّ أنّ مع الإطلاق لا يعقل منهم إلاّ معنى الأوّل ، وكذلك نجدهم يمتنعون من أن يقولوا في المؤمنين : إنّ بعضهم أولى ببعض ويريدوا ما يرجع إلى المحبّة والنصرة وما أشبههما ، ولا يمتنعون من القول بأنّ النبيّ أو الإمام أو من اعتقدوا أنّ له فرض طاعة عليهم


(390)
أولى بهم من أنفسهم ويريدون أنّه أحقّ بتدبيرهم وأمرهم ونهيهم.
    والوجه الآخر : أنّه إذا ثبت أنّ النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أراد بما قدّمه من كونه أولى بالخلق من نفوسهم أنّه أولى بتدبيرهم وتصريفهم من حيث وجبت طاعته عليهم بلا خلاف ، وجب أن يكون ما أوجبه لأمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) في الكلام الثاني جارياً ذلك المجرى ، لأنّه ( عليه السَّلام ) بتقديم ما قدّمه يستغني عن أن يقول : فمن كنت أولى به في كذا وكذا فعليّ أولى به فيه ، كما أنّه بتقديم ما قدّمه استغنى عن أن يصرّح بلفظة « أولى » إذا قام مقامها لفظة « مولى » يشهد بصحّة ما قلناه أنّ القائل من أهل اللسان إذا قال : فلان وفلان ـ وذكر جماعة ـ شركائي في المتاع الذي من صفته كذا وكذا ، ثمّ قال عاطفاً على كلامه : فمن كنت شريكه فعبد اللّه شريكه ، اقتضى ظاهر لفظه أنّ عبد اللّه شريكه في المتاع الذي قدّم ذكره وأخبر أنّ الجماعة شركاؤه فيه ، ومتى أراد أنّ عبد اللّه شريكه في عين الأمر الأوّل كان سفيهاً غاشّاً ملغزاً.
    فإن قيل : إذا سلّم لكم أنّه ( عليه السَّلام ) أولى بهم بمعنى التدبير ووجوب الطاعة ، من أين لكم عموم وجوب الطاعة في جميع الأُمور التي يقوم بها الأئمّة ولعلّه أراد به أولى بأن يطيعوه في بعض الأشياء دون بعض ؟
    قيل له : الوجه الثاني الّذي ذكرناه في جواب سؤالك المتقدّم يسقط هذا السؤال. وممّا يبطله أيضاً أنّه إذا ثبت أنّه ( عليه السَّلام ) مفترض الطاعة على جميع الخلق في بعض الأُمور دون بعض ، وجبت إمامته وعموم فرض طاعته وامتثال تدبيره ، لأنّه لا يكون إلاّ الإمام ، ولأنّ الأُمّة مجمعة على أنّ من هذه صفته هو الإمام ، ولأنّ كلّ من أوجب لأمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) من خبر الغدير فرض الطاعة على الخلق أوجبها عامّة في الأُمور كلّها على الوجه الّذي يجب للأئمّة ولم يخص شيئاً دون شيء ، وبمثل هذا الوجه بحث من قال : كيف علمهم عموم القول لجميع الخلق مضافاً إلى عموم إيجاب الطاعة لسائر الأُمور ، ولستم ممّن يثبت للعموم صيغة في
اللآلئ العبقرية في شرح العقينيّة الحميرية ::: فهرس