|
|||
(121)
ودخل عليه عمر بن عبد الرحمن المخزومي فقال له ـ كما في تاريخي الطبري وابن الاثير وغيرهما ـ : إنّي مشفق عليك ، إنك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه ، ومعهم بيوت الاموال ، وإنّما الناس عبيد الدينار والدرهم ، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصرَه ... ، فقال له الحسين : « جزاك الله خيراً يا ابن عم ، فقد والله علمتُ أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل ، ومهما يُقض من أمر يكن » (1).
وكتب إليه عبد الله بن جعفر بعد خروجه من مكة ـ كما في تاريخي الطبري وابن الاثير وغيرهما ـ : أما بعد ، فاني أسألك بالله لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا ، فاني مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، وإن هلكت اليوم طفئ نور الارض ، فانك علم المهتدين ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالسير ، فاني في أثر كتابي ، والسلام. 1 ـ تاريخ الطبري 5 / 382 ، الكامل في التاريخ 4 / 37. (122)
وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد ـ وهو عامل يزيد يومئذ بمكة ـ فقال له : اكتب للحسين كتاباً تجعل له الامان فيه ، وتمنّيه فيه البرّ والصلة واسأله الرجوع ، ففعل عمرو ذلك وأرسل الكتاب مع أخيه يحيى بن سعيد وعبد الله بن جعفر ، فلحقاه وقرءا عليه الكتاب وجهدا أن يرجع ، فلم يفعل (1).
وقال له عبد الله بن مطيع إذ إجتمع به في الطريق على بعض مياه العرب ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ : أذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمةَ الاسلام أن تنهتك ، أُنشدك الله في حرمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أنشدك الله في حرمة العرب ، فو الله لئن طلبت مافي أيدي بني أمية ليقتلنّك ، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً ، والله إنها لحرمة الاسلام تنتهك ، وحرمة قريش ، وحرمة العرب ، فلا تفعل ، ولا تأت الكوفة ، ولا تعرَّض لبني أمية ، قال : فأبى إلاّ أن 1 ـ تاريخ الطبري 5 / 388 ، الكامل في التاريخ 4 / 40. (123)
يمضي (1) ، إنجازاً لمقاصده السامية.
ولقيه أحد بني عكرمة ببطن العقبة ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له : أُنشدك الله لما انصرفت ، فو الله لا تقدم إلاّ على الاسنة وحدّ السيوف ، فانّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطأوا لك الاشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً ، فأمّا على هذه الحال التي تذكرها فانّي لا أرى لك أن تفعل ، قال : فقال له : « يا عبد الله ، إنه ليس يخفى عليّ ، الرأيُ ما رأيتَ ، ولكن الله لا يُغْلَب على أمره » (2). ولقيه بعض بني تميم قريباً من القادسية ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له : إرجع ، فإني لم أدع لك خيراً أرجوه. وكان قد لقيه الفرزدق بن غالب الشاعر في الصفاح ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له : قلوب الناس معك 1 ـ تاريخ الطبري 5 / 395. 2 ـ تاريخ الطبري 5 / 399. (124)
وسيوفهم مع بني أمية (1).
وما التقى في الطريق بأحد إلاّ التمسه على الرجوع ، إشفاقاً عليه من لؤم بني أمية وغدر أهل العراق ، وما كان ليخفى عليه ماظهر لاغلب الناس ، لكنه وهؤلاء كما قيل : أنت بواد والعذول بوادي. ما نزل بأبي وأمي منزلاً ولا ارتحل منه ـ كما في الارشاد وغيره ـ إلاّ ذكر يحيى بن زكريا وقتله. وقال يوماً : « من هوان الدنيا على الله إن رأس يحيى بن زكريا أُهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل ». فهل تراه أراد بهذا غير الاشارة إلى أن سبيله في هذا الوجه إنما هو سبيل يحيى ( عليه السلام ) ؟! وأخبره الاسديان وهو نازل في الثعلبية ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ بقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، وأنّهما يجران بأرجلهما في الاسواق بلا نكير (2). 1 ـ تاريخ الطبري 5 / 386. 2 ـ تاريخ الطبري 5 / 397. (125)
فهل يمكن بعد هذا أن يبقى له أمل بنصرة أهل الكوفة ، أو طمع في شيء من خيرهم ؟! والله ما جاءهم إلاّ يائساً منهم ، عالماً بكل ما كان منهم عليه.
وقد كتب وهو نازل بزبالة كتاباً قرئ بأمره على الناس وفيه : « بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد ، فانه قد أتانا خبر فظيع ، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بُقطر ، وقد خذلتنا شيعتنا ، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذِمام ».
قال محمد بن جرير الطبري في تاريخ الاُمم والملوك : فتفرق الناس عنه تفرقاً ، فأخذوا يميناً وشمالاً ، حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة. قال : وإنّما فعل ذلك ، لانه ظنّ إنما اتبعه الاعراب ، لانهم ظنوا أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون. قال : وقد علم أنهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلاّ من يريد (126)
مواساته والموت معه (1).
وذكر أهل الاخبار : إن الطرماح بن عدي لما اجتمع به في عذيب الهجانات دنا منه فقال له ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ : والله إنّي لانظر فما أرى معك أحداً ، ولو لم يقاتلك إلاّ هؤلاء الذين أراهم ملازميك ـ يعني : الحر وأصحابه ـ لكان كفى بهم ، وقد رأيتُ قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس مالم تر عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه ، فسألت عنهم ؟ فقيل : اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرحوا إلى حرب الحسين ، فأُنشدك الله إن قدرتَ على أن لا تقدم عليهم شبراً إلاّ فعلت ، فان أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع ، فسر حتى أُنزلك مناع جبلنا الذي يدعى أجأ ، امتنعنا والله به من ملوك غسان وحمير ومن النعمان بن المنذر ومن الاسود والاحمر ، والله ما دخل 1 ـ تاريخ الطبري 5 / 398 ـ 399. (127)
علينا فيه ذل قط ، فأسير معك حتّى أنزلك القرية ، ثم نبعث إلى الرجال ممن بأجأ وسلمى من طيّئ ، فو الله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى تأتيك طيّئ رجالاً وركباناً ، ثم أقم فينا مابدا لك ، فان هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين الف طائيّ يضربون بين يديك بأسيافهم ، والله لا يوصل إليك أبداً ومنهم عين تطرف ، فقال له : « جزاك الله وقومك خيراً » (1) ، وأبى أن ينصرف عن مقصده.
وأنت تعلم أنه لو كان له رغبة في غلبة أو ميل إلى سلطان لكان لكلام الطرماح وقع في نفسه ( عليه السلام ) ، ولظهر منه الميل إلى ما عرضه عليه ، لكنه ـ بأبي وأمي ـ أبى إلاّ الفوز بالشهادة ، والموت في إحياء دين الاسلام. وقد صرّح بذلك فيما تمثل به ، إذ قال له الحر : أذكرك الله في نفسك فانّي أشهد لئن قاتلت لتقتلن ، فقال ( عليه السلام ) ـ كما 1 ـ تاريخ الطبري 5 / 406 ، وتكملة الحديث : « إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف ، ولا ندري علامَ تنصرف بنا وبهم الامور في عاقبه ». (128)
في تاريخ الطبري وغيره ـ :
إخبار النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقتله في شاطئ الفرات بموضع يقال له كربلاء. وبكائه عليه. ونداء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما حاذى نينوى وهو منصرف الى صفين : « صبراً أبا عبد الله ، صبراً أبا عبد الله بشاطئ الفرات ». وقوله إذ مرّ بكربلاء : « هاهنا مناخ ركابهم ، وهاهنا 1 ـ تاريخ الطبري 5 / 404. (129)
موضع رحالهم ، وهاهنا مهراق دمائهم ».
وقول الحسين ( عليه السلام ) لاخيه عمر : « حدثني أبي أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخبره بقتله وقتلي ، وأنّ تربتي تكون بقرب تربته ». وقول الحسن للحسين ( عليهما السلام ) ـ كما في أمالي الصدوق وغيره ـ من جملة كلام كان بينهما : « ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله ، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل ، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك ، فعندها يحل الله ببني أمية اللعنة ». إلى غير ذلك من الاخبار الدالة على أن قتل الحسين ( عليه السلام ) كان معروفاً عند أهل البيت منذ أخبر الله به نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ، بل صريح أخبارنا أن ذلك مما أوحي إلى الانبياء السابقين (1) ، وقد سمعت ما أشرنا إليه من بكائهم ( عليهم السلام ). ويظهر من بعض الاخبار أن قتل الحسين كان معروفاً 1 ـ راجع : بحار الانوار 44 / 223 ـ 249 الباب 30. (130)
عند جملة من الصحابة والتابعين ، حتّى أنّهم ليعلمون أن قاتله عمر بن سعد.
وحسبك ما نقله ابن الاثير ، حيث ذكر مقتل عمر بن سعد في كامله ، عن عبد الله بن شريك ، قال : أدرك أصحاب الاردية المعلمة وأصحاب البرانس السود من أصحاب السواري ، إذ مرّ بهم عمر بن سعد ، قالوا : هذا قاتل الحسين ، وذلك قبل أن يقتله. قال : وقال ابن سيرين : قال علي لعمر بن سعد : « كيف أنت إذا قمت مقاماً تخير فيه بين الجنة والنار ، فتختار النار » (1). أترى الحسين ( عليه السلام ) كان جاهلاً بما عليه أصحاب السواري ؟ كلاّ والله ما علم أصحاب البرانس السود ذلك إلاّ منه ، أو من أخيه ، أو من جدّه ، أو من أبيه. وقد أطلنا الكلام في هذا المقام ، إذ لم نجد من وفاه حقه وخرج من عهدة التكليف بايضاحه ، والحمد لله على التوفيق لتحرير هذه المسألة ، وتقرير شواهدها وأدلّتها ، على وجه تركن النفس إليه ، ولا يجد المنصف بدّاً من البناء عليه ، بل لا أظن أحداً يقف على ما تلوناه ثم يرتاب فيما قررناه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
1 ـ الكامل في التاريخ 4 / 242. |
|||
|