المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره ::: 106 ـ 120
(106)

(107)

(108)
أمّة من الامم التالفة.
    إذ لو بقي المنافقون على ماكانوا عليه من الظهور للعامة بالنيابة عن رسول الله والنصح لدينه ( صلى الله عليه وآله ) وهم أولياء السلطة المطلقة والارادة المقدسة ، لغرسوا من شجرة النفاق ما


(109)
أرادوا ، وبثّوا من روح الزندقة ما شاؤوا ، وفعلوا بالدين ما توجبه عداواتهم له ، وارتكبوا من الشريعة كلّ أمر يقتضيه نفاقهم.

    وأمّا ـ وشيبة الحسين المخضوبة بدمه الطاهر ـ لولا ما تحمّله سلام الله عليه في سبيل الله ، ما قامت لاهل البيت ( عليهم السلام ) ـ وهم حجج الله ـ قائمة ، ولا عرفهم ـ وهم أولو الامر ـ ممن تأخر عنهم أحد ، لكنه ـ بأبي وأمي ـ فضح المنافقين ، وأسقطهم من أنظار العالمين ، واستلفت الابصار بمصيبته إلى سائر مصائب أهل البيت ، واضطر الناس بحلول هذه القارعة إلى البحث عن أساسها ، وحملهم على التنقيب عن أسبابها ، والفحص عن جذرها وبذرها ، واستنهض الهمم إلى حفظ مقام أهل البيت ( عليهم السلام ) وحرّك الحمية على الانتصار لهم ، لان الطبيعة البشرية والجبلة الانسانية تنتصر للمظلومين وتنتقم بجهدها من


(110)
الظالمين.
    فاندفع المسلمون إلى موالاة أهل البيت ، حتّى كأنهم قد دخلوا ـ بعد فاجعة الطف ـ في دور جديد ، وظهرت الروحانية الاسلامية بأجلى مظاهرها ، وسطع نور أهل البيت بعد أن كان محجوباً بسحائب ظلم الظالمين ، وانتبه الناس إلى نصوص الكتاب والسنة فيهم ( عليهم السلام ) ، فهدى الله بها من هدى لدينه ، وضلّ عنها من عمى عن سبيله.

    وكان الحسين ـ بأبي وأمي ـ على يقين من ترتب هذه الاثار الشريفة على قتله ، وانتهاب رحله ، وذبح أطفاله ، وسبي عياله ، بل لم يجد طريقاً لارشاد الخلق إلى الائمة بالحق واستنقاذ الدين من أئمة المنافقين ـ الذين خفي مكرهم وعلا في نفوس العامة أمرهم ـ إلاّ الاستسلام لتلك الرزايا والصبر على هاتيك البلايا.
    وما قصد كربلاء إلاّ لتحمل ذلك البلاء عهد معهود عن


(111)
أخيه عن أبيه عن جدّه عن الله عز وجل.
    ويرشدك الى ذلك ـ مضافاً إلى أخبارنا المتواترة من طريق العترة الطاهرة ـ دلائل أقواله وقرائن أفعاله ، فانها نصّ فيما قلناه.
    وحسبك منها جوابه لاُم سلمة ، إذ قالت له ـ كما في البحار وجلاء العيون وغيرهما ـ : يا بني ، لا تحزن بخروجك إلى العراق ، فاني سمعت جدّك ( صلى الله عليه وآله ) يقول : « يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلاء » ، فقال لها : « يا أُماه ، وأنا والله أعلم ذلك ، وإنّي مقتول لا محالة ، وليس لي منه بدّ ... وقد شاء الله عز وجلّ أن يراني مقتولاً ... ويرى حرمي مشرّدين ، وأطفالي مذبوحين ... » (1).
    وجوابه لاخيه عمر ، إذ قال له حين امتنع من البيعة ليزيد : حدثني أخوك أبو محمد عن أبيه ، ثم بكى حتى
1 ـ بحار الانوار 44 / 331.

(112)
علا شهيقه ، فضمّه الحسين إليه وقال ـ كما في الملهوف وغيره ـ : « حدّثك أني مقتول » ، قال : حوشيت يا ابن رسول الله ، فقال : « بحق أبيك ، بقتلي خبّرك » ؟ قال : نعم ، فلو بايعت ، فقال ( عليه السلام ) : « حدثني أبي : أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخبره بقتله وقتلي ، وأنّ تربتي تكون بقرب تربته ، أتظنّ أنّك علمتَ مالم أعلم » (1).
    والرؤيا التي رآها في مسجد جدّه ( صلى الله عليه وآله ) ، حين ذهب ليودعه ، وقول النبي له فيها ـ كما في أمالي الصدوق وغيره ـ : « بأبي أنت ، كأني أراك مرمّلاً بدمك بين عصابة من هذه الامة يرجون شفاعتي مالهم عند الله من ) خلاق » (2).
1 ـ الملهوف : 99 ـ 100 ، وتكملة الحديث : « وإنّه لا أعطي الدنية من نفسي أبداً ، ولتلقين فاطمة أباها شاكية مالقيت ذرّيتها من أمّته ، ولا يدخل الجنة أحدٌ آذاها في ذرّيتها ».
2 ـ أمالي الصدوق : 150 المجلس 30.
    وراجع : البحار 44 / 313.


(113)
    وكتابه إلى بني هاشم لمّا فصل من المدينة ، وقوله فيه ـ كما في الملهوف نقلاً عن رسائل ثقة الاسلام ـ : « أمّا بعد ، فان من لحق بي منكم استشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح » (1).
    وخطبته ليلة خروجه من مكة ، وقوله فيها ـ كما في الملهوف وغيره ـ : « كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ... » إلى أن قال : « ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته موطئاً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا ، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى » (2).
    وقوله ـ كما في الملهوف وغيره ـ : « لولا تقارب الاشياء وهبوط الاجل ، لقاتلتهم بهؤلاء ، ولكني أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي ، لا ينجو منهم إلا ولدي علي » (3).
1 ـ الملهوف : 129.
2 ـ الملهوف : 126 ـ 127.
3 ـ الملهوف : 126.


(114)
    وجوابه لاخيه محمد بن الحنفية ، إذ قال له ـ كما في الملهوف وغيره ـ : يا أخي ، ألم تعدني النظر فيما سألتك ؟ قال : « بلى ، ولكن أتاني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعدما فارقتك ، فقال : يا حسين أخرج ، فان الله قد شاء أن يراك قتيلاً » ، فقال ابن الحنفية : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فما معنى حملك هذه النسوة وأنت تخرج على مثل هذه الحال ؟ فقال له : « قال لي : إنّ الله شاء أن يراهن سبايا » (1).
    وجوابه لابن عباس وابن الزبير إذ أشارا عليه بالامساك ، فقال لهما ـ كما في الملهوف وغيره ـ : « إنّ رسول الله قد أمرني بأمر وأنا ماض فيه » ، فخرج ابن عباس وهو يقول : واحسيناه (2).
    وجوابه لعبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد إذ حاولا منه الرجوع ، فأبى وقال لهما ـ كما في تاريخي ابن جرير وابن
1 ـ الملهوف : 128.
2 ـ الملهوف : 101.


(115)
الاثير وغيرهما ـ : « رأيت رؤيا رأيت فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأمرت فيها بأمر أنا ماض له » (1).
    وقوله في كلام له مع ابن الزبير ـ كما في تاريخي ابن جرير وابن الاثير وغيرهما ـ : « وأيم الله ، لو كنتُ في حجر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم ، ووالله ليعتُدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت » (2).
    وقوله في مقام آخر ـ كما في كامل ابن الاثير وغيره ـ : « والله لا يَدَعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فاذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ من فَرْم المرأة » (3) ، يعني : من خرقة الحيض.
    وقوله لابي هرة ـ كما في تاريخ ابن جرير وغيره ـ : « وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية ».
1 ـ تاريخ الطبري 5 / 388 ، الكامل في التاريخ 4 / 40 ـ 41.
2 ـ تاريخ الطبري 5 / 385 ، الكامل في التاريخ 4 / 38.
3 ـ الكامل في التاريخ 5 / 39 ، وراجع : تاريخ الطبري 5 / 394.


(116)
    ورؤياه التي رآها لما ارتحل من قصر بني مقاتل ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال حين انتبه « إنّا لله وإنّا له راجعون ، والحمد لله رب العالمين » ، قال : ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً ، قال : فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين على فرس له فقال : يا أبتاه جعلت فداك ممَّ حمدت الله واسترجعت ؟ فقال : « يا بني ، خفقتُ برأسي خفقة فعنّ لي فارس فقال : القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم ، فعلمت أنّها أنفسنا نعيت إلينا » ، فقال : يا أبت ، لا أراك الله سوءاً ، ألسنا على الحق؟ قال : « بلى والذي إليه مرجع العباد » ، قال : يا أبت ، إذاً لا نبالي نموت محقين ، فقال له : « جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده » (1).
    وقوله لما أُخبر بقتل قيس بن مسهر الصيداوي ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ : ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً ) (2) » (3).
1 ـ تاريخ الطبري 5 / 407 ـ 408.
2 ـ الاحزاب : 23.
3 ـ تاريخ الطبري 5 / 405.


(117)
    إلى غير ذلك من أقواله الصريحة بأنه كان على يقين مما انتهت إليه حاله ، وأنه ما خرج إلاّ ليبذل في سبيل الله نفسه وجميع ما ملكته يده ، ويضحّي في إحياء دين الله : أولاده ، وإخوته ، وأبناء أخيه ، وبني عمومته ، وخاصة أوليائه ، والعقائل الطاهرات من نسائه.
إذ لم ير السبط للدين الحنيف شفا وما سمعنا عليلاً لا علاج له بقتله فاح للاسلام طيب هدى وصان ستر الهدى عن كلّ خائنة إلاّ إذا دمه في نصره سفكا إلاّ بنفس مداويه إذ هلكا فكلّما ذكرته المسلمون ذكا ستر الفواطم يوم الطف إذ هتكا


(118)
نفسي الفداء لفاد شرع والده قد آثر الدين أن يحيى فقحمها بنفسه وبأهليه وماملكا حيث استقام القنا الخطي واشتبكا (1)
    ( على أنّ الامر الذي انتهت إليه حاله كان من الوضوح بمثابة لم تخف على أحد ، وقد نهاه عن ذلك الوجه ـ جهلاً بمقاصده السامية ـ كثير من الناس ، وأشفقوا عليه وأنذروه بلؤم بني أمية وغدر أهل العراق :
    فقال له أخوه محمد بن الحنفية ـ كما في الملهوف وغيره ـ : يا أخي إنّ أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى ، فان رأيت أن تقيم فانك أعزّ مَن في الحرم
1 ـ هذه الابيات من قصيدة للشريف الفاضل السيد جعفر الحلي ، يرثي بها جدّه ( عليه السلام ) « المؤلّف ».

(119)
وأمنعه ... فان خفت فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البر ، فانك أمنع الناس به ولا يقدر عليك أحد ، فردّه الحسين ( عليه السلام ) برأفة ورفق ، وقال : « أنظر فيما قلت » (1).
    وأتاه ابن عباس فقال : يا ابن عم قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق ، فبيّن لي ما أنت صانع ؟ قال : « إنّي قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى » ، فقال له ابن عباس ـ كما في تاريخي الطبري وابن الاثير وغيرهما ـ : فانّي أُعيذك بالله من ذلك ، أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم ؟! فان كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم ، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعمّاله تجبي بلادهم ، فانهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال ، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك وأن يستنفروا إليك ، فيكونوا أشدّ الناس عليك ، فردّه الحسين ( عليه السلام ) ردّ رحمة وحنان فقال له :
1 ـ الملهوف : 127 ـ 128.

(120)
« أستخير الله وأنظر ما يكون » (1).
    فخرج ابن عباس ثم جاءه مرة أخرى فقال له ـ كما في تاريخي الطبري وابن الاثير وغيرهما ـ : يا ابن عم إنّي أتصبّر ولا أصبر ، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال ، إن أهل العراق قوم غُدُر فلا تقربنّهم ، أقم بهذا البلد فإنّك سيد أهل الحجاز ، فان كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثم أقدم عليهم ، فان أبيت إلاّ أن تخرج فسر إلى اليمن ، فان بها حصوناً وشعاباً ، وهي أرض طويلة عريضة ، ولابيك بها شيعة ، وأنت عن الناس في عزلة ، فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاتك ، فاني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : « يا ابن عم ، إني والله لاعلم أنّك ناصح مشفق ، ولكن قد أزمعت وأجمعت على المسير » (2).
1 ـ تاريخ الطبري 5 / 383 ، الكامل في التاريخ 4 / 37.
2 ـ تاريخ الطبري 5 / 383 ـ 384 ، الكامل في التاريخ 4 / 38 ـ 39.
المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره ::: فهرس