المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: 106 ـ 120
(106)
    قال : فقال له : قد قال لي : إن شاء الله أن يراهنّ سبايا. (1)
    وجوابه لابن عباس وابن الزبير (2) ، إذ أشارا عليه بالإمساك فقال لهما ـ كما في المهلوف وغيره ـ : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أمرني بأمر ، وأنا ماض فيه.
    فخرج ابن عبّاس وهو يقول : واحسيناه. (3)
    وجوابه لعبد الله بن جعفر (4) ويحيى بن سعيد إذ حاولا منه الرجوع فأبى وقال لهما ـ كما في تاريخي ابن جرير ، وابن الأثير وغيرهما ـ : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام وأمرني ما أنا ماضٍ له.
    وقوله ـ في كلام له مع ابن الزبير ـ : وأيم الله لو كنت في حجر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيَّ حاجتهم ، ووالله ليعتدن كما اعتدت اليهود
1 ـ المهلوف : 128 ، تاريخ الطبري 5 : 191 ، الكامل في التاريخ 4 : 7.
2 ـ أبو بكر عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي ، بويع له الخلافة سنة 64 هـ عقيب موت يزيد بن معاوية ، فحكم مصر والحجاز واليمن وخراسان والعراق وأكثر الشام ، وجعل قاعدة ملكه المدينة ، وكانت له مع الأمويّين وقائع هائلة ، سار لمحاربته الحجاج الثقفي في أيام عبد الملك بن مروان ، فانتقل إلى مكة وعسكر الحجّاج في الطائل ، ونشبت بينهما حروب انتهت بمقتل ابن الزبير في مكة بعد أن خذله أصحابه وذلك سنة 73 هـ ، مدة خلافته 9 سنين.
انظر : تاريخ ابن الاثير 4 : 135 ، تاريخ الطبري7 : 202 ، تاريخ الخميس 301 : 2.
3 ـ الملهوف : 101.
4 ـ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي ، صحابي ، ولد بأرض الحبشة لمّا هاجر أبواه إليها ، وهو أول من ولد بها من المسلمين ، كان كريماً يسمّى بحر الجود ، وللشعراء فيه مدائح ، وكان أحد الأمراء في جيش علي يوم صفين ، توفي بالمدينة سنة 80 هـ ؛ وقيل : غير ذلك. انظر : الاصابة ترجمة رقم 4582 ، فوات الوفيات 1 : 209.


(107)
في السبت. (1)
    وقوله في مقام آخر ـ كما في كامل ابن الأثير وغيره ـ : والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ من فرام المرأة ( يعني من خرقة الحيض ).
    وقوله لابي هرّة [ الأزدي ] ـ كما في تاريخ ابن جرير وغيره ـ : وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية. (2)
    ورؤياه التي رآها لما ارتحل من قصر بني مقاتل (3) ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال حين انتبه : انّا لله وانّا إليه راجعون ، الحمد لله رب العالمين ـ مرّتين أو ثلاثاً ـ.
    وقالوا : فاقبل عليه ابنه عليّ فقال : يا أبتاه ، جعلت فداك ممّا حمدت الله واسترجعت ؟
    فقال : يا بني ، خفقت برأسي فعنّ لي فارس ، فقال : القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم ، فعلمت انّها انفسنا نعيت إلينا ، فقال : يا أبت لا أراك الله سوءاً ، ألسنا على الحق ؟
    قال : بلى ، والذي إليه مرجع العباد.
    قال : إذاً لا نبالي نموت محقّين !
1 ـ تاريخ الطبري 5 : 191 ، تاريخ ابن الأثير 6 : 74.
2 ـ تاريخ الطبري 5 : 231 ، المهلوف : 132.
3 ـ وهو مقاتل بن حسان بن ثعلبة بن أوس بن إبراهيم بن أيّوب الذي نسب إلى قصر مقاتل ، وكان يقال بعد : قصر ابن مقاتل ، ويقولون : قصر بني مقاتل. انظر : انساب الأشراف 4 : 515.


(108)
    فقال له : جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده. (1)
    وقوله لمّا اُخبر بقتل قيس بن مسهّر الصيداوي (2) ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ : فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً. (3)
    إلى غير ذلك من أقواله الصريحة بانّه كان على يقين ممّا انتهت إليه حاله ، وانّه ما خرج الا ليبذل في سبيل الله نفسه وجميع ما ملكته يده ، ويضحي في احياء دين الله أولاده واخوته ، وأبناء أخيه ، وبني عمومته وخاصّة أوليائه ، والعقائل الطاهرات من نسائه.
إذ لم ير السبط للدين الحنيف شفاً وما سمعنـا عليـلاً لا علاج له الا إذ دمه في نصره سفكا الابنفـس مداويـه إذا هلكا

1 ـ أنساب الأشراف 5 : 290.
2 ـ قيس بن مسهر أسدي من عدنان ، كان من شجعان الكوفة ومن وجهاء قبيلة بني اسد ، وأحد مبعوثي الكوفة إلى الإمام الحسين سار مع مسلم بن عقيل من مكّة إلى الكوفة ، وبعد مدّة حمل كتاب مسلم وسار به إلى الحسين بمكة يخبره بمبايعة أهل الكوفة له.
ولمّا وافى الامام الحسين الحاجز من بطن ذي الرمّة ، كتب كتاباً لشيعته من أهل الكوفة يعلمهم بالقدوم اليهم ، ودفع الكتاب إلى البطل الفذ قيس بن مسهّر الصيداوي ، حتى انتهى إلى القادسية فاستولت عليه مفرزة من الشرطة اقيمت هناك وعلى رأسها الحصين بن نمير وهو من قادة جيش الكوفة ، وأسرع قيس إلى الكتاب فخرقه لئلا تطّلع الشرطة على ما فيه ، وأرسل مخفوراً إلى عبيد الله بن زياد ، الذي لم ينجح في الحصول على الأسماء الواردة الكتاب.
ولما تناهى خبر استشهاده إلى الحسين استعبر باكياً وقال : « اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً عندك ، واجمع بيننا وإيّاهم في مستقر رحمتك ». انظر : الارشاد للمفيد : 220 ، تاريخ الطبري 5 : 394 ـ 395 ، رجال الشيخ : 79 ، حياة الإمام الحسين 3 : 62.
3 ـ تاريخ الطبري 5 : 488 ، اعلام الورى : 136.


(109)
بقتلـه نـاح للاسلام طيب هدى وصان ستر الهدى عن كلّ خائنة نفسي الفـداء لفـاد شرع والده قد آثر الدين أن يحيـى فقحمها فكلّما ذكرتـه المسلمـون ذكـا ستر الفواطم يـوم الطف إذ هتكا بنفسـه وبأهـلـيـه وما ملكـا حيث استقام القنا الخطي واشتبكا (1)
    على انّ الامر الذي انتهت إليه حاله كان من الوضوح بمثابة لم تخف على أحد ، وقد نهاه عن ذلك الوجه ( جهلاً بمقاصده السامية ) كثير من الناس ، وأشفقوا عليه وأنذروه بلؤم بني اميّة وغدر أهل العراق.
    فقال له أخوه محمد بن الحنفية ـ كما في الملهوف وغيره ـ : يا أخي ، إنّ أهل الكوفة مَن قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفتُ أن يكون حالك كحال مَن مضى ، فإن رأيت أن تقيم فإنّك أعزّ من في الحرم وأمنعه.
    [ فقال : يا أخي قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم ، فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت.
    فقال له ابن الحنفية : ] فان خفتَ فسر إلى اليمن أوبعض نواحي البرّ ، فإنّك أمنع الناس به ، ولا يقدر عليك [ أحد ].
    فردّه الحسين عليه السلام برأفة ورفق ، وقال : أنظر فيما قلت. (2)
    واتاه ابن عبّاس فقال : يا ابن عمّ ، قد ارجف الناس انّك سائر إلى العراق ، فبيّن لي ما أنت صانع ؟
    قال : انّي قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين ان شاء الله تعالى.
1 ـ هذه الأبيات من قصيدة للشريف الفاضل السيد جعفر الحلّي يرثي بها جدّه عليه السلام.
2 ـ الملهوف : 128.


(110)
    فقال له ابن عباس ـ كما في تاريخي الطبري وابن الاثير وغيرهما ـ : أعيذك بالله من ذلك ، أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم ؟ فان كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم وان كانوا انّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم ، وعماله تجبي بلادهم ، فانّهم انّما دعوك إلى الحرب والقتال ، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفونك ويخذلونك ، وأن يستنفروا إليك ، فيكونون أشرّ الناس عليك.
    فردّه الحسين عليه السلام ردّ رحمة وحنان فقال له : أستخير الله وانظر ما يكون.
    فخرج ابن عبّاس ، ثم جاءه مرّة اخرى فقال له ـ كما في تارخي الطبري وابن الاثير وغيرهما ـ : يا ابن عم ، انّي أتصبّر ولا أصبر ، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال ، انّ أهل العراق قوم غدر فلا تقربنّهم ، أقم بهذا البلد ، فانّك سيّد أهل الحجاز ، فان كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم ، فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم ، فان أبيت الا أن تخرج فسر إلى اليمن فانّ بها حصوناً وشعاباً ، ولأبيك بها شيعة ، فتكتب إلى الناس وتبثّ دعاتك ، فانّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية.
    فقال له الحسين عليه السلام : يا ابن عم ، انّي لاعلم والله انّك ناصح مشفق ، ولكن قد أزمعت وأجمعت على المسير.
    ودخل عليه عمر بن عبد الرحمن المخزومي (1) فقال له ـ كما في تاريخي الطبري وابن الاثير وغيرهما ـ : انّي مشفق عليك ، انّك تأتي بلداً فيه عمّاله
1 ـ عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي. انظر ترجمته في تهذيب الكمال 14 : 493.

(111)
واُمراؤه ، ومعهم بيوت وأموال ، وانّما الناس عبيد الدينار والدرهم ، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره.
    فقال له الحسين عليه السلام : جزاك الله خيراً يا ابن عم ، فقد علمت انّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل ، ومهما يقض من أمر يكن. (1)
    وكتب إليه عبد الله بن جعفر بعد خروجه من مكة ـ كما في تاريخي الطبري وابن الاثير وغيرهما ـ : أمّا بعد ، فانّي أسألك بالله لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا ، فانّي مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، وإن هلكت اليوم طفئ نور الأرض ، فانّك علم المهتدين ، ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالسير فانّي في أثر كتابي والسلام. (2)
    وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد ( وهو عامل يزيد يومئذ بمكّة ) فقال له : اكتب للحسين كتاباً تجعل له الأمان فيه ، وتمنّيه فيه البر والصلة ، واسأله الرجوع ، ففعل عمرو ذلك ، وأرسل الكتاب مع أخيه يحيى بن سعيد وعبد الله بن جعفر فلحقاه وقرأى عليه الكتاب ، وجهدا أن يرجع ، فلم يفعل.
    وقال له عبد الله بن مطيع إذ إجتمع به في الطريق على بعض مياه العرب ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ اذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الاسلام أن تنتهك ، أنشدك الله في حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله ، أنشدك الله في حرمة العرب ، فوالله لأن طلبت ما في أيدي بني اميّة ليقتلنك ، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً.
    والله إنّها لحرمة الاسلام تنتهك ، ورحمة قريش ، وحرمة العرب ، فلا تفعل ،
1 ـ تاريخ الطبري 5 : 382 ، تاريخ ابن الاثير 6 : 238 ، مقتل الخوارزمي 1 : 197.
2 ـ تاريخ الطبري 5 : 218 ، تاريخ ابن الاثير 6 : 321.


(112)
ولا تأت الكوفة ، ولا تعرض لبني اميّة. (1)
    قالوا : فأبى الا أن يمضي إنجازاً لمقاصده السامية.
    ولقيه أحد بني عكرمة ببطن العقبة ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له : أنشدك الله لما انصرفت ، فوالله لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطأوا لك الأشياء ، فقدمت عليهم كان ذلك رأياً ، فأمّا على هذه الحال فانّي لا أرى لك أن تفعل ، فقال له : يا عبد الله انّه ليس يخفي عليَّ ، الرأي ما رأيت ، ولكن الله لا يغـلب على أمره. (2)
    ولقيه بعض بني تميم قريباً من القادسية ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له : ارجع فانّي لم أدع لك خيراً ارجوه. (3)
    وكان قد لقيه الفرزدق بن غالب (4) الشاعر في الصفاح (5) ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له : قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني اميّة. (6)
    وما إلتقى بالطريق بأحد الا إلتمسه على الرجوع إشفاقاً عليه من لؤم بني
1 ـ الطبقات الكبرى 5 : 144.
2 ـ تاريخ الطبري 5 : 246.
3 ـ تاريخ الطبري 5 : 239.
4 ـ هو : همّام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي ، أبو فراس ، شاعر من النبلاء من أهل البصرة ، عظيم الأثر في اللغة ، كان شريفاً في قومه ، وكان أبوه من الأشراف الأجواد ، كذلك جدّه ، توفي في بادية البصرة سنة 110 هـ وقد قارب المائة من عمره. انظر : خزانة الأدب 1 : 105 ـ 108 ، جمهرة أشعار العرب : 163.
5 ـ اسم منزل في شمال الطريق بين مكة وكربلاء ، بين حنين وانصاب الحرم. ومعنى الصفاح الأرض المجاورة لسفح الجبل. انظر : الأمالي الخميسية 1 : 166.
6 ـ تاريخ الطبري 5 : 218 ، الكامل لابن الأثير 4 : 16 ، تذكرة الحفّاظ الذهبي 1 : 338 ، الأمالي الخميسية 1 : 166.


(113)
اميّة وغدر أهل العراق ، وما كان ليخفي عليه ما ظهر لأغلب الناس ، لكنه وهؤلاء كما قيل : ـ أنت بواد والعذول بوادي.
    ما نزل ـ بأبي وامّي ـ منزلاً ولا ارتحل منه ـ كما في الإرشاد وغيره (1) ـ الا ذكر يحيى بن زكريا وقتله.
    وقال يوماً : من هوان الدنيا على الله إنّ رأس يحيى بن زكريا اُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل (2).
1 ـ الارشاد : 131 ، المناقب لابن شهراشوب 3 : 253 ، بحار الأنوار 45 : 298 ـ 299 ، عوالم الإمام الحسين : 607 ـ 608 ، تاريخ الطبري 5 : 230.
2 ـ ثمّة أوجه شبه بين شهادة الإمام الحسين عليه السلام وشهادة بعض الأنبياء ، ومن جملة ذلك الشبه بين مقتله ومقتل النبي يحيى بن زكريا عليهما السلام ، فرأس يحيى قد وضع في طشت من الذهب واُرسل إلى امرأة بغي وكذلك رأس الإمام الحسين عليه السلام ارسل بعد مقتله إلى ابن زياد وإلى يزيد بطشت من ذهب.
وقد انتقم الله لدم يحيى ان سلّط على اولئك القوم « نبوخذ نصّر » فقتل منهم سبعين ألفاً ، وأوحى الله تعالى إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله : انني قتلت في مقابل قتل يحيى سبعين ألفاً ، وسأقتل لقاء قتل ابن بنتك ضعف هذا العدد. ومثلما وضعوا رأس يحيى في الطشت ، ذبحوا الحسين بن علي أيضاً في كربلاء ، ولعلّ هذا التشابه هو الذي جعل الامام الحسين يذكر يحيى بن زكريا في كلّ موضع يحلّ فيه أو يرحل عنه ، وقال في أحد الأيّام ، انّ من هوان الدنيا أن يهدى رأس النبي يحيى إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
انظر : المناقب لابن شهراشوب 3 : 353 ، بحار الأنوار 45 : 298 ـ 299 ، عوالم الإمام الحسين : 607 ـ 608.
وهناك قصّة طريفة يرويها صاحب تفسير البرهان في شرحه للحروف القرآنيّة المقطّعة في أول سورة مريم « كهيعص » فيقول : انّ هذه الحروف من أنباء الغيب أطلع عليها عبده زكريا ثم قصّها على محمد عليه وآله السلام. وذلك ان زكريا سأل ربّه ان يعلّمه أسماء الخمسة فأهبط عليه جبرائيل فعلّمه إيّاها ، فكان زكريا إذا ذكر محمداً وعلياً وفاطمة والحسن عليهم السلام سري عنه همّه وانجلى كربه ، وإذا ذكر اسم الحسين خنقته العبرة ،


(114)
    فهل تراه أراد بهذا غير الإشارة إلى أنّ سبيله في هذا الوجه إنما هو سبيل يحيى عليه السلام ؟
    وأخبره الأسديّان (1) وهو نازل في الثعلبية (2) ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ بقتل مسلم بن عقيل (3) ، وهاني بن عروة (4) ، وانّهما يجرّان بأرجلهما في الأسواق
فسأل الله عن سبب ذلك فأخبره القصّة فقال : كهيعص ؛ فالكاف اسم كربلاء ، والهاء هلاك العترة الطاهرة ، والياء يزيد وهو ظالم الحسين ، والعين عطشه والصاد صبره ، فلمّا سمع ذلك زكريا لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام وأقبل على البكاء والنحيب. وكان يدعو ربّه أن يرزقه ولد تقرّ به عينه على الكبر ، وأن يفتنه بحبّه ، ثمّ يفجعه به كما فجع محمداً بولده ، فرزقه الله يحيى وفجعه به ، وكان حمله مثل الحسين ستّة أشهر. انظر : تفسير البرهان 3 : 3.
1 ـ وهما : عبد الله بن سليم والمنذر بن المشمعل ، وقد قالا له : انّه ليس لك بالكوفة ناصر ، بل هم عليك. انظر : الكامل في التاريخ لابن الأثير 4 : 16.
2 ـ الثعلبية ـ بفتح أوله ـ : من منازل طريق مكّة من الكوفة بعد الشقوق وقبل الخزيميّة ، وهي ثلثا الطريق ، وأسفل منها ماء يقال له الضويحة على ميل منها مشرف ، وإنّما سمّيت بالثعلبية لإقامة ثعلبة بن عمرو بها ؛ وقيل : سمّيت بثعلبة بن دودان بن أسد وهو أوّل من حفرها ونزلها. انظر : معجم البلدان 2 : 78.
وفي هذا الموضع لقي الامام الحسين عليه السلام الطرمّاح ودعاه إلى الانضمام إليه ، فذهب الرجل ليوصل بضاعته إلى عائلته لكنّه لمّا عاد كان الحسين عليه السلام قد قُتِل ، وفيه أيضاً أتاه رجل نصراني مع اُمّه واسلما على يده ، وفيه كذلك بلغه خبر شهادة مسلم بن عقيل عليه السلام. انظر : مقتل الحيسن للمقرّم : 211.
3 ـ مسلم بن عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ، تابعي من ذوي الرأي والعلم والشجاعة ، اُمّه اُمّ ولد اشتراها عقيل من الشام ، وجّه به الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة ليأخذ له البيعة على أهلها ، فخرج من مكة في منتصف شهر رمضان سنة 60 هـ ، ودخل الكوفة في اليوم السادس من شهر شوال ، وهو أوّل من استشهد من أصحاب الحسين عليه السلام. انظر : مقاتل الطالبيين : 80 ، الطبقات الكبرى 4 : 29 ، تسمية مَن قتل مع الحسين : 51 ، الأخبار الطوال : 233 ، تاريخ الكوفة : 59.
4 ـ هاني بن عروة المذحجي المرادي الغطيفي : كان صحابياً كأبيه عروة ، وكان معمراً ، وهو


(115)
بلا نكير ، فهل يمكن بعد هذا أن يبقى له أمل بنصرة أهل الكوفة ، أو طمع في شيء من خيرهم !
    والله ما جاءهم الايائساً منهم ، عالماً بكلّ ما كان منهم عليه. (1)
    وقد كتب وهو نازل بزبالة (2) كتاباً قرئ بأمره على الناس ، وفيه :
    بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد ؛ فانّه قد أتانا خبر فضيع : قُتل مسلم بن عقيل ، وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر (3) ، وقد خذلتنا شيعتنا ، فمن أحبّ منكم
وأبوه من وجوه الشيعة ، وحضر مع أمير المؤمنين عليه السلام حروبه الثلاث وهو القائل يوم الجمل :
يا لك حرباً حثها جمالها يقودها لنقصها ضلالها
هذا عليٌّ حوله أقبالها
كان من أركان حركة حجر بن عدي الكندي ضدّ زياد بن أبيه ، قتله عبيد الله بن زياد في اليوم الثامن من ذي الحجّة سنة 60 هـ وبعث برأسه مع رأس مسلم إلى يزيد.
1 ـ المهلوف : 134 ، الكامل لابن الأثير 4 : 17.
2 ـ زبالة ـ بضمّ أولّه ـ : منزل معروف بطريق مكّة من الكوفة ، نزل فيه الحسين عليه السلام. وزبالة معناه الموضع الذي يجتمع فيه الماء ، والموضع المليء بالماء ؛ وقيل : اشتهر الموضع باسم زبالة بنت مسعر ، وكانت زبالة قرية عامرة بها أسواق بين واقصة والثعلبية ، تسكنها بطون من بني أسد ، وقد بنوا فيه مسجد وقلعة.
وقال أبو عبيدة السكوني : زبالة بعد القاع من الكوفة وقبل الشقوق فيها حصن وجامع لنبي غاضرة من بني أسد. انظر : معجم البلدان 3 : 129.
وفي هذا الموضع سمع الإمام الحسين بخبر شهادة عبد الله بن يقطر مبعوثة إلى أهل الكوفة وإلى مسلم بن عقيل ، وقد استشهد بالتزامن مع شهادة مسلم وهانئ. انظر : مقتل الحسين للمقرّم : 213 ، الحسين في طريقه إلى الشهادة : 87.
3 ـ وقيل : عبد الله بن يقطر ، كانت اُمّه حاضنة للحسين وكان قد ولد قبل الحسين بثلاثة أيّام ، كان أبوه يقطر خادماً للرسول صلى الله عليه وآله ، وامّه ميمونة أرضعته سوية هو والحسين


(116)
الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام. (1)
    قال محمد بن جرير الطبري ـ في تاريخ الامم والملوك ـ : فتفرّق الناس عنه تفرّقاً ، فأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة.
    قال : وانّما فعل ذلك لأنّه ظنّ إنّما اتّبعه الأعراب لأنّهم ظنّوا انّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه الا وهم يعلمون على ما يقدمون ، قال : وقد علم انّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه الامن يريد مواساته والموت معه. (2)
    وذكر أهل الاخبار : إنّ الطرمّاح بن عدي (3) لمّا اجتمع به في عذيب
في دار علي عليه السلام ، وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله.
قبض عليه وهو يحمل رسالة من الحسين بعد خروجه من مكّة إلى مسلم بن عقيل ، فأمر به عبيد الله ابن زياد فاُلقي من فوق القصر فتكسّرت عظامه وبقي فيه رمق فاجهز عليه عبد الملك بن عمير اللخمي. انظر : أنصار الحسين : 106 ، تاريخ الطبري 3 : 359 ، الاصابة 3 : 58 ، وفيه عبد الله بن يقظة.
1 ـ الحسين في طريقه إلى الشهادة : 87.
2 ـ تاريخ الطبري 5 : 247.
3 ـ التحق الطرمّاح بن عدي بالامام في اثناء الطريق ، وصحبه بعض الوقت ، ولمّا سأل الحسين أصحابه ان كان أحد فيهم يخبر الطريق على غير الجادة ، انبرى له الطرماح بن عدي ، فقال له : أنااخبر الطريق ، وسار بين أيديهم الى كربلاء ، وأخذ يحدو الابل بقصيدة مطلعها :
يا ناقتي لا تذعري من زجري بخيـر ركبـان وخير سفـر أتـى بـه الله بخـيـر أمـر وشمّري بنا قبل طلوع الفجر حتـى تجلـّى كـريم النجر ثمّت أبقـاه بقـاء الـدهـر
واستأذن الطرمّاح من الامام أن يمضي لأهله ليوصل إليهم الميرة ويعود إلى نصرته ، فأذن له ، فانصرف ، وعندما رجع ووصل إلى عذيب الهجانات بلغه مقتل الامام ، فأخذ يبكي على


(117)
الهجانات (1) دنا منه فقال له ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ : والله انّي لأنظر فما أرى معك أحداً ، ولو لم يقاتلك الا هؤلاء الذين أراهم ملازميك ـ يعني الحرّ (2) وأصحابه ـ لكان كفى بهم ، وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة ، وفيه من الناس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه ، فسألت عنهم فقيل : اجتمعوا ليعرضوا ثمّ يسرحوا إلى حرب الحسين ، فانشدك الله إن قدرت أن لا تقدم عليهم شبراً الا فعلت ، فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع ، فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي
ما فاته من شرف الشهادة مع الحسين. انظر : أنساب الأشراف ( ترجمة الإمام الحسين عليه السلام : 178 ).
1 ـ اسم لأحد المنازل قرب الكوفة مرّ به سيد الشهداء ، وسمّي بالعذيب لما كان فيه من الماء العذب ، وهو لبني تميم وهو قريب من عذيب القوادس ، وعذيب القوادس ماء بين القادسية والمغيثة ، بينه وبين القادسية أربعة أميال ، وكان فيه ماء وبئر وبركة ودور وقصر ومسجد ، وكانت فيه مسلحة للفرس. ( معجم البلدان 4 : 92 ).
في هذا المنزل لقى أبو عبد الله عليه السلام أربعة رجال قادمين من الكوفة وفيهم نافع بن هلال وبعد ان كلّمهم الإمام انضمّوا إليه وقاتلوا معه ، وعند حركة قافلة الإمام تحرك الحرّ بجيشه أيضاً ، وفي الاثناء أتى كتاب ابن زياد إلى الحرّ يدعوه فيه للتضييق على الحسين فعمل الحر على منع القافلة من المسير.
2 ـ الحر بن يزيد بن ناجية بن سعيد من بني رياح بن يربوع ، من الشخصيات البارزة في الكوفة ، قائد من أشراف تميم ، أحد اُمراء الجيش الأموي في كربلاء ، وكان يقود ربع تميم وهمدان ، التقى مع الحسين عليه السلام عند جبل ذي حسم ، تاب قبل نشوب المعركة لمّا أقبلت خيل الكوفة تريد قتل الحسين وأصحابه وأبى أن يكون منهم ، فانصرف إلى الحسين ، فقاتل بين يديه قتالاً عجيباً حتى استشهد.
انظر : تارخي الطبري 5 : 422 ، رجال الشيخ : 73 ، البداية والنهاية 8 : 172 ، الأعلام 2 : 172 ، أنصار الحسين : 84 ـ 85.


(118)
يدعى ( أجأ ) (1) امتنعا والله به من ملوك غسان وحمير ، ومن النعمان بن المنذر ، ومن الأسود والأحمر ، والله ما دخل علينا فيه ذلّ قط ، فاسير معك حتى أنزلك القرية ، ثمّ نبعث إلى الرجال ممّن بـ ( أجأ ) و ( سَلمى ) من طيء ، فوالله لا يأتي عليك عشرة أيّام حتى تأتيك طيء رجالاً وركباناً ، ثمّ أقم فينا ما بدا لك ، فان هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم ، والله لا يوصل إليك أبداً ومنهم عين تطرف.
    فقال له : جزاك الله وقومك خيراً ، وأبى أن ينصرف عن مقصده.
    وأنت تعلم انّه لو كان له رغبة في غلبة ، أو ميل إلى سلطان ، لكان لكلام الطرمّاح وقع في نفسه عليه السلام ، ولظهر منه الميل إلى ما عرضه عليه ، لكنّه ـ بأبي وامّي ـ أبى الاالفوز بالشهادة ، والموت في احياء دين الاسلام ، وقد صرّح بذلك فيها تمثّل به ، إذ قال له الحر : اذكرك الله في نفسك ، فانّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ.
    فقال عليه السلام ـ كما في تاريخ الطبري وغيره (2) ـ :
سأمضي وما بالموت عار على الفتى وواسى الرجـال الصـالحين بنفسه اذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلماً وفارق مثبوراً وخالف مُجرماً
    وحسبك في إثبات علمه من أوّل الأمر بما انتهت إليه حال ما سمعته من إخبار النبي صلى الله عليه وآله بقتله في شاطئ الفرات بموضع يقال له كربلاء ، وبكائه عليه ، ونداء أمير المؤمنين عليه السلام لمّا حاذى نينوى وهو منصرف إلى
1 ـ قال الزمخشري : أجأ وسَلمى جبلان ... و « أجأ » سمّي باسم رجل وسمّي « سَلمى » باسم امرأة ، وقد تغنّى الشعراء بقصّة حبّهما. ( معجم البلدان 1 : 94 ـ 99 ).
2 ـ تاريخ الطبري 5 : 238 ، تاريخ ابن الأثير 6 : 213.


(119)
صفّين : صبراً أبا عبد الله ، صبراً أبا عبد الله بشاطئ الفرات. (1)
    وقوله إذ مرّ بكربلاء : هاهنا مناخ ركابهم ، وهاهنا موضع رحالهم ، وها هنا مهراق دمائهم.
    وقول الحسين عليه السلام لأخيه عمر : حدّثني أبي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بقتله وقتلي ، وإنّ تربتي تكون بقرب تربته.
    وقول الحسن للحسين عليهما السلام ـ كما في أمالي الصدوق وغيرهما ـ من جملة كلام كان بينهما : ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله ، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل ، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك ، وانتهاب ثقلك ، فعندها يحلذ الله ببني اميّة اللعنة. (2)
    إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على انّ قتل الحسين عليه السلام كان معروفاً عند أهل البيت منذ أخبر الله به نبيّه صلى الله عليه وآله ، بل صريح أخبارنا انّ ذلك ممّا أوحى إلى الأنبياء السابقين ، وقد سمعت ما أشرنا إليه من بكائهم عليهم السلام ، ويظهر من بعض الأخبار انّ قتل الحسين عليه السلام كان معروفاً عند جملة من الصحابة والتابعين حتى انّهم ليعلمون انّ قاتله عمر بن سعد.
    وحسبك ما نقله ابن الأثير حيث ذكر مقتل عمر بن سعد في كامله عن عبد الله بن شريك قال : ادرك أصحاب الأردية المعلمة ، وأصحاب البرانس السود من أصحاب السواري إذا مرّ بهم عمر بن سعد ، قالوا : هذا قاتل الحسين عليه السلام ، وذلك قبل أن يقتله.
    قال : وقال ابن سيرين : قال علي لعمر بن سعد : كيف أنت إذا قمت مقاماً
1 ـ الصواعق المحرقة : 193.
2 ـ أمالي الطوسي 1 : 323.


(120)
تخيّر فيه بين الجنة والنار ، فتختار النار. (1)
    أترى الحسين عليه السلام كان جاهلاً بما عليه أصحاب السواري ؟
    كلا ، والله ما علم أصحاب البرانس السود ذلك الامنه ، أو من أخيه ، أو من جدّه ، أو من أبيه.
    وقد أطلنا الكلام في هذا المقام ، إذ لم نجد من وفّاه حقّه ، وخرج من عهده التكليف بإيضاحه ، والحمد لله على التوفيق لتحرير هذه المسألة ، وتقرير شواهدها وأدلّتها على وجه تركن النفس إليه ، ولا يجد المنصف بدّاً من البناء عليه ، بل لا أظنّ أحداً يقف على ما تلوناه ، ثمّ يرتاب فيما قرّرناه.
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1 ـ تاريخ ابن الأثير 6 : 316 ، الطبقات 5 : 125 ، الأعلام 5 : 47.
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: فهرس