المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: 151 ـ 165
(151)
    ووقف الحسين على قبر أخيه الحسن عليهما السلام فقال :
أأدهـن رأسي أم تطيب مجالسي وليس حريباً من اُصيـب بماله غريب وأطراف البيوت تحوطه بكائـي طويل والدموع غزيرة وخـدّك معفـور وأنت تريب ولكن من وارى أخـاه حريب ألا كلّ من تحت التراب غريب وأنت بعيـد والمـزار قريب (1)
    ووقف محمد بن أمير المؤمنين ـ المعروف بابن الحنفيّة ـ على قبر اخيه ، وخليفة أبيه أبي محمد الحسن الزكي المجتبى عليه السلام فخنقته العبرة فقال :
    يرحمك الله أبا محمد ، فلئن عزّت حياتك فقد هدّت وفاتك ، ولنعم الروح روح ضمّه بدنك ، ولنعم البدن بدن ضمّه كفنك ، وكيف لا تكون كذلك وأنت بقيّة ولد الأنبياء ، وسليل الهدى ، وخامس أصحاب الكساء ، غذّتك أكفّ الحقّ ، وربّيت في حجر الإسلام ، فطبت حيّاً وطبت ميّتاً ، وإن كانت أنفسنا غير طيّبة
1 ـ قال محمد بن أبي طالب في تسلية المُجالس وزينة المَجالس ، ولمّا وضع الحسن عليه السلام في قبره أنشأ سيّدنا ومولانا أبا عبد الله الحسين عليه السلام :
أأدهـنُ رأسـي أم اُطيـّب مجـالسي أو استمـتـع الدنيـا بشـيء اُحبّـه فلا زلت أبكـي ما تغنّـت حمـامة وما هملت عينـي من الدمع قطـرة بكائـي طويـل والـدموع غزيرة غريب وأطـراف البيوت تحـوطه فلا يفرح الباقي خلاف الذي مضى وليس حريباً مـن اُصيـب بمـاله نسيبك من أمسـى يناجيـك طرفه ورأسـك معفـور وأنـت سليـب ألا كـلّ ما أدنـى إليـك حبـيـب عليـك وما هبـّت صبـا وجنوب وما اخضرّ في دوح الحجاز قضيب وأنت بعـيـد والـمـزار قريـب ألا كلّ من تحـت التـراب غريب فكل فتـى للمـوت فيه نصـيـب ولكـنّ مـن وارى أخـاه حـريب وليس لمن تحـت التـراب نسيـب
انظر : مناقب ابن شهراشوب 4 : 45 ، تسلية المُجالس وزينة المَجالس 2 : 65 ، بحار الأنوار 44 : 160 ذ ح 29.


(152)
بفراقك ، ولا شاكّة في الخيار لك.
    ثمّ بكى بكاءاً شديداً وبكى الحاضرون حتى علا نشيجهم وفيهم الحسين واخوته وابن عبّاس وسائر الهاشميين. (1)
    ولمّا توفّي أمير المؤمنين عليه السلام قام الخلف من بعده أبو محمد الحسن الزكي عليهما السلام فقال :
    لقد قتلتم الليلة رجلاً والله ما سبقه أحد كان قبله ، ولا يدركه أحد يكون بعده ، [ والله ] إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليبعثه في السرية ، وجبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، [ والله ] ما ترك بيضاء ولا صفراء ... إلى آخر كلامه. (2)
    ووقف أمير المؤمنين عليه السلام على الضريح الأقدس ، ضريح النبي صلى الله عليه وآله ساعة دفنه فقال :
    إن الصبر لجميل الاعنك ، وان الجزع لقبيح الاعليك ، وانّ المصاب بك لجليل ، وانّه بعدك لقليل. (3)
    وعن أنس بن مالك قال : لمّا فرغنا من دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقبلت فاطمة عليها السلام فقالت :
    [ يا أنس ، ] كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التراب ؟
1 ـ تاريخ الاُمم والملوك ( حوادث سنة 40 ) ، العقد الفريد 2 : 78.
2 ـ تاريخ الاُمم والملوك 5 : 157.
3 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 194 ، العقد الفريد 2 : 102.


(153)
    ثم بكت ونادت : يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه ، يا أبتاه مِن ربّه ما أدناه ، يا أبتاه من ربّه ناداه ، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه ، يا أبتاه جنّة الفردوس مأواه ، يا أبتاه لست بعد اليوم أراه. (1)
    وكأنّي بها وقد أصلى ضلعها الخطب ، ولاع قلبها الكرب ، ولجّ فؤادها الحزن ، واستوقد صدرها الغبن ، حين ذهبت كاظمة ، ورجعت راغمة ، ثمّ انكفأت إلى قبر أبيها باكية شاكية قائلة :
قد كـان بعـدك أنباء وهنبثة إنّا فقدناك فقـد الأرض وابلها فليت بعدك كان الموت صادفنا لو كان شاهدها لم تكثر الخطب فاختلّ قومك فاشهدهم فقد نكبوا (2) لمّا قضيت وحالت دونك الكثب (3)
    ولم تزل ـ : بأبي هي واُمّي ـ بعد أبيها صلى الله عليه وآله ذات غصّة لا تساغ ، ودموع تترى من مقلة عبرى ، قد استسلمت للوجد ، واخلدت في بيت أحزانها إلى الشجون ، حتى لحقت بأبيها صلى الله عليه وآله معصّبة الرأس ، قد ضاقت عليها الأرض برحبها.
    فلمّا فرغ أمير المؤمنين عليه السلام من دفنها في ظلام الليل ، ورهقه من الحزن عليها ما عيل به صبره ، وضاق به صدره ، استقبل بوجهه ضريح رسول الله صلى الله عليه وآله يشكو إليه بثّه وحزنه ، وقد جاشت في صدره غصص الهموم ،
1 ـ المصنف لعبد الرزاق 3 : 553 ح 6673 ، الطبقات الكبرى 2 : 311 ، صحيح البخاري 6 : 18 ، سنن ابن ماجة 1 : 522 ح 1630 ، سنن النسائي 4 : 13 ، العقد الفريد 3 : 230 ، المستدرك على الصحيحين 1 : 382.
2 ـ قال رحمه الله : الموجود في شرح النهج ، واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب ، لكنّ الصحيح ما أثبتناه ، وهو المأثور عندنا ، ومعنى نكبوا : عدلوا.
3 ـ العقد الفريد 3 : 194 ، النهاية لابن الأثير 3 : 156.


(154)

واعتلجت فيه حزازات الغموم ، فقال وهو يجرض بريقه ، ويميد به شجوه ، وقد انحلّت عقود دموعه ، وتناثرت لآلئ جفونه :
    السلام عليك يا رسول الله ، وعلى ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة اللحاق بك ، قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري ، ورقّ عنها تجلّدي ، ألا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك موضع تعزٍ ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، وأمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهّد ، أو يحتار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبؤك ابنتك بتظافر اُمّتك على هضمها ، فأحفّها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخلق منك الذكر. (1)
فـلأي الأمـور تـدفـن سـرّاً فمضت وهي أعظم الناس شجواً بضعة المصطفى ويعفى ثراها في فم الدهر غصّة من جواها
    وكأنّي بأمير المؤمنين عليه السلام واقفاً على قبرها وهو شجي بغصصه ، لا يملك دمعه ولا قلبه ، وكأنّي به ينشد :
لكل اجتماع من خليلين فُرقة وإنّ افتقادي واحداً بعد واحدٍ وكلّ الذي دون الممات قليل دلـيل على أن لا يدوم خليل (2)

1 ـ قال رحمه الله : هذا الكلام من الثابت عنه عليه السلام المأثور في كتاب نهج البلاغة.
2 ـ العقد الفريد 3 : 198.


(155)
    لا ريب في أنّ النبي صلى الله عليه وآله حزن حزناً شديداً على شيخ الأباطح وبيضة البلد ، عمّه وكافله أبي طالب ، وعلى صدّيقته الكبرى امّ المؤمنين ، وقد ماتا في عام واحد ، فسماه النبي صلى الله عليه وآله « عام الحزن » ، ولزم بيته (1) وأقلّ من الخروج حزناً عليهما ، وكان إذا تهجّمت عليه قريش يندب عمّه فيقول : « يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك » (2).
    وصحّ جلوسه في المسجد حزناً على ابن عمّه جعفر وصاحبيه زيد وابن رواحة. (3)
    وصحّ أيضاً أنه حزن حزناً شديداً ، لم ير أشدّ منه حين قتل القرّاء من أصحابه وقنت شهراً يستغفر لهم ، ويدعو على قاتليهم في قنوته.
    والعقل يحكم برجحان الجلوس حزناً على فقد المصلحين من أهل الحفائظ والأيادي المشكورة ، لأنّ تمييزهم بذلك يكون سبباً في تنشيط أمثالهم ، وأداء حقّهم بعد موتهم ، ويكون داعياً إلى كثرة الناسجين على منوالهم.
1 ـ انظر : السيرة النبويّة 1 : 108 ، الكامل في التاريخ 1 : 462 ، السيرة الحلبية 1 : 462 باب وفاة أبي طالب وخديجة.
2 ـ السيرة النبويّة 1 : 108.
3 ـ قال رحمه الله : والحديث هذا ثابت في باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن ص 154 من الجزء الأوّل من صحيح البخاري ، وفي باب التشديد في النياحة ص 345 من الجزء الأوّل من صحيح مسلم ، وثابت في صحيح أبي داود أيضاً.


(156)
    أمّا الجلوس لذكرى ما أصاب الأئمّة في سبيل مصالح الاُمّة ، فيبعث فيها روح الايمان والهدى ، ويأخذ بقلوبها إليهم ، وان بعُد العهد وطال المدى.
    وقـول اللائميـن : بأنّه لا يحسن الجلوس حزناً على الميّت إذا تقادم العهد بموته (1) لا يتمّ في فجائعنا بأهل البيت ، حيث لا يتلاشى الحزن عليهم مهما تقادم العهد بهم ، بل لا تخبو زفرة تلك الفجائع ، ولا تخمد لوعة هاتيك القوارع ، ما بقي الزمان ، وكر الجديدان ، فقربُ العهد بها وبعده عنها سيان ، وما أولى هذا اللائم ، بقول بعض الأعاظم :
خلي اُميمـة عـن ملا ما الراقد الوسنان مثـ سهران من ألـم وهـ ذوقـي اُميمة ما أذو مك ما المعزّي كالثكول ـل معذب القلب العليل ـذا نائـم الليل الطويل ق وبعده ما شئت قولي
    ورحم الله القائل :
ويل قلبي الشجي ممّا يعاني من ملام الخلي طعناً ووخزا
    ولو علم اللائم الأحمق بما في حزننا على أهل البيت من النصرة لهم ، والحرب الطاحنة لأعدائهم ، لخشع أمام حزننا الطويل ، ولأكبر الحكمة المقصودة من هذا النوح والعويل ، ولأذعن للأسرار في استمرارنا على ذلك في كل جيل ،
1 ـ قال رحمه الله : أخرج الإمام أحمد في ص 201 من الجزء الأول من مسنده من حديث الحسين عليه السلام عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله : ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وان طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً الا جدّد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم اُصيب بها.
وروى ابن ماجة وأبو يعلى عنه هذا الحديث أيضاً كما في ترجمته عليه السلام من الاصابة.


(157)
وما أولاه وإيّانا بقول القائل :
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني لكن جهلت مقالتـي فعـذلتني أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا وعلمت أنّك جاهل فعـذرتكا
    على أنّ الأوامر المتواترة عن أئمّة العترة الطاهرة تستوجب التعبّد بترتيب آثار الحزن على الدوام ، ولو ثبتت هذه الأوامر عن أئمّة المذاهب الأربعة لعمل اللائمون بها ، فلماذا إذن يلوموننا بعد ثبوتها عن أئمّة العترة ، وسفينة نجاة الامّة ، وباب حطّة ، وأمان أهل الأرض ، وأعدل كتاب الله ، وعيبة رسوله ، لو كانـوا ينصفون ؟؟
    ولِمَ يلومنا اللائمون في حزننا ، مع تقادم العهد بمصيبتنا ، ويحبّذون استمرار أهل المدينة على ندب حمزة كلّما ناحوا على ميّت منهم ؟
    فإن كان بكاؤهم على حمزة مواساة لرسول الله صلى الله عليه وآله بمصيبته في عمّه ، وأداء لواجب قوله صلى الله عليه وآله : « لكن حمزة لا بواكي له » ، فانّ بكاؤنا انّما هو مواساة له في مصيبته بريحانته من الدنيا ، وقرّة عينه ، واداء لواجب بكائه عليه.
    أيبكي رسول الله صلى الله عليه وآله على الحسين ـ بأبي هو واُمّي ـ قبل الفاجعة ونحن لا نبكيه بعدها ؟؟
    ما هذا شأن المتأسّي بنبيه ، والمواسي له !؟
    ألم يرو الإمام أحمد : انّ عليّاً لما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفّين نادى : صبراً أبا عبد الله ، صبراً أبا عبد الله بشطّ الفرات ، فسئل عن ذلك فقال :
    دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم وهو يبكي ، فسألته


(158)
فقال : قام من عندي جبرئيل فحدّثني إنّ الحسين يقتل بشط الفرات.
    قال : فقال : هل لك إلى أن أشمّك من تربته ؟
    قال : قلت : نعم ، فمدّ يده ، فقبض قبضة من تراب ، فأعطانيها.
    وأخرج ابن سعد ، عن الشعبي قال : مرّ عليّ رضي الله عنه بكربلاء عند مسيره إلى صفّين ، فوقف وسأل عن اسم الأرض ؛ فقيل : كربلاء ، فبكى حتى بلّ الأرض من دموعه.
    ثم قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يبكي فقـلت : ما يبكيـك ؟
    قال : كان عندي جبرئيل آنفاً ، وأخبرني أنّ ولدي الحسين يقتل بشاطئ الفرات ، بموضع يقال له : كربلاء ...
    وأخرج الملأ : انّ علياً مرّ بموضع قبر الحسين عليه السلام فقال : ها هنا مناخ ركابهم ، وهاهنا موضع رحالهم ، وها هنا مهراق دمائهم ، فتية من آل محمد ، يقتلون بهذه العرصة ، تبكي عليه السماء والأرض ...
    ومن حديث امّ سلمة قالت : كان عندي النبي صلى الله عليه وآله ومعي الحسين ، فدنا من النبي صلى الله عليه وآله فأخذته ، فبكى فتركته ، فدنا منه ، فأخذته ، فبكى فتركته ، فقال له جبرئيل : أتحبّه يا محمد ؟!
    قال : نعم.
    قال : أما إنّ اُمّتك ستقتله ، وان شئت أريتك الأرض التي يقتل بها ، فبكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
    وروى الماوردي الشافعي ، عن عائشة ، قالت : دخل الحسين بن علي


(159)
على رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يوحى إليه ، فقال جبرئيل : انّ اُمّتك ستفتتن بعدك وتقتل ابنك هذا من بعدك ، ومدّ يده فأتاه بتربة بيضاء ، وقال : في هذه يقتل ابنك اسمها الطف.
    فلمّا عرج جبرئيل عليه السلام ، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه والتربة بيده ، وفيهم : أبو بكر ، وعمر ، وعليّ ، وحذيفة ، وعمار ، وأبو ذر ، وهو يبكي فقالوا : ما يبكيك يا رسول الله ؟!
    فقال : أخبرني جبرئيل : إنّ بني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف ، وجاء بهذه التربة (1) ، فأخبرني إنّ فيها مضجعه.
    فإذن أوّل من بكى في هذه الامّة على الحسين ، وأوّل من اُهدي إليه تربته ، وأوّل من شمّها ، وأوّل من تلا على الناس مقتل الحسين بأرض الطف لهو رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأوّل من سمّع حديث مقتله لأصحابه الكرام ، ولا احتمل الاأنّهم واسوا يومئذ رسول الله صلى الله عليه وآله في حزنه وبكائه و « لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر » (2) ، « ومَن يتولّ فإنّ الله هو الغنيّ الحميد » (3).
    وأخرج الترمذي : إنّ امّ سلمة رأت النبي صلى الله عليه وآله ـ فيما يراه النائم ـ باكياً ، وبرأسه ولحيته التراب فسألته ، فقال : قتل الحسين آنفاً.
    قال في الصواعق : وكذلك رآه ابن عباس نصف النهار ، أشعث أغبر ، وفي
1 ـ قال رحمه الله : انّ تربة يحملها الروح الأمين إلى سيد النبيّين والمرسلين لحقيقة بالاحترام وجديرة بأن تدّخر وتحمل وتُهدى بكلّ إجلال وإعظام.
2 ـ سورة الأحزاب : 21.
3 ـ سورة الحديد : 24 ، سورة الممتحنة : 6.


(160)
يده قارورة فيها دم يلتقطه فسأله ، فقال : دم الحسين وأصحابه ، لم أزل أتتبّعه منذ اليوم.
    قال : فنظروا فوجدوه قد قتل في ذلك اليوم.
    وأمّا صحاحنا فانّها متواترة في بكائه صلى الله عليه وآله ، على سبطه وريحانته في مقامات عديدة ، يوم ولادته وقبلها ، ويوم السابع من مولده ، وبعده في بيت الزهراء ، وفي حجرته ، وعلى منبره ، وفي بعض أسفاره ، تارة يبكيه وحده ، ومرّة هو والملائكة ، وأحياناً هو وعلي وفاطمة ، وربّما بكاه هو وبعض أصحابه ، وربمّا قبّله في نحره وبكى ، وربّما قبّله في شفتيه فبكى ، وربّما بكى إذا رآه فرحاً أو رآه حزناً.
    ولله در السيد الرضي حيث يقول :
لو رسـول الله يحـيـا بعـده جزروا جرز الأضـاحي نسله ليـس هـذا لرسـول الله يـا يا رسـول الله لو أبصرتهـم (1) مِن رميض يُمنـع الظلّ ومِن ومسوق عاثـر يُسـعـى به لرأت عيناك منهم منـظـراً لا أرى حـزنكـم يُنسى ولا قـعـد اليـوم عليـه للـعـزا ثـم سـاقـوا أهلـه سَوق الإما امّـة الطغيان والبـغـي جـزا وهـم ما بيـن قتـلـى وسِـبا عاطـش يسقـى أنابيـب القنـا خلـف محمول على غيـر وطا للحـشـى شجـواً وللعيـن قذا رزءكـم يُسلى وإن طال المدى (2)

1 ـ كذا في الأصل ، وفي ديوان الرضي : عاينتهم.
2 ـ هذه الأبيات من قصيدة رائعة للشريف الرضي ألقاها وهو بالحائر الحسيني وهي بعنوان « كربلا كرب وبلا ». انظر : ديوان الرضي 1 : 44 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 386.


(161)
    لا ريب في استحباب الانفاق صدقة عن موتى المؤمنين ، وقد فعل النبي صلى الله عليه وآله ذلك وأمر به.
    ففي الصحيحين بطرق متعدّدة عن عائشة قالت : ما غرت على أحد من نساء النبي [ مثل ] ما غرت على خديجة وما رأيتها ، لكن كان النبي صلى الله عليه وآله يكثر ذكرها ، وربّما ذبح الشاة ثمّ يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فربّما قلت له : كأن لم يكن في الدنيا الاخديجة ، فيقول لي : انّها كانت وكانت وكان لي منها ولد. (1)
    وأخرج مسلم : أنّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله إن امّي افتلت نفسها ولم توص ، أفلها أجر إن تصدّقت عنها ؟
    قال صلى الله عليه وآله : نعم.
    وأخرج الإمام أحمد في مسنده : انّ سعد بن عبادة قال : إنّ ابن بكر أخا بني ساعدة توفّيت امّه وهو غائب عنها ، فقال : يا رسول الله إنّ امّي توفّيت وأنا غائب عنها ، فهل ينفعها إن تصدّقت بشيء عنها ؟
    قال : نعم.
    قال : فاني أشهدك أن حائط المخرف صدقة عليها. (2)
1 ـ قال رحمه الله : هذا الحديث يدلّ على استحباب صلة أصدقاء الميّت وأوليائه صدقة عنه.
2 ـ قال رحمه الله : ربّما كان المنكرون علينا فيما نفعله في مجالسنا من الصدقة عن الحسين عليه السلام لا يقنعون بأقوال النبي ولا بأفعاله صلى الله عليه وآله الا أن يكون ذلك مأثوراً عن سلفهم ، وحينئذ نحتجّ عليهم بما فعله الوليد بن أبي معيط الأموي ، إذ مات لبيد بن ربيعة


(162)
    وعن رسول الله صلى الله عليه وآله : إذا مات الانسان انقطع عمله الامن ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له.
    وفي خصال الصدوق بالإسناد إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال : إنّ الله تبارك وتعالى اطّلع إلى الأرض فاختارنا ، واختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا ، اولئك منّا وإلينا.
    بأبي أنتم وامّي أهل بيت الرحمة ، أسبغتم على العالمين آلاءكم ، وأفضتم على أهل الارض سجال نعمائكم ، فاياديكم تسترقّ الأعناق ، ومننكم تستعبد قلوب الأحرار ، وما رأى الراؤون أعطى لجزيل عن ظهر يد منكم (1) ، أنشأتم الهدى ، وكافحتم الكفر والضلال ، والبغي والفساد والعمى ، وسنّيتم في الأرض صراطاً مستقيماً ، وقاسيتم من الناس في سبيل هدايتهم بلاء عظيماً.
سلبوكم بشبا الصوارم أنفساً قام الوجود بسرّها المكنون
    فما خطر أموالنا وأنفسنا في جنب أموالكم وأنفكسم التي بذلتموها فينا ، وكيف نستكثر أموالاً وأنفساً نقابل بها تلك الأموال والأنفس ، وانّ الجرأة عليكم بسلب عقال من أموالكم المقدّسة ، او مسيل قطرة من دمائكم الزكيّة لأفظع من اجتياح أموال العالمين وأنفسهم كافة ، فالويل لمن قتلكم وسلبكم ، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول ، تبّت أيديهم ولُعنوا بما ارتكبوا ، إذ قتلوا عترة رسول الله وبقيّته فيهم.
امّة قاتلت امام هداها يا ترى أين زال عنها حياها
    ويحهم أخزاهم الله ، كيف سلبوه حتى ثيابه ، فأخذ قميصه ـ بأبي وامّي ـ
العامري الشاعر ، فبعث الوليد إلى منزله عشرين جزوراً فجزرت عنه. نقل ذلك ابن عبد البر في ترجمة لبيد من الاستيعاب.
1 ـ قال رحمه الله : أي تفضّلاً من غير مكافأة ولا قرض.


(163)
إسحاق بن حوية (1) ، وأخذ سراويله أبجر بن كعب (2) ، وأخذ عمامته أخنس بن
1 ـ وهو : إسحاق بن حويّة ( حيوة ) الحضرمي ، أحد المجرمين في جيش الكوفة ممّن شارك في واقعة كربلاء ، حيث قام بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام بسلبه قميصه ، وهو من جملة من تطوّع ـ بأمر عمر بن سعد ـ لرضّ جسد الإمام الحسين عليه السلام بالخيل ، حيث تعتبر هذه الجريمة من الجرائم المفجعة التي ارتكبها جيش ابن زياد بحقّ الإمام الحسين ، وكانت هذه الجريمة قد تمّت بتحريض من شمر بن ذي الجوشن لابن زياد ، فالكتاب الذي بعثه عمر بن سعد إلى ابن زياد كان كتاباً عاديّاً ، لكن ابن زياد ردّ عليه بكتاب يعنّفه فيه ، وكتب إليه : إنّي لم ابعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ، ولا لتمنّيه ، ولا لتطاوله ، ولا لتقعد له عندي شافعاً ، انظر فان نزل الحسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم اليَّ سلماً ، وإن أَبَو فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثّل بهم ، فإنّهم لذلك مستحقون ، فان قتل الحسين فاوطئ الخيل صدره وظهره ، فانّه عاقّ شاقّ قاطع ظلوم ، فان أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع ، وان أنت أبيت فاعتزل جندنا ، وخلّ بين شمر وبين العسكر ، فأتى شمر بالكتاب وسلّمه لعمر بن سعد.
وبعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام عصر يوم عاشوراء نادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب إلى الحسين فيوطئه بفرسه ؟ فانتدب منهم عشرة ، حيث داسوا الحسين بخيولهم حتّى رضّوا صدره وظهره ، وهم : إسحاق بن حويّة الحضرمي الذي سلب الحسين عليه السلام قميصه ، وأخنس بن مرثد ، وحكيم بن طفيل السبيعي ، وعمر بن صبيح الصيداوي ، ورجاء بن منقذ العبدي ، وسالم بن خيثمة الجعفي ، وواحظ بن ناعم ، وصالح بن وهب الجعفي ، وهانئ بن ثبيت الحضرمي ، واُسيد بن مالك لعنهم الله.
وجاء هؤلاء العشرة حتّى وقفوا على ابن زياد ، فقال أحدهم وهو اُسيد بن مالك :
نحن رضضنا الصدر بعد الظهر بكلّ يعسوب شديد الأمر
فقال ابن زياد لعنه الله : مَن أنتم ؟ قالوا : نحن الذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين حتى طحنّا حناجر صدره. قال : فأمر لهم بجائزة يسيرة.
قال أبو عمرو الزاهد : فنظرنا في هؤلاء العشرة فوجدناهم جميعاً أولاد زنا.
وهؤلاء أخذهم المختار رحمه الله فشدّ أيديهم وأرجلهم بسلاسل الحديد ، وأوطأ الخيل ظهورهم حتّى هلكوا. انظر : الملهوف : 183 ، زينة المجالس : 459.
2 ـ وقيل اسمه : أبحر بن كعب ، حيث قام بتجريد الإمام من ثيابه بعد قتله ، وترك جسد


(164)
مرثد ، وأخذ سيفه رجل من بني دارم ، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله ، وسلبوا نساءه وهنّ عقائل النبوّة ، وخفرات بني الوحي والتنزيل.
    قال حميد بن مسلم (1) : فوالله لقد كنت أرى المرأة من نساء الحسين وبناته وأهله تنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيذهب به منها.
    قال : ثمّ انتهينا إلى علي بن الحسين عليهما السلام وهو منبسط على فراش ، وهو شديد المرض ، ومع شمر (2) جماعة من الرجّالة فقالوا له : ألا نقتل هذا
الحسين عارياً على رمضاء كربلاء ، وقد يبست يدا هذا الشخص فيما بعد حتّى اصبحتا كالخشبتين ، وجاء في خبر آخر إنّه اُصيب بعد ارتداء السروال بشلل في رجليه أقعده عن الحركة تماماً.
انظر : اثبات الهداة 5 : 201 ، عوالم الإمام الحسين : 297 ، بحار الانوار 45 : 57.
1 ـ في تنقيح المقال 1 : 380 : حميد بن مسلم الكوفي ، لم أقف فيه الاعلى عدّ الشيخ رحمه الله إيّاه في رجاله من أصحاب السجاد عليه السلام ، وظاهره كونه إمامياً ، الا أنّ حاله مجهول.
وفي مستدركات علم الرجال 3 : 289 : حميد بن مسلم الكوفي ، وعدّ من مجاهيل أصحاب السجاد عليه السلام وهو ناقل جملة من قضايا كربلاء على نحو يظهر منه أنّه كان في وقعة الطف ... وكان من جند سليمان بن صرد الخزاعي من طرف المختار في مقتل عين الوردة في حرب الشام لطلب ثأر الحسين عليه السلام.
أقول : يحتمل أن يكون أكثر من شخص بهذا الاسم ، فأحدهما كان في وقعة الطف ونقل بعض الوقائع وأرسل عمر بن سعد رأس الحسين معه ومع جماعة إلى عبيدالله بن زياد ، ممّا يدلّ على انّه كان من أعوان عمر بن سعد ، والثاني إمامي من أصحاب الإمام السجاد ومن جند سليمان بن صرد.
2 ـ شمر بن ذي الجوشن ـ واسمه شرحبيل ـ بن قرط الضبابي الكلابي ، أبو السابغة ، من كبار قتلة ومبغضي الحسين عليه السلام ، كان في أوّل أمره من ذوي الرئاسة في هوازن موصوفاً بالشجاعة ، وشهد يوم صفين مع عليّ عليه السلام ، سمعه أبو إسحاق السبيعي يقول بعد الصلاة : اللهم إنّك تعلم أني شريف فاغفر لي !! فقال له : كيف يغفر الله لك وقد أعنت على قتل


(165)
العليل ؟!
    [ قال حميد : ] فقلت : سبحان الله أيقتل الصبيان ! إنّما هذا صبي وانّه لما به ، فلم أزل حتى دفعتهم عنه.
    قال : وجاء عمر بن سعد فصاح النساء في وجهه وبكين ، فقال لأصحابه : لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء النسوة ، ولا تتعرّضوا لهذا الغلام المريض ، وسألته النسوة ليسترجعن ما أخذ منهنّ ليسترن به ، فقال : من أخذ من متاعهنّ شيء فليرده عليهنّ.
    [ قال : ] فوالله ما ردّ أحد منهم شيئاً.
    وروى حميد بن مسلم أيضاً قال : رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد ، فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين عليه السلام فسطاطهنّ ، وهم يسلبونهنّ أخذت سيفاً وأقبلت نحو الفسطاط ، وقالت : يا آل بكر بن وائل أتُسلب بنات رسول الله ؟ لا حكم الالله ، يا لثارات رسول الله.
    قال : فأخذها زوجها وردّها إلى رحله.
أأنسى هجوم الخيل ضابحة (1) على خيام نساكم بالعواسل والقضب

ابن رسول الله ؟! فقال : ويحك كيف نصنع ، إنّ اُمراءنا هؤلاء أمرونا بأمرٍ فلم نخالفهم ! ولو خالفناهم كنّا شرّاً من هذه الحمر ؟ ثمّ أنّه لمّا قام المختار طلب الشمر ، فخرج من الكوفة وسار إلى الكلتانية ـ قرية من قرى خوزستان ـ ففجأة جمع من رجال المختار ، فبرز لهم الشمر قبل أن يتمكّن من لبس ثيابه فطاعنهم قليلاً وتمكّن منه أبو عمرة فقتله واُلقيت جثته للكلاب. انظر : الكامل في التاريخ 4 : 92 ، ميزان الاعتدال 1 : 44 ، لسان الميزان 3 : 152.
1 ـ ضبحت الخيل في عدوها : أسمعت من أفواهها صوتاً ليس بصهيل ولا حمحمة.
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: فهرس