المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: 211 ـ 225
(211)
رأس ابن بنت محمد ووصيّه والمسلمـون بمنظرٍ وبمسمعٍ كحلت بمنظرك العيون عماية للناظريـن علـى قنـاة يرفعُ لا منكر منهـم ولا متفـجـّع وأصـمّ رزؤك كلّ اُذن تسمعُ (1)

1 ـ هذه الأبيات لشاعر أهل البيت دعبل الخزاعي صاحب القصيدة التائية المشهورة. انظر : معجم الأدباء 10 : 110.
قال ابن طاووس في الملهوف : 203 : ويحقّ لي أن أتمثّل هنا أبياتاً لبعض ذوي العقول ، يرثي بها قتيلاً من آل الرسول صلى الله عليه وآله فقال :
رأس ابن بنت ...
أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى ما روضـة الاتمـنـّت أنّها وأنمت عيناً لم تكن بك تهجعُ لك حفرة ولخط قبرك مضجع

(212)
    كان توجّه الحسين عليه السلام من مكّة إلى العراق يوم خروج مسلم للقتال بالكوفة (1) ، وهو يوم التروية ، واستشهد مسلم في الثامن من خروجه وهو يوم عرفة ، وكان قد اجتمع إلى الحسين نفر من أصحابه من أهل الحجاز والبصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه.
    ولما أراد التوجّه إلى العراق طاف وسعى وحلّ من احرام جعلها عمرة مفردة وخرج مبادراً بأهله وولده ، ومن انضمّ إليه من شيعته.
    وروي عن الفرزدق الشاعر انّه قال :
    حججت باُمّي سنة ستّين فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم ، إذ لقيت الحسين عليه السلام خارجاً من مكّة في أسيافه وأتراسه ، فقلت : لمن هذا القطار ؟
    فقيل : للحسين بن علي عليهما السلام.
    فأتيته فسلّمت عليه وقلت : أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله ما أعجلك عن الحج ؟
    فقال : لو لم أعجل لأخذت ، من أنت ؟
    فقلت : امرؤ من العرب ، فوالله ما فتّشني عن أكثر من ذلك.
1 ـ الارشاد : 218.

(213)
    ثم قال : أخبرني عن الناس خلفك ؟
    فقلت : الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وأسيافهم عليك ، والقضاء ينزل من السماء.
    فقال : صدقت لله الأمر وكلّ يوم هو في شأن ، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على اداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحق نيّته والتقوى سريرته.
    فقلت : أجل بلّغك الله ما تحب ، وكفاك ما تحذر ، وسألته عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها ، وحرّك راحلته وقال : السلام عليك ، ثم افترقنا.
    وكان سلام الله عليه لما خرج اعترضه يحيى بن سعيد وجماعة أرسلهم عمرو بن سعيد بن العاص ـ والي يزيد يومئذ على مكّة ـ فأبى عليهم الحسين عليه السلام وامتنع منهم هو وأصحابه امتناعاً قوياً ، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط.
    وسار ـ بأبي واُمّي ـ حتى أتى التنعيم (1) فلقي عيراً قد أقبلت من اليمن
1 ـ بالفتح ثم السكون وكسر العين وياء ساكنة وميم ، موضع بمكة في الحل ، وهو بين مكّة وسرٍف على فرسخين من مكّة ؛ وقيل : على أربعة ، وهو احد المواقيت التي يحرم فيها الحجّاج للعمرة. كان فيه عين ماء ومسجد. وعرف بهذا الاسم لوجود جبل الى يمينه يقال له نعيم وآخر عن شماله يقال له ناعم والوادي نعمان ، وبالتنعيم مساجد حول مسجد عائشة وسقايا على طريق المدينة منه يحرم المكّيون بالعمرة. انظر : معجم البلدان 2 : 49.
قال الطبري ( 4 : 289 ) : ولمّا نزل فيه الإمام الحسين عليه السلام في مسيره الكوفة لقي قافلة قادمة من اليمن تحمل بضائع ليزيد ، فاستولى عليها ، ويبدو انّ هدفه كان الاضرار الاقتصادي بالعدو. أمّا رجال القافلة فقد خيّرهم الإمام بين المسير معه إلى كربلاء أو ان يدفع لهم اُجرة الطريق ليسيروا حيث ما شاءوا ، وقد سار معه جماعة منهم.


(214)
فاستأجر من أهلها جمالاً لرحله وأصحابه.
    وألحقه عبد الله بن جعفر (1) بابنيه عون ومحمد وكتب معهما إليه كتاباً يقول فيه :
    أمّا بعد : فانّي أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي فانّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، وإن هلكت اليوم طفئ نور الأرض ، فانّك علم المهتدين ، ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل في المسير فانّي في أثر كتابي والسلام.
    وذهب عبد الله إلى عمرو بن سعيد فسأله أن يكتب للحسين أماناً ليرجع عن وجهه ، فكتب إليه عمرو في ذلك ، وأنفذ كتابه مع أخيه يحيى وعبد الله بن جعفر ، ودفعا إليه الكتاب ، وجهدا به في الرجوع.
    فقال : إنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام ، وأمرني بما أنا ماضٍ فيه.
    ولمّا يأس عبد الله بن جعفر أمر ابنيه عوناً ومحمداً بلزومه والمسير معه ، والجهاد دونه ، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكّة. (2)
    وتوجّه الحسين عليه السلام نحو العراق مغذاً لا يلوي على شيء ، حتى
1 ـ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بحر الجود ، وأخباره في الجود والكرم والحلم لا تحصى ، وفيه يقول عبد الله بن قيس الرقيات :
وما كنت كالأغر بن جعفر رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا
انظر : الاصابة 2 : 289 ـ 290 ، أسد الغابة 3 : 199.
2 ـ تاريخ الطبري 5 : 218.


(215)
نزل ذات عرق (1) فلقي بشر بن غالب (2) وارداً من العراق ، فسأله عن أهلها.
    فقال : خلفت القلوب معك ، والسيوف مع بني اميّة.
    فقال : صدق أخو بني أسد إن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. (3)
    ولما بلغ عبيد الله بن زياد إقبال الحسين عليه السلام من مكّة ، بعث صاحب شرطته الحصين بن نمير (4) حتى نزل القادسية ، ونظم الخيل ما بين
1 ـ ذات عرق مُهَلّ أهل العراق ، وهو الحدّ بن نجد وتهامة. اسم لمنزل بين مكّة والعراق ، يبعد عن مكّة مسافة منزلين ، وهو ميقات إحرام القادمين من شرقي مكّة ؛ وقيل : عرق جبل بطريق مكة ومنه ذات عرق.
وقال الأصمعي : ما ارتفع من بطن الرمّة فهو نجد إلى ثنايا ذات عرق ، وعرق هو الجبل المشرف على ذات عرق. انظر : معجم البلدان 4 : 107 ـ 108.
وهو من المنازل التي مرّ بها سيّد الشهداء بعد وادي العقيق ، وتوقف فيه يوماً أو يومين ، ثم شدّ رحاله وواصل المسير ، وفي هذا المنزل لقي الإمام بشر بن غالب وكان قادماً من العراق ، وسأله عن وضع العراق ، فقال له : القلوب معك والسيوف عليك. وسار الإمام إلى المنزل التالي هو « غمرة ». ومن هذا المنزل بعث كتاباً إلى أهل الكوفة يخبرهم فيه بنبأ قدومه إليهم ، وأنفذوه بواسطة قيس بن مسهر الصيداوي. انظر : مقتل الحسين للمقرّم : 204.
2 ـ في مستدركات علم الرجال ( 2 : 33 ) : بشر بن غالب الأسدي الكوفي ، من أصحاب الحسين والسجاد ، قاله الشيخ في رجاله ، والبرقي عدّه من أصحاب أمير المؤمنين والحسنين والسجاد عليهم السلام ، وأخوه بشير ، رويا عن الحسين دعاءه المعروف يوم عرفة بعرفات ... وله روايات عن الحسين ذكرت في عدّة الداعي ، ويروي عنه عبد الله بن شريك.
3 ـ مثير الأحزان : 21.
4 ـ الحصين بن نمير بن نائل أبو عبد الرحمن الكندي ثم السكوني ، وهو من قادة الأمويين القساة ، من أهل حمص ، كان مبغضاً لآل علي ؛ ففي معركة صفّين كان إلى جانب معاوية ، وفي عهد يزيد كان قائداً على قسم من الجيش ، وفي واقعة مسلم بن عقيل سلّطه ابن زياد على دور أهل الكوفة ، ليأخذ مسلم ويأتيه به ، وهو الذي أخذ قيس بن مسهّر رسول الحسين عليه السلام فبعث به إلى ابن زياد فأمر به فقتل ، وهو الذي نصب المنجنيق على جبل أبي قبيس ورمى به الكعبة لمّا تحصّن ابن الزبير في


(216)
القادسية (1) إلى خفان ، وما بين القادسية إلى القطقطانية (2).
    ولمّا بلغ الحسين عليه السلام الحاجز (3) من بطن الرمّة بعث قيس بن مسهر الصيداوي ـ وقيل بل بعث أخاه من الرضاعة عبد الله بن يقطر ـ إلى الكوفة ، ولم
المسجد الحرام ، وهو قاتل سليمان بن صرد أثناء ثورة التوّابين ، وهو الذي سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن شعر رأسه بعد قوله عليه السلام : « سلوني قبل أن تفقدوني » ، وفي عهد يزيد شارك في الهجوم الذي امر يزيد بشنّه على المدينة المنوّرة ، مات في عام 68 هـ متأثّراً بجراح أصابه بها إبراهيم بن الأشتر في الوقعة التي جرت على ضفاف نهر الخازر ، وجاء في بعض الأخيار انّه أخذ رأس حبيب بن مظاهر بعد مقتله وعلّقه في رقبة فرسه ودار به في الكوفة مفتخراً ، فكمن له فيما بعد القاسم بن حبيب وقتله ثاراً لدم أبيه ، وجاء في مصادر أخرى انّه قتل على يد أصحاب المختار الثقفي عام 66 هـ قرب الموصل في وقت حركة المختار. انظر : مروج الذهب 3 : 71 ، التهذيب لابن عساكر 4 : 371 ، الأعلام 2 : 262.
1 ـ اسم موضع قبل الكوفة ويبعد عنها خمسة عشر فرسخاً ( وعن بغداد 61 فرسخاً ). وفي هذا المكان وقعت المعركة المعروفة باسم القادسية بين الجيش الاسلامي والفرس في زمن الخليفة الثاني ، وانتصر فيها المسلمون ، وفي هذا المكان قبض الحصين بن نمير ( رئيس شرطة ابن زياد في تلك المنطقة ) على مبعوث الحسين ، قيس بن مسهر الصيداوي ، وأرسله إلى ابن زياد وكان قيس يحمل كتاباً من الحسين إلى أهل الكوفة ، ولما قبض عليه مزق الكتاب باسنانه لكي لا تقع أسماء المخاطبين بيد العدو. انظر : الحسين في طريقه إلى الشهادة : 49.
2 ـ موضع قرب الكوفة في جهة البرية بالطف ، وهو أحد المنازل من القادسية إلى الشام ، كان به سجن النعمان ، وقد كانت المنطقة بين القادسية والقطقطانية قد نظم فيها ابن زياد قوات الاستطلاع لمنع الناس من الالتحاق بالحسين عليه السلام. انظر : الحسين في طريقه إلى الشهادة : 50.
3 ـ وقيل : الحاجر ، اسم ارض ومنزل على الطريق من مكة إلى العراق ، وملتقى طريقي الكوفة والبصرة عند المسير إلى المدينة ، ومعناه : الموضع الذي يحجز فيه الماء.
وفي معجم البلدان : بطن الرمة واد معروف بعالية نجد ، وقال ابن دريد : الرمة قاع عظيم بنجد تنصبّ إليه أودية.
وفي هذا المنزل تسلّم الإمام الحسين كتاب مسلم بن عقيل من الكوفة ، وكتب الجواب إلى أهل الكوفة وأرسله مع مبعوثه قيس بن مسهّر. انظر : معجم البلدان 1 : 666 ، مراصد الاطلاع 2 : 634.


(217)
يكن عليه السلام علم بخبر ابن عقيل وكتب معه إليهم :
بسم الله الرحمن الرحيم
    من الحسين بن علي.
    إلى اخوانه من المؤمنين والمسلمين :
    سلام عليكم فانّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو.
    أمّا بعد : فانّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبر فيه بحسن رأيكم ، واجتماع ملأكم على نصرنا ، والطلب بحقّنا ، فسألت الله أن يحسن لكم الصنع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدّوا فانّي قادم عليكم في أيامي هذه والسلام.
    وكان مسلم كتب إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة ، وكتب إليه أهل الكوفة : أن لك هنا مائة الف سيف فلا تتأخّر.
    وأقبل قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب الحسين عليه السلام حتى انتهى إلى القادسية ، أخذه الحصين بن نمير فبعث به الى ابن زياد فأمره اللعين أن يسبّ الحسين وأباه وأخاه على المنبر ، فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
    أيها الناس إنّ هذا الحسين بن علي خير خلق الله ، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا رسوله إليكم فأجيبوه ، ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه ، واستغفر لعلي بن أبي طالب وصلّى عليه.
    فأمر ابن زياد أن يرمى به من فوق القصر ، فرموا به فتقطّع.
    وروي : أنّه وقع إلى الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق ،


(218)
فجاءه عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه.
    وأقبل الحسين عليه السلام من الحاجز يسير نحو الكوفة فانتهى إلى ماء من مياه العرب فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوي ، فلمّا رأى الحسين عليه السلام قام إليه فقال :
    بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله ما أقدمك ؟ واحتمله فأنزله.
    فقال له الحسين عليه السلام : كان من موت معاوية ما قد بلغك ، فكتب إليّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم.
    فقال ابن مطيع : اذكرك الله يا بن رسول الله وحرمة الاسلام أن تنهتك ، أنشدك الله في حرمة قريش ، أنشدك الله في حرمة العرب ، فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني اُميّة ليقتلنك ، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً ، والله انّها لحرمة الاسلام تنهتك ، وحرمة قريش ، وحرمة العرب ، فلا تفعل ، ولا تأت الكوفة ، ولا تعرض نفسك لبني اُميّة.
    فأبى الحسين عليه السلام إلا أن يمضي انجازاً لمقاصده السامية.
    وكان ابن زياد أمر فأخذ ما بين واقصة (1) إلى طريق الشام إلى طريق البصرة فلا يدعون أحداً يلج ، ولا أحداً يخرج.
    وأقبل الحسين عليه السلام فلقي الأعراب فسألهم فقالوا : ما ندري ، غير أنّا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج ، فسار ـ بأبي واُمّي ـ تلقاء وجهه.
1 ـ اسم أحد المنازل بين مكّة والكوفة ويبعد عن الكوفة مسير ثلاثة أيّام ، وقد مرّ به الحسين بن علي عليه السلام في مسيره إلى كربلاء ، وهنالك مواضع اُخرى بهذا الاسم في طريق مكّة وفي اليمامة ، وفي واقصة منارة مبنية من قرون وأضلاف صيد الصحراء بناها ملك شاه السلجوقي. انظر : آثار البلاد : 336.

(219)
    وحدّث جماعة من فزارة وبجيلة ، قالوا : كنا مع زهير بن القين البجلي (1) حين أقبلنا من مكّة فكنّا نساير الحسين عليه السلام ، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن ننازله في منزل فإذا نزل منزلاً لم نجد بدّاً من أن ننازله فيه ، كنّا ننزل في جانب غير الجانب الذي ينزل فيه الحسين عليه السلام.
    فبينا نحن جلوس نتغذّى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين عليه السلام حتى سلّم ، ثمّ قال :
1 ـ زهير بن القين البجلي ، وبجيلة هم بنو أنمار بن أراش بن كهلان من القحطانيّة ، شخصية بارزة في المجتمع الكوفي ، وكان له يوم عاشوراء شرف القتال إلى جانب الحسين بن علي عليه السلام ، وقد أبدى شجاعة منقطعة النظير في سوح الوغى ، كان في بداية أمره مؤيّداً لأنصار عثمان. إلا انّ حسن حظّه جعل له حسن العاقبة ليكون من شهداء كربلاء الأجلاء.
ولمّا اغلق جيش الحر الطريق على الإمام ، استأذن زهير الإمام الحسين وتكلّم معهم ، ثم عرض على الامام مقاتلتهم إلا انّه لم يوافق على رأيه.
وتحدث في يوم عاشوراء معلناً عن موقفه القاطع في مناصرة الحسين ، واستعداد للبذل في سبيله وقال : لو اقتل ألف مرّة ما تركت نصرة ابن رسول الله.
وفي يوم العاشر من محرّم جعله الحسين عند تعبئة عسكره على الميمنة ، وزهير أول من خطب بالقوم بعد الحسين ، وهو يحمل سلاحه ، وابلغ لهم في النصح ، فرماه الشمر بسهم ، وجرى حوار بينه وبين الشمر.
وفي ظهيرة يوم العاشر وقف هو وسعيد بن عبد الله يقيان الإمام من السهام حتى ينهي صلاته. وبرز بعدها إلى القتال ، وقاتل قتال الأبطال وكان حينها يرتجز قائلاً :
انا زهير وانـا ابـن القين انّ حسيناً أحد السبطـيـن ذاك رسول الله غير المين اذودكم بالسيف عن حسينِ من عترة البرّ التقي الزينِ اضربكم ولا ارى من شينِ
يا ليت نفسي قسمت قسمين
انظر : تاريخ الطبري 5 : 396 ـ 397 و 6 : 42 و 422 ، رجال الشيخ : 73 ، أنصار الحسين : 88 ، أعيان الشيعة 7 : 72.


(220)
    يا زهير إن أبا عبد الله الحسين عليه السلام بعثني إليك لتأتيه.
    فطرح كلّ انسان منّا ما في يده حتى كأنّ على رؤوسنا الطير ، فقالت له امرأته ـ وهي ديلم بنت عمر (1) ـ : سبحان الله أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه ؟! فلو أتيته فسمعت من كلامه.
    فمضى إليه زهير فما لبث ان جاء مستبشراً قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله ورحله ومتاعه فحوّل إلى الحسين عليه السلام. ثم قال لامرأته :
    أنت طالق ، إلحقي بأهلك ، فانّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلا خيراً ، وقد عزمت على صحبة الحسين عليه السلام لأفديه بروحي ، وأقيه بنفسي ، ثم أعطاها ما لها وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها.
    فقامت إليه وبكت وودّعته وقالت : خسار الله لك ، اسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليه السلام.
    ثم قال لأصحابه : من أحبّ منكم أن يتبعني ، وإلا فهو آخر العهد بي.
    انّي سأحدّثكم حديثاً : إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا ، وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان الفارسي (2) :
1 ـ أو ديلم بنت عمرو ، وهي التي قامت لغلام لزهير بعد شهادته : انطلق فكفّن مولاك ، قال : فجئت فرأيت حسيناً ملقى ، فقلت : أكفن مولاي وأدع حسيناً ! فكفنت حسيناً ، ثم رجعت فقلت ذلك لها ، فقالت : أحسنت ، وأعطتني كفناً آخر ، وقالت : انطلق فكفن مولاك ففعلت.
    انظر : أعلام النساء المؤمنات : 341 ، ترجمة الإمام الحسين من كتاب الطبقات ، المطبوع في مجلة تراثنا ، العدد 10 ص 190.
2 ـ سلمان الفارسي : صحابي أشهر من أن يعرّف ، ومن الأربعة الذين أمر الله تعالى نبيّه الكريم صلى الله عليه وآله بحبّهم ، وقال فيه صلى الله عليه وآله : « سلمان منّا أهل البيت » ، وحاله في الولاء لأمير المؤمنين عليه السلام مشهور. انظر : أسد الغابة 2 : 417.


(221)
    أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم ؟
    قلنا : نعم.
    فقال : إذا أدركتم سيّد شباب آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا اصبتم اليوم ، فأمّا أنا استودعكم الله ، ثمّ لحق بالحسين عليه السلام ففاز بنصرته.
    وروى عبد الله بن سليمان ، والمنذر بن مشعل الأسديان ، قالا : لما قضينا حجّنا لم تكن لنا همّة إلا اللحاق بالحسين عليه السلام في الطريق لننظر ما يكون من أمره ، فأبلنا ترفل بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقناه بزرود (1) ، فلمّا دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين عليه السلام فوقف سلام الله عليه كأنّه يريده ، ثمّ تركه ومضى.
    ومضينا نحوه حتى انتهينا إليه ، فقلنا : السلام عليك.
    فقال : وعليكم السلام.
    قلنا : من الرجل ؟
1 ـ اسم منزل على طريق الكوفة نزل فيه سيد الشهداء ، وهو رمال بين الثعلبية والخزيمية بطريق الحاج من الكوفة ، ولما كانت ارضها رملية فهي تبتلع مياه الأمطار التي تهطل عليها ، ولهذا السبب سمّيت بـ « زرود » أي البالوعة ، وهو موضع مشهور تنزل فيه القوافل القادمة من بغداد ، وهو ملك لبني نهشل وبني أسد.
ولمّا نزل الحسين في زرود نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي ، فدعاه الإمام إلى نصرته والمسير معه ، فلبّى الدعوة ، والتحق بقافلة الحسين ، وقدّم معهم إلى كربلاء. وقتل فيها.
وفي زرود اخبر بقتل مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، اخبر بذلك رجلان قادمان من الكوفة يريدان الحج ، فبكى وترحّم عليهما ، وبكى بنو هاشم ، وباتوا ليلتهم هناك ، وفي الصباح حملوا الماء وساروا إلى الثعلبية.


(222)
    قال : أسدي.
    قلنا له : ونحن أسديان. فمن أنت ؟
    قال : أنا بكر بن فلان وانتسبنا له ، ثم قلنا له :
    أخبرنا عن الناس وراءك ؟
    قال : نعم لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ورأيتهما يجرّان بأرجلهما في السوق.
    فأقبلنا حتى لحقنا الحسين عليه السلام فسايرناه حتى نزل الثعلبية (1) ممسياً فجئناه حين نزل فسلمنا عليه فرد علينا السلام.
    فقلنا له : رحمك الله إن عندنا خبراً إن شئت حدّثناك به علانية ، وإن شئت سراً.
    فنظر إلينا وإلى أصحابه ، ثم قال : ما دون هؤلاء سر.
    فقلنا له : أرأيت الراكب الذي استقبلته مساء أمس ؟
    قال : نعم. وقد أردت مسألته.
    فقلنا : قد والله استبرأنا لك خبره ، وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ منّا ذو رأي وصدق وعقل ، وأنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهاني ،
1 ـ اسم منزل قرب الكوفة مرّ به الإمام الحسين في مسيره إلى كربلاء ، والثعلبية على اسم رجل من بني أسد اسمه ثعلبة ، سكنها وحفر فيها عيناً.
اناخ الإمام الحسين في هذا الموضع ومكث فيه ليلة واحدة ، وفيه لقي الطرماح ودعاه إلى الانضمام إليه ، فذهب الرجل ليوصل بضاعته إلى عائلته لكنّه لمّا عاد كان الحسين قد قُتِل ، وفي هذا المنزل أيضا أتاه رجل نصراني مع امّه واسلما على يده ، وفيه أيضاً بلغه خبر شهادة مسلم بن عقيل.


(223)
ورآهما يُجران في السوق بأرجلهما :
    فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون رحمة الله عليهما يردّد ذلك مراراً.
    ثم انتظر حتى إذا كان السحر ، قال لفتيانه وغلمانه : اكثروا من الماء ، فاستقوا وأكثروا ، ثم ارتحلوا. (1) فسار حتى انتهى إلى زبالة ، فأتاه خبر عبد الله بن يقطر ، فأخرج إلى الناس كتاباً قرأ عليهم وفيه :
بسم الله الرحمن الرحيم
    أمّا بعد : فانّه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس معه ذمام.
    فتفرّق الناس عنه ، وأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه ، وانّما فعل ذلك لأنّه عليه السلام علم أنّ الأعراب الذين اتّبعوه إنّما اتّبعوه لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً استقامت له طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون على ما يقدمون.
    ثم صار حتى مرّ ببطن العقبة (2) فنزل عليها ، فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمر بن لوذان ، فسأله : أين تريد ؟
    فقال عليه السلام : الكوفة.
1 ـ الكامل لابن الأثير 4 : 16.
2 ـ اسم منزل على الطريق بين مكة والكوفة ، ويقع قريباً من الكوفة وهو لفرع من قبيلة بني أسد ، مرّ به الإمام الحسين عليه السلام عند مسيره إلى الكوفة ، وفيه قصر ومسجد وماء وعمران تنزل فيه القوافل للاستراحة. انظر : الحسين في طريقه إلى الشهادة : 80.


(224)
    فقال الشيخ : أنشدك لما انصرفت ، فوالله ما تقدم إلا على الأسنة وحدّ السيوف ، وانّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ، ووطّؤوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً ، فأمّا على هذه الحال التي تذكر فانّي لا أرى لك أن تفعل.
    فقال له : يا عبد الله لا يخفى عليَّ الرأي ، لكن الله تعالى لا يغلب على أمره.
    ثم قال عليه السلام : والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ فرق الامم. (1)
إن يقتلـوك فـلا عن فقد معرفة قد كنت في مشرق الدنيا ومغربها الشمس معروفـة بالعين والأثر كالحمد لم تغن عنها سائر السور

1 ـ أنصار الحسين : 106 ، الحسين في طريقه إلى الشهادة : 87.

(225)
    سار الحسين عليه السلام حتى صار على مرحلتين من الكوفة ، فإذا بالحر ابن يزيد في ألف فارس ، فقال له الحسين عليه السلام : ألنا أم علينا ؟
    فقال : بل عليك يا أبا عبد الله.
    فقال عليه السلام : لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.
    ثمّ تردّد الكلام بينهما حتى قال الحسين عليه السلام : فان كنتم على خلاف ما أتتني به كتبكم وقدمت به عليَّ رسلكم ، فانّي راجع الى الموضع الذي أتيت منه ، فمنعه الحر وأصحابه ، وقال : بل خذ يابن رسول الله طريقاً لا يدخلك الكوفة ، ولا يصلك إلى المدينة لأعتذر إلى ابن زياد بانّك خالفتني في الطريق.
    فتياسر الحسين عليه السلام حتى إذا وصل إلى عذيب الهجانات (1) ، فورد كتاب عبيد الله بن زياد لعنه الله إلى الحر يلومه في أمر الحسين ، ويأمره بالتضييق عليه ، فعرض له الحر وأصحابه ومنعوه من السير.
    فقال له الحسين عليه السلام : ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق ؟
1 ـ اسم لأحد المنازل قرب الكوفة مرّ به سيّد الشهداء ، وسمّي بالعذيب لما كان فيه من الماء العذب ، وهو لبني تميم ويقع بين القادسية والمغيثة ، وكان فيه ماء وبئر وبركة ودور وقصر ومسجد ، وكانت فيه مسلحة للفرس.
في هذا المنزل لقى أبو عبد الله عليه السلام أربعة رجال قادمين من الكوفة وفيهم نافع بن هلال وبعد ان كلّمهم الإمام انضمّوا إليه وقاتلوا معه ، وعند حركة قافلة الإمام تحرّك الحرّ بجيشه معه أيضاً ، وفي الاثناء أتى كتاب ابن زياد إلى الحرّ يدعوه فيه للتضييق على الحسين فعمل الحر على منع القافلة من المسير.
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: فهرس