المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: 226 ـ 240
(226)
    فقال له الحر : بلى ، ولكن كتاب الأمير قد وصل يأمرني فيه بالتضييق عليك ، وقد جعل عليَّ عيناً يطالبني بذلك.
    فقام الحسين عليه السلام خطيباً في أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر جدّه فصلّى عليه ، ثم قال :
    إنّه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، وانّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها واستمرت هذّاء ، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ، فليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً ، فانّي لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برما.
    فقام زهير بن القين فقال : سمعنا يا بن رسول الله مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنّا فيها مخلّدين ، لآثرنا النهوض معك على الاقامة.
    وقام هلال بن نافع البجلي (1) فقال : والله ما كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي مَن والاك ونعادي من عاداك.
    وقام برير بن خضير (2) فقال : والله يا بن رسول الله لقد منّ الله بك علينا أن
1 ـ ظاهراً هو نفسه نافع بن هلال بن نافع بن جمل بن سعد العشيرة بن مذحج المذحجي الجملي ، ويخطئ من يعبّر عنه : البجلي ، كان سيّداً شريفاً شجاعاً قارءاً من حملة الحديث ومن أصحاب أمير المؤمنين ، وحضر معه حروبه الثلاثة في العراق ، وخرج إلى الحسين فلقيه في الطريق ، وأخباره في واقعة الطف كثيرة ، ذكرت في المقاتل.
انظر : إبصار العين : 86 ـ 89 ، تاريخ الطبري 6 : 253 ، البداية والنهاية 8 : 184.
2 ـ وفي بعض المصادر : بدير بن حفير ، وفي الملهوف : برير بن حصين ، والظاهر أنّ خضير هو الأولى.
هو سيد القرّاء ، كان شيخاً تابعياً ناسكاً قارئاً للقرآن ومن شيوخ القراءة في جامع الكوفة ، وهو من أصحاب الحسين الأوفياء. من قبيلة « همدان » ، وله منزلة مرموقة بينهم ، سافر عام 60 للهجرة من الكوفة إلى مكة والتحق بالإمام الحسين وسار معه إلى الكوفة ، وفي يوم التاسع من محرّما كان يمازح


(227)
نقاتل بين يديك ، وتقطع فيك أعضاؤنا ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة.
    ثم ان الحسين عليه السلام ركب وسار ـ وكلّما أراد المسير يمنعونه تارة ، ويسايرونه اُخرى ـ وقد عظم رعب النساء ووجل الأطفال حينئذ بما لا مزيد عليه ـ حتى بلغوا كربلاء في اليوم الثاني من المحرم فسأل الحسين عليه السلام عن اسم الأرض.
    فقيل : كربلاء.
    فقال : اللهم انّي أعوذ بك من الكرب والبلاء ، ثم قال : هذا موضع كرب وبلاء ، انزلوا ، ها هنا محط ركابنا ، وسفك دمائنا ، وهنا محل قبورنا بهذا حدّثني جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله ، فنزلوا جميعاً ، ونزل الحر وأصحابه ناحية. (1)
    وجلس الحسين عليه السلام يصلح سيفه ويقول :
يا دهر أُفٍّ لك من خليلِ من طالبٍ وصاحب قتيل وكلّ حـيّ سـالك سبيل كم لك بالإشراق والأصيلِ والدهر لا يقنـع بالبـديل ما أقرب الوعد من الرحيل
انّما الأمر إلى الجليل

عبد الرحمن بن عبد ربّه من شدّة بهجته بقرب استشهاده ، وكان ممّن نهض وتحدّث في ليلة العاشر معلناً عن استعداده للبذل والتضحية في نصرة الحسين عليه السلام.
    وفي كربلاء تحدّث عدّة مرّات مخاطباً جيش العدو ، وكلماته في نصرة سيد الشهداء معروفة ، وبرز إلى القتال في يوم الطف وتكلّم في ذمّ جيش عمر بن سعد. برز إلى الميدان من بعد استشهاد الحرّ وقاتل حتى نال الشهادة ، وكان يرتجز ساعة القتال ويقول :
أنا برير وأبي خضيرٌ وكل خير فله بُريرٌ
انظر : تاريخ الطبري 5 : 421 و 423 ، معجم رجال الحديث 3 : 289 ، المناقب 4 : 100 ، بحار الأنوار 45 : 15.
1 ـ تاريخ الطبري 5 : 469 ، تاريخ ابن الأثير 4 : 287 ، زفرات الثقلين 1 : 105.


(228)
    فسمعت اُخته زينب فقالت : يا أخي هذا كلام من أيقن بالقتل.
    فقال : نعم يا اُختاه.
    فقالت زينب : واثكلاه ينعى الحسين إليَّ نفسه ، وبكى النسوة ولطمن الخدود ، وشققن الجيوب ، وجعلت اُمّ كلثوم (1) تنادي :
    وا محمداه وا عليّاه وا اُمّاه وا أخاه واحسناه واضيعتنا بعدك يا أبا عبد الله.
    فعزّاها الحسين عليه السلام وقال لها : يا اُختاه تعزي بعزاء الله فانّ سكان السماوات يفنون ، وأهل الأرض كلّهم يموتون ، وجميع البرية يهلكون. (2)
    وروي من طريق آخر انّها عليها السلام لمّا سمعت مضمون الأبيات ، وكانت في موضع منفردة مع النساء والبنات خرجت حاسرة تجرّ ثوبها حتى وقفت عليه فقالت :
    وا ثكلاه ، ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت اُمّي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن ، يا خليفة الماضين وثمال الباقين.
    فنظر إليها الحسين عليه السلام وقال : يا اُختاه ، لا يُذهِبَنّ بحلمك الشيطان.
    فقالت : بأبي أنت واُمّي أتستقتل (3) نفسي لك الفداء.
1 ـ اُمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه السلام ، واُمّها فاطمة عليها السلام ، وهي أخت الحسن والحسين وزينب عقيلة بني هاشم ، ومسألة زواجها من عمر من أشدّ المسائل اختلافاً بن المسلمين ، وكثيراً ما يقع الخلط عند المؤرخين بينها وبين أختها زيبن الكبرى لاتحادهما في الكنية.
راجع مصادر ترجمتها : أجوبة المسائل السروية : 226 ، الاستغاثة : 90 ، الاستيعاب 4 : 490 ، أسد الغابة 5 : 614 ، اعلام النساء المؤمنات : 181 ـ 220.
2 ـ أنساب الأشراف ( ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ) 1 : 191.
3 ـ في بعض المصادر : أتغتصب نفسك اغتصاباً.


(229)
    فردّدت عليه غصته ، وتغرغرت عيناه بالدموع ، ثم قال : ولو ترك القطا ليلا لنام (1).
    فقالت : يا ويلتاه ، أفتغتصب نفسك اغتصابا ، فذلك أقرح لقلبي ، وأشدّ على نفسي ، ثمّ أهوت إلى جيبها فشقّته ، وخرّت مغشيّاً عليها.
    فقام عليه السلام فصبّ عليها الماء حتى أفاقت. (2)
نادت فقطعـت القلوب بشجوها انسان عينـي يا حسين اخيَّ يا إن تنع أعطـت كلّ قلب حسرة عبراتها تحيي الثرى لو لم تكن لكنمـا انتظـم البيـان فريدا أملي وعقـد جماني المنضودا أو تدعُ صدّعـت الجبال الميدا زفراتها تدع الريـاض همودا

1 ـ من الأمثال العربية ، يقال في الأمر الخفي قد ظهر ما يدلّ عليه.
والقطا نوع من الطير يأوي عادة إلى عشّه في الليل ، فإذا وجد ليلاً طائراً عُرف أن أمراً قد أفزعه.
قالوا : إنّ رجلاً من العرب يسمّى غاطس بن خلاج سار إلى رجل يسمّي الريّان في قبائل حمير وخثعم وهمدان وغيرهم ، ولقيهم الريّان في أربعة عشر حيّاً من أحياء اليمن فاقتتلوا قتالاً شديداً ، ثمّ تحاجزوا ، ولكن الريّان هرب في الليل مع أصحابه ، وساروا يومهم وليلتهم حتى ظنّوا أنّهم بعدوا ، فعسكروا حيث وصلوا ، وأصبح الصبح فغدا غاطس إلى قتلاهم فلم يجدهم في مكانهم ، فجد في طلبهم ، ولم يزل حتى اقترب من المكان الذي عسكر فيه الريّان ، ونظر الريّان وأصحابه فوجدوا القطا يمر بهم طائراً فزعاً ، فصاحت ابنة الريّان :
ألا يا قومنا ارتَحِلوا وسيروا فلو ترك القَطا ليلاً لناما
انظر : مجمع الأمثال العربية للميداني : 322.
2 ـ الملهوف : 140 ، الأمالي الخميسية 1 : 177.


(230)
    لمّا نزل الحسين عليه السلام بأرض كربلاء ، كان نافع بن هلال البجلي من أخص أصحابه به وأكثرهم ملازمة له ، ولا سيّما في مظان الاغتيال ، لأنّه كان حازماً بصيراً بالسياسة.
    فخرج الحسين عليه السلام ذات ليلة خارج الخيام حتى أبعد ، فتقلّد نافع سيفه وأسرع في أثره ، فرآه يختبر الثنايا والعقبات والأكمات المشرفة على المنزل فالتفت الحسين عليه السلام فرآه فقال :
    من الرجل ؟ نافع ؟
    قال : نعم ، جعلت فداك يا بن رسول الله.
    فقال : يا نافع ما أخرجك في هذا الليل ؟
    فقال : سيّدي أزعجني خروجك ليلاً إلى جهة هذا الباغي.
    فقال : يا نافع خرجت أتفقد هذه التلعات مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل على مخيمنا يوم يحملون وتحملون.
    قال : ثم رجع وهو قابض على يساري وهو يقول : هي هي والله وعد لا خلف فيه.
    ثم قال : يا نافع ، ألا تسلك بين هذين الجبلين وانج بنفسك فوقع نافع بن هلال على قدميه يقبّلهما ويبكي وهو يقول :


(231)
    إذن ثكلت نافعاً اُمّه ، سيّدي إنّ سيفي بألف وفرسي بمثله ، فوالله الذي مَنَّ عليَّ بك في هذا المكان لن اُفارقك أبا عبد الله حتى يكلأ عن فري وجري.
    قال نافع : ثمّ فارقني ودخل خيمة اُخته زينب عليها السلام ووقفت انتظره ، فاستقبلته زينب ووضعت له متّكأ وجلس يحدّثها سراً فما لبثت أن اختنقت بعبرتها ونادت : وا أخاه وا حسيناه ، اُشاهد مصرعك وابتلي برعايتي هذه المذاعير من النساء ، والقوم يا بن اُمّي كما تعلم ما هم عليه من الحقد القديم ذلك خطب جسيم يعزّ عليَّ مصرع هذه الفتية وأقمار بني هاشم.
    ثم قالت : يا بن اُمّي هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم فانّي أخاف أن يسلّموك عند الوثية واصطكاك الأسنّة ، فبكى الحسين عليه السلام وقال : أما والله لقد بلوتهم فما رأيت فيهم إلا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل بلبن اُمّه.
    قال نافع : فبكيت رقّةً لها ، ثم أتيت حبيب بن مظاهر فرأيته جالساً في خيمته وبيده سيفه مصلّت وهو يقول كأنّه يخاطبه :
أيّها الصـارم استعـد جواباً والمواضي برق وقد تخذ البا لسؤال إذا العجاج اثيرا سل المطهّمات سريـرا
    قال نافع : فسلّمت عليه فرد السلام ، ثم قال : يا أخي ما الذي أخرجك في هذا الليل ؟
    فحكيت له القصة من أوّلها إلى ما كان من قوله عليه السلام : « يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل بلبن اُمّه ».
    فقام حبيب قائماً على قدميه وقال : أي والله ، لولا انتظار أمره لعاجلتهم


(232)
وعالجتهم الليلة بسيفي هذا ما ثبت قائمه بيدي.
    ثم قال نافع : يا أخي فارقت الحسين عليه السلام مع اُخته زينب في حال وجل ورعب ، واظنّ انّ النساء قد شاركنها في الزفرة والحسرة فهل لك أن تجمع أصحابك وتمضي إليهم بكلام يسكن قلوبهنّ ويذهب رعبهنّ ، فلقد شاهدت ما لا قرار لي على بقائه.
    فقال : أنا طوع إرادتك ، فبرز حبيب ناحية ونافع إلى جنبه وانتدب أصحابه فنادى :
    أين أنصار الله ؟ أين أنصار رسول الله صلى الله عليه وآله ، أين أنصار أمير المؤمنين ؟ أين أنصار فاطمة ؟ أين أنصار الحسين ؟ أين أنصار الإسلام ؟
    فتطالعوا من منازلهم كالليوث الضارية يقدمهم أبو الفضل العبّاس (1) عليه السلام فلمّا اجتمعوا قال لبني هاشم : « ارجعوا إلى منازلكم لا سهرت عيونكم ، ثمّ خطب أصحابه فقال :
    يا أصحاب الحمية ، وليوث الكريهة ، هذا نافع بن هلال يخبرني الساعة بكذا وكذا فاخبروني عن نيّاتكم ، فجرّدوا صوارمهم ، ورموا عمائمهم وقالوا :
    أما والله يا بن مظاهر لئن زحف القوم إلينا لنحصدنّ رؤوسهم ولنلحقهم
1 ـ العبّاس بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، اُمّه اُمّ البنين حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد العامري ، وهو أكبر ولدها ، ويكنّى أبا الفضل ، كان وسيماً جميلاً يركب الفرس المطهم ورجلاه تخطّان في الأرض ، يقال له قمر بني هاشم وهو السقّاء ، كان لواء الحسين عليه السلام معه يوم قتل ، هو آخر من قتل من اخوته لاُمّه وأبيه ، قتله زيد بن رقاد الجنبي وحكيم بن الطفيل الطائي النبسي ، وكلاهما ابتلى في بدنه.
انظر : مقاتل الطالبيين : 84 ـ 85 ، رجال الشيخ : 76.


(233)
بأشياخهم ، ولنحفظنّ رسول الله صلى الله عليه وآله في عترته وذرّيّته.
    فقال لهم حبيب : معي معي ، فقام يخبط الأرض بهم وهم يعدون خلفه حتى وقف بين أطناب الخيم ونادى :
    السلام عليكم يا ساداتنا.
    السلام عليكم يا معشر حرم رسول الله صلى الله عليه وآله.
    هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلا في رقاب من يبتغي السوء فيكم.
    وهذه أسنّة غلمانكم آلوا أن لا يركزوها إلا في صدور من يفرّق بين ناديكم.
    فخرج إليهم الحسين عليه السلام وقال : أصحابي جزاكم الله عن أهل بيت نبيّكم خيراً.
رجال تواصوا حيث طابت اُصولهم حماة حمـوا خـدراً أبـى الله هتكه فأصبـح نهبـاً للمغـاويـر بعدهم وأنفسهم بالصبر حتى قضوا صبرا فعـظـّـمـه شـأنـاً وشـرّفـه ومنه بنات المصطفى أبرزت حسرا (1)

1 ـ الدمعة الساكبة : 345.

(234)
    عن مولانا الصادق عليه السلام أنّه قال : سمعت أبي يقول : لمّا التقى الحسين عليه السلام وعمر بن سعد وقامت الحرب أنزل الله النصر حتى رفرف على رأس الحسين ثمّ خيّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله فاختار لقاء الله. (1)
    ثم صاح الحسين عليه السلام :
    أما من مغيث يغيثنا لوجه الله ؟ أما من ذابٍ يذبّ عن حرم رسول الله ؟
    قال : فإذا الحر بن يزيد الرياحي قد أقبل إلى ابن سعد فقال :
    أمقاتل أنت هذا الرجل ؟
    فقال : أي والله ، قتال أيسره أن تطير الرؤوس وتطيح الأيدي.
    قال : فمضى الحرّ ووقف موقفاً من أصحابه وأخذه مثل الأفكل (2).
    فقال له المهاجر بن أوس (3) : والله إنّ أمرك لمريب ، ولو قيل لي : مَن أشجع
1 ـ الملهوف : 74.
2 ـ الأفكل ـ بفتح الهمزة والكاف ـ : الرعدة.
3 ـ لم يرد في كتب التراجم.
وفي كتاب تسمية مَن قتل مع الإمام الحسين : 155 ، ذكر من جملة شهداء الأصحاب المهاجر بن أوس من بجيلة.
فهل المهاجر بن أوس اثنان ؟ أم واحد كان في عسكر ابن سعد ثمّ التحق بمعسكر الإمام الحسين عليه السلام واستشهد معه ؟ الله أعلم.


(235)
أهل الكوفة لما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك ؟
    فقال : والله إنّي اُخيّر بين الجنّة والنار ، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت وحرّقت.
    ثمّ ضرب فرسه قاصداً إلى الحسين عليه السلام ويده على رأسه وهو يقول :
    اللهم إليك أنبت فتب عليَّ ، فقد أرعبت قلوب أولياؤك أولاد بنت نبيّك.
    وقال للحسين عليه السلام : جعلت فداك أنا صاحبك الذي حبسك عن الرجوع وجعجع بك ، وما ظنننت أنّ القوم يبلغون بك ما أرى ، وأنا تائب إلى الله تعالى فهل ترى لي من توبة.
    فقال له الحسين عليه السلام : نعم ، يتوب الله عليك فانزل.
    فقال : أنا لك فارساً خير مني لك راجلاً وإلى النزول يصير آخر أمري.
    ثم قال : كنت أوّل من خرج عليك فأذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك لعلّي أكون ممّن يصافح جدّك محمّداً صلى الله عليه وآله غداً في القيامة.
    فأذن له فجعل يقاتل أحسن قتال حتى قتل جماعة من الشجعان والأبطال ثمّ استشهد فحمل إلى الحسين عليه السلام فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول :
    أنت الحر كما سمّتك اُمّك حرّاً في الدنيا والآخرة. (1)
    [ قال ] : وخرج برير بن خضير وكان زاهداً عابداً فخرج إليه يزيد بن
1 ـ تاريخ الطبري 5 : 469 ، تاريخ ابن الأثير 6 : 287.

(236)
المغفل (1) فاتّفقا على المباهلة إلى الله تعالى : في أن يقتل المحقّ منهما المبطل ، وتلاقيا ، فقتله برير ، ولم يزل يقاتل حتى قُتل رحمه الله تعالى.
    [ قال ] : وخرج وهب بن حباب الكلبي (2) ، فأحسن في الجلاد ، وبالغ في الجهاد ، وكانت معه امرأته ووالدته فرجع إليهما وقال : يا اُمّاه أرضيتِ أم لا ؟
    فقالت الاُمّ : ما رضيت الا تقتل بين يدي الحسين عليه السلام.
وقالت امرأته : بالله عليك لا تفجعني بنفسك.
    فقالت له امه : يا بني أعزب عن قول زوجتك وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيّك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة.
    فرجع ولم يزل يقاتل حتى قُطعت يداه ، فأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول : فداك أبي واُمّي قاتل دون الطيبين حرم رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأقبل كي يردّها إلى النساء ، فأخذت بجانب ثوبه وقالت : لن أعود دون أن أموت معك.
    فقال الحسين عليه السلام : « جُزيتم من أهل بيتٍ خيراً ، ارجعي إلى النساء رحمك الله » فانصرفت إليهنّ.
    ولم يزل الكلبي يقاتل حتى قُتل رضوان الله عليه.
    [ قال ] : ثم خرج مسلم بن عوسجة (3) رحمه الله فبالغ في قتال الأعداء ،
1 ـ وقيل : يزيد بن معقل ، وهو خبيث ملعون. انظر : ألملهوف : 160.
2 ـ في ضياء العينين : 35 : وهب بن عبد الله بن حباب الكلبي ، اُمّه قمرى ، وذكر الكثير من أخباره في واقعة الطف ، أخذها من كتاب الملهوف : 161.
3 ـ مسلم بن عوسجة الأسدي ، من أبطال العرب في صدر الإسلام ، أول شهيد من أنصار الحسين بعد قتلى الحملة الأولى ، كان شيخاً كبير السن ، وشخصية أسدية كبرى ، وإحدى الشخصيات البارزة في


(237)
وصبر على أهوال البلاء حتى سقط إلى الأرض وبه رمق ، فمشى إليه الحسين عليه السلام ومعه حبيب بن مظاهر.
    فقال له الحسين عليه السلام : « رحمك الله يا مسلم ، « فمنهم مَن قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً ».
    ودنا منه حبيب رضي الله عنه وقال : عزّ عليَّ مصرعك يا أخي يا مسلم أبشر بالجنّة.
    فقال له مسلم قولاً ضعيفاً : بشّرك الله بخيرٍ.
    ثم قال له حبيب : لولا أعلم أنّني في الأثر لأحببتُ أن توصي إليّ بكلّ ما
الكوفة ، وكان صحابياً ممّن رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وروى عنه ، كان رجلاً شجاعاً وجريئاً شارك في الكثير من حروب المسلمين ، وشهد مع علي عليه السلام كلّ غزواته.
كان في الكوفة يأخذ البيعة من الناس للحسين بن علي عليه السلام ، وقد جعله مسلم بن عقيل حين ثار بالكوفة على رأس طائفة من مذحج وأسد ، وكان ينهض بجمع المال والسلاح والأنصار.
وفي ليلة عاشوراء لمّا أوعز الإمام الحسين ان يتخذوا ظلام الليل جملاً وينصرفوا وقف مسلم بن عوسجة موقفاً جريئاً وقام متكلّماً وقال : « والله لو علمت انّي اُقتل ثمّ اُحيى ثمّ اُحرق ثمّ أذرى ، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ما تركتك فكيف وانّما هي قتلة واحدة ثم الكرامة إلى الأبد ».
وكان ساعة البراز يرتجز :
ان تسألوا عني فانّي ذو لبد فمن بغانا حايـد عن الرشد من فرع قوم في ذُرى بني أسد وكافرٌ بديـن جبّـار صـمـد
وعند القتال لم يتجرّأ أحد من الأعداء على مبارزته ، فرضخوه بالحجارة ولمّا سقط على الأرض وكان به رمق مشى إليه الحسين عليه السلام وحبيب بن مظاهر ، فدعا له الحسين وبشّره بالجنّة ، ولما اقترب منه حبيب بن مظاهر قال له مسلم : اوصيك بهذا ـ وأشار إلى الحسين ـ فقاتل دونه حتّى تموت. انظر : رجال الشيخ : 80 ، تاريخ الطبري 5 : 435 ، بحار الأنوار 45 : 69 ، الأخبار الطوال : 249 ، أنصار الحسين : 108 ، تسمية مَن قتل مع الحسين : 52 وفيه : مسلم بن عوسجة السعدي من بني سعد بن ثعلبة ، قتله مسلم بن عبد الله وعبيد الله بن أبي خشكارة.


(238)
أهمّك.
    فقال له مسلم : فإنّي اوصيك بهذا ـ وأشار بيده إلى الحسين عليه السلام ـ قاتل دونه حتى تموت.
    فقال له حبيب : لأنعُمنّك عيناً.
    ثم مات رضوان الله عليه.
    إلى أن [ قال : ] وحضرت صلاة الظهر فأمر الحسين عليه السلام زهير بن القين وسعيد بن عبد الله الحنفي أن يتقدّما أمامه بنصف من تخلّف معه ثمّ صلى بهم صلاة الخوف فوصل إلى الحسين عليه السلام سهم فتقدّم سعيد بن عبد الله الحنفي يقيه بنفسه ما زال ولا تخطّى حتى سقط إلى الأرض وهو يقول :
    اللهم العنهم لعن عاد وثمود. اللهم ابلغ نبيّك عنّي السلام وابلغه ما لقيت من ألم الجراح فانّي أردت ثوابك في نصر ذرّيّة نبيّك ، ثمّ قضى نحبه فوجد به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح ...
    [ قال : ] وتقدّم سويد بن عمرو بن أبي المطاع (1) وكان شريفاً كثير الصلاة فقاتل قتال الأسد الباسل ، وبالغ في الصبر على الخطب النازل حتى سقط بين القتلى وقد اُثن بالجراح ، فلم يزل كذلك وليس به حراك حتى سمعهم يقولون :
    قتل الحسين عليه السلام ، فتحامل واخرج من خفّه سكيناً وجعل يقاتلهم
1 ـ ويعرف أيضاً بـ « سويد بن عمر الخثعمي ». والخثعمي : خثعم بن أنمار بن أرش من القحطانية ، وهو آخر من قتل في ساحة كربلاء ، قتل بعد الحسين عليه السلام ، كان أحد رجلين كانا برفقة الحسين عليه السلام. سقط إلى الأرض جريحاً وكان به رمق ، ولما سمع جيش الكوفة ينادي مستبشراً بقتل الحسين إستفاق وبدأ يقاتل بمديته وسيفه حتى استشهد ، قتله هاني بن ثبيت الحضرمي. انظر : رجال الشيخ : 74 ، المناقب 4 : 102 وفيه : عمرو بن أبي المطاع الجعفي ، تنقيح المقال 2 : 76.

(239)
به حتى قتل ...
    وجعل أصحاب الحسين يسارعون إلى القتل بين يديه فكانوا كما قيل :
قـوم إذا نـودوا لـدفـع ملمّة لبسوا القلوب على الدروع كأنّهم والخيل بين مدعّس ومكردس يتهافتون على ذهاب الأنفـس (1)

1 ـ الملهوف : 166 ، زينة المجالس : 444.

(240)
    لمّا زحف القوم نحو الحسين عليه السلام وطلب العبّاس منهم تأجيل القتال إلى غدٍ ، أمر الحسين عليه السلام أصحابه أن يقرّبوا بيوتهم ، ويدخلوا الأطناب بعضها ببعض ، ويكونوا أمام البيوت فيستقبلوا القوم من وجه واحد ، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وشمائلهم.
    وقام الحسين عليه السلام وأصحابه الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون ، وباتوا ولهم دوي كدوي النحل ، ما بين قائم وقاعد ، وراكع وساجد ، فعبر عليهم في تلك الليلة من عسكر ابن زياد اثنان وثلاثون رجلاً.
    ولمّا ضيّقوا على الحسين عليه السلام ونال منه ومن أصحابه العطش قام واتّكأ على قائم سيفه ، ونادى بأعلى صوته فقال :
    أنشدكم الله هل تعرفوني ؟
    قالوا : نعم أنت ابن رسول الله وسبطه.
    قال : أنشدكم الله هل تعلمون أن جدّي رسول الله ؟
    قالوا : اللهم نعم.
    قال : أنشدكم الله هل تعلمون أن اُمّي فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله ؟
    قالوا : اللهم نعم.
    قال : أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب ؟
    قالوا : اللهم نعم.
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: فهرس