المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: 241 ـ 255
(241)
    قال : أنشدكم الله هل تعلمون أن جدّتي بنت خويلد أوّل نساء هذه الامّة إسلاماً ؟
    قالوا : اللهم نعم.
    قال : أنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيّار في الجنّة عمّي ؟
    قالوا : اللهم نعم.
    قال : أنشدكم الله هل تعلمون انّ هذا سيف رسول الله أنا متقلّدة ؟
    قالوا : اللهم نعم.
    قال : أنشدكم [ الله ] هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله أنا لابسها ؟
    قالوا : اللهم نعم.
    قال : أنشدكم الله هل تعلمون أنّ عليّاً عليه السلام كان أول القوم إسلاماً ، وأعلمهم علماً ، وأعظمهم حلماً ، وانّه ولي كلّ مؤمن ومؤمنة ؟
    قالوا : اللهم نعم.
    قال : فبم تستحلون دمي وأبي الذائد عن الحوض يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصادر عن الماء ، ولواء الحمد بيد أبي يوم القيامة.
    قالوا : قد علمنا ذلك كلّه ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً.
    فلمّا خطب هذه الخطبة وسمع بناته واُخته زينب كلامه بكين وندبن ولطمن الخدود وارتفعت أصواتهن ، فوجّه إليهن أخاه العباس عليه السلام وعليّاً ابنه وقال لهما : سكتاهنّ فلعمري ليكثر بكاؤهن.
    فلمّا لم يبق معه سوى أهل بيته خرج علي بن الحسين (1) عليه السلام وكان
1 ـ علي بن الحسين الأكبر ، يكنّى أبا الحسن ، من سادات الطالبيين وشجعانهم ، امّه ليلى بنت أبي مرّة

(242)
من أصبح الناس وجهاً ، وأحسنهم خلقاً ، فاستأذن أباه في القتال فأذن له ، ثم نظر إليه نظرة آيس منه ، وأرخى عينيه بالدموع وبكى ، ثم قال : اللهم اشهد فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه فصاح وقال : يا بن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ، فتقدّم نحو القوم وقاتل قتالاً شديداً وقتل جمعاً كثيراً ، ثم رجع إلى أبيه وقال : يا أبه العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل إلى شربة ماء من سبيل اتقوّى بها على الأعداء.
    فبكى الحسين عليه السلام وقال : واغوثاه ، يا بني من أين آتي لك بالماء ؟ قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك محمدا صلى الله عليه وآله فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً.
    فرجع إلى موقف النزال وقاتل أعظم قتال ، فرماه منقذ بن مرّة العبدي (1) بسهم فصرعه فنادى :
    يا أبتاه عليك منّي السلام ، هذا جدّي يقرؤك السلام ويقول لك : عجّل
( قرّة ) بن عروة ( عمرو ) بن مسعود بن مغيث ( معبد ) الثقفي ، واُمّها ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب ، كان له من العمر سبع وعشرون سنة ، وردت رواية أنّه كان متزوجاً من اُمّ ولد ، هو أوّل من قتل من بني هاشم ، طعنه مرّة بن منقذ النعمان العبدي وهو يحوم حول أبيه ويدافع عنه ويقيه ، وانهال أصحاب الحسين على مرّة فقطّعوه بأسيافهم ؛ قيل : مولده في خلافة عثمان ، وسمّاه المؤرخون الأكبر تمييزاً له عن أخيه زين العابدين علي الأصغر.
انظر : مقاتل الطالبيين : 80 ـ 81 ، الطبقات الكبرى 15 : 156 ، ورجال الشيخ : 76 ، البداية والنهاية 8 : 185 ، الأعلام 4 : 227.
1 ـ كذا في الأصل وبعض المصادر ، ولكن في تاريخ الطبري 6 : 625 ، والكامل 4 : 30 ، والأخبار الطوال 254 ورد اسمه هكذا : مرّة بن منقذ بن النعمان العبدي ثمّ الليثي.


(243)
القدوم إلينا ، ثمّ شهق شهقة فمات.
    فجاء الحسين عليه السلام حتى وقف عليه ووضع خدّه على خدّه وقال :
    قتل الله قوماً قتلوك يا بني ، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول ، على الدنيا بعدك العفا.
    قال : وخرجت زينب بنت علي عليه السلام تنادي : يا حبيباه يا بن أخاه ، وجاءت فانكبت عليه ، فجاء الحسين عليه السلام فأخذها وردّها إلى النساء.
    ثمّ جعل أهل بيته يخرج منهم الرجل بعد الرجل حتى قتل القوم منهم جماعة.
    فصاح الحسين عليه السلام في تلك الحال : صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، فوالله لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً.
    قال : وخرج غلام كأنّ وجهه شقة قمر ، فجعل يقاتل فضربه ابن فضيل الأزدي (1) على رأسه ، ففلقه ، فوقع الغلام لوجهه وصاح : يا عمّاه !
    فجلس الحسين عليه السلام كما يجلس الصقر (2) ، ثم شدّ شدّة ليثٍ أغضب ، فضرب ابن فضيل بالسيف ، فاتّقاها بالساعد ، فأطنّه من لدن المرفق ، فصاح صيحة سمعه أهل العسكر ، وحمل أهل الكوفة ليستنقذوه ، فوطأته الخيل حتى هلك.
    [ قال : ] ثم قام الحسين على رأس الغلام وهو يفحص برجليه والحسين يقول : « بُعداً لقومٍ قتلوك ، ومَن خصمهم يوم القيامة فيك جدّك وأبوك ».
1 ـ في مقاتل الطالبيين : 88 ذكر اسمه : عمرو بن سعيد بن نفيل الأزدي.
2 ـ كذا في الأصل ، وفي المصادر : فجلى الحسين عليه السلام كما يجلي الصقر.


(244)
    ثم قال : « عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك صوت ، والله كثر واتره وقلّ ناصره ».
    ثمّ حمل عليه السلام الغلام على صدره حتى ألقاه بين القتلى من أهل بيته.
    [ قال : ] ولمّا رأى الحسين عليه السلام مصارع فتيانه وأحبّته ، عزم على لقاء القوم بمهجته ونادى :
    هل من ذاب يذبّ عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
    هل من موحّدٍ يخاف الله فينا ؟
    هل من مغيثٍ يرجو الله بإغاثتنا ؟
    هل من معينٍ يرجو الله في إعانتنا ؟
    فارتفعت أصوات النساء بالعويل ، فتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب عليها السلام : « ناوليني ولدي الصغير (1) حتى اودّعه ، فأخذه وأومأ إليه ليقبّله فرماه حرملة ابن كاهل (2) بسهم فوقع في نحره فذبحه.
1 ـ هو عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، واُمّه الرباب بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس ، وفي اسم قاتله اختلاف ؛ فقيل : حرملة ؛ وقيل : عقبة بن بشر.
2 ـ وهو خبيث ملعون ، لمّا قُبض على حرملة ورآه المختار ، بكى المختار وقال : يا ويلك أما كفاك ما فعلت حتى قتلت طفلاً صغيراً وذبحته ، يا عدوّ الله ، أما علمت أنّه ولد النبي ، فأمر به فجعلوه مرمى ، فرمي بالنشاب حتى مات.
وقيل : إنّه لمّا نظر المختار إلى حرملة قال : الحمد لله الذي مكّنني منك يا عدوّ الله ، ثم أحضر الجزّار فقال له : اقطع يديه ورجليه ، فقطعهما ، ثم قال : عليّ بالنار ، فاحضرت بين يديه ، فأخذ قضيباً من حديد وجعله في النار حتى احمرّ ثم ابيضّ ، فوضعه على رقبته ، فصارت رقبته تجوش من النار وهو يستغيث حتى قطعت رقبته. انظر : حكاية المختار : 55 و 59.


(245)
    فقال لزينب : خذيه ، ثم تلقّى الدم بكفّيه ، فلمّا امتلأت رمى بالدم نحو السماء ثم قال :
    هون عليّ ما نزل بي ، انّه بعين الله تعالى.
    قال الباقر عليه السلام : فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض. (1)
    قال الراوي : واشتدّ العطش بالحسين عليه السلام فركب المسنّاة يريد الفرات والعبّاس أخوه بين يديه فاعترضته خيل ابن سعد ، فرمى رجل من بني دارم الحسين عليه السلام بسهم فأثبته في حنكه الشريف ، فانتزع السهم وبسط يديه تحت حنكه حتى امتلأت راحتاه من الدم ثم رمى به وقال :
    اللهم انّي أشكوا إليك ما يفعل بابن بنت نبيّك ، ثم انهم اقتطعوا العباس عنه وأحاطوا به من كل جانب حتى قتلوه قدس الله روحه ، فبكى الحسين لقتله بكاءً شديداً ، وفي ذلك يقول الشاعر (2) :
أحقّ الناس أن يُبكى عليه أخـوه وابـن والده عليّ ومن واساه لا يثنيه شيء فتـىً أبكى الحسين بكربلاء أبو الفضل المضرّج بالدماء وجـاد له على عطش بماء (3)
    ولما دخل بشير بن حذلم المدينة المنورة لينعى الحسين عليه السلام التقى باُم البنين (4) « وهي ام العباس » فقال لها :
1 ـ الملهوف : 169 ، كفاية الطالب : 284 ، إحقاق الحقّ : 454.
2 ـ وهو : الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن أمير المؤمنين عليه السلام من أعلام القرن الثاني.
3 ـ الملهوف : 170 ، مقاتل الطالبيين : 84 ، الغدير 3 : 3.
4 ـ هي فاطمة بنت حَزام بن خالد بن ربيعة بن عامر ، واُمّها ثمامة بنت سهيل بن عامر ، وتكنّى : « امّ البنين » قبل تزويجها الإمام علي عليه السلام لأنها من بيت ( ام البنين العامريّة ) التي قيل فيها :


(246)
    عظّم الله لك الأجر بولدك عبد الله.
    قالت له : أسألك عن سيدي ومولاي الحسين.
    قال لها : عظّم الله الأجر بولدك جعفر.
    قالت له : أسألك عن سيّدي ومولاي الحسين.
    قال لها : عظم الله لك الأجر بولدك عثمان.
    قالت له : أسألك عن سيّدي ومولاي الحسين.
    قال لها : عظّم الله لك الأجر بولدك العباس.
    قالت له : أسألك عن سيّدي ومولاي الحسين. فقال :
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها الجسم منه بكربلاء مضرّج قُتل الحسين فأدمعي مدرارُ والرأس منه على القناة يدارُ
    فصاحت ولطمت خدّها ، وشقّت جيبها ونادت : وا حسيناه وا سيّداه ، ثمّ أنشدت :
لا تدعونـي ويك امّ البنين كانت بنـون لي اُدعى بهم أربعة مثـل نسور الربى تنازع الخرصان أشلاءهم تذكرينـي بليـوث العـريـن واليوم أصبحـت ولا من بنين قد واصلوا الموت بقطع الوتين فكلّهم أمسـى صـريعاً طعين

نحن بنو امّ البنين الأربعة الضاربين الهام وسط المجمعة
وكانت من بيت كرم وشجاعة وفصاحة ومعرفة.
وقال الإمام علي عليه السلام ـ بعد وفاة الصديقة الزهراء عليها السلام ـ لأخيه عقيل ـ وكان نسّابة العرب وعرّافة بأحسابها وعاداتها ـ : « أبغني امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوّجها فتلدني غلاماً فارساً ».
فقال له عقيل : أين أنت عن فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابيّة ؟
انظر : تاريخ بغداد 12 : 136 ، عمدة الطالب : 324.


(247)
يا ليت شعري أكما أخبروا بأن عبّاساً قطيع اليمين (1)
    ثم انّ الحسين عليه السلام دعا الناس إلى البراز فلم يزل يقتل كلّ من برز إليه حتى قتل مقتلة عظيمة وهو في ذلك يقول :
القتل أولى من ركوب العار والعار أولى من ركوب النار
    قال بعض الرواة : فو الله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه ، وان كانت الرجال لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب ، ولقد كان يحمل فيهم وقد تكملوا ثلاثين ألفاً فينهزمون بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله.
    قال الراوي : ولم يزل يقاتلهم حتى حالوا بينه وبين رحله فصاح :
    ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون.
    قال : فناداه شمر : ما تقول يا بن فاطمة ؟
    فقال : أقول : انّي اُقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم وجهالكم وطغاتكم من التعرّض لحرمي ما دمت حيّاً.
    فقال شمر : لك ذلك يا بن فاطمة.
    فقصدوه بالحرب فجعل يحمل عليهم ويحملون عليه وهو في ذلك يطلب شربة من ماء فلا يجد ، حتى أصابه اثنتان وسبعون جراحة فوقف يستريح ساعة
1 ـ انظر : مقاتل الطالبيين : 85 ، ابصار العين : 36.

(248)
وقد ضعف عن القتال ، فبينا هو واقف إذ أتاه حجر فوقع على جبهته ، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن جبهته ، فأتاه سهم مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبه فقال :
    بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله.
    ثم رفع رأسه وقال :
    إلهي أنت تعلم انّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبي غيره ، ثم أخذ السهم فأخرجه من وراء ظهره فانبعث الدم كأنّه ميزاب فضعف عن القتال ووقف.
    فكلّما أتاه رجل انصرف عنه كراهة أن يلقى الله بدمه ، حتى جاءه رجل من كندة يقال له مالك بن النسر فشتم الحسين عليه السلام وضربه على رأسه الشريف بالسيف ، فقطع البرنس ووصل السيف إلى رأسه فامتلأ البرنس دماً.
    قال الراوي : فاستدعى الحسين بخرقة فشدّ بها رأسه ، واستدعى بقلنسوة فلبسها واعتمّ عليها ، فلبثوا هنيئة ثم عادوا إليه وأحاطوا به.
    فخرج عبد الله بن الحسن بن علي (1) وهو غلام لم يراهق من عند النساء يشتدّ حتى وقف إلى جنب الحسين عليه السلام فلحقته زينب بنت علي لتحبسه فأبى وامتنع امتناعاً شديداً فقال : لا والله لا اُفارق عمّي.
    فأهوى بحر بن كعب (2) ؛ وقيل : حرملة بن كاهل إلى الحسين عليه السلام بالسيف ، فقال له الغلام : ويلك يا بن الخبيثة ، أتقتل عمّي ؟ فضربه بالسيف
1 ـ عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، واُمّه بنت السليل بن عبد الله أخي عبد الله بن جرير البجلي ؛ وقيل : اُمّه اُمّ ولد ؛ وقيل : الرباب بنت امرئ القيس ، كان عمره حين قتل إحدى عشرة سنة. انظر : الارشاد : 241 ، مقاتل الطالبيين : 89 ، رجال الشيخ : 76.
2 ـ وقيل اسمه : أبجر بن كعب.


(249)
فاتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد فإذا هي معلّقة.
    فنادى الغلام : يا عماه !
    فأخذه الحسين عليه السلام وضمّه إليه وقال : يا بن أخي اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير فان الله يلحقك بآبائك الصالحين.
    قال الراوي : فرماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه وهو في حجر عمّه الحسين عليه السلام.
    قال الراوي : ولمّا اُثخن الحسين عليه السلام بالجراح وبقي كالقنفذ ، طعنه صالح بن وهب المري على خاصرته فسقط الحسين عليه السلام عن فرسه إلى الأرض على خدّه الأيمن وهو يقول : بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله.
    وخرجت زينب من باب الفسطاط وهي تنادي : وا أخاه وا سيّداه وا أهل بيتاه ، ليت السماء اُطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل.
    وكان ما كان ممّا لست أذكره.
يا رسـول الله لـو عـاينتهم من رميض يمنع الظـل ومن جزروا جزر الأضاحي نسله قتلـوه بعـد علـم منـهـم ليـس هـذا لرسـول الله يا وهـم ما بيـن قتل وسبا عاطش يسقى أنابيب القنا ثم ساقوا أهله سوق الاما انّه خامس أصحاب الكسا اُمة الطغيـان والكفر جزا (1)

1 ـ ديوان الرضي 1 : 44 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 386.

(250)

(251)


(252)

(253)
    إن رسول الله صلى الله عليه وآله ، قد اتسعت أعلام نبوّته ، وتواترت دلائل رسالته ، ونطقت له السماوات قبل بعثته.
نوّهت باسمه السماوات والأر ض كما نوّهت بصبح ذكاها
    هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
    وهو أحمد الذي بشر به عيسى عليه السلام ، وهو المصطفى والمختار والمحمود ، والماحي الذي يمحو الله به الذنوب ، والعاقب والحاشر والمهيمن ، وكنيته : أبو القاسم ، وفي ذلك يقول الشاعر :
لله ممّن قـد بـرا صفـوة وصفوة الصفوة من هاشم وصفوة الخلق بنو هاشم محمد النور أبو القـاسم
    كان مولده المبارك عام الفيل وطير الأبابيل لسبع عشرة خلون من ربيع الأول ، وقيل : يوم الثاني عشر منه ، وقيل : لثمان خلون منه قبل الهجرة المباركة بثلاث وخمسين سنة. (1)
    ولد صلى الله عليه وآله بمكّة المعظمة بدار ابن يوسف التي بنتها بعد ذلك
1 ـ قال رحمه الله : القول الأول هو المشهور وعليه أكثر علماء الإمامية ، والثاني رواه الكليني في الكافي وعليه أكثر علماء السنّة ، والثالث قال به بعض من شذّ من المخالفين.

(254)
الخيزران امّ الهادي والرشيد مسجداً ، وكان أبوه عبد الله غائباً بأرض الشام ، فانصرف مريضاً فقضى نحبه بالمدينة الطيّبة والنبي صلى الله عليه وآله حمل.
    أمّا اُمّه صلى الله عليه وآله : فانّها آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب ... وفي السنة الاولى من مولده رفع إلى حليمة بنت عبد الله ابن الحارث ترضعه فكانت تقول وهي تلاعبه :
الحمـد لله الـذي أعطـانـي قد ساد في المهد على الغلمان هذا الغلام الطيّب الأردان أعيذه بالبيت ذي الأركان
    فبقى في بني سعد إلى السنة الرابعة من مولده ، وفي تلك السنة أرجعته مرضعته حليمة إلى اُمّه آمنة في مستهل السادسة من عمره الشريف ، وبين ذلك وبين عام الفيل خمس سنين وشهران وعشرة أيّام.
    وفي السنة السابعة من مولده خرجت به اُمّه إلى أخواله تزورهم فتـوفّيت بالأبواء (1) ، وقدمت به اُمّ أيمن إلى مكّة بعد خمسة أيّام من موت اُمّه.
    وفي السنة الثامنة من مولده توفّي جدّه شيبة الحمد ـ أعني عبد المطلب ـ وضمّه عمّه أبو طالب إليه ، وكان في حجره يؤثره على ولده ونفسه.
    وخرج مع عمّه إلى الشام وله ثلاث عشرة سنة ، ثم خرج في تجارة لخديجة بنت خويلد ومعه غلامها ميسرة وكان صلى الله عليه وآله ابن خمس وعشرين سنة ، فنظر تشطور الراهب وهو في صومعته إليه وقد ظلّلته الغمامة
1 ـ الأبواء ـ بالفتح ثمّ السكون وواو وألف ممدودة ـ : ... قال ثابت : سمّيت بذلك لتبوّء السيول بها ، وهي قرية من أعمال الفرع من المدينة ، بينها وبين الجُحفة كما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً ؛ وقيل : هي جبل بين مكة والمدينة. انظر معجم البلدان 1 : 79.

(255)
فقال : هذا نبي وهو آخر الأنبياء وخاتم الرسل. (1)
    وكان منه ما قد تواترت به الأخبار ، واشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار.
    ولمّا هدمت الكعبة بالسيل بنتها قريش فرفعت سمكها ، وتأتي لها ما أرادت في بنيانها من الخشب الذي ابتاعوه من السفينة التي رمى بها البحر إلى ساحلهم ، وكان قد بعث بها ملك الروم من القلزم من بلاد مصر إلى الحبشة لتبنى هنالك له كنيسة ، وانتهت قريش إلى موضع الحجر الأسود وتنازعوا أيّهم يضعه ، فاتّفقوا على تحكيم الصادق الأمين محمد صلى الله عليه وآله وكان يعرف عندهم جميعاً بالأمين ، وكانوا على اختلاف مشاربهم ونزعاتهم وضغائنهم ، واعجاب كلّ قبيلة من قبائلهم بنفسها مجمعين على حبّه وأمانته وعدالته في كلّ شؤونه ، فحكموه فيما تنازعوا فيه ، وانقادوا إلى قضائه.
    فبسط رداءه وأخذ الحجر فوضعه في وسطه ، ثم قال لأربعة من زعماء قريش ، وأهل الرياسة فيها ـ وهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، والأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزّى بن قصي ، وأبو حذيفة بن المغيرة بن عمرو بن مخزوم ، وقيس بن عدى السهم ليأخذ كلّ واحد منكم بجنب من جنبات هذا الرداء ، فشالوه حتى ارتفع ودنا من موضعه فأخذه صلى الله عليه وآله ووضعه في مكانه وقريش كلّها حضور.
    فقال قائل لمن حضر من قريش متعجّباً من فعلهم وانقيادهم إلى أصغرهم سنّاً : « واعجباً لقوم أهل شرف ورياسة كهولاً وشيوخاً عمدوا إلى أصغرهم سنّاً
1 ـ انظر قصّة ولادة الرسول صلى الله عليه وآله في : الفضائل لابن شاذان 20 ، تاريخ بغداد 3 : 3 ـ 21 ، بحار الأنوار 15 : 146 ح 8 ، وص 281 ح 17 ، وص 341 ح 13.
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: فهرس