المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: 256 ـ 270
(256)
فجعلوه عليهم رئيساً وحكماً ؟ أما واللات والعزّى ليقسمنّ بينهم حظوظاً وجدوداً ، وليكوننّ له بعد هذا اليوم شأن ونبأ عظيم ».
    وكان أبو طالب حاضراً ، فلمّا سمع هذا الكلام انشأ يقول :
إنّ لنا أوّله وآخره في الحكم العدل لن ينكره
    قاتل الله أهـل العناد « فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين » (1) ، كذّبوه وانّهم ليعلمونه الصادق الأمين ، وأنكروا نبوّته ، وهم منها على يقين « وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم » (2) ، ثم لم يألوا جهداً ، ولم يدخروا وسعاً في اطفاء نور الله من مشكاته « ويأبى الله الا أن يتمّ نوره ... ولو كره المشركون » (3).
    ظلموه وشتموه وأجلوه عن حرم الله عز وجل مسقط رأسه ، ومحل اُنسه ، ثم لم يكتفوا بما كان منهم في مكة المعظمة من فضائع وفجائع ، واُمور تستك منها المسامع ، حتى غزوه وهو في دار هجرته ، ومحل غربته ، فكانت حروب تشيب الأطفال ، وتميد بها الجبال ، لكنّها والحمد لله طحنتهم بكلكلها ، وقرّت الكلاب أشلاءهم ، « وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويّاً عزيزاً » (4).
    بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ، بأبي أنت واُمّي يا نبي الرحمة ، كم أسديت لهذه الاُمّة من نعمة ، وكم لك عليها من يد بيضاء تستوجب الشكر والثناء.
1 ـ سورة البقرة : 89.
2 ـ سورة النمل : 14.
3 ـ سورة التوبة : 32 ـ 33.
4 ـ سورة الأحزاب : 25.


(257)
    وحين فتحت مكّة بعد أن أجلوك عنها ، وكان من أبي سفيان ما كان من التحريض على قتلك ومحاربتك ، فأمرت مناديك ينادي : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
    ثم لم يتم على ولدك وسبطك وريحانتك ما تمّ.
ملكنـا فكان العفو منّا سجية وحللتم قتل الاسارى وطالما وحسبكـم هذا التفاوت بيننا فلمّا ملكتـم سـال بالـدم أبطح نمرّ على الأسرى نعفو ونصفح وكلّ اناءٍ بالـذي فيـه ينضـح
    قال عبد الله بن العبّاس رحمه الله : انّه لمّا اشتدّ برسول الله صلى الله عليه وآله مرضه الذي مات فيه وقد ضمّ الحسين إلى صدره يسيل من عرقه عليه وهو يجود بنفسه ويقول :
    ما لي وليزيد لا بارك الله فيه ، اللهم العن يزيد ، ثمّ غشي عليه طويلاً وأفاق وجعل يقبّل الحسين عليه السلام وعيناه تذرفان ويقول : أما أنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله عزّ وجل.
    وقال ابن عبّاس أيضاً : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله جالساً ، إذ أقبل الحسن عليه السلام ، فلمّا رآه يبكي وقال له : إليّ إليّ ، فأجلسه على فخذه اليمنى.
    ثم أقبل الحسين عليه السلام ، فلمّا رآه بكى وقال له : إليّ إليّ ، فأجلسه على فخذه اليسرى.
    ثم أقبلت فاطمة عليها السلام ، فلمّا رآها بكى فقال لها : إليّ إليّ ، فأجلسها بين يديه.


(258)
    ثم أقبل علي عليه السلام فرآه وقال له : إليّ إليّ ، وأجلسه إلى جانبه الأيمن.
    فقال له أصحابه : يا رسول الله ، ما ترى واحداً من هؤلاء الا وبكيت أوَ ما فيهم من تسرّ برؤيته ؟
    فقال : والذي بعثني بالنبوّة على جميع البرية ما على وجه الأرض نسمة أحب إليَّ منهم ، وانّما بكيت لما يحل بهم بعدي وما يصنع بهذا ولدي الحسين كأنّي به ، وقد استجار بحرمي وقبري فلا يجار ثمّ يرتحل إلى أرض مقتله ومصرعه أرض كرب وبلاء تنصره عصابة من المسلمين ، اولئك سادة شهداء اُمّتي يوم القيامة ، فكأنّي انظر إليه وقد رمي بسهم فخرّ عن فرسه صريعاً ثمّ يذبح كما يذبح الكبش مظلوماً.
    ثم انتحب صلى الله عليه وآله وسلم وبكى من حوله وارتفعت أصواتهم بالضجيج ثم قام وهو يقول :
    اللهم انّي أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي.
والمسلمـون بمنظـرٍ وبمسمعٍ كحلت بمنظرك العيـون عماية أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى لا منكـر منهـم ولا متفجـّع وأصم رزؤك كـلّ اذن تسمع وأنمت عيناً لم تكن بك تهجع (1)

1 ـ معجم الأدباء 10 : 110.

(259)
    ولد رسول الله صلى الله عليه وآله ـ أعلى الأنبياء قدراً ، وأرفع الرسل في الملأ الأعلى ذكراً الذي بشّرت الرسل بظهوره ، وخلقت الأنوار بعد نوره ـ يوم السابع عشر من ربيع الأوّل ؛ وقيل : يوم الثاني عشر منه ، بمكّة المشرّفة في شعب أبي طالب يوم الجمعة بعد الزوال أو عند الفجر عام الفيل وطير الأبابيل.
    وهو أبو القاسم محمد المصطفى بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك ابن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ...
    واُمّه آمنة بنت وهب.
    وأزواجه خمسة عشر ، وفي المبسوط : ثمانية عشر ، سبع من قريش ، وواحدة من حلفائهم ، وتسع من سائر القبائل ، وواحدة من بني إسرائيل من هارون بن عمران.
    واتّخذ من الاماء ثلاثة عجميتين وعربية.
    وله من الأولاد من خديجة : القاسم ، ورقيّة ، وزينب ، واُمّ كلثوم ـ وفي رقيّة وزينب خلاف ـ وبعد المبعث ولد من خديجة : الطيّب ، والطاهر ، وسيّدة نساء العالمين ، وله ولد أيضاً من مارية القبطيّة اسمه إبراهيم.
    ونزل عليه الوحي صلى الله عليه وآله ، وتحمل أعباء الرسالة يوم السابع


(260)
والعشرون من رجب وهو ابن أربعين سنة ... واصطفاه ربّه بالمدينة مسموماً يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة احدى عشر من الهجرة المباركة وله ثلاث وستّون سنة ، ودفن في حجرته المنورة.
    ومات أبوه هو ابن شهرين ؛ وقيل : سنتان وأربع أشهر ؛ وقيل : مات وهو حمل ، وماتت اُمّه في الأبواء.
    وكان صلى الله عليه وآله كما وصفه ولده باقر علوم الأوّلين والآخرين عليه السلام : أبيض اللون مشرّباً بحمرة ، أدعج العينين ، مقرون الحاجبين ، عظيم المنكين ، إذا التفت التفت جميعاً ، سائل الأطراف ، كأنّ عنقه ابريق فضّة ، وإذا تكفاً كأنّه إلى منحدر ، لم ير الراؤون مثل نبي الله قبله ولا بعده.
    وأمّا معاجزه الباهرة ، وآياته الظاهرة ، فقد قصرت عن حصرها الحسّاب ، وكلّت عن سطرها الكتّاب ، كانشقاق القمر ، وتظليل الغمام ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصى ، وتكليم الموتى ، ومخاطبة البهائم ، واثمار يابس الشجر ، وغرس الأشجار وأثمارها على الفور ، وقصة الغزالة مع خشفيها ، وخروج الماء من بين أصابعه ، وانتقال النخلة بأمره ، واخبار الذراع له بالسم ، والنصر بالرعب ، ونوم عينيه دون قلبه ، وعدم طول قامة أحد على قامته ، واكثار اللبن من شاة اُمّ معبد ، ورؤيته من خلفه كما يرى من أمامه ، واطعامه من القليل الجم الغفير ، وطيّ البعيد له ، وشفاء الأرمد إن تفل في عينيه ، وقصة الأسد ، ونزول المطر بدعائه ، ودعائه على سراقة فساخت به الأرض ، وأخباره بالمغيبات ، كأنبائه عن العترة الطاهرة واحداً بعد واحد ، وما يجري عليهم من الأعداء في أرض كربلاء.
    ففي البحار وغيره : لمّا ولدت فاطمة الحسين عليه السلام جاء النبي صلى الله عليه وآله فقال :


(261)
    هلمّي إليَّ بابني يا أسماء.
    قالت : فدفعته إليه في خرقة بيضاء ، ففعل به كما فعل بالحسن يوم ولادته وبكى رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال :
    إنّه سيكون لك حديث ، اللهم العن قاتله ، لا تعلمي فاطمة بذلك.
    قالت أسماء : فلمّا كان يوم سابعه جاء النبي صلى الله عليه وآله فقال : هلمي بابني فأتيته به ، ففعل به كما فعل بالحسن عليه السلام وعقّ عنه كبشاً أملحاً ، وحلق رأسه ، وتصدّق بوزن الشعر ورقاً ، ثمّ وضعه في حجره ، وخلق رأسه بالخلوق ، ثم قال : يا أبا عبد الله عزّ عليَّ ثمّ بكى. (1)
    أقول : كأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله : ذكر حين خلق رأس الحسين عليه السلام بالخلوق أنّ هذا الرأس يهدى إلى يزيد لحّاه الله على رمح طويل من العراق إلى الشام مع سبعة عشر رأساً من العترة الطاهرة ، تشرق أنوارها على أطراف الرماح كأنّها الأقمار الزاهرة ، وجسومهم منبوذة بالعراء ، لا مغسّلين ولا مكفّنين ، ولا مدفونين ، تصهرهم الشمس ، وبالعزيز عليك يا رسول الله أن يبقى سبطك وريحانتك عاري اللباس.
قطيع الرأس منخمـد الأنفا ثوى ثلاث ليال بالعراء بلا س في جندل كالجمر مضطرم غسل ولا كفـن لله من حكـم
    وكريمتك يا رسول الله تناديك بصوت حزين ، وقلب كئيب :
    يا رسول الله ، يا جدّاه ، صلى الله عليك مليك السماء ، هذا حسينك بالعراء ،
1 ـ انظر : ذخائر العقبى : 119 ، مقتل الحسين للخوارزمي 1 : 87 ، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ : 154 ، الخصائص الكبرى للسيوطي 2 : 125.

(262)

تسفى عليه الصبا ، قتيل أولاد البغايا ، يا حزناه ، يا كرباه ، اليوم مات جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله ، يا أصحاب محمداه ، هذه ذرّية المصطفى ، يساقون سوق السبايا ، يا محمداه بناتك سبايا ، وذرّيّتك مقتّلة ، وهذا حسينك مقطوع الرأس من القفا.
نادت فقطعت القلوب بشجوها انسان عيني يا حسين اخيّ يا لكنما انتظـم البيـان فـريدا أملي وعقد جماني المنضودا


(263)
    روي عن الحسن سلام الله عليه ، قال : سألت خالي هند بن هالة وكان وصّافاً عن حُلية النبي صلى الله عليه وآله فقال :
    كان رسول الله صلى الله عليه وآله فخماً مفخماً ، يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر ، أطول من المربوع ، وأقصر من المشذّب ، عظيم الهامة ، رجل الشعر ، أزهر اللون ، واسع الجبين ، أزج الحواجب ، بينهما عرق يدرّه الغضب ، أقنى العرنين ، له نور يعلوه ، يحسبه من يتأمّله أشم ، كثّ اللحية ، سهل الخدّين ، أدعج العينين ، ظليع الفم أشنب ، مفلج الأسنان ، دقبق المسربة ، كنّ عنقه جيدُ دمية في صفاء الفضّة ، معتدل الخلق ، بادناً متماسكاً ، سواء البطن والصدر ، عريض الصدر ، بعيد ما بين المنكبين ، ضخم الكراديس أنور ، موصول ما بين الصدر والسرّة بشعر يجري كالخط ، عاري الثديين والبطن ممّا سوى ذلك ، أشعر الذراعين والمنكبين ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، شئن الكفين القدمين (1) ، سائل الأطراف ، مسبح القدمين ، يخطو تكفئاً ، ويمشي هوينا ، سريع المشي إذا مشى كأنّما ينحط عن صبب ، وإذا التفت التفت جميعاً ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض ، يبدر من لقيه بالسلام ، وكان متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، لا يتكلّم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يتكلّم بجوامع الكلم ، ليس بالجافي ولا المهين ، يعظم النعمة وأن دقتّ ، ولا يذمّ منها شيئاً ، ولا يذمّ ذواقاً ولا يمدحه ، ولا
1 ـ قال رحمه الله : شئن وشئل بمعنى يقال : شئلت أصابعه أي : خشنت وغلظت. وقدم شئلة : غليظة اللحم.

(264)
تغضبه الدنيا ، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها ، إذا أشار أشار بكفّه كلّها ، وإذا تعجّب قلبها ، وإذا حدّث أشار بها فضرب براحته اليمنى باطن ابهامه السيرى ، وإذا غضب أعرض ، وإذا فرح غضّ من طرفه ، جلّ ضحكه التبسّم ، ويفتر عن مثل حب الغمام.
    صلى الله عليك يا رسول الله ، وعلى فرخك وشبل سبطك علي بن الحسين الأكبر الشهيد بن الشهيد ، والمظلوم بن المظلوم ، أشبه الناس بك خلقاً وخُلقاً ومنطقاً ، ولقد يعزّ عليك حين برز إلى ثلاثين ألفاً وهو ابن تسع عشر سنة فرفع الحسين سبابته إلى السماء وقال :
    اللهم أشهد على هؤلاء القوم ، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إلى وجهه.
    اللهم امنعهم بركات الأرض ، وفرّقهم تفريقاً ، ومزّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا ترض الولاة عنهم أبداً ، فانّهم دعونا لينصرونا ، ثم عدوا علينا يقاتلوننا.
    ثم صاح عليه السلام : يا بن سعد ، ما لك ؟ قطع الله رحمك ، ولا بارك لك في أمرك ، وسلّط عليك من يذبحك على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله.
    ثم رفع صوته وتلى : « إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرّيّة بعضها من بعض والله سميع عليم » (1).
    ثم حمل علي بن الحسين على القوم وهو يقول :
1 ـ سورة آل عمران : 33.

(265)
أنا علي بـن الحسيـن بن علي والله لا يحكـم فينـا ابن الدعي أضربكم بالسيف أحمي عن أبي من عصبة جدّ أبيهـم النبي أطعنكم بالرمح حتـى ينثني ضرب غلام هاشمي علوي
    ولم يزل يقاتل حتى ضجّ الناس من كثرة من قتل منهم ، ثم رجع إلى ابيه وقد أصابته جراحات كثيرة ، فقال :
    يا أباه العطش قتلني ، وثقل الحديد أجهدني ، فهل إلى شربة ماء من سبيل أتقوّى بها على الأعداء ؟
    وبكى الحسين عليه السلام وقال : يا بني ، يعزّ على محمد وعلي وعلى أبيك أن تدعوهم فلا يجيبوك ، وتستغيث بهم فلا يغيثونك ، يا بني هات لسانك فأخذه فمصّه ، ودفع إليه خاتمه وقال : امسكه في فيك وارجع إلى قتال عدوك ، فانّي أرجو أنك لا ترجع حتى يسقيك جدّك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً.
    فرجع علي بن الحسين عليه السلام إلى موضع النزال ، وقاتل أعظم القتال وهو يقول :
الحرب قد بانت لها الحقائق والله ربّ العرش لا تفـارق وظهرت من بعدها مصادق جموعكم أو تغمد البـوارق
    فلم يزل يقاتل حتى قتل تمام المائتين ، ثمّ ضربه منقذ بن مرّة العبدي على مفرق رأسه ضربة صرعته ، وضربه الناس بأسيافهم ، ثمّ اعتنق فرسه فاحتمله الفرس إلى عسكر الأعداء ، فقطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً ، فلمّا بلغت روحه التراقي قال رافعاً صوته :


(266)
    يا أبتاه هذا جدّي قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً ، وهو يقول لك : العجل العجل فان لك كأساً مذخورة حتى تشربها الساعة.
    فصاح الحسين عليه السلام : قتل الله قوماً قتلوك يا بني ، ما أجرأهم على الرحمن وعلى رسوله صلى الله عليه وآله ، على الدنيا بعدك العفا.
كنت السـواد لناظري من شاء بعدك فليمت فعليك يبكي الناظر فعليك كنت اُحاذر
    قال حميد بن مسلم : فكأنّي انظر إلى امرأة خرجت مسرعة تنادي بالويل والثبور وتقول :
    يا حبيباه ، ويا ثمرة فؤاداه ، يا نور عيناه.
    فسألت عنها فقيل لي : هي زينب بنت علي عليها وعلى أبيها السلام ، وجاءت وانكبّت عليه ، فجاء الحسين عليه السلام وأخذها بيدها فردّها إلى الفسطاط وأقبل بفتيانه وقال : احملوا أخاكم ، فحملوه من مصرعه ، فجاءوا به حتى وضعوه عند الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه.
يا كوكباً ما كان أقصر عمره جاورت أعدائي وجاور ربّه وكذاك عمر كواكب الأسحار شتّان بيـن جواره وجواري (1)

1 ـ من قصيدة لابن الفارض ينعى فيها ولده.

(267)
    لمّا قدم النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة تعلّق الناس بزمام الناقة فقال : دعوها فانّها مأمورة فعلى باب من بركت فأنا عنده.
    فأطلقوا زمامها وهي تهفّ في السير ، فبركت على باب أبي أيّوب خالد بن زيد الأنصاري (1) رضى الله تعالى عنه ، ولم يكن في المدينة أفقر منه ، فانقطعت قلوب الناس حسرة على مفارقة النبي صلى الله عليه وآله ، ونادى أبو أيوب :
    يا اُمّاه افتحي الباب ، فقد قدم سيّد البشر ، وأكرم ربيعة ومضر ، ففتحت الباب وقالت :
    واحسرتاه ، ليت لي عيناً أبصر بها وجه سيّدي رسول الله صلى الله عليه وآله وكانت عمياء ، فكان أوّل معجزة للنبي صلى الله عليه وآله أنّه صلى الله عليه وآله وضع كفّه الشريفة على وجه اُمّ أيّوب فانفتحت عيناها. (2)
1 ـ هو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عَوف النجار ، أبو أيوب الأنصاري ، معروف باسمه وكنيته ، من السابقين ، شهد العقبة وبدراً وما بعدها ، ونزل عليه النبي صلى الله عليه وآله لمّا قدم المدينة ، استخلفه الإمام علي عليه السلام على المدينة لمّا خرج إلى العراق ، ثمّ لحق به وشهد معه قتال الخوارج.
وروي عن سعيد بن المسيب أنّ أبا أيوب أخذ من لحية رسول الله صلى الله عليه وآله شيئاً ، فقال له : « لا يُصيبك السوء يا أبا أيّوب ».
انظر : الإصابة 2 : 199 ـ 201 ترجمة رقم « 2168 » ، تجريد أسماء الصحابة 1 : 150 ، تقريب التهذيب 1 : 213.
2 ـ مناقب آل أبي طالب 1 : 133 ، بحار الأنوار 19 : 121 ح 7.


(268)
    وروي بسند معتبر أنّ أبا أيّوب أتى بشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في عرس فاطمة عليها السلام فنهاه جبرئيل عن ذبحها ، فشقّ ذلك على أبي أيّوب ، ثمّ أمر بذبحها ، فذبحها ابن جبير الأنصاري بعد يومين ، فلمّا طبخت أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن لا تأكلوا الابسم الله ، ثم قال صلى الله عليه وآله انّ أبا أيّوب رجل فقير ، إلهي أنت خلقتها وأنت أمتّها ، وانّك قادر على إعادتها فاحيها يا حي لا إله إلا أنت ، فأحياها الله تعالى ، وجعل فيها بركة لأبي أيّوب ، وشفاء المرضى في لبنها ، وسمّاها أهل المدينة : المبعوثة. (1)
    وفيها قال عبد الرحمن بن عوف :
ألم يبصروا شاة ابن زيد وحالها وقد ذبحـت ثـم استحر أهابها فأرجعها ذو العـرش والله قادر وفي أمرها للطـالبين مزيد وفصلها فيمـا هنـاك يزيد فعادت بحال ما يشاء يعود (2)
    وفي خبر عن سلمان رضي الله عنه : أنّه صلى الله عليه وآله لمّا نزل دار أبى أيّوب لم يكن له سوى جدي وصاع من شعير ، فذبح له الجدي وشواه ، وطحن الشعير وعجنه وخبزه وقدّمه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله ، فأمر صلى الله عليه وآله بأن ينادي : من أراد الزاد فليأت إلى دار أبي أيّوب ، فجعل أبو أيّوب ينادي والناس يهرعون إلى داره حتى امتلأت الدار ، فأكل الناس بأجمعهم والطعام باقٍ ، فضجّ الناس بالشهادتين. (3)
    وعن علي بن إبراهيم : ما زال أبو كرز الخزاعي يقفو أثر النبي صلى الله
1 ـ مناقب آل أبي طالب 1 : 131.
2 ـ مناقب آل أبي طالب 1 : 131.
3 ـ مناقب آل أبي طالب 1 : 131 ـ 132.


(269)
عليه وآله يوم خروجه إلى الغار حتى وقف على بابه وقال :
    هذه قدم محمد ، وهذه قدم ابن أبي قحافة ما جاوزا هذا المكان.
    وجاء فارس من الملائكة في صورة الانس فوقف على باب الغار وهو يقول : اطلبوه في هذه الشعاب فليس ها هنا.
    وتبعه القوم وكانوا دهاة العرب ، وأمر الله شجرة فنبتت في وجه الغار ، وأمر العنكبوت فنسجت ، وأمر حمامتين بفم الغار.
    ولما قربوا منه تقدم بعضهم لينظر ، ثمّ رجع فقال : رأيت حمامتين بفم الغار فعلمت أنّه ليس فيه أحد. (1)
    [ وفي نهج البلاغة (2) من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة القاصعة أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال :
    أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي ، فوالذي بعثه بالحقّ لانقلعت بعروقها ، وجاءت ولها دويّ شديد ، وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله مرفرفة ، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله صلى الله عليه وآله وببعض أغصانها على منكبه ، وكنت على يمينه ، فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّاً واستكباراً : فمرها فليأتك نصفها.
    فأمرها بذلك ، فأقبل إليه نصفها كأعجب اقبال وأشدّه دويّاً ، وكادت تلتف برسول الله صلى الله عليه وآله ، فقالوا كفراً وعلواً :
1 ـ مناقب آل أبي طالب 1 : 127 ـ 128.
2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 192 ( القاصعة ) : 285 ، مناقب آل أبي طالب 1 : 129.


(270)
    فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه ، فأمره فرجع.
    لحا الله أهل العناد ، كم رأوا من رسول الله صلى الله عليه وآله أمثال ذلك ، فلم يقلعوا عن عنادهم ، وكم له عليهم من نعمة جعلوا جزاءها قتل ذرّيّته ، ـ وسبي عترته ، ولقد وقف الحسين عليه السلام متّكئاً على سيفه ، ووعظهم فلم يتّعظوا ، وذكّرهم فضل جدّه وأبيه عليهما السلام فلم يذّكّروا ، فكان من جملة كلامه يومئذ :
    أنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
    قالوا : اللهم نعم.
    قال : أنشدكم [ الله ] هل تعلمون أنّ أبي علي بن أبي طالب عليه السلام ؟
    قالوا : اللهم نعم.
    قال : أنشدكم الله هل تعلمون أنّ اُمّي فاطمة الزهراء بنت محمد المصطفى ؟
    قالوا : اللهم نعم.
    الى أن قال : أنشدكم الله هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول الله صلى الله عليه وآله أنا متقلّده ؟
    قالوا : اللهم نعم.
    قال : انشدكم الله هل تعلمون انّ هذه عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله أنا لابسها ؟
    قالوا : اللهم نعم.
    قال : فبم تستحلّون دمي وأبي الذائد عن الحوض ، ولواء الحمد بين يديّ يوم القيامة ؟
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: فهرس