المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: 271 ـ 285
(271)
    قالوا : قد علمنا ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً.
    فلمّا سمع بناته وأخواته ذلك بكين وندبن ولطمن وارتفعت أصواتهن ، فوجّه إليهنّ أخاه العبّاس وابنه عليّاً وقال : سكتاهنّ فلعمري ليكثر بكاؤهن.
    ولمّا رأى الحسين عليه السلام حرص القوم على القتال قال لأخيه العباس : إن استطعت يا أخي أن تصرفهم عنّا هذه الليلة فلعلّنا نصلّي لربّنا فانّه يعلم أنّي أحبّ الصلاة له ، وتلاوة كتابه.
    فسألهم العباس ذلك فتوقّف ابن سعد.
    فقال له ابن الحجاج : والله لو أنهم من الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم فكيف وهم آل محمد صلى الله عليه وآله ، فأجابوهم إلى ذلك.
    وجلس الحسين عليه السلام فخفق برأسه ثم استيقظ ، فقال : يا اُختاه انّي رأيت الساعة جدّي وأبي وأخي وهم يقولون :
    يا حسين إنك رائح إلينا عن قريب ، فلطمت زينب وجهها وبكت وصاحت :
    واثكلاه يا جداه يا رسول الله ، وا أخاه وا حسيناه ، أشاهد مصرعك وأبتلي برعاية هذه المذاعير واُغمي عليها.
    فقال لها الحسين عليه السلام : مهلا لا تشمت القوم.
    وبات الحسين عليه السلام في تلك الليلة وأصحابه ولهم دويّ كدويّ النحل ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد.
سمة العبيـد من الخشوع عليهم وإذا ترجّلت الضحى شهدت لهم لله إن ضمّتهـم الأسحـار بيض القواضب أنّهم أحرار


(272)
    عن أنس بن مالك قال : كان إذا فقد رسول الله صلى الله عليه وآله الرجل سأل عنه ، فإن كان غائباً دعا له ، وإن كان شاهداً زاره ، وإن كان مريضاً عاده. (1)
    وعن جابر بن عبد الله الانصاري (2) ، قال : بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله في بعض غزواته إذ أعيا ناضحي تحت الليل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله في اخريات الناس يلاحظ الضعيف فانتهى إليَّ وأنا أقول :
    يا لهف اُمّاه ما زال الناضح بسوء.
    فقال : من هذا ؟
    فقلت : أنا جابر بأبي واُمّي يا رسول الله.
    قال : ما شانك ؟
    قلت : أعيا ناضحي.
    فقال : أمعك عصا ؟
    قلت : نعم.
    فضربه صلى الله عليه وآله ثمّ بعثه ، ثمّ أناخه ، ووطئ على ذراعه ، وقال : اركب ، فركبت وسايرته فجعل جملي يسبق جمله ، فاستغفر لي تلك الليلة
1 ـ مكارم الأخلاق 1 : 55 ح 34 ، بحار الأنوار 16 : 333.
2 ـ جابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام الخزرجي الأنصاري السلمي ، المتوفّى سنة 78 هـ ، صحابي ، روى عن النبي صلى الله عليه وآله الكثير ، وروى عنه جماعة من الصحابة ، غزا تسع عشرة غزوة ، كانت له في أواخر أيّامه حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم.
انظر : رجال الشيخ : 72 ، الأعلام 1 : 213 ، تهذيب الأسماء 1 : 142.


(273)
خمساً وعشرين مرّة.
    فقال لي : ما ترك عبد الله من الولد ـ يعني أباه ـ ؟
    قلت : سبع نسوة.
    قال : أبوك عليه دين ؟
    قلت : نعم.
    قال : فإذا قدمت المدينة وحضر جذاذ النخل فآذني ، هل تزوّجت ؟
    قلت : نعم.
    قال : بمَن ؟
    قلت : بفلانة ابنة فلان بأيم (1) كانت بالمدينة.
    فقال : يا جابر ، هلا فتاة تلاعبها وتلاعبك ؟
    قلت : يا رسول الله كن عندي نسوة خرق ـ يعني أخواته ـ فكرهت آتيهن بامرأة خرقاء ، فقلت : هذه أجمع لأمري.
    قال صلى الله عليه وآله : أصبت ورشدت.
    بكم اشتريت جملك ؟
    قلت : بكذا وكذا ـ بخمس أواق من ذهب ـ.
    قال : بعينه ولك ظهره إلى المدينة.
    فلمّا قدم المدينة أتيته بالجمل ، فقال : يا بلال اعطه خمس أواق ثمنه وزده ثلاثاً وردّ عليه جمله.
    قال جابر : فلمّا حضر جذاذ النخل أعلمت رسول الله صلى الله عليه وآله فجاء فدعا لنا فجذذنا ، فاستوفى كلّ غريم ما كان يطلب تمراً ، وبقي لنا مثل ما كنا نجذ وأكثر.
1 ـ أيم وزان كيس ، المرأة التي لا زوج لها ، وهي مع ذلك لا يرغب أحد في تزويجها.

(274)
    فقال صلى الله عليه وآله : ارفعوا ولا تكيلوا ، فرفعناه وأكلنا منه زماناً. (1)
    وفي الصواعق المحرقة لابن حجر (2) : أنّ جابراً عبد الله الأنصاري قال للإمام الباقر عليه السلام وهو صغير : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله يسلم عليك.
    فقيل له : وكيف ذلك ؟
    قال : كنت جالساً عنده والحسين في حجره وهو يقبّله فقال :
    يا جابر يولد للحسين مولود اسمه علي ، وإذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ : ليقم زين العابدين ، فيقوم علي بن الحسين عليهما السلام ، ثمّ يولد لعلي ولد اسمه محمّد عليه السلام فإذا أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام.
    وكان جابر هذا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وأمير المؤمين والحسن والحسين ، وأدرك الامام محمد الباقر عليهم السلام ولم يشهد وقعة الطف لكونه إذ ذاك مكفوفاً ، لكنّه أوّل من زار الحسين عليه السلام.
    قال السيد : ولمّا رجع نساء الحسين عليه السلام وعياله من الشام وبلغوا العراق قالوا للدليل : مرّ بنا على طريق كربلاء ، فوجدوا جابراً بن عبد الله الأنصاري رحمه الله وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل الرسول صلى الله عليه وآله ، فتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد ، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد. (3)
    قال ابن جناب الكلبي (4) : حدّثنا الجصّاصون ، قالوا : كنّا نسمع الجن
1 ـ الأنوار في شمائل النبي المختار 1 : 313 ح 410 ، مكارم الأخلاق 1 : 55 ح 35.
2 ـ الصواعق المحرقة : 201.
3 ـ مقتل الحسين لأبي مخنف : 221.
4 ـ في الأصل : أبي حباب الكلبي ، وما أثبتناه هو الصحيح ، وهو يحيى بن أبي حيّة الكلبي الكوفي ، حدّث عن أبيه والشعبي وغيرهم ، انظر « الإكمال 2 : 134 ».


(275)
ينوحون عليه فيقولون :
مسـح النبـيّ جبينه أبواه من عَليا قريـ فله بريق فـي الخـدودِ ـش وجدّه خير الجدودِ (1)
    ثم انفصلوا من كربلاء ، فلمّا قربوا من المدينة ، قال الإمام زين العابدين :
    يا بشر رحم الله أباك ، لقد كان شاعراً فهل تقدر على شيء منه ؟
    فقال : بلى يا بن رسول الله.
    فقال : ادخل المدينة وانع أبا عبد الله عليه السلام.
    قال بشر : فركبت فرسي ، فلمّا بلغت المسجد رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت أقول :
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها الجسم منه بكربلاء مضرّج قتل الحسين فأدمعي مدرارُ والرأس منه على القناة يدارُ
    ثمّ قلت : هذا عليّ بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ، ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم [ اُعرفكم مكانه ].
    قال : فما بقيت بالمدينة مخدّرة ولا محجّبة الا برزن من خدورهنّ ، مخمّشات وجوههنّ ، ضاربات خدودهنّ ، يدعونّ بالويل والثبور ، فلم أر باكياً أكثر من ذلك اليوم ، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه ، وسمعت جارية تنوح على الحسين وتقول :
1 ـ وقد نسب البيهقي في ( المحاسن والمساوئ 1 : 49 ) هذه الأبيات الى الشاعر كعب بن زهير ، والظاهر انّه كعب بن زهير الصحابي ، ولم أجد الأبيات المنسوبة إليه في غير هذا الكتاب ، فإن صحّت هذه النسبة ، فهي ممّا كتمت في أيّام الأمويّين والعباسيّين.

(276)
نعـى سيـدي نـاع نعـاه فـأوجعا فعينـيّ جـودا بالـدمـوع واسكـبا على من وهي عرش الجليل فزعزعا على ابـن نبـيّ الله وابـن صفيـّه وأمرضنـي نـاع نعـاه فأوجعا وجودا بدم بعد دمعـكـمـا معا فأصبح هذا المجد والـدين أجدعا وإن كان عنّا شاحط الدار أشسعا (1)
    قال بشر : فضربت فرسي ورجعت ، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع فقربت من باب الفسطاط ، وكان زين العابدين عليه السلام داخلاً فخرج ومعه خرقة يمسح فيها دموعه ، وخلفه خادم ومعه كرسي فوضعها له فجلس عليها وهو لا يتمالك من البكاء ، وارتفعت أصوات الناس ، وضجّت النساء بالحنين والصراخ ، فضجّت تلك البقعة ضجّة شديدة.
    ثم خطب الناس خطبة لم يسمع أبلغ منها ، ثم رحل إلى المدينة ، فنظر إلى تلك المنازل تنوح بلسان حالها ، وتبكي لفقد حماتها ورجالها ، وتهيج أحزانه على مصارع قتلاه ، وتنادي لأجلهم : وا ثكلاه ، وا ذلاّه.
مدارس آيات خلت من تلاوةٍ ما ذنب أهل البـيـت حتـى تـركـوهـم شتـّى مصـا ومنزل وحي مقفر العرصاتِ منـهـم أخـلـوا ربـوعـه رعهم وأجمـعـا فظـيعـة

1 ـ زينة المجالس : 534.

(277)
    كانت وقعة بدر التي أظهر الله بها الدين ، وكسر فيها سورة المشركين ، صبيحة الجمعة لسبعة عشر ليلة خلت من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة ، وكان خروج النبي صلى الله عليه وآله من المدينة المنوّرة ثالث الشهر في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، منهم سبعة وسبعون من المهاجرين ، والباقون من الأنصار ، ولم يكن معهم إلا فرسان ؛ أحدهما للمقداد ، وكانت الأبل سبعة عشر يتعاقبون عليها.
    وأقبلت قريش بخيلائها وحيلها ، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً ؛ وقيل : كانوا ألفاً ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير.
    وعبّأ رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه ، وكانت رأيته بيد أمير المؤمنين عليه السلام ، وتقارب الفيلقان ، فبرز من المشركين عتبة بن ربيعة ، وأخوه شيبة ، وابنه الوليد ، وكانوا عظماء قريش ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله عليّاً بالبروز إليهم ، وأرسل معه عمّه الحمزة ، وعبيدة بن الحرث.
    فشدّ أمير المؤمنين عليه السلام على الوليد فقتله ، وشد الحمزة على عتبة فقتله ، وبارز عبيدة شيبة فاختلف بينهما ضربتان قطعت ضربة شيبة فخذ عبيدة رحمه الله تعالى ، فكرّ أمير المؤمنين وحمزة على شيبة فقتلاه ، فكان قتل هؤلاء الثلاثة أوّل وهن لحق المشركين وذلّ دخل عليهم.
    ثمّ بارز أمير المؤمنين عليه السلام العاص بن سعيد بن العاص ـ بعد أن


(278)
أحجم عنه سواه ـ فقتله ، وبرز إليه حنظلة بن أبي سفيان فقتله ، وبرز إليه طعيمة ابن عدي ـ وكان من رؤوس الضلال ـ فقتله ، وقتل بعده نوفل بن خويلد ، وكان من شياطين قريش ، وكانت قريش تقدّمه وتعظّمه ، وهو الذي قرن أبا بكر وطلحة وعذّبهما يوماً إلى الليل ، وبرز زمعة بن بن زمعة كانا من أشدّ المشركين وطأة على المسلمين فقتلهما ، وقتل بعدهما عمير بن عثمان ابن كعب بن تيم ، وهو عمّ طلحة بن عبيد الله ، وبرز بعد عمير أخيه ، وهما عثمان ومالك ابنا عبيد الله وكانا أخوي طلحة فقتلهما أمير المؤمنين عليه السلام.
    وصمد إلى صناديد قريش يقتل كلّ من برز إليه ، حتى أتى على نصف المقتولين من المشركين ، وكانوا سبعين رجلاً ، تولّى جميع من حضر بدراً من المسلمين مع ثلاث آلاف من الملائكة المسوّمين قتل النصف منهم ، وتولّى أمير المؤمنين قتل النصف الآخر وحده بمعونة الله عزّ وجل وكان الفتح على يده.
    وختم الأمر بكفّ من تراب تناوله النبي صلى الله عليه وآله فرمى به وجوه المشركين قائلاً : شاهت الوجوه.
    فلم يبق أحد منهم الا ولّى منهزماً ، ونصر الله عبده ، وأنجز وعده ، فغنم المسلمون أموال المشركون ، وأسروا سبعين من رجالهم ، فكان العبّاس ممّن اُسر يومئذ وجيء به مكتوفاً ، فبات رسول الله صلى الله عليه وآله تلك الليلة ساهراً ، فقال له أصحابه :
    يا رسول الله ، ما لك لا تنام ؟
    فقال : سمعت تضوّر العباس في وثاقه فمنعني من النوم.
    فقاموا إليه فأطلقوه ، فنام رسول الله صلى الله عليه وآله.


(279)
    بأبي أنت واُمّي يا نبي الرحمة ، أخذك الأرق ، واعتراك القلق ، بوثاق عمّك وقد كان مع المحاربين لك ، على أنّه لم يكن عليلاً ولا ظمآناً ، ولا أضرّه الوثاق ، ولا كان مفجوعاً بأبيه ، ولا مرزوءاً بجمع أهليه ، ولا كان رأس أبيه في أعلى السنان ، ولا طافوا به وبنسائه سبايا في البلدان ، فكيف بك يا رسول الله لو رأيت مريضك العليل والجامعة في عنقه ، والغل في يديه ، والقيد في ساقيه ، وليتك تراهم وقد اجتمعوا عليه يريدون قتله ، فقلبوه عن نطع مسجّى عليه ، وتركوه على الرمضاء ، وحرارة الشمس ، وحرّ المصيبة ، وألم السقم ، يرى خياماً منهوبة ، ونساءً مسلوبة ، ورؤوساً على الرماح مرفوعة ، وجثثاً تحت سنابك الخيل مرضوضة ، يعزّ عليك يا نبي الله إذ ساقوا ثقلك وحرائرك حتى أدخلوهم على يزيد بن معاوية لعنهما الله وهم مقرونون بالحبال ، فلمّا وقفوا بين يديه قال له سبطك علي بن الحسين عليهما السلام :
    أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله صلى الله عليه وآله لو رآنا على هذه الصفة ؟
    فأمر اللعين بالحبال فقطعت ، ثم وضع رأس ريحانتك بين يديه ، وأجلس النساء خلفه لئلا ينظرون إليه ، فرأته اُمّ المصائب عليها السلام فأهوت إلى جيبها فشقّته ، ثمّ نادت بصوت حزين يقرح القلوب :
    يا حسيناه ، يا حبيب رسول الله ، يا بن مكّة ومنى ، يا بن فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين ، يا بنت المصطفى ، فأبكت والله كلّ من كان حاضراً.
يا ليت عين المصطفى نظرت إلى ما بين نائحـة وصـارخة غدت لهفي لهاتيك الحـرائـر أصبحت اُمّ المصائب حولهـا أيتـامها ترثي كما يرثي الفراخ حمامها يقتـاد قسـراً للئيـم زمامهـا


(280)
    خرج رسول الله صلى الله عليه وآله إلى اُحد يوم الجمعة في شوال سنة ثلاث من الهجرة في ألف مقاتل ، فرجع منهم قبل الوصول إلى اُحد ثلاثمائة من المنافقين ، وبقي سبعمائة ، فيهم مائة دارع ، ولم يكن معهم إلا فرسان ، وكان المشركون ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ، ومعهم مائة فرس ، وثلاثة آلاف جمل وخمسة عشر امرأة ، وقائدهم أبو سفيان ، خرج لحرب الله ومعه ولده معاوية وزوجته هند ، وخرج عمرو بن العاص بزوجته ريطة بنت منبّه ، والتقوا يوم السبت ، وعلى ميمنة المشركين خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل.
    ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله الشعب من اُحد وتركه خلفه ، وجعل الرماة وهم خمسون وراءه ، ليحموا ظهور المسلمين ، وأمرهم أن لا يفارقوا مراكزهم على كلّ حال.
    وأعطى رأيته عليّاً عليه السلام ، وسأل عن لواء المشركين فقيل : مع بني عبد الدار ، فأعطى لواءه مصعب بن عمير لأنّه منهم.
    فلمّا استشهد أخذ علي بن أبي طالب عليه السلام في يده الراية واللواء جميعاً ، وحمى الوطيس ، فشدّ أمير المؤمنين على صاحب اللواء وهو طلحة بن أبي طلحة وكان أشجع القوم ، ويعرف بكبش الكتيبة ، فضربه على رأسه ضربة بدرت بها عيناه ، فصاح صيحة منكرة واسقط اللواء ، فكبّر رسول الله صلى الله عليه وآله تكبيراً عالياً ، وكبّر المسلمون بأجمعهم ، وتضعضع عسكر الشرك


(281)
بمقتله ، ولم يزل يقتل كلّ من حمل اللواء من بني عبد الدار حتى تفانوا عليه ، فحمله عبدٍ لهم يقال له : صواب ، وكان من أشدّ الناس ، فقطع أمير المؤمنين عليه السلام يديه ، ثمّ ضربه على اُمّ رأسه فسقط صريعاً ، وانهزم المشركون ، وأكبّ المسلمون على الغنائم فطمعت الرماة في الغنيمة ، وفارقوا الشعب الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وآله بملازمته.
    فأتى خالد بن الوليد في خيل المشركين من ورائهم وهم غافلون ، فكان البلاء ، وقُتل حمزة في سبعين رجلاً ، وفرّ الباقون ، وثبت علي وأبو دجانة (1) وسهل بن حنيف (2).
    وقاتل رسول الله صلى الله عليه وآله قتالاً شديداً ، وكسرت يومئذ رباعيته ، وشقّت شفته ، وكلم في وجهه الشريف ، ودخل من حلق المغفر في جبهته الشريفة ، وعلاه ابن قمأة لعنه الله بالسيف ، فسقط ـ بأبي واُمّي ـ إلى الأرض ، وصاح المشركون : قتل محمد ، فأوغل المسلمون للهرب ، وكسر علي غمد سيفه ، وشدّ على جموع المشركين شدّة ما سمع السامعون بمثلها ، فكشفهم عن النبي صلى الله عليه وآله فوجده على الأرض ، والدماء تسيل على وجهه الشريف ، وأبصر النبي صلى الله عليه وآله جماعة من المشركين فقال : اكفنيهم يا
1 ـ هو سماك بن خرشة ، من الصحابة الأوائل الذين صمدوا مع الرسول صلى الله عليه وآله في غزوة أحد ، عاش حتى شهد مع علي بن أبي طالب عليه السلام صفين ؛ وقيل غير ذلك.
انظر : الاصابة 2 : 77 ، أسد الغابة 2 : 452 ، الاستيعاب 2 : 83 ـ 84.
2 ـ سهل بن حنيف بن واهب بن العُكيم الأوسي الأنصاري ، من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين ، شهد بدراً والمشاهد كلّها مع الرسول صلى الله عليه وآله وثبت يوم احد حين انهزم الناس ، وبايع يومئذ على الموت ، استخلفه علي على البصرة بعد الجمل ، وشهد معه صفين وتوفي في الكوفة سنة ثمان وثلاثين وصلّى عليه أمير المؤمنين عليه السلام.
انظر : الاصابة 2 : 87 ، أسد الغابة 2 : 470.


(282)
علي ، فحمل عليهم ، وقتل عميدهم ، وتفرّقوا ، ثم جاءت كتيبة اخرى ، فقال صلى الله عليه وآله : احمل عليهم يا علي ، فشدّ على عميدهم ، فتقله وفرّقهم.
    فقال جبرائيل عليه السلام : هذه المواساة ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : إنّه منّي وأنا منه ، فقال جبرائيل عليه السلام : وأنا منكما ، ونادى في تلك الحال :
لاسيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ
    وجعل علي عليه السلام ينقل الماء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في درقته من المهراس ليغسل الدم عن وجهه ، ومنع الله نبيّه صلى الله عليه وآله يومئذ بأخيه ، وبجماعة من المنهزمين ثابوا إليه ، فذهبوا به إلى الجبل فحاصروا وارتفع القتال.
    بأبي أنت واُمّي : يا غريب أين كان أخوك المواسي ، ليمنعك من الأعداء حين سقطت شلواً مبضّعاً ، كما منع المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وآله أخوه المواسي له ؟
    أم أين كان قمر بني هاشم وأنت مطروح على الرمضاء تخور بدمك ، وتلوك لسانك من العطش لينقل الماء إليك من الفرات ، كما نقله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أخوه المواسي له من المهراس ، لكنّه سقط رسول الله صلى الله عليه وآله وكان أخوه سالم المهجة ، سالم الهامة ، سالم الساعدين ، وكان أخوك إذ سقطت يا قرّة عين الزهراء مرضوخ الهامة ، محسوم الزندين ، مشحوطاً بالدماء ، مبدّد الاعضاء.
    وأين عنك يا سيدي صحبك الذين ما فرّوا ، ولا تخطّوا حتى تفانوا دونك ليمنعوك كما منع رسول الله أصحابه ؟ ومن أين لهم أن يمنعوك وهم صرعى في هجير الشمس ، قد وزعت أشلاءهم ظباة السيوف ، وطحنتهم سنابك الخيل ، وابتلت بدمائهم أرض الطفوف ، ولقد يعزّ عليهم والله وقوفك بين الأعداء وحيداً


(283)
فريداً وأنت تنادي :
    هل من مغيث يغيثنا ؟
    هل من موحّد يخاف الله فينا ؟
    هل من معين يرجو الله في إعانتنا ؟
    فأجابك يا داعي الله مالك بن النسر لعنه الله بالسيف على رأسك الشريف ، وطارح بن وهب (1) بالرمح في خاصرتك ، ولبّاك ابن شريك (2) بالسيف على كتفك اليسرى ، وأجابك آخر بضربة على عاتقك المقدّس فكبيت بها لوجهك.
وجـاء سنـان (3) طاعن بسنانه وأقبل شمر يعلن العجب إذ سطا وراح بأعلى الرمح يزهو كريمه يرى أنّه كـان الهـزيـر المشـجـعا على الليث مذ أمسى له الحتف مضجعا كبدر دجى قـد تـمّ عشـراً وأربـعا

1 ـ وقيل : صالح بن وهب المزني ، وهو خبيث ملعون. انظر : مستدركات علم الرجال 4 : 248.
2 ـ وهو زرعة بن شريك التميمي ، ملعون خبيث ، ورد ذكره في مستدركات علم الرجال 3 : 426.
3 ـ في مستدركات علم الرجال 4 : 161 : سنان بن أنس النخعي ، وهو قاتل مولانا الحسين صلوات الله عليه ؛ قيل : قتله ابن زياد حين قال : قتلت خير الناس اُمّاً وأباً ، والمشهور أنه قتله المختار.
وفي كتاب حكاية المختار : 45 : أن إبراهيم قال لسنان عندما قبض عليه : يا ويلك أصدقني ما فعلت يوم الطف ؟ قال : ما فعلت شيئاً غير أنّي أخذت تكة الحسين من سرواله !! فبكى إبراهيم عند ذلك ، فجعل يشرح لحم أفخاذه ويشويها على نصف نضاجها ويطعمه إياه ،
وكلما امتنع من الأكل ينخزه بالخنجر ، فلمّا أشرف على الموت ذبحه وأحرق جثته.


(284)
    نقل ابن أبي الحديد ـ في أواخر الجزء الرابع عشر من شرح النهج ـ عن جماعة من المحدّثين والمؤرّخين : انّ رسول الله صلى الله عليه وآله لمّا فرّ أصحابه عنه يوم اُحد كثرت عليه كتائب المشركين ، وقصدته كتيبة من بني عبد مناف بن كنانة ، وفيها بنو سفيان بن عويف ، وهم : خالد ، وأبو الشعثاء ، وغراب وأبو الحمراء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا علي اكفني هذه الكتيبة.
    فحمل عليها وانّها لتقارب خمسين فارساً وهو راجل ، فما زال يضربها حتى تفرّقت عنه ، ثمّ تجتمع عليه هكذا مراراً حتى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة وتمام العشرة ، فقال جبرائيل عليه السلام :
    يا محمد إن هذه لهي المواساة ، وقد تعجّبت ملائكة السماء من هذا الفتى.
    فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : وما يمنعه ؟ وهو منّي وأنا منه.
    فقال جبرائيل عليه السلام : وأنا منكما.
    قال : وسمع في ذلك اليوم صوت من قبل السماء لا يُرى شخص الصارخ به ينادي مراراً :
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي
    فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : هذا جبرائيل ... وكان بأبي هو واُمّي قد جرح فجعل علي عليه السلام ينقل الماء في درقته من المهراس ويغسل جرح النبي فلم ينقطع دمه ، فأتت فاطمة عليها السلام فجعلت تعانقه وتبكي ، وأحرقت


(285)
حصيراً وجعلت من رماده على الجرح فانقطع الدم.
    ذكرت من بكاء سيّدة النساء حين عانقت أباها صلى الله عليه وآله وهو مجروح ، ما حال سكينة (1) لمّا استوقفت أباها وقد اُثخن بالجراح ، وبقي من كثرة رشق النبال كالقنفذ ، فقالت :
    يا أبتاه ، قف لي هنيئة لأتزوّد منك ، فهذا وداع لا تلاقي بعده ، وانكبّت على يديه ورجليه تقبّلهما وتبكي ، فبكى الحسين عليه السلام رحمة لها ، ثم مسح دموعها بكمّه ، وأخذها فتركها في حجره ، ومسح دموعها بكفّه وأنشأ مخاطباً لها :
سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي لا تحرقـي قلبي بدمعك حسرة فإذا قتلـت فأنـت أولى بالذي منك البكاء إذا الحمـام دهاني ما دام منّي الروح في جثماني تأتينـه يـا خيـرة النسـوان
    واعتنقت أباها يوم الحادي عشر من المحرم كما اعتنقت جدّتها الزهراء أباها يوم اُحد ، لكن شتّان بين من اعتنقت أباها وهو حيّ جالس ، وبين من اعتنقته وهو مطروح على الرمضاء بحرارة الشمس ، عاري اللباس ، قطيع الرأس ، منخمد الأنفاس ، في جندل كالجمر مضطرم.
ثوى ثلاث ليالٍ بالعراء بلا غسلٍ ولا كفن لله من حكم
    ورجع رسول الله صلى الله عليه وآله من اُحد يوم الوقعة فمرّ بامرأة من الأنصار اُصيب أبوها وزوجها ، فلمّا نُعيا إليها قالت : ما فعل برسول الله صلى الله
1 ـ سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، كريمة نبيلة ، كانت سيّدة نساء عصرها ، توفيت سنة 117 هـ ، نسب إليها بعض المؤرّخين اُمور نقطع بكذبها وافترائهاعليها.
انظر : الطبقات الكبرى 8 : 348 ، الدر المنثور : 244 ، الأعلام 3 : 106.
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: فهرس