المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: 286 ـ 300
(286)
عليه وآله ؟ قالوا : هو بحمد الله كما تحبّين.
    قالت : أرونيه ، فلمّا نظرت إليه قالت : كلّ مصيبة بعدك جلل.
    ولقته حمنة بنت جحش فنعى إليها أخاها عبد الله فاسترجعت ، ثم نعى إليها أخاها حمزة فاستغفرت له ، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير فولولت وصاحت.
    ولكن لا كالرباب (1) زوجة أبي عبد الله فانّها بقيت بعده لا تستظل تحت سقف بيت حتى ماتت كمداً ، وكانت تجلس في هجير الشمس من أوّل النهار إلى آخره ، وتقابلها ابنتها سكينة بالنوح واللطم ، وكانت زينب مع حزنها ترقّ لها وهي تندب الحسين أشجى ندبة ، فتقول لها : اُخيّة يا رباب قومي إلى الظل.
    فتقول لها : يا سيدتي لا تلوميني فانّي تركت سيّدي ومولاي عارياً بالعراء مطروحاً على الرمضاء بحرارة الشمس ، وكانت تقول في ندبتها :
    وا حبيب المصطفى ، وا ذبيحاً من قفا ، وا قتيلا بالظما.
    ثم لا تزال تنادي : وا سيّداه وا حسيناه ، حتى تتفطّر لها القلوب ، ويتصدّع لها الصخر الأصم.
نادت فقطعت القلوب بشجوها إن تنع أعطت كلّ قلب حسرة تدعو بلهفة ثاكلٍ لعب الأسى لكنّما انتظـم البيـان فـريدا أو تدع صدّعت الجبال الميدا بفؤاده حتى انطوى مفـؤودا

1 ـ الرباب بنت امرئ القيس بن عدي ، زوجة الحسين عليه السلام ، كانت معه في وقعة كربلاء ، وبعد استشهاده جيء بها مع السبايا إلى الشام ، ثمّ عادت إلى المدينة ، فخطبها الأشراف ، فأبت ، وبقيت بعد الحسين لم يظلّها سقف بيت حتى بليت وماتت كمداً ، وكانت شاعرة لها رثاء في الحسين عليه السلام. انظر : المحبر 3 : 13 ، أعلام النساء 1 : 378.

(287)
    ذكر المؤرّخون : أنّ وحشي بن حرب كان عبداً حبشياً لابنة الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ؛ وقيل : كان لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل فقالت له ابنة الحارث : إنّ أبي قتل يوم بدر ، فان أنت قتلت أحد الثلاثة محمّداً أو عليّاً أو حمزة فأنت حرّ ، فانّي لا أدري في القوم كفواً لأبي غيرهم.
    فقال : أما محمد فانّ أصحابه لن يسلّموه ، وأمّا حمزة فوالله لو وجدّته نائماً ما أيقظته ، وأما علي فألتمسه.
    قال وحشي : فكنت يوم اُحد ألتمسه فبينا أنا في طلبه ، إذ طلع عليّ فطلع رجل حذر مرس ، كثير الالتفات فقلت : ما هذا بصاحبي ، فبينا أنا كذلك إذ رأيت حمزة يفري الناس فرياً ، فكمنت إلى صخرة وهو مكبس له كيت ، فاعترض له سباع بن اُمّ اينار ، فقال له حمزة :
    وأنت يا بن مقطّعة البذور ممّن يكثر علينا فاحتمله حتى إذا برقت قدماه رمى به فبرك عليه فشحط شحط الشاة ، ثمّ أقبل عليَّ مكبّاً حين رآني ، فلمّا بلغ المسيل وطأ على جرف فزلّت قدمه فهززت حربتي حتى رضيت منها ثمّ ضربت بها في خاصرته حتى خرجت من مثانته ، وكرّت عليه طائفة من أصحابه فأسمعهم ينادونه : أبا عمارة فلا يجيب ، فقلت : والله مات الرجل ، وذكرت هنداً وعداوتها لبني هاشم فأتيتها فقلت : ماذا لي إذ قتلت قاتل أبيك.
    قالت : سلبي.


(288)
    فأخبرتها الخبر فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه وقالت : إذا جئت مكّة فلك عشرة دنانير ، ثم قالت : أرني مصرعه فدللتها عليه ، فبقرت بطنه ، وأخرجت كبده فمضغتها ثمّ لفظتها ، وقطّعت مذاكيره ، وجدعت أنفه ، وقصّت اُذنيه ، ثمّ جعلت ذلك خلخالين ودملجين حتى قدمت بذلك مكّة وقدمت بكبده معها.
    قال محمد بن إسحاق : ومن الشعر الذي ارتجزت به هند يوم اُحد :
شفيت من حمـزة نفسي باُحد أذهب عنّي ذاك ما كنـت أجد والحرب تعلوكم بشأ بوب برد حين بقرت بطنـه عن الكبـد من لوعة الحزن الشديد المعتمد تقدم اقـداماً عليكـم كالأسـد
    وجاءت صفيّة فجلست عند رسول الله صلى الله عليه وآله فجعلت إذا بكت يبكي رسول الله ، وإذا نشجت ينشج ، وجعلت فاطمة تبكي على عمّها ، فلمّا بكت بكى رسول الله صلى الله عليه وآله.
    جعلت فداك يا رسول الله ، يا نبي الرحمة ، كيف بك لو رأيت عقائلك يوم عاشوراء وقد ذبح نصب أعينهن ثمانية عشر من حماتهن ، وسبعون من أنصارهن ، وليتك ترى كريمتكم زينب إذ وقفت على أخيها الحسين عليه السلام حافية حاسرة ، ووجدته وهو ريحانتك مزمّلاً بالدماء ، موزّع الأعضاء ، عاري اللباس ، مقطوع الرأس ، مذبوحاً من القفا ، مفطور القلب من الظما ، فنادتك بصوت وقلب كئيب :
    يا جدّاه يا رسول الله ، صلّى عليك مليك السما ، هذا حسينك بالعرا ، مزمّلاً بالدما ، مسلوب العمامة والردا ، ثم قالت :
    بأبي من لا غائب فيرتجى ، ولا جريح فيداوى ، بأبي من نفسي له الفدا ،


(289)
بأبي المهموم حتى قضى ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من شيبه يقطر بالدما ، بأبي من جدّه رسول إله السما ، فأبكت والله كلّ عدوّ وصديق.
    وشتّان ما بين صفيّة إذ قتل أخوها حمزة ، وزينب إذ قتل أهلوها ، أمّا صفية فبقي لها رسول الله وأمير المؤمنين ، وأبطال بني عبد المطّلب ، وليوث بني هاشم ، وبقي عزّها ، وسرداق مجدها ، والمهاجرون والأنصار يتفانون دون خباها .. ويا لهف نفسي لزينب ، وبقية العقائل من آل الرسول صلى الله عليه وآله ، إذ أصبحنّ بعد حماتهن غنيمة للقوم الظالمين ، يضربونهن تارة ويسلبونهن اخرى ولقد كانت المرأة منهن تنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه ، ولم يبق لهنّ من يرتجينه لدفع الأعداء ، الاعمر بن سعد لعنه الله ، ولذا صحن في وجهه لما رأينه ، وبكين شاكيات إليه ، فقال لأصحابه : لا يدخل أحد منكم بيوت هذه النسوة ، ولا تتعرّضوا لهذا الغلام المريض ، فسألته النسوة أن يسترجع ما اُخذ منهنّ من الملاحف ليستترن به ، فقال : من أخذ منهن شيئاً فليردّه ، فو الله ما ردّ أحد شيئاً.
عجباً لمـال الله أصبـح مقسّماً عجباً لآل الله صاروا مغـنـماً عجباً لذي الأفلاك لِم لا عطلت في رائـح للظـالمين وغاد لبني الطليق هـديـة وزياد والشهب لم تبرز بثوب حداد


(290)
    سار رسول الله صلى الله عليه وآله إلى خيبر في المحرم الحرام سنة سبع للهجرة في ألف واربعمائة مقاتل ، ومعهم مائتا فرس ، وكانت الوقعة في صفر ، والفتح فيها لأمير المؤمنين عليه السلام بلا ارتياب ، وظهر من فضله في هذه الغزوة ما أجمع على نقله المسلمون ، واختصّ فيها من المناقب بما لم يشاركه فيه أحد من العالمين ، وذلك أنّه قد اتفقت كلمة أهل الأخبار : على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أعطى الراية فيها أبا بكر أولاً فرجع ، ثم أعطاها عمر ثانياً فرجع ولم يكن فتح.
    فقال رسول الله صلى الله عليه وآله ـ كما في غزوة خيبر من صحيح البخاري ـ :
    لأعطينّ هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله.
    قال : فبات الناس يدركون ليلتهم أيّهم يعطاها ، فلمّا أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله كلّهم يرجو أن يعطاها.
    فقال : أين علي بن أبي طالب ؟
    فقالوا : هو يا رسول الله يشتكي عينيه.
    قال : فارسلوا إليه ، فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وآله في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية ... إلى آخر الحديث. (1)
1 ـ المناقب للخوارزمي : 170 فصل « 16 » ح 203 ، كنز العمّال 13 : 123 ح 36393 أخرجه عن

(291)
    وفي تاريخ ابن الأثير : أنّ عليّاً نهض بالراية وعليه حلّة حمراء فأتى خيبر فأشرف عليه رجل من اليهود فقال : من أنت ؟
    قال : أنا علي بن أبي طالب.
    فقال اليهودي : غُلبتم يا معشر اليهود.
    قال : وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني قد ثقبها مثل البيضة وهو يقول :
قد علمت خيبر انّي مرحب شاكي السلاح بطل مجرّب
    فقال علي عليه السلام :
أنا الذي سمّتني اُمّي حيدرة كليث غابات كريه المنظره
أكيلهم بالسيف كيل السندرة
    فاختلفا بضربتين ، فبدره علي عليه السلام فقدّ الجحفة والمغفر ورأسه
الدار قطنيّ والخطيب البغدادي وابن عساكر وفي ص 116 ح 36377 خرّجه مختصراً عن تاريخ أصبهان لابن مندة ، بريقة المحمودية لأبي سعيد الخادميّ 1 : 311.
أقول : وقد ورد حديث الراية في خيبر ودور الامام علي عليه السلام في قتل مرحب زعيم اليهود وفتح قلاع خيبر في كثير من المصادر الحديثيّة والتاريخيّة المعتبرة عند الفريقين السنّة والشيعة بأسانيد مختلفة ومتون متواترة.
وقد خصّ العلامة مير حامد حسين أحد أجزاء كتابه عبقات الأنوار ـ الجزء التاسع ـ للبحث والتحقيق في هذا الحديث واثبت أسانيده ودلالته على خلافة الإمام علي عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وجمع في كتابه ما بلغه من الحديث المستخرج في مجاميع أهل السنّة فيما يمتّ بهذه الواقعة التاريخيّة.
وكذلك جمع العلاّمة المحقّق القاضي التستري في موسوعته إحقاق الحق وملحقاته طرق هذا الحديث فعدّدها فكانت العشرات من الصحابة وأكثر من مائة مصدر حديثيّ وتارخي. فليراجعها من أراد الإيقان.


(292)
حتى وقع في الأرض ، وأخذ المدينة.
    ونقل ابن الأثير (1) ، عن أبي رافع (2) مولى رسول الله صلى الله عليه وآله قال :
    خرجت مع علي عليه السلام حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى خيبر فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم ، فضربه يهودي فوقع ترسه من يده ، فتناول علي باباً كان عند الحصن فتترّس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله على يديه ، ثم ألقاه من يده فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجتهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.
    قال ابن الأثير : فلمّا فتحت خيبر جاء بلال بصفيّة واُخرى معها على قتلى اليهود ، فلمّا رأتهم التي مع صفية صرخت وصكّت وجهها ، وحثّت التراب على رأسها ، فقال النبي صلى الله عليه وآله لبلال : أنزعت منك الرحمة جئت بهما على قتلاهما ؟!
    بأبي أنت واُمّي يا نبي الرحمة ، لم ترض من بلال حين مرّ بيهوديتين على قتلاهما الكفرة والفجرة المحاربين لله ولرسوله ، فكيف بك لو ترى العقائل من خفراتك ، والكريمات من بناتك ، وهنّ على أقتاب الجمال بغير وطاء ولا غطاء ، مكشّفات الوجوه بين الأعداء ، يسوقوهنّ كما تساق الزنوج والديلم ، فمرّوا بهنّ على مصارع قتلاهن ، وفيهم حجّة الله ، ونجوم الأرض من آلك الطاهرين ،
1 ـ الكامل في التاريخ 3 : 160.
2 ـ أبو رافع القبطي مولى رسول الله صلى الله عليه وآله ، واسمه أسلم ، كان للعبّاس بن عبد المطلب ، فوهبه للنبي صلى الله عليه وآله ، فلمّا بشر النبي باسلام العباس أعتقه ، وشهد أبو رافع مشاهد النبي كلّها ، ولزم أمير المؤمنين عليه السلام من بعده وكان صاحب بيت ماله بالكوفة.
انظر الاستيعاب بهامش الاصابة 1 : 86 ، اسد الغابة 1 : 93.


(293)
فوجدتهم على الرمضاء ، وقد اُسري برؤوسهم إلى الكوفة ، فنادت حينئذ عزيزتك بضعة الزهراء عقيلتكم زينب : وامحمّداه ، بناتك سبايا ، وذرّيّتك مقتّلة ، تسفى عليهم ريح الصبا ، وهذا حسينك بالعرا ، محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والردا.
    وفي بعض المجموعات : أرادت أن ترمي بنفسها عليه ، فناداها الإمام زين العابدين عليه السلام بصوت أضعفته العلّة :
    عمّتاه ، ارحمي ضعف بدني ، ارحمي الجامعة في عنقي ، ودّعي أخاك وأنت على ظهر الناقة.
    فجعلت تقول : ودّعتك السميع العليم يا بن اُمّي ، والله لو خيّرت المقام عندك والرحيل لاخترت المقام عندك ، ولو انّ السباع أكلت لحمي.
    واعتنقت سكينة جسد أبيها فاجتمعت عليها عدّة من الأعراب حتى جرّوهاعنه ، فوا حرّ قلباه ، كيف عانقته ونحره منحور ، وصدره مكسور ، ورأسه على القنا مشهور ، ويا لهف نفسي كيف رأته عاري الثياب ، معفّراً بالتراب ، أم كيف فارقته مطروحاً بالعراء ، لوحوش الأرض وطير السماء ، لا مغسّلاً ولا مكفّناً ولا مدفوناً.
    بلى يا رسول الله ، كان دمه غسله ، والتراب كافوره ، والقنا الخطي نعشه ، وفي قلب من والاه قبره.
لهفـي له وحـريـمـه يـنـدبنـه بـمـدامـع أحسيـن بعـدك لا هنا والجسم منـك مجـدّل ها نحن بعدك يا غريـ من حول مصرعه نوادب من حر أجفان سـواكـب عيش ولا لـذّت مشـارب في الترب منعـفر الترائب ـب الدار أمسينـا غرائب


(294)
    لمّا جهّز رسول الله صلى الله عليه وآله جيش مؤتة جعل الأمير يومئذ ابن عمّه جعفر بن أبي طالب ، وقال صلى الله عليه وآله : إن اُصيب جعفر فزيد بن حارثة ، فإن اُصيب زيد ، فعبد الله بن رواحة.
    وقيل : أنّه قدّم زيداً ، فقال جعفر : ما كنت أرهب أن تستعمل عليَّ زيداً. فقال صلى الله عليه وآله : امض فانّك لا تدري أي ذلك خير.
    قال ابن الأثير : ثمّ ساروا فالتقتهم جموع الروم والعرب بقرية من البلقاء يقال لها ( مشارف ) ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها ( مؤتة ) فاقتتلوا قتالاً شديداً ، فقاتل زيد براية رسول الله صلى الله عليه وآله حتى شاط في رماح القوم ، ثم أخذها جعفر فقاتل وهو يقول :
يا حبذا الجنّـة واقتـرابها والروم روم قد دنى عذابها طيّبة وبارد شرابها كافرة بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
    فلمّا اشتدّ القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ، ثم قاتل القوم حتى قتل ـ وكان أول من عقر فرسه في الاسلام ـ فوجد به بضع وثمانون جرحاً ، ما بين ضربة ورمية وطعنة.
    بأبي أنت واُمّي يا أبا عبد الله.
    بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله.
    لئن وجدوا في جسد عمّك بضعاً وثمانين جرحاً ، فلقد اصبت يوم الطف


(295)
بألف وتسعمائة ، ما بين ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورضخة بحجر.
    رماك الدارمي يا ريحانة المصطفى بسهم فأثبته في حنكك الشريف.
    وضربك ابن النسر الكندي على رأسك بالسيف يا حشاشة الزهراء حتى امتلأ برنسك دماً ، فاستدعيت بخرقة شددت بها رأسك تحت العمامة.
    ووقفت يا سيّدي لتستريح ساعة ، وقد ضعفت عن القتال ، فأتاك الحجر في جبهتك المباركة ، فأخذت الثوب لتمسح الدم عن وجهك فأتاك سهم مسدّد مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبك الطاهر ، فأخرجته من ظهرك ، فانبعث الدم كأنّه ميزاب.
سهم رمى أحشاك يا بن المصطفى يا أرض ميدي ، يا سماء تفطّري سهم به كبـد الهـداية قد رمي يا شمس غيبي ، يا جبال تقسي
    قال ابن الأثير : فلمّا قتل جعفر أخذ الراية عبد الله بن رواحة ، فتردّد بعض التردّد ، ثم قال يخاطب نفسه :
أقسمت يا نفـس لتنـزلنـّه إن أجلب الناس وشدّوا الرنّة قد طال ما قد كنت مطمئنّة طائعـة أو لا لتـكـرهنّه ما لي أراك تكرهين الجنّة هل كنت الانطفة في شنّة
    وقال أيضاً :
يا نفس إن لم تقتلي تموتي وما تمنّيت فقـد اعطـيت هذا حمام الموت قد صليتي إن تفعلي فعلهمـا هـديتِ
    وتقدّم فقاتل حتى قتل.
    ثمّ ان الخبر جاء من السماء في ساعته إلى النبي صلى الله عليه وآله فصعد المنبر وأمر فنودي الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فقال :


(296)
    ثار خبر ـ ثلاثاً ـ عن جيشكم هذا الغازي ، إنّهم لقوا العدو ، ثمّ نعى لهم زيداً وجعفراً وعبد الله ، وقال صلى الله عليه وآله ـ بعدها بليلة ـ مرّ بي جعفر البارحة في نفر من الملائكة ، له جناحان مخضّب القوادم بالدم. (1)
    وفي ترجمة جعفر من كتاب الاستيعاب (2) : بعث رسول الله صلى الله عليه وآله بعثه إلى مؤتة في جمادي الأولى سنة ثمان من الهجرة ، فقاتل فيها جعفر حتى قطعت يداه جميعاً ، ثمّ قتل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : انّ الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنّة حيث يشاء.
    وقد لحقه في هذه الفضيلة شبل أخيه قمر بني هاشم فانّه قطعت يداه في سبيل الله تعالى وضرب على هامته بعمود من حديد.
    ولئن أصيب ذو الجناحين ببضع وثمانين جراحة ، فلقد روي في حديث بني أسد : أنّه لمّا دفنوا العبّاس عليه السلام كانوا كلّما رفعوا منه جانباً سقط الآخر لكثرة ضرب السيوف ، وطعن الرماح ، وامتاز العبّاس بعظيم المواساة ، فانّه لمّا اقتحم المشرعة قال : لا أشرب وأبو عبد الله عطشان.
    وهل سمعت بأحد من الأوّلين والآخرين فدى قربة من الماء رجاء أن يشربها أخوه وعياله وأطفاله بنفسه ؟ ووقاها حرصاً على إيصالها إليهم بمهجته ؟
    وليتك يا ساقي عطاشى كربلاء أرويت كبدك الحرّى بجرعة منها قبل مقتلك ؟ وليتهم إذ قتلوك أبقوا دماءها لغسلك ، وبالعزيز على سكينة عزيزة أخيك أن تراك ذبيحاً دون يسير من الماء توصله إليها ، ويعزّ على عقيلتكم زينب أن
1 ـ الإصابة 1 : 237 ، البداية والنهاية 4 : 255 ، تهذيب التهذيب 2 : 98 ، أسد الغابة 1 : 286 ، الطبقات الكبرى 4 : 22 ، حلية الأولياء 1 : 114.
2 ـ الاستيعاب 1 : 312.


(297)
تراك مقطّعاً نصب عينيها ، وليتك ترى أخاك الوحيد واقفاً عليك وهو ينادي : الآن انكسر ظهري ، الآن تبدّد عسكري وقلّت حيلتي ، ثمّ بكى بكاء شديداً.
أحقّ الناس أن يبكى عليه خوه وابـن والـده عليّ ومن واساه لا يثنيه شيء فتى أبكى الحسيـن بكربلاء أبو الفضل المضرّج بالدماء وجاد لـه عطـش بـمـاء
    ونقل ابن الأثير عن أسماء زوجة جعفر ذي الجناحين رضي الله عنها قالت :
    أتاني النبي صلى الله عليه وآله وقد غسلت أولاد جعفر ودهنتهم ، فأخذهم وشمّهم ودمعت عيناه ، فقلت : يا رسول الله أبلغك عن جعفر شيء ؟
    قال : نعم ، اُصيب هذا اليوم ، ثمّ أمر أهله أن يصنعوا لآل جعفر طعاماً فهو أول طعام عمل في الإسلام.
    بأبي أنت واُمّي يا نبي الرحمة ، دمعت عيناك إذ رأيت يتامى ابن عمّك جعفر ، مع أنّهم كانوا في هيئة حسنة ، وزي بهيج ، وأمرت لهم بطعام ، مع انّهم لم يكونوا جياعاً ، رأفة منك ورحمة.
    فكيف بك لو رأيت يتاماكم يوم عاشوراء جياعاً عطاشى ، حفاة عراة ، مدهوشين والهين ، مربقين بالحبال ، يخافون أن يتخطّفهم الناس من حولهم ، هذا يضربهم ، وهذا يسلبهم ، وذاك يضرم النار في خيامهم ، وآخر ينتزع الملاحف عن ظهورهم ، وظهور اُمّهاتهم وعمّاتهم.
    وليتك يا نبي الرحمة تراهم ليلة الحادي عشر من المحرم وقد أحاطت بهم الأعداء ، وهم يرون ثمانية عشر من حماتهم ، واثنين وسبعين من شيعتهم جثثاً


(298)
على الرمضاء ، ورؤوسهم على أطراف الرماح.
يا رسـول الله لو عاينتـهم من رميض يمنع الظل ومن ومسوق عاثـر يسعـى به لرأت عيناك منهم منظـراً وهـم ما بيـن قتـل وسبـا عاطش يسقى أنابيـب القـنا خلف محمول على غير وطا للحشـا شجـواً وللعين قذى


(299)
    ذكر الزبير بن بكّار ، عن محمد بن الحسن المخزومي ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ، عن أبيه ، عن أبي وجرة قال :
    لمّا حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية حرب القادسية ، ومعها بنوها أربعة رجال ، فقالت لهم من الليل :
    يا بني إنّكم اسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، ووالله الذي لا إله إلا هو انّكم لبنو رجل واحد ، كما انّكم بنوا امرأة واحدة ، ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، ولا هجنت حسبكم ، ولا غيّرت نسبكم ، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل ، في حرب الكافرين ، واعلموا أنّ الدار الباقية ، خير من الدار الفانية ، يقول الله تعالى : « يا أيّها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا الله لعلّكم تفلحون » (1) ، فإذا أصبحتم غداً سالمين ان شاء الله تعالى ، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين ، وبالله على أعدائه مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها ، وأضرمت لظى عن سياقها ، وجلّلت على أرواقها ، فتيمموا وطيسها ، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها ، تظفروا بالغنم والكرامة ، في دار الخلد والمقامة.
    فخرج بنوها قابلين لنصحها ، عازمين على قولها ، فلمّا أضاء لهم الصبح ، باكروا مراكزهم وأنشأ أوّلهم يقول :
1 ـ سورة آل عمران : 200.

(300)
يا اُخوتي انّ العجوز الناصحة مقالة ذات بيـان واضـحـة وانّما تلقون عند الصـائحـة قد أيقفوا منكم بوقع الجائحة قد نصحتنا إذ دعتـنـا البـارحة فباكروا الحرب الضروس الكالحة من آل سـاسـان الكلاب النائحة وأنتـم بيـن حيـاة صـالـحـة
أو ميتة تورث غنماً رايحة
    وتقدّم فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ، ثمّ برز الثاني وهو يقول :
إنّ العجـوز ذات حـزم وجلد قد أمرتـنا بالسـداد والرشـد فباكروا الحرب حماة في العدد أو ميتة تـورثكـم عـزّ الأبد والنظـر الأوفق والـرأي السدد نصيحـة منـهـا وبرّاً بـالولد إما لفـوز بـارد عـلـى الكبد في جنّة الفردوس والعيش الرغد
    فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ، ثم حمل الثالث وهو يقول :
والله لا نعصي العجوز حرفاً نصحاً وبـرّاً صـادقاً ولطفا حتى تلاقوا آل كسـرى لفـّا إنّا نرى التقصير منكم ضعفا قـد أمـرتنـا حـزنـاً وعطفاً فبادروا الحرب الضروس زحفاً أو يكشفـوكـم عن حماكم كشفا والقتـل فيكـم نجـدة وزلفـى
    فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ، ثم برز الرابع وهو يقول :
لسـت للخـنـسـاء ولا للأخـرم ان لم أرد في الجيش جيش الأعجم إمّا لفـوز عـاجـل أو مغـنـم ولا لعمـرو ذي الثـنـاء الأقدم ماضٍ على الحول خضم خضرم أو لوفـاد في السبيـل الأكـرم
    ثمّ قاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ، فبلغها الخبر فقالت : الحمد لله الذي
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: فهرس