المناهج التفسيرية في علوم القرآن ::: 136 ـ 150
(136)

(137)
    المنهج الثاني     وصوره :
1. تفسير القرآن بالقرآن
2. التفسير البياني للقرآن
3. تفسير القرآن باللغة والقواعد العربية
4. تفسير القرآن بالمأثور عن النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والأئمّة ( عليهم السَّلام )







    وإليك بيان هذه الأقسام :


(138)

(139)
    المنهج الثاني / 1     إنّ هذا المنهج من أسمى المناهج الصحيحة الكافلة لتبيين المقصود من الآية كيف وقد قال سبحانه :
    ( وَنَزّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبياناً لِكُلِّ شَيء ). (1)
    فإذا كان القرآن موضحاً لكل شيء ، فهو موضح لنفسه أيضاً ، كيف والقرآن كلّه « هدى » و « بيّنة » و « فرقان » و « نور » كما في قوله سبحانه :
    ( شَهرُ رَمضانَ الّذي أُنْزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنّاسِ وَبيِّنات مِنَ الهُدى والفُرقان ). (2)
    وقال سبحانه :
    ( وأنزَلنا إلَيكُمْ نُوراً مُبيناً ). (3)
    وعن النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إنّ القرآن يصدّق بعضه بعضاً ».
    وقال علي ( عليه السَّلام ) في كلام له يصف فيه القرآن : « كتاب اللّه تبصرون به ، وتنطقون به ، وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف في اللّه ولا يخالف بمصاحبه عن اللّه » (4).
    وهذا نظير تفسير المطر الوارد في قوله سبحانه : ( وأمطَرنا عَلَيهِمْ مَطَراً فَساءَ
1 ـ النحل : 89.
2 ـ البقرة : 185.
3 ـ النساء : 174.
4 ـ نهج البلاغة : الخطبة 129.


(140)
مَطَرُ المُنذَرين ) (1) بالحجارة الواردة في آية أُخرى في هذا الشأن قال : ( وأمطَرنا عَلَيهِم حِجارَةً مِن سِجِّيل ). (2)
    وفي الروايات المأثورة عن أهل البيت نماذج كثيرة من هذا المنهج يقف عليها المتتبع في الآثار الواردة عنهم عند الاستدلال بالآيات على كثير من الأحكام الشرعية الفرعية وغيرها.
    وقد قام أحد الفضلاء باستقصاء جميع هذا النوع من الأحاديث المتضمّنة لهذا النمط من التفسير.
    ولنذكر بعض النماذج من هذا المنهج.
    1. سأل زرارة ومحمد بن مسلم أبا جعفر ( عليه السَّلام ) عن وجوب القصر في الصلاة في السفر مع أنّه سبحانه يقول : ( وَلَيْسَ عَلَيكُم جُناح ) (3) ولم يقل افعلوا ؟
    فأجاب الإمام ( عليه السَّلام ) بقوله : « أو ليس قد قال اللّه عزّ وجلّ في الصفا والمروة : ( فَمَن حَجَّ البَيتَ أوِ اعتَمرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أن يَطَّوَّفَ بِهِما ) (4) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض » (5).
    2 ـ روى المفيد في إرشاده : أنّ عمر أُتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهمَّ برجمها فقال له أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « إن خاصمتك بكتاب اللّه خصمتك ، إنّ اللّه تعالى يقول : ( وَحَملُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهراً ) (6). ويقول : ( وَالوالِداتُ يُرضِعنَ أولادَهُنَّ حَولَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَن أراد أن يُتِمَّ الرّضاعَة ). (7)
1 ـ الشعراء : 173.
2 ـ الحجر : 74.
3 ـ الأحزاب : 5.
4 ـ البقرة : 158.
5 ـ الوسائل : 5 ، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر ، الحديث 2.
6 ـ الأحقاف : 15.
7 ـ البقرة : 233.


(141)
    فإذا تم ، أتمّت المرأة الرضاع لسنتين ، وكان حمله وفصاله ثلاثين شهراً كان الحمل منها ستة أشهر » ، فخلّى عمر سبيل المرأة. (1)
    3. يقول سبحانه : ( حم * والكِتاب المُبين * إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَة مُبارَكة ). (2)
    فالآية تدل على أنّ القرآن نزل في ليلة مباركة ، وامّا أيّة ليلة تلك ، وفي أي شهر فيستفاد من ضم آيتين أُخريين ، يقول سبحانه : ( إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَة القَدْر ) (3) وقوله سبحانه : ( شَهْرُ رَمَضان الَّذي أُنْزلَ فيهِ القُرآن ) (4) فمن ضم هذه الآيات الثلاثة يستفاد انّ القرآن في ليلة مباركة هي ليلة القدر من شهر رمضان.
    4. يقول سبحانه : ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّهِ وَلِلرَّسُول إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْييكُمْ وَاعْلَمُوا انَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ). (5)
    غير انّ حيلولته سبحانه بين المرء وقلبه يعلوه إبهام يفسره ، قوله سبحانه : ( وَلا تَكُونُوا كَالّذينَ نَسُوا اللّه فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُون ). (6)
    فإنساء الذات الذي هو فعله تعالى عبارة عن حيلولته بين المرء وقلبه ، ومن نسي ذاته فقد أهلك نفسه.
    5. يقول سبحانه : ( أَوَ لَمْ يَرَوا انّا نَأْتِي الأَرْض نَنْقُصها مِنْ أَطْرافِها وَاللّه يَحْكُمُ لا مُعقِّب لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَريعُ الحِساب ) (7) ولا شكّ انّ الأرض لا تنقص بل ربما تزيد كالسماء في قوله سبحانه : ( وَالسَّماء بَنَيْناها بِأَيْد وَانّا لَمُوسِعُون ) (8) ،
1 ـ نور الثقلين : 5 / 14 ؛ الدر المنثور للسيوطي : 7 / 441 ، طبع دار الفكر بيروت.
2 ـ الدخان : 1 ـ 3.
3 ـ القدر : 1.
4 ـ البقرة : 185.
5 ـ الأنفال : 24.
6 ـ الحشر : 19.
7 ـ الرعد : 41.
8 ـ الذاريات : 47.


(142)
ولكن يرتفع الإبهام بآية أُخرى حيث أطلق وأُريد منها البلد العامر ، يقول : ( إِنّمّا جَزاءُ الّذينَ يُحارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ وَيَسْعَونَ في الأَرْض فَساداً أَنْ يُقتَّلُوا أَو يُصلّبوا أَو تقطّع أَيديهِمْ وَأَرْجُلهُمْ مِنْ خِلاف أَو ينفوا من الأَرض ذلكَ لَهُمْ خِزي فِي الدُّنيا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذابٌ عَظيم ) (1) فانّ المراد من الأرض هو البلد العامر الذي يقطن فيها المحارب فينفى منها ليعيش بين البراري والقفار.
    وأمّا النقص فتفسره السنّة ، كما في ما ورد عن الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) حيث قال : « فقد العلماء ، وموت علمائها ». (2)
    6. يقول سبحانه : ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَة فَاقْطَعُوا أَيديَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزيزٌ حَكيم ). (3)
    فقد أطلق اليد وأبهم المراد منه حيث إنّها تطلق على خصوص الأصابع ، على خصوص الكف وعليه إلى المرافق ، وإلى الكتف ، فيرفع الإبهام بقوله سبحانه : ( وَانّ المساجِدَ للّه فَلا تَدْعُوا مَع اللّه أَحداً ) (4) حيث إنّ المستفاد منه على أنّ مواضع السجود للّه ، وراحة الكف من مواضع السجود ، وما كان للّه لا يقطع.
    7. يقول سبحانه : ( إِنّا عَرَضْنا الأَمانَة عَلى السَّموات وَالأَرْض وَالجِبال فَأَبين أَنْ يَحْمِلْنها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَها الإِنْسان إِنّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (5) ، فالآية تدلّ على كرامة الإنسان ، بحيث أُهل لحمل الأمانة.
    وأمّا ما هو المراد من تلك الأمانة فيفسرها قوله سبحانه : ( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
1 ـ المائدة : 33.
2 ـ البرهان : 2 / 302 ، رقم الحديث : 54.
3 ـ المائدة : 38.
4 ـ الجن : 18.
5 ـ الأحزاب : 71.


(143)
لِلْمَلائِكة انّي جاعِلٌ في الأَرْض خَليفَة ) (1) ، فخلافة الإنسان عن اللّه سبحانه هي الأمانة التي وصفها اللّه سبحانه على عاتق الإنسان ، فبما انّه خليفة للّه سبحانه يجب أن يكون بصفاته وأفعاله مظهراً لصفات اللّه وأسمائه وأفعاله.
    إلى غير ذلك من الآيات التي يفسر بعضها بعضاً من دون رأي مسبق.
    أقول : هذا النمط من التفسير كما يتحقّق بالتفسير الموضوعي ، أي تفسير القرآن حسب الموضوعات ؛ يتحقّق بالتفسير التجزيئي ، أي حسب السور ، سورة بعد سورة ؛ وهذا هو تفسير « الميزان » كتب على نمط تفسير القرآن بالقرآن ، لكن على حسب السور ، دون الموضوعات ، فبيّن إبهام الآية بآية أُختها.
    ولكن الصورة الكاملة لهذا النمط من التفسير يستدعي الإحاطة بالقرآن الكريم ، وجمع الآيات الواردة في موضوع واحد ، حتى تتجلّـى الحقيقة من ضمِّ بعضها إلى بعض ، واستنطاق بعضها ببعض ، فيجب على القائم بهذا النمط ، تفسير القرآن على حسب الموضوعات ، وهو نمط جليل يحتاج إلى عناء كثير ، وقد قام العلامة
1 ـ البقرة : 30.

(144)
المجلسي برفع بعض مشاكل هذا النمط فجمع الآيات الواردة في كل موضوع حسب الأبواب.
    ولو انتشر هذا القسم من البحار في جزء مستقل ربّما يكون مفتاحاً للتفسير الموضوعي فهو ( قدَّس سرَّه ) قد استخرج الآيات حسب الموضوعات ، وشرحها بوجه إجمالي.
    ولكن النمط الأوسط منه هو قراءة القرآن من أوّله إلى آخره ، والدقة في مقاصد الآيات ، ثم تصنيف الآيات حسب ما ورد فيها من الأبحاث والموضوعات ، ففي هذا النوع من التفسير تستخرج الموضوعات من الآيات ثم تصنّف الآيات حسب الموضوعات المستخرجة ، وهذا بخلاف ما قام به العلامة المجلسي ، فهو صنّف الآيات حسب الموضوعات على ضوء ما جادت بها فكرته ، أو جاءت في كتب الأحاديث والأخبار.
    وهذا النمط من التفسير لا يعني قول القائل : « حسبنا كتاب اللّه » المجمع على بطلانه عند عامة المسلمين ، لاهتمامهم بالسنّة مثل اهتمامهم بالقرآن ، وإنّما يعني أنّ مشاكل القرآن ومبهماته ترتفع من ذلك الجانب.
    وأمّا أنّه كاف لرفع جميع المبهمات حتى مجملات الآية ومطلقاتها فلا ، إذ لا شك أنّ المجملات كالصلاة والزكاة تبيّن بالسنّة والعمومات تخصّص بها ، والمطلقات تقيّد بالأخبار ، إلى غير ذلك من موارد الحاجة إلى السنّة.
    هذا بعض الكلام في هذا المنهج ، وقد وقع مورد العناية في هذا العصر ، فقد أخذنا هذا النمط في تفسيرنا للذكر الحكيم ، فخرج منه باللغة العربية أجزاء عشرة باسم « مفاهيم القرآن » ، وباللغة الفارسية أربعة عشر جزءاً وانتشر باسم « منشور جاويد » ، ولا ننكر أنّ هذا العبء الثقيل يحتاج إلى لجنة تحضيرية أوّلاً ، وتحريرية ثانياً ، وإشراف من الأساتذة ثالثاً ، رزقنا اللّه تحقيق هذه الأُمنية.
    وإنّ تفسير ابن كثير يستمد من هذا النمط أي تفسير الآيات بالآيات بين الحين والآخر ، كما أنّ الشيخ محمد عبده في تفسيره الذي حرر بقلم تلميذه اتّبع هذا المنهج في بعض الأحايين.
    والأكمل من التفسيرين في اتّباع هذا المنهج هو تفسير السيد العلامة الطباطبائي فقد بنى تفسيره « الميزان » على تفسير الآية بالآية.
    غير أنّ هذه التفاسير الثلاثة كما عرفت كتبت على نحو التفسير التجزيئي ، أي تفسير القرآن سورة بعد سورة لا على تفسيره حسب الموضوعات.
    وعلى كل تقدير فتفسير القرآن بالقرآن يتحقّق على النمط الموضوعي كما يتحقّق على النمط التجزيئي غير أنّ الأكمل هو اقتفاء النمط الأوّل.


(145)
    المنهج الثاني / 2     هذا المنهج الذي ابتكره حسب ما تدّعيه الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ أُستاذها الأمين الخولي المصري ، عبارة عن استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده للوصول إلى دلالته وعرض الظاهرة الاسلوبية على كل نظائرها في الكتاب المحكم ، وتدبّر سياقها الخاص في الآية والسورة ثم سياقها العام في المصحف كلّه التماساً لسرّه البياني.
    وحاصل هذا المنهج يدور على ضوابط ، وهي :
    ألف : التناول الموضوعي لما يراد فهمه من القرآن ، ويُبدأ بجمع كل ما في الكتاب المحكم من سور وآيات في الموضوع المدروس.
    ب : ترتّب الآيات فيه حسب نزولها ، لمعرفة ظروف الزمان والمكان كما يستأنس بالمرويات في أسباب النزول من حيث هي قرائن لابست نزول الآية دون أن يفوت المفسّـر أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية.
    ج : في فهم دلالات الألفاظ يُقدّر أنّ العربية هي لغة القرآن ، فتلتمس الدلالة اللغوية الأصلية التي تعطينا حس العربية للمادة في مختلف استعمالاتها الحسية والمجازية.


(146)
    ثم يخلص لِلَمحِ الدلالة القرآنية بجمع كل ما في القرآن من صيغ اللفظ وتدبّر سياقها الخاص في الآية والسورة وسياقها العام في القرآن كله.
    د : وفي فهم أسرار التعبير يحتكم إلى سياق النص في الكتاب المحكم ملتزمين ما يحتمله نصاً وروحاً ، ويعرض عليه أقوال المفسّرين فيقبل منها ما يقبله النص.
    هذا خلاصة هذا المنهج الذي ابتكره الأُستاذ الخولي المصري واقتفت أثره تلميذته بنت الشاطئ ، فخرج من هذا المنهج كتاب باسم « التفسير البياني للقرآن الكريم » في جزأين تناول تفسير السور التالية في الجزء الأوّل : « الضحى ، والشرح ، الزلزلة ، النازعات ، العاديات ، البلد ، التكاثر » كما تناول في الجزء الثاني تفسير السور التالية : « العلق ، القلم ، العصر ، الليل ، الفجر ، الهمز ، الماعون ».
    ولا شك أنّه نمط بديع بين التفاسير ، إذ لا يماثل شيئاً مما أُلّف في القرون الماضية من زمن الطبري إلى العصر الأخير الذي عرف فيه تفسير الإمام عبده وتفسير المراغي ، فهذا النمط لا يشابه التفاسير السابقة ، غير أنّه لون من التفسير الموضوعي أوّلاً ، وتفسير القرآن بالقرآن ثانياً ، والنقطة البارزة في هذا النمط هو استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده في الكتاب.
    وبعبارة أُخرى : يهتم المفسّر في فهم لغة القرآن بالتتبع في جميع صيغ هذا اللفظ الواردة في القرآن الكريم ثم يخرج من ضمّ بعض إلى بعض بحقيقة المعنى اللغوي الأصيل ، وهو لا يترك هذا العمل حتى في أوضح الألفاظ. مثلاً تتبع في تفسير قوله سبحانه : ( ألَم نَشرَح لَكَ صَدرَك ) كل آية ورد فيها مادة « الشرح » بصورها ، أو كل آية ورد فيها مادة « الصدر » بصيغه المختلفة ، وهكذا في كل كلمة حتى وإن كان معناها واضحاً عندنا لكنّه لايعتني بهذا الوضوح ، بل يرجع إلى


(147)
نفس القرآن ثم يطبّق عليه سائر الضوابط من تدبّر سياق الآية وسياق السورة ، وسياق الآية العام في القرآن كله.
    والذي يؤخذ على هذا النوع من التفسير أنّه أمر بديع قابل للاعتماد ، غير أنّه لا يكفي في تفسير الآيات الفقهية بلا مراجعة السنّة ، لأنّها عمومات فيها مخصصها ، أو مطلقات فيها مقيدها ، أو مجملات فيها مبينها.
    نعم هذا النمط من التفسير يُغني عن كثير من الأبحاث اللغوية التي طرحها المفسرون ، لأنّ المفسّـر في هذا النمط يريد أن يستخرج معنى اللفظ منالتدبّر في النص القرآني ، نعم معاجم العربية وكتب التفسير تعينه في بداية الأمر.
    وربما يوجد في روايات أهل البيت في مواضع ، هذا النوع من النمط ، وهو الدقة في خصوصيات الآية وجملها ومفرداتها.
    1. روى الصدوق بإسناده عن زرارة قال :
    قلت لأبي جعفر ( عليه السَّلام ) : ألا تخبرني من أين علمت وقلت : إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك فقال : « يا زرارة قاله رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ونزل به الكتاب من اللّه عزّ وجلّ ، لأنّ اللّه عزّ وجلّ قال : ( فاغْسِلُوا وُجُوهَكُم ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أنّ يغسل ، ثم قال : ( وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِق ) فعرفنا أنّه ينبغي لهماأن يغسلا إلى المرفقين ، ثم فصل بين الكلامين فقال : ( وامسَحُوا بِرؤُوسِكُم ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان « الباء » ثم وصل الرجلين بالرأس ، فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ، ثم فسر ذلك رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) للناس فضيّعوه » (1).
1 ـ الوسائل : 1 ، الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحديث 1. والآية 6 من سورة المائدة.

(148)
    2. روى الكليني بسند صحيح عن حمّاد بن عيسى ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) أنّه سئل عن التيمّم ، فتلا هذه الآية : ( والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقطَعُوا أيْدِيَهُما ) وقال : ( فاغسِلُوا وجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِق ) قال : فامسح على كفّيك من حيث موضع القطع (1).
    فقد استظهر الإمام في التيمّم كفاية المسح على الكفين بحجّة أنّه أطلق الأيدي في آية السرقة والتيمّم ولم تقيّد بالمرافق وقال : ( فَلَم تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيّباً فَامسَحُوا بِوجُوهِكُم وأيْدِيكُم مِنه ) (2) فعلم أنّ القطع والتيمّم ليس من المرفقين.
    وأمّا التعبير عن الزند بموضع القطع ـ مع انّه ليس موضع القطع عند السرقة كما مرّ ـ فانّما هو لأجل إفهام مبدأ المسح بالتعبير الراسخ ذلك اليوم ، أي موضع القطع عند القوم.
    3. سأل أبو بصير أحد الصادقين عليمها السَّلام هل كانت صلاة النبي إلى بيت المقدس بأمر اللّه سبحانه أو لا ؟ قال : « نعم ، ألا ترى أنّ اللّه تعالى يقول : ( وَما جَعَلنا القِبْلَةَ التي كُنْتَ عَلَيها إلاّ لِنَعلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُول ) » (3).
1 ـ الوسائل : 2 ، الباب 13 من أبواب التيمم ، الحديث 2. والآية 38 و 6 من سورة المائدة.
2 ـ المائدة : 6.
3 ـ الوسائل : 3 ، الباب 2 من أبواب القبلة ، الحديث 2. والآية 143 من سورة البقرة.


(149)
    المنهج الثاني / 3     ففي هذا المنهج يهتم المفسّـر اهتماماً شديداً بالقراءة حتى يقف على الصحيح منها ، لأنّه ينبعث عن تحريف القراءة ، تحريف اللفظ القرآني المنزل ، ومن ثمّ تحريف المعنى.
    فالحرص على سلامة المنطق حرص على سلامة معنى النص القرآني ، وصيانته من الشبهة أو التحريف.
    والاهتمام بالقراءة يستدعي ـ منطقياً ـ الاهتمام بالصنعة النحوية ، في النص القرآني إذ أنّ هذا الاهتمام بضبط أواخر الكلمات ، إنّما يقصد أساساً إلى المعنى ، فعلى المعنى يدور ضبط الكلمة وإعرابها ، فالفاعل يرفع والمفعول به ينصب وما لحقه من الجر بسبب من أسبابه يجر.
    فالتفات النحويين إلى إعراب القرآن كان التفاتاً طبيعياً ، لأنّ الغاية من وضع النحو هو خدمة معنى القرآن وتحليته.
    ففي ضوء ضبط القراءة ثم ضبط الإعراب القرآني ، يتضح مفاد الآية في هذا الإطار الخاص ، مضافاً إلى تحقيق مفردات الآية لغوياً ، وتوضيح معانيها الأصيلة.
    وعلى هذا النمط تجد التفاسير الآتية :


(150)
    1. « معاني القرآن » : تأليف ابن زكريا يحيى بن زياد الفرّاء ( المتوفّى 207 هـ ) ففسر مشكل إعراب القرآن ومعانيه على هذا المنهج ، وقد طبع الكتاب في جزأين ، حقّقهما محمد علي النجار وأحمد يوسف نجاتي.
    ويبدو من ديباجة الكتاب أنّ الفرّاء شرع في تأليفه سنة ( 204 هـ ).
    والكتاب قيّم في نوعه ، وإن كان غير واف بعامة مقاصد القرآن الكريم.
    2. « مجاز القرآن » لأبي عبيدة معمر بن المثنى ( المتوفّى 213 هـ ) وقيل غير ذلك.
    يقول في مقدّمة الكتاب : قالوا : إنّما أُنزل القرآن بلسان عربي ومصداق ذلك في آية من القرآن ، وفي آية أُخرى : ( وَما أرسَلنا مِن رَسُول إلاّ بِلسانِ قَومِه ) (1) فَلم يحتج السلف ولا الّذين أدركوا وحيه إلى النبي أن يسألوا عن معانيه ، لأنّهم كانوا عرب الألسن ، فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه ، وعمّا فيه ممّا في كلام العرب من وجوه الإعراب ، ومن الغريب والمعاني.
    وهذا يعرب عن أنّه كان معتقداً بأنّ الإحاطة باللغة العربية ، كافية في إخراج معاني القرآن وهو كما ترى.
    نعم القرآن نمط من التعبير العربي لكن ليس كل تعبير عربي غنياً عن البيان ، خصوصاً في مجال التشريع والتقنين الذي نرى تفصيله في السنّة.
    ولايقصد أبو عبيدة من المجاز ما يقابل الحقيقة ، بل يريد ما يتوقف فهم الآية على تقدير محذوف ، وما شابه ذلك ، وهو على غرار « مجازات القرآن » للشريف الرضي ـ رضوان اللّه عليه ـ ولكن الشريف خصّص كتابه بالمجاز بشكله المصطلح.
1 ـ إبراهيم : 4.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن ::: فهرس