المناهج التفسيرية في علوم القرآن ::: 151 ـ 165
(151)
    مثلاً يقول أبو عبيدة : ومن المحتمل من مجاز ما اختصر وفيه مضمر ، قال : ( وانطَلَقَ المَلأُ مِنهُم أنِ امشُوا وَاصبِرُوا ) (1) فهذا مختصر فيه ضمير مجازه : « وانطلق الملاء منهم » ثم اختصر إلى فعلهم وأضمر فيه وتواصوا أن امشوا أو تنادوا أن امشوا أو نحو ذلك.
    وفي آية أُخرى : ( ماذا أرادَ اللّهُ بِهذا مَثلاً ) (2) فهذا من قول الكفّار ، ثم اختصر إلى قول اللّه ، وأُضمر فيه قل يا محمّد ، ( يُضِلُّ بِهِ كَثيراً ) (3) فهذا من كلام اللّه.
    ومن مجاز ما حُذف وفيه مضمر ، قال : ( واسْئَلِ القَرْيَةَ التي كُنَّا فِيها والعِيرَ التي أَقبَلْنا فِيها ) ، (4) فهذا محذوف فيه ضمير مجازه : واسأل أهل القرية ، ومَن في العير.
    وقد طبع الكتاب وانتشر.
    3. « معاني القرآن » لأبي إسحاق الزجاج ( المتوفّـى 311 هـ ) يحدّد ابن النديم تاريخ تأليف هذا الكتاب في نص قرأه على ظهر كتاب المعاني : ابتدأ أبو إسحاق إملاء كتابه الموسوم بمعاني القرآن في صفر سنة 285 هـ وأتمّه في شهر ربيع الأوّل سنة 301 هـ.
    والكتاب بعد مخطوط ومنه نسخ متفرقة في المكتبات.
    4. « تلخيص البيان في مجازات القرآن » : تأليف الشريف الرضي أبي الحسن ، محمد بن الحسين ( 359 ـ 406 هـ ).
    يقول في أوّله : إنّ بعض الإخوان جاراني وذكر ما يشتمل عليه القرآن من عجائب الاستعارات وغرائب المجازات ، التي هي أحسن من الحقائق مَعْرضاً ،
1 ـ ص : 6.
2 ـ البقرة : 26.
3 ـ البقرة : 26.
4 ـ يوسف : 82.


(152)
وأنفع للعلة معنى ولفظاً ، وإنّ اللفظة التي وقعت مستعارة لو أوقعت في موقعها ، لفظة الحقيقة لكان موضعها نابياً بها ، ونصابها قلقاً بمركّبها ، إذا كان الحكيم سبحانه لم يورد ألفاظ المجازات لضيق العبارة عليه ، ولكن لأنّها أجلى في أسماع السامعين ، وأشبه بلغة المخاطبين ، وسألني أن أجرد جميع ما في القرآن في ذلك على ترتيب السور ليكون اجتماعه أجل موقعاً وأعم نفعاً ، وليكون في ذلك أيضاً فائدة أُخرى.
    ( إلى أن قال ) وقد أوردت في كتابي الكبير « حقائق التأويل في متشابه التأويل » طرفاً كبيراً من هذا الجنس ، أطلتُ الكلام والتنبيه على غوامض العجائب التي فيه من غير استقصاء أوانه (1).
    وبهذا البيان امتاز نمط هذا التأليف عمّا ألّفه أبو عبيدة وأسماه بمجاز القرآن.
    فالشريف يروم من المجاز القسم المصطلح ، ولكنّ أبا عبيدة يروم الكلام الخارج على غير النمط العادي من حذف وتقدير وتأخير ، وإضمار وغير ذلك.
1 ـ تلخيص البيان في مجازات القرآن : 2 ، طبع عالم الكتب.

(153)
    المنهج الثاني / 4     ومن التفسير بالمنقول هو تفسير القرآن بما أثر عن النبي والأئمة المعصومين ( عليهم السَّلام ) أو الصحابة والتابعين ، وقد ظهر هذا النوع من المنهج بعد رحلة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، ومن المعروفين في سلوك هذا المنهج بعد عهد الرسالة عبد اللّه بن عباس ، وهو القائل : ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) (1) وحسبك هذه الشهادة من ترجمان القرآن.
    نعم روي عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه دعا له بالفقه والحكمة وتأويل القرآن. (2)
    وقد ذاع هذا المنهج من القرن الأوّل إلى عصرنا هذا ، فظهر بين المفسرين من يكتفون في التفسير بالأثر المروي ولا يتجاوزون عنه ، حتى أنّ بعض المفسرين لا يذكر الآية التي لا يجد حولها أثراً من النبي والأئمة ، كما هو ديدن تفسير البرهان للسيد البحراني ، فإليك أشهر التفاسير الحديثية بين الفريقين.
    فأشهر المصنّفات على هذا النمط عند أهل السنّة عبارة عن :
    1. تفسيـر أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ( 224 ـ 310 هـ ) وهذا الكتاب أوسع ما أُلّف في هذا المجال ، ومن مزايا هذا التفسير ذكر الروايات
1 ـ مناهل العرفان : 1 / 468.
2 ـ أُسد الغابة : 3 / 193.


(154)
مسندة أو موقوفة على الصحابة والتابعين ، وقد سهّل بذلك طريق التحقيق والتثبيت منها ، نعم فيها من الإسرائيليّات والمسيحيّات ما لا يحصى كثرة.
    2. ويليه في التبسط تفسير الثعلبي ( المتوفّى 427 هـ ) باسم « الكشف والبيان » وهو تفسير مخطوط ، ونسخه قليلة ، عسى أن يقيّض اللّه رجال التحقيق لإخراجه إلى عالم النور ، ومؤلّفه من المعترفين بفضائل أهل البيت ( عليهم السَّلام ) ، فقد روى نزول كثير من الآيات في حقّ العترة الطاهرة ، وينقل عنه كثيراً السيد البحراني في كتبه مثل غاية المرام وتفسير البرهان.
    3. تفسير الدر المنثور للسيوطي ( المتوفّى 911 هـ ) ففيه ما ذكره الطبري في تفسيره وغيره ويبدو من كتابه « الإتقان » أنّه جعله مقدّمة لذلك التفسير ، وقد ذكر في خاتمة « الإتقان » نبذة من التفسير بالمأثور المرفوع إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من أوّل الفاتحة إلى سورة الناس.
    هذه مشاهير التفاسير الحديثية عند أهل السنّة ، اكتفينا بذلك روماً للاختصار.
    وأمّا التفسير بالمأثور عند الشيعة ، فأشهرها ما يلي :
    1. تفسير محمد بن مسعود العياشي المعاصر للكليني الذي توفّي عام 329 هـ ، وقد طبع في جزأين ، غير أنّ ناسخ الكتاب في القرون السابقة ، جنى على الكتاب جناية علمية لاتغتفر حيث أسقط الأسانيد ، وأتى بالمتون ، وبذلك سدّ على المحقّقين باب التحقيق.
    2. تفسير علي بن إبراهيم القمي ( الذي كان حياً عام 307 هـ ) ، وتفسيره هذا مطبوع قديماً وحديثاً ، غير أنّ التفسير ليس لعلي بن ابراهيم القمي وحده ،


(155)
وإنّما هو تفسير ممزوج من تفسيرين ، فهو ملفّق مما أملاه علي بن إبراهيم على تلميذه أبي الفضل العباس ، وما رواه تلميذه بسنده الخاص ، عن أبي الجارود عن الإمام الباقر ( عليه السَّلام ) ، وقد أوضحنا حاله في أبحاثنا الرجالية (1).
    3. وقد أُلّف في أواخر القرن الحادي عشر تفسيران بالمنهج المذكور ، أعني بهما :
    « البرهان في تفسير القرآن » للسيد هاشم البحراني ( المتوفّى 1107 هـ ).
    و « نور الثقلين » للشيخ عبد علي الحويزي من علماء القرن الحادي عشر.
    والاستفادة من التفسير بالمأثور يتوقّف على تحقيق اسناد الروايات ، لكثرة تطرق الإسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات المروية من مسلمة أهل الكتاب إليها أو مستسلمتهم.
    وهناك كلمة قيّمة لابن خلدون يقول : إنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولاعلم ، وإنّما غلبت عليهم البداوة والأُميّة ، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونّات ، وبدء الخليقة وأسرار الوجود ، فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدون منهم ، وهؤلاء مثل : كعب الأحبار ووهب بن منبه ، وعبد اللّه بن سلام وأمثالهم ، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم وتُلقّيت بالقبول ، وتساهل المفسرون في مثل ذلك ، وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، وأصلها كلها ـ كما قلنا ـ من التوراة أو مما كانوا يفترون (2).
    ولأجل ذلك ترى أنّ ما أتى به الطبري في تفسيره حول قصة آدم وحواء تطابق ما جاء في التوراة.
1 ـ راجع كليات في علم الرجال : 311 ـ 315.
2 ـ مقدمة ابن خلدون : 439.


(156)
    والعجب أنّ كتب التفسير مملوءة من أقاويل هؤلاء ( أي مسلمة أهل الكتاب ) ومن أخذ عنهم ، من المسلمين أمثال عكرمة ومجاهد وعطاء والضحاك.
    فهؤلاء مضافاً إلى ما ورد فيهم من الجرح والطعن في كتب الرجال المعتبرة عند أهل السنّة ، كانوا يأخذون ما أثر عنهم من التفاسير من اليهود والنصارى. (1)
    وأمّا ما يتراءى من نقل أقوالهم في تفاسير الشيعة كـ « التبيان » لشيخ الطائفة الطوسي ، و « مجمع البيان » للشيخ الطبرسي ، فعذرهم في نقل أقوالهم هو رواجها في تلك العصور والأزمنة بحيث كان الجهل بها نقصاً في التفسير وسبباً لعدم الاعتناءبه.
    وعلى كل تقدير فالتفسير بالمأثور يتوقف على توفر شرائط الحجية فيه ، إلاّ إذا كان الخبر ناظراً إلى بيان كيفية الاستفادة من الآية ، ومرشداً إلى القرائن الموجودة فيها ، فعندئذ تلاحظ كيفية الاستفادة ، فعلى فرض صحة الاستنتاج يؤخذ بالنتيجة وإن كان الخبر غير واجد للشرائط. كما عرفت نماذج منه.
    وأمّا إذا كان التفسير مبنياً على التعبّد فلا يؤخذ به إلاّ عند توفر الشرائط.
    هذه هي المناهج التفسيرية على وجه الاختصار قد عرفت المقبول والمردود ، غير أنّ المنهج الكامل عبارة عن المنهج الذي يعتمد على المناهج الصحيحة ، فيعتمد في تفسير القرآن على العقل القطعي الذي هو كالقرينة ، كما يفسر القرآن بعضه ببعض ويرفع إبهام الآية بأُختها ، ويستفيد من الأثر الصحيح الذي يكون حجّة بينه وبين ربّه ، إلى غير ذلك من المناهج التي مر بيانها.
1 ـ لاحظ آلاء الرحمن : 1 / 46.

(157)
1. المحكم والمتشابه في القرآن الكريم
2. التأويل في القرآن الكريم
3. القراء السبعة والقراءات السبع
4. صيانة القرآن من التحريف






(158)

(159)
    وصف سبحانه كتابه العزيز بالإحكام ، وقال : ( الر * كِتابٌ أُحكِمت آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلت مِنْ لَدُنْ حَكيم خَبير ) (1) والمراد أنّها أُحكمت في نظمها بأن جعلت على أبلغ وجوه الفصاحة حتى صار معجزاً ثمّ فصّلت بالبيان ، فالقرآن محكم النظم ، مفصل الآيات. (2) أو اتقنت آياته فليس فيها خلل ولا باطل ، لأنّ الفعل المحكم ما قد أتقنه فاعله حتّى لا يكون فيه خلل ثمّ فصّلت وجعلت متتابعة بعضها أثر بعض. (3)
    فعلى الأوّل فالإحكام صفة اللفظ ، فالقرآن بجزالة نظمه وإتقان أُسلوبه محكم ومتقن لا يمكن تحدِّيه ، وعلى الثاني وصف لمعناه ، فهو يشتمل ـ من التوحيد والأخلاق وسائر السنن ـ على أُصول محكمة لا تنقض ولا تردُّ.
    وفي الوقت نفسه وصف سبحانه كتابه الكريم بالتشابه ، قال سبحانه : ( اللّهُ نَزّل أَحسن الحدَيث كِتاباً مُتَشابهاً مَثاني تَقْشَعِرُ مِنْهُ جُلُودُ الّذينَ يَخْشَونهُمْ ثُمَّ
1 ـ هود : 1.
2 ـ مجمع البيان : 3 / 141 عن أبي مسلم الإصفهاني.
3 ـ المصدر نفسه. ولم يذكر اسم القائل.


(160)
تَلينُ جُلودهُمْ وَقُلوبهُمْ إِلى ذِكْرِ اللّه ذلِك هُدى اللّه يَهْدي به مَنْ يَشاء وَمَنْ يضلِل اللّه فَما لَهُ مِنْ هاد ). (1)
    وقد اختلفت كلمة المفسرين في تفسير « المتشابه » في هذه الآية الذي جعل وصفاً لعامة آيات القرآن الحكيم ، ولكنّهم لو رجعوا إلى نفس الآية وامعنوا النظر فيها لارتفع الابهام ، وذلك انّه سبحانه يأتي بعد كلمة « متشابهاً » قوله « مثاني » فهو يفسر معنى المتشابه ، فالقرآن الكريم يشتمل على آيات متكررة المضمون ، يُشبه بعضها بعضاً ، ويؤيد بعضها بعضاً ، فقد كرر القصص والمغازي كما كرّر ما يرجع إلى التوحيد بأقسامه إلى غير ذلك من المعاني المتكررة.
    وعلى ضوء ذلك فلا منافاة بين الآيتين اللتين تصفان القرآن بالإحكام تارة وبالتشابه أُخرى.

    تقسيم الآيات إلى محكمات ، ومتشابهات
    إذا كانت الآية الأُولى تصف القرآن كلّه بالإحكام وآياته بالمحكمة ، والآية الثانية تصف القرآن كلّه بالمتشابه ، فثمة آية أُخرى تقسّم الآيات إلى قسمين :
    1. آيات محكمات هي أُمّ الكتاب.
    2. وآيات متشابهات يبغون أهل الزيغ تأويلها.
    قال سبحانه : ( هُوَ الّذي أنْزل عليكَ الكِتاب مِنْهُ آيات مُحْكَمات هُنَّ أُمّ الكِتاب وَأُخر مَتَشابهات فَأَمّا الّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَة وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلهُ إِلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمّنا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا وَما يَذَّكّرُ إِلاّ أُولوا الأَلباب ). (2)
1 ـ الزمر : 23.
2 ـ آل عمران : 7.


(161)
    ولا منافاة بين هذا التقسيم والتقسيمين الأوّلين ، وذلك لاختلاف متعلّق الإحكام والتشابه فيها ، فانّ الإحكام الذي هو بمعنى الإتقان في الآية الأُولى وصف للآية باعتبار نظم الآية وجزالة ألفاظها على وجه لا يمكن تحدّيها ، كما أنّ التشابه في الآية الثانية وصف لمعنى الآية ، فمعاني الآيات القرآنية متكرّرة لكنّها متوحّدة الهدف.
    وأمّا الإحكام والتشابه في هذه الآية فالموصوف بهما دلالة الآية وظهورها في المعنى المقصود ولا مانع من أن يكون القرآن كلّه متقناً من حيث تركيبه وجُمَله ، ومتشابهاً متكرر المضمون من حيث معانيه ؛ وفي الوقت نفسه محكماً ومتقن الدلالة في قسم ، ومتشابه الدلالة في قسم آخر.
    إنّ الإحكام في اللغة هو الإتقان ، توصف به الآية إذا كانت ذات دلالة واضحة بحيث لا تحتمل وجهاً آخر ، فهو ( الإحكام ) مأخوذ من الحُكْم بمعنى المنع ، قال الشاعر :
أبني حنيفـة حكِّموا أولادكم إني أخاف عليكم أن أُغضبا
    أي امنعوا أولادكم من التعرض :
    فالآية باعتبار استحكام دلالتها وإتقانها تمنع من الاضطراب وتطرّق ما ليس بمراد فيها ؛ ويقابله التشابه فهو مأخوذ من الشِّبه أي التماثل ، فالتشابه في الدلالة هو أن لا يكون للآية ظهور مستقر ودلالة ثابتة بل يحتمل فيها وجوهاً مختلفة مع أنّ المقصود هو واحد منها.
    ويدلّ على أنّ الإحكام والتشابه وصف للدلالة ، أُمور :
    الأوّل : انّ أصحاب الزيغ ( يتبعون ما تشابه ) وذلك لأحد الوجهين :
    1. ابتغاء الفتنة والفساد في المجتمع وإضلال الناس.


(162)
    2. ابتغاء تأويله وإرجاعه إلى ما يتوافق مع أهدافهم الفاسدة ، فهم مكان أن يتّبعوا الآيات المحكمة يتّبعون ما تشابه للغايتين الفاسدتين. فاتّباع المتشابه لإيجاد الفتنة وابتغاء تأويله يعرب عن أنّ التشابه إنّما في دلالة الآية ، فيأخذون من الاحتمالات ما يمكّنهم من الفتنة وجعل الآية حجّة لما يتبنّون من الأهواء.
    2. انّه يصف الآيات المحكمة بأنّها أُمّ الكتاب ، ومعنى ذلك إرجاع ما تشابه إلى الأُمّ ؛ فيجب أن تكون الأُم واضحة الدلالة ، بيّنة المعالم ، حتى تفسر بها الآيات المتشابهة.
    3. انّ الآية تبحث عن تأويل المتشابه ، فانّ التأويل في الآية ( كما سيوافيك في فصل مستقل ) إرجاع الآية بالتدبّر فيها وسائر الآيات الواردة في موضوعها إلى المعنى المقصود ، وهذا يناسب كون المحور في وصف القرآن بهما هو دلالة الآية وظهورها ، فالآيات القرآنية بما انّها ليست على نسق واحد في الدلالة وعلى درجة واحدة في إفهام المراد تنقسم إلى محكمة ومتشابهة.
    فالمحكم ما لا يحتمل إلاّ معنى واحداً ، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً متعدّدة وكان بعض الوجوه مثيراً للريب والشبهة ، والتأويل إرجاع الآية بالتدبّر فيها وما ورد في موضوع الآية من الآيات ، إلى المعنى المقصود.
    هذا هو المعنى المقصود من الآية من المراحل الثلاثة :
    أ. المحكم وما يراد به.
    ب. المتشابه وما يراد به.
    ج. التأويل وما يراد به في الآية.
    وقد سبقنا في تفسير الآية بهذا النحو لفيف من العلماء.
    1. قال الشيخ الطوسي : المحكم ما أنبأ لفظه عن معناه من غير اعتبار أمر ينضم إليه سواء كان اللفظ لغوياً أو عرفيّاً ، ولا يحتاج إلى ضروب من التأويل.


(163)
وذلك نحو قوله ( لا يُكَلّف اللّه نَفْساً إِلاّ وُسْعها ) (1) ، وقوله : ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْس الّتي حَرّم اللّه ) (2) وقوله : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَد ) (3) وقوله : ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد ) (4) ونظائر ذلك.
    والمتشابه : ما كان المراد به لا يعرف بظاهره بل يحتاج إلى دليل ، وذلك ما كان محتملاً لأُمور كثيرة أو أمرين ، ولا يجوز أن يكون الجميع مراداً فانّه من باب المتشابه. وإنّما سمّي متشابهاً لاشتباه المراد منه بما ليس بمراد ، وذلك نحو قوله : ( يا حسرتى عَلى ما فرّطت في جَنْب اللّه ) (5) ، وقوله : ( وَالسَّماوات مَطوِياتٌ بِيَمِينهِ ) (6) ، وقوله : ( تَجْري بِأَعْيُنِنا ) (7) ، ونظائر ذلك من الآي التي المراد منها غير ظاهرها. (8)
    2. قال الراغب : المتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره إمّا من حيث اللفظ أو من حيث المعنى ، فقال الفقهاء : المتشابه ما لا ينبئُ ظاهره عن مراده ، وحقيقة ذلك انّ الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب : محكم على الإطلاق ، ومتشابه على الإطلاق ، ومحكم في وجه ومشابه من وجه آخر. (9)
    3. وقال المحقّق النهاوندي : لا ريب في أنّ آيات الكتاب العزيز قسمان : محكم ، ومتشابه.
1 ـ البقرة : 286.
2 ـ الأنعام : 151.
3 ـ التوحيد : 1.
4 ـ التوحيد : 3 و 4.
5 ـ الزمر : 56.
6 ـ الزمر : 67.
7 ـ القمر : 14.
8 ـ التبيان : 1 / 9. ومراده من قوله : « المراد منها غير ظاهرها » هو الظاهر اليدوي المتزلزل ، دون الظاهر المستقر الذي ينتهى إليه المفسر بعد الإمعان في الآية ونظائرها والقرائن الأُخرى.
9 ـ المفردات : مادة أول.


(164)
والمحكم هو الكلام الواضح الدلالة بحيث لا يكون للعرف ـ و لو بملاحظة القرائن المكتنفة به ـ تحيّر في استفادة المراد منه ، ولا يحتاج في تعيين المقصود منه إلى الرجوع إلى العالم أو إلى القرائن المنفصلة أو الأدلّة العقلية والنقلية الخارجية.
    والمراد بالمتشابه هو الكلام المجمل أو المبهم الذي يشتبه المراد منه على العرف بحيث لا يكون له بالوضع أو بالقرائن المتصلة حقيقة أو حكماً ظهور في المعنى المراد ، بل لابدّ في الاستفادة منه من الرجوع إلى العالم الخبير بمراد المتكلّم ، أو الاجتهاد في تحصيل القرائن المنفصلة عن الكلام من حيث العقل المستقل أو سائر كلمات المتكلّمين ، ولعلّه إلى ما ذكرنا يرجع ما عن العياشي ( رحمه الله ) عن الصادق ( عليه السَّلام ) انّه سأل عن المحكم والمتشابه ، فقال : « المحكم ما يعمل به ، والمتشابه ما اشتبه على جاهله ». (1)
    وقال العلاّمة الطباطبائي : المراد بالتشابه كون الآية لا يتعيّن مرادها لفهم السامع بمجرد اسماعها ، بل يتردد بين معنى ومعنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب فتُعيّن هي معناها وتبيّنها بياناً ؛ فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة ، والآية المحكمة ، محكمة بنفسها.
    كما أنّ قوله سبحانه : ( الرّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى ) (2) يشتبه المراد منه على السامع أوّل ما يسمعه ، فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) (3) ، استقر الذهن على انّ المراد به التسلّط على الملك والإحاطة على الخلق دون التمكّن والاعتماد على المكان المستلزم للتجسم المستحيل على اللّه سبحانه.
    وكذا قوله تعالى : ( إِلى ربّها ناظرة ) (4) إذا أرجع إلى مثل قوله : ( لا تُدْرِكُهُ
1 ـ نفحات الرحمن : 1 / 19.
2 ـ طه : 5.
3 ـ الشورى : 11.
4 ـ القيامة : 23.


(165)
الأَبْصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصار ) (1) ، علم به أنّ المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسي ـ إلى أن قال : ـ فهذا ما يتحصّل من معنى المحكم والمتشابه ويتلقّاها الفهم الساذج من مجموع الآية ، ولا ريب انّ الآية التي تقسّم آيات الكتاب إلى محكم ومتشابهة من الآيات المحكمة. (2)
    وأنت إذا سبرت تاريخ المسلمين عبر القرون ، تقف على لفيف من أصحاب الزيغ ، راحوا يتمسّكون بآيات لها ظهور بدويّ مريب ، ومثير للشك في سائر الأُصول دون أن يأوّلوها بالمحكمات وإرجاعها إليها ، كبعض الآيات التي توهم التجسيم والتشبيه ، والجبر والتفويض ، والهداية والضلالة ، والختم على القلوب وحبط الأعمال ، إلى غير ذلك من الآيات التي وقعت ذريعة لبغاة الفتنة وإضلال الناس.
    نعم فسّر ابن تيمية ، وتبعه صاحب المنار ، وبعض المعاصرين من أنّ المراد من المتشابه ، ما لا يعلم تأويله إلاّ اللّه. والمراد من التأويل ما استأثر اللّه بعلمه ، مثل وقت الساعة ، ومجيء نفسه ، ومثل كيفية نفسه ، وما أعدّه في الجنة لأوليائه. (3)
    يلاحظ عليه بأُمور :
    1. انّ ما ذكره كلّها مفردات ، والمتشابه من أقسام الآيات ، فكيف تفسر المتشابه بمثل وقت الساعة وأمثالها من واقع الجنة والنار والصراط ، والكلّ مفردات وليس آية ، والمتشابه آية متشابهة لا مفرد مبهم ؟!
    2. انّها فاقدة للظهور ، والمتشابه ما له ظهور مستقل يتبعه أصحاب الزيغ.
1 ـ الأنعام : 103.
2 ـ الميزان : 3 / 21.
3 ـ التفسير الكبير : 1 / 253.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن ::: فهرس