المناهج التفسيرية في علوم القرآن ::: 166 ـ 180
(166)
    3. انّ المتشابه ما يقع ذريعة لأصحاب الزيغ لإضلال الناس وليس فيما عدّه ما يمكن به أغوائهم ، ولم تقع تلك الآيات ذريعة للإضلال في تاريخ حياة المسلمين.
    وبما ذكرنا يظهر انّ الوجوه المذكورة حول تفسير المحكم والمتشابه التي ربما يناهز إلى 16 وجهاً احتمالات غير صحيحة نشأت من عدم التدبّر في مفهوم الآية. (1)
    والذي يمكن أن يلاحظ على كلام النهاوندي هو عدّ المجمل من المتشابه ، فانّ المجمل لا ظهور له ولو بدئياً حتّى يؤخذ به ويتّبعه أهل الزيغ ، بخلاف المتشابه فهو ذو ظهور مضطرب ومتزلزل ومريب.
    وأمّا الفرق بين المبهم والمتشابه ، فهو انّ كلّ متشابه مبهم الدلالة غير واضحة المعالم وليس كلّ مبهم متشابهاً.
    أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فانّ قوله سبحانه : ( أَوَ لَمْ يَرَوا أَنّا نَأْتي الأَرضَ نَنْقُصها مِنْ أَطرافها واللّهُ يَحْكُمُ لا مُعقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سريعُ الحِساب ) (2) مبهم من حيث المقصود لا من حيث الدلالة ، ولذلك فسر الإمام تنقيص أطراف الأرض بموت العلماء. (3)
    2. ( وَإذا وَقع القَول عَلَيْهِمْ أَخرجنا لَهُمْ دابّة منَ الأَرْضِ تُكلّمهم انّ النّاس كانوا بآياتِنا لا يُوقِنُون ) (4) فالآية واضحة الدلالة لكنّها مبهمة المعنى ،
1 ـ فقد ذكر الرازي في مفاتيح الغيب : 2 / 417 أربعة أوجه ، وأضاف إليها صاحب المنار : 3 / 163 ـ 165 ستة أُخرى ، وأوصلها إلى ستة عشر احتمالاً سيّدنا الأُستاذ. انظر في الوقوف على هذه الوجوه : تفسير الميزان : 3 / 32 ـ 39.
2 ـ الرعد : 41.
3 ـ البرهان للبحراني : 2 / 301.
4 ـ النمل : 82.


(167)
فما هو المراد من الدابة ؟ وكيف يكون تكلّمها مع الناس؟
    3. ( وَلَقَدْ هَمَّت بِهِ وَهَمَّ بِها لَولا أَن رَأى بُرهانَ رَبّهِ كَذلِكَ لنَصرف عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاء انّهُ مِنْ عِبادِنا المُخْلصين ) (1) والآية واضحة الدلالة مبهمة المصداق فما هو المراد من البرهان ؟
    إلى غير ذلك من الآيات التي تعدّ دلالتها واضحة حسب الدلالة الاستعمالية لكن الإبهام في المقاصد والمصاديق الحقيقية.

    المحكمات أُمّ الكتاب
    إنّ الآيات المحكمة ـ واضحة الدلالة بيّنة المعالم ـ بشهادة أنّها « أُمّ الكتاب » والمراد من الأُمّ كونها أصلاً في الكتاب تبتني عليها قواعد الدين وأركانه في مجالي العقيدة والعمل.
    وأمّا المتشابهات فلاضطراب دلالتها وعدم تمركزها على معنى واحد ترجع إلى المحكمات رجوع بيان. فالمتشابهات ذات مداليل ترجع وتتفرع على المحكمات ، ولازمه كون المحكمات واضحة المعنى.
    ثمّ إنّ الاحكام والتشابه وصفان نسبيان بمعنى انّ آية ما يمكن أن تكون محكمة من جهة ومتشابهة من جهة أُخرى ، فتكون محكمة بالإضافة إلى آية و متشابهة بالإضافة إلى أُخرى ، ولا مصداق للمتشابه على الإطلاق في القرآن ولا مانع من وجود محكم على الإطلاق.

    العلم بتأويل المتشابه
    هل يختص العلم بتأويل المتشابه باللّه سبحانه ؟ أو يعمّه والراسخين في
1 ـ يوسف : 34.

(168)
العلم فالكلّ يعلم تأويل المتشابه ، وإن كان بين العلمين فرق ، فالأوّل علم واجب غير متناه ، والآخر علم إمكاني متناه ؟
    وقد احتدم النزاع عبر قرون في تفسير الآية ، أعني قوله سبحانه : ( وَما يَعْلَمُ تَأْويلهُ إِلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِي العِلْم ) ، فقد وقفت طائفة على لفظ الجلالة وعليه حرم الراسخون في العلم من تأويل المتشابه ، وطائفة أُخرى عطفت « الراسخون في العلم » على لفظ الجلالة وشرّكتهم في العلم بها ، ولم تزل هذه المسألة مورد البحث والنقاش إلى عصرنا هذا.
    إنّ حلّ هذه المشكلة تكمن في تفسير المتشابه ، فمن فسر المحكم بكلّ ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي ، والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة وحقيقة الجن والملك وسائر الأُمور غير المحسوسة ، فلا محيص له عن الوقف ، لأنّه سبحانه تبارك و تعالى استأثر بها على غيره.
    وأمّا على ما أوضحناه من أنّ الإحكام والتشابه يرجع إلى الدلالة ، و انّ تأويل المتشابه عبارة عن إرجاعه إلى المعنى المراد ببركة الإمعان في نفس الآية والقرائن المكتنفة والقرائن المنفصلة ، فالعلم بتأويل المتشابه يعمّه سبحانه والراسخين في العلم أيضاً.
    فمن حاول تحقيق المطلب يجب عليه الانطلاق أوّلاً بحلّ معضلة التشابه ثمّ العروج على تأويل المتشابه.
    إنّ القرآن الكريم كتاب هداية وتذكرة أنزل للتدبّر فيه ، يقول سبحانه : ( فَما لَهُمْ عَنِ التذْكِرَة مُعْرِضين * كأَنّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفَرة * فرّت من قَسْورة ) (1) ويقول سبحانه : ( وَلَقَدْ يَسَّرنا القُرآن لِلّذِّكْر فَهَلْ مِنْ مُدَّكر ). (2)
1 ـ المدثر : 49 ـ 50.
2 ـ القمر : 17.


(169)
    فعلى ضوء ذلك يجب أن يكون القرآن مفهوماً و معلوماً من بدئه إلى ختمه على ضوء الأُصول التي ذكرناها عند البحث عن مؤهلات المفسر ، ومنه الآيات المتشابهة فقد أنزلت للهداية والتذكرة فلا معنى لأن يستأثر اللّه بعض آياته على العباد ، وعلى ضوء ذلك لم نجد أحداً من علماء الأُمّة يتوقف في تفسير الآية بذريعة انّ الآية متشابهة ، بل ظل يتفحّص عن القرائن الرافعة للشبه حولها ، وقد أيّد هذا المعنى فريق من العلماء.
    قال الشيخ أبو علي الطبرسي : وممّا يؤيد هذا القول ـ أي انّ الراسخين يعلمون التأويل ـ انّ الصحابة والتابعين أجمعوا على تفسير جميع آي القرآن ولم نرهم توقفوا على شيء منه لم يفسروه بأن قالوا : هذا متشابه لا يعلمه إلاّ اللّه. (1)
    وقال الإمام بدر الدين الزركشي : انّ اللّه لم ينزل شيئاً من القرآن إلاّ لينتفع به عباده ، ويدلّ به على معنى أراده ـ إلى أن قال : ـ ولا يسوغ لأحد أن يقول : انّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يعلم المتشابه ، فإذا جاز أن يعرفه الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) مع قوله : ( وَما يَعْلم تَأْويله إِلاّ اللّه ) جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته ، والمفسرون من أُمّته.
    ألا ترى أنّ ابن عباس كان يقول : أنا من الراسخين في العلم. ولو لم يكن للراسخين في العلم حظ من المتشابه إلاّ أن يقولوا « آمنا » لم يكن لهم فضل على الجاهل ، لأنّ الكلّ قائلون ذلك. قال : ونحن لم نر المفسرين إلى هذه الغاية توقّفوا عن شيء من القرآن ، فقالوا : هذا متشابه لا يعلم تأويله إلاّ اللّه ، بل أمرّوه على التفسير حتّى فسروا الحروف المقطعة. (2)
    ثمّ إنّ في نفس الآية دلالة واضحة على أنّه معطوف على لفظ الجلالة وهو انّه سبحانه يصف هؤلاء بالرسوخ في العلم ومقتضى الرسوخ فيه العلم بالتأويل
1 ـ مجمع البيان : 1 / 410.
2 ـ البرهان : 2 / 72 ـ 73.


(170)
ولو كانت وظيفتهم مقتصرة على الإيمان من دون العلم به كان الأنسب بل المناسب أن يقول والراسخون في الإيمان.
    وعلى ضوء ما ذكرنا فالجملة معطوفة على لفظ الجلالة وتفسر الآية بالشكل التالي :
    ( وَلا يَعْلم تأويله إِلاّ اللّه والرّاسِخون في العلم ).
    أي لكن الراسخين في العلم يقولون « آمنا بالمتشابه » كإيماننا بالمحكم ، فيأخذون بكلتا الآيتين بحجة « كل من عند ربّنا » ولكن الذي في قلوبهم زيغ يأخذون بخصوص المتشابه للغايتين الفاسدتين دون المحكم ، فكأنّه سبحانه لم ينزل إلاّ المتشابه ، فالإيمان بالمتشابه الذي جاء في قوله « آمّنا به » لا يدلّ على أنّ الراسخين يؤمنون به دون أن يعلموا ، وذلك لأنّ ذكر إيمانهم بهما لغاية ردّ أصحاب الزيغ حيث يؤمنون بواحد منهما واختصاص الإيمان به بالراسخين لا انّه لا شأن لهم سوى الإيمان دون العلم.
    وعلى ذلك فليس فيه إشعار على اختصاصهم بالإيمان دون العلم.
    هذا ما يفهمه كلّ من له إلمام بالأدب العربي وكلمات البلغاء والفصحاء فلا يشك في العطف.
    وأمّا ما هو موضع قوله : ( يقولون آمنا به كّل من عند ربّنا ) إذا كان مفصولاً عما تقدّم.
    والجواب واضح وهو انّه جملة حالية ، قال الزمخشري : « يقولون » كلام مستأنف موضح لحال الراسخين.
    بقي الكلام في ما هو المقصود من تأويل المتشابه ، وإراءة نماذج منه ، وهذا هو الذي نتطرّق إليه في الفصل التالي.


(171)
    التأويل مأخوذ من آل يؤول : رجع ، قال الأعشى :
    أُوِّل الحــكم إلـــى أهــله ليس قضائي بالهوى الجائر (1) ويقول ابن منظور : الأُوْل الرجوع ، أل الشيء يؤول أولاً ومآلاً : رجع ، وأوّل إليه الشيء : رجّعه ، وآلت عن الشيء : ارتددت. (2)
    وقال الراغب الإصفهاني : التأويل من الأُول ، أي الرجوع إلى الأصل ومنه المؤْئِل للموضع الذي يرجع إليه ، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه ، علماً كان أو فعلاً. (3)
    إذا كان التأويل بمعنى إرجاع الشيء إلى مآله وحقيقته ، فقد استعمله القرآن في موارد ثلاثة يجمعها شيء واحد ، وهو إرجاع الشيء المبهم من الكلام والعمل والنوم إلى واقعه.
    الأوّل : إرجاع الكلام المبهم إلى ما قصد منه برفع الإبهام من خلال القرائن الحافّة بها ، فقوله سبحانه : ( وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْد وَإِنّا لَمُوسِعُون ) (4) كلام يكتنفه
1 ـ المقاييس : 1 ، مادة أول.
2 ـ لسان العرب : 11 ، مادة أول.
3 ـ المفرادت : مادة أول.
4 ـ الذاريات : 47.


(172)
الإبهام ويثبت ظاهره انّ للّه سبحانه أيد بنى بها السماء ، ولكن رفع الإبهام عن الآية بالإمعان في القرائن الحافّة بها تأويل لها ، أي إرجاع لها إلى ما قصد منه حقيقة ، وسيوافيك انّ تأويل المتشابه قسم من هذا النوع.
    الثاني : إرجاع الفعل إلى واقعه بمعنى رفع الإبهام عنه بذكر مصالحه والدواعي التي حملت الفاعل إلى العمل ؛ وهذا كما في عمل مصاحب موسى حيث أتى بأعمال مبهمة ومريبة من خرق السفينة وقتل الصبي وبناء الجدار الذي كاد أن ينقضّ ، فسأله موسى عن الدواعي فبيّنها وقال : ( ذلِكَ تَأْويلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيهِ صَبراً ) (1) ، فالتأويل في الآية رفع الإبهام عن الفعل ، وإرجاع ظاهرة المريب إلى واقعه.
    ومن هذا القبيل وصف الكيل المقرون بالعدل والإنصاف « بكونه أحسن تأويلاً » أي أحسن مآلاً ، يقول سبحانه : ( وَأَوفُوا الكَيلَ إذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالقِسْطاسِ المُسْتَقيم ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحسَنُ تَأويلاً ) (2).فالمراد أحسن مآلاً لما يترتب على إجراء العدل في عملية الوزن من المصالح والغايات الصحيحة.
    حتى أنّ القرآن يستعمله في مورد الرجوع إلى قضاة العدل ، يقول سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ في شيء فَرُدُّوهُ إِلى اللّهِ والرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخرِ ذلِكَ خَيرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلاً ) (3) أي أحسن مآلاً ، لأنّ في الرجوع إلى اللّه والرسول إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل على خلاف الرجوع إلى الجبت والطاغوت.
    الثالث : تأويل الرؤيا التي يكتنفها الإبهام ، فإنّ الرؤيا الصادقة على أقسام : منها ما تتصل نفس النائم بالواقع غير انّ النفس تتصرف فيما تراه قبل أن يستيقظ
1 ـ الكهف : 82.
2 ـ الإسراء : 35.
3 ـ النساء : 59.


(173)
النائم من نومه فتختلف الرؤيا عن واقعه ، والتأويل عبارة عن إرجاع النوم إلى الأصل الذي اشتقت منه الرؤيا الفعلية ، وذلك علم خاص يرزقه اللّه تعالى لمن يشاء ، فرزقه اللّه ليوسف كما يقول : ( كَذلِكَ يَجْتَبيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْويلِ الأَحادِيث ) (1) ، فالتأويل الوارد في سورة يوسف في عدّة موارد عبارة عن إرجاع الرؤية الصادقة المتصرّفة فيه من قبل النفس إلى واقعها الذي تحولت عنه كما هو الحال في الموارد التالية :
    1. رؤية يوسف سجود أحد عشر كوكباً مع الشمس والقمرله.
    2. رؤية أحد مصاحبيه في السجن انّه يعصر خمراً.
    3. رؤية مصاحبه الآخر انّه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل منه الطير.
    4. رؤية الملك سبع بقرات سمان وسبع عجاف ...
    فالتأويل في هذه الموارد تأويل عمل تكويني وإرجاع له إلى واقعه.
    ومن هنا تبيّن انّ التأويل حسب مصطلح القرآن هو إرجاع الشيء إلى واقعه ، وأمّا التأويل بمعنى صرف الكلام عن ظاهره المستقر ، إلى خلافه ، فهو مصطلح حديث بين العلماء لا يمتّ إلى القرآن بصلة ، وإن اغتر ابن منظور بهذا المصطلح وذكره من أحد المعاني و قال : والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ. (2)
    فلو صحّ ذلك الاستعمال ، فإنّما هو اصطلاح جديد لا يصحّ للمفسِّر أن يفسّر القرآن به. ولم نجد في القرآن آية يُلزمنا العقل والنقل إلى صرفها عن ظهورها المستقر الثابت ، وأمّا الظهور البدائي فليس ظهوراً له قيمة حتى يعدّ العدول عنه صرفاً للظاهر عن ظاهره.
1 ـ يوسف : 6.
2 ـ لسان العرب : 11 ، مادة أول.


(174)
    قد عرفت معنى التأويل بوجه مطلق في القرآن الكريم وحان البحث في تأويل خصوص المتشابه حيث إنّ آيات القرآن تقسّم إلى محكم ومتشابه. يقول سبحانه :
    ( هُوَ الَّذي أنْزَلَ عَلَيكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وَأُخرُ مُتشابِهاتٌ فَأَمّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُون ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولوا الأَلْباب ). (1)
    فما معنى التأويل في هذه الآية أليس هو صرف الظاهر عن ظاهره ؟! فكيف تقول بأنّ التأويل بمعنى صرف الظاهر عن ظاهره مصطلح حديث لا يمتُّ إلى القرآن بصلة ؟
    هذا هو السؤال وقد تقدّم في الفصل الماضي إنّ آيات الذكر الحكيم على قسمين : قسم منها ما يتمتع بدلالة واضحة في بدء الأمر بحيث لا يشتبه المراد بغير المراد ، كالآيات التي تتضمن نصائح لقمان لابنه (2) ، أو ما يذكره سبحانه في سورة الإسراء بعنوان الحكمة. (3)
    فالناظر في هذه الآيات يقف على المراد في بدء الأمر ، لأنّها تتمتع بدلالة
1 ـ آل عمران : 7.
2 ـ لقمان : 13 ـ 19.
3 ـ الإسراء : 22 ـ 39.


(175)
واضحة لا يشتبه المراد بغيره.
    وهناك آيات لا تبلغ دلالتها على المعنى المراد هذا الحدَّ ، بل الناظر في بدء الأمر لا يميّز المراد عن غيره ، ويشتبه المراد بغير المراد ، كالأشجار المتشابهة مع اختلاف أثمارها كالرمّان والزيتون ، فتوصف بالآية المتشابهة لتشابه المراد بغيره ، والحقّ بالباطل.
    وأمّا ما هو الوجه لنزول بعض الآيات على هذا الوصف فهو موكول إلى محله ، وقد ذكر المفسِّـرون هناك وجوهاً مختلفة لنزول الآيات المتشابهة. (1)
    فهذه الآيات التي ليست لها دلالة قاطعة في بدء الأمر هي التي وقعت ذريعة عبر التاريخ في أيدي الذين في قلوبهم زيغ لإيجاد الفتنة والبلبلة الفكرية وإشاعة الباطل وستر الحقّ.
    وتجد في الآيات التي تتعرض للمعارف ، هذا النوعَ من التشابه ، فالآيات التي يستشم منها التجسيم والتشبيه ورؤية اللّه تعالى بالحواس ، والجبر وأنّه ليس للإنسان دور في الضلالة والهداية ، كلّها من الآيات المتشابهة التي لم يزل أصحاب الزيغ يبتغون الفتنة من ورائها ، فهم يأوِّلون هذه الآيات بالأخذ بظواهرها من إرجاعها إلى محكماتها.
    والراسخون أيضاً يأوّلونها.
    أمّا الطائفة الأُولى فتأويلهم يتلخّص في الأخذ بالظهور المتزلزل غير المستقر إبتغاءً للفتنة ، فيغترون بظاهر قوله سبحانه : ( يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاء ) (2) ويبثّون فكرة الجبر الذي هو سلب الاختيار عن الإنسان في مجال الهداية والضلالة ، والإيمان والكفر.
1 ـ لاحظ المعجزة الخالدة للسيد الشهرستاني.
2 ـ النحل : 93.


(176)
    وأمّاالراسخون فتأويلهم هو إرجاع الآية إلى واقعها ، بالإمعان في الآية والقرائن الحافّة بها ، منضماً إلى ما ورد في الآيات المحكمة في هذا الموضوع ، فيفسرون ما سبق من الآيات حول الهداية والضلالة ، بقوله سبحانه : ( وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر ) (1) ، وبقوله سبحانه : ( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِن اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِليَّ رَبّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيب ). (2)
    فكلتا الطائفتين يأوّلون أي يرجعون الآية إلى المراد منها ، فيأخذ أصحاب الزيغ بالظاهر المتزلزل الموافق لهواهم ونزعتهم ، فيجعلونه ذريعة لنشر البدع والضلالة ؛ وأمّا الآخرون فيأوّلونه بإرجاع المتشابه إلى المحكمات التي هي أُمّ الكتاب.
    هذه هي حقيقة المتشابه وحقيقة التأويل فيه ، وليس تأويل كلتا الطائفتين بمعنى صرف الظاهر المستقر عن ظاهره ، بل هو إمّا الأخذ بالظاهر البدوي لغاية الفتنة ، أو إرجاعه إلى الظاهر المستقر بالإمعان في نفس الآية والقرائن المكتنفة بها ، مضافاً إلى الآيات المحكمة الواردة في نفس ذلك الموضوع.
    وقد عرفت هذا النوع من التأويل في تفسير اليد (3) في قوله سبحانه : ( وَالسَّماء بَنَيْناها بِأَيْد وَإِنّا لَمُوسِعُون ). (4)
    وبما ذكرنا في المقام تقدر على تأويل عامة الآيات المتشابهة نظير :
    1. العين ، كقوله سبحانه : ( وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ). (5)
1 ـ الكهف : 29.
2 ـ سبأ : 50.
3 ـ لاحظ مبحث : دلالة القرآن ، قطعيةص53 ـ 56.
4 ـ الذاريات : 47.
5 ـ طه : 39.


(177)
    2. اليمين ، كقوله سبحانه : ( وَالسّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِه ). (1)
    3. الاستواء ، كقوله سبحانه : ( الرَّحمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوى ). (2)
    4. النفس ، كقوله سبحانه : ( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسي وَلا أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ ). (3)
    5. الوجه ، كقوله سبحانه : ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه ). (4)
    6. الساق ، كقوله سبحانه : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساق ). (5)
    7. الجنب ، كقوله سبحانه : ( عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ ). (6)
    8. القرب ، كقوله سبحانه : ( فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوةَ الدّاعِ ). (7)
    9. المجيء ، كقوله سبحانه : ( وَجاءَ رَبُّكَ ). (8)
    10. الإتيان ، كما قال سبحانه : ( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ). (9)
    11. الغضب ، كما في قوله : ( وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِم ). (10)
    12. الرضا ، كما في قوله : ( رَضِيَ اللّهُ عَنْهُم ). (11)
    إلى غير ذلك من الصفات الخبرية التي وردت في القرآن الكريم وأخبر عنها الوحي ، فللجميع ظواهر غير مستقرة لا تلائم الأُصول الواردة في محكمات الآيات ، ولكن بالإمعان و الدقة يصل الإنسان إلى مآلها ومرجعها وواقعها ، وهذا لا يعني حمل الظاهر على خلافه ، بل التتبع لغاية العثور على الظاهر ، إذ ليس للمتشابه ظاهر ظهور مستقرّ في بدء الأمر حتّى نتبعه.
1 ـ الزمر : 67.
2 ـ طه : 5.
3 ـ المائدة : 116.
4 ـ البقرة : 115.
5 ـ القلم : 42.
6 ـ الزمر : 56.
7 ـ البقرة : 186.
8 ـ الفجر : 22.
9 ـ الأنعام : 158.
10 ـ الفتح : 6.
11 ـ المائدة : 119.


(178)
    وفي الختام نذكر نموذجين من تأويل المتشابه ـ وراء ما ذكرناه حول تفسير « الأيدى » في قوله سبحانه : ( وَالسَّماء بَنَيْناها بِأَيْد ).
    1. انّ الصفات الخبرية الواردة في القرآن كالوجه وغيره لها حكم عند الإفراد ولها حكم آخر إذا ما جاءت في ضمن الجمل ، فلا يصحّ حملها على المعاني اللغوية إذا كانت هناك قرائن صارفة عنها ، فإذا قال سبحانه : ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) (1) فتحمل الآية على ما هو المتبادر من الآية عند العرف العام ، أعني : الإسراف والتقتير ، فبسط اليد كناية عن الإنفاق بلا شرط ، كما أنّ جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن البخل والتقتير ، ولا يعني به بسط اليد بمعنى مدها ، ولا غلّ اليد إلى العنق بمعنى شدّها إليه.
    2. قوله سبحانه : ( الرّحمنُ على العَرْشِ اسْتَوى ) (2) نظير الآية السابقة فالعرش في اللغة هو السرير ، والاستواء عليه هو الجلوس ، غير انّ هذا حكم مفرداتها ، وأمّا مع الجملة فيتفرع الاستظهار منها ، على القرائن الحافّة بها ، فالعرب الأقحاح لا يفهمون منها سوى العلو والاستيلاء ، وحملها على غير ذلك يعد تصرفاً في الظاهر ، وتأويلاً لها ، فإذا سمع العرب قول القائل :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهـراق
    أو سمع قول الشاعر :
ولما علونـا واستوينـا عليهم تركناهم مرعى لنسر وكاسر
    فلا يتبادر إلى أذهانهم سوى العلو والسيطرة والسلطة لا العلو المكاني الذي
1 ـ الإسراء : 29.
2 ـ طه : 5.


(179)
يعد كمالاً للجسم ، وأين هو من العلو المعنوي الذي هو كمال الذات ؟!
    وقد جاء استعمال لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات (1) مقترناً بذكر فعل من أفعاله ، وهو رفع السماوات بغير عمد ، أو خلق السماوات والأرض و ما بينهما في ستة أيّام ، فكان ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني بل الاستيلاء والسيطرة على العالم كلّه ، فكما لا شريك له في الخلق والإيجاد لا شريك له أيضاً في الملك والسلطة ، ولأجل ذلك يقول في ذيل بعض هذه الآيات : ( أَلا لَهُ الخَلق وَالأَمْر تَباركَ اللّه ربّ العالَمين ). (2)
    إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ التأويل في القرآن هو ما ذكرنا من إرجاع الشيء إلى واقعه من دون فرق بين الكلام والفعل والحقيقة التكوينية كالرؤيا.
    ولكن يستفاد من الأحاديث النبوية والعلوية انّ للتأويل مصطلحاً آخر ، ويطلق عليه التأويل في مقابل التنزيل ، وهذا النوع من التأويل لا يعني التصرّف في الآية بإرجاعها إلى الغاية المرادة ، وإنّما يتبنّى بيان مصاديق جديدة لم تكن في عصر نزول القرآن ، وهذا ما دعانا إلى عقد الفصل التالي.
1 ـ الأعراف : 54 ، يونس : 3 ، الرعد : 2 ، طه : 5 ، الفرقان : 59 ، السجدة : 4 ، الحديد : 4.
2 ـ الأعراف : 54.


(180)
    القرآن الكريم معجزة خالدة يشق طريقه للأجيال بمفاهيمه ومعانيه السامية ، فهو حجّة إلهية في كلّ عصر وجيل في عامّة الحوادث المختلفة صوراً والمتحدة مادة ، يقول النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع ، وما حل مصدَّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل و بيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تُحصى عجائبُه ولا تُبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ». (1)
    فقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « لا تُحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه » يرشدنا إلى الإمعان في القرآن في كلّ عصر وجيل والرجوع إليه في الحوادث والطوارق ، كما أنّ قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « وله ظهر وبطن » يرشدنا إلى أن نقف على ظهره وبطنه ، والمراد من البطن ليس هو التفسير بالرأي ، بل تحرّي المصداق المماثل للمصداق الموجود في عصر الوحي و به فسّره الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) حيث قال : « ظهره تنزيله ، وبطنه تأويله ، منه ما مضى ، منه ما لم يجئ بعد ، يجري كما تجري الشمس والقمر ». (2)
1 ـ الكافي : 2 / 599.
2 ـ مرآة الأنوار : 4.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن ::: فهرس