الملل والنحل جلد الثاني ::: 1 ـ 10
(3)
بحوث
في المِلل والنِحل
دراسة موضوعيّة مقارنة للمذاهب الإسلاميّة
الجزء الثاني
يتناول تاريخ الإمام الأشعري وأنصاره وعقائدهم
تأليف
جعفر السبحاني


(4)
بسم الله الرحمن الرحيم


(5)
التعارف و التآخي
في ظل البحث الموضوعي
بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على نبيّه ، والخيرة من أهل بيته ، وصحبه الطيّبين.
    أمّا بعد ، فهذا هو الجزء الثاني من كتابنا« بحوث في الملل والنحل » نقدّمه إلى القرّاء الكرام ، راجين منهم غض الطرف عمّا فيه من خلل أو زلل ، وإيقاف المؤلّف على ملاحظاتهم القيّمة.
    ويختص هذا الجزء ببيان حياة الإمام الأشعري ، وحياة أنصار مذهبه ، واستعراض الأُصول المهمة في منهجه ، وقد اعتمدنا في بيانها على المصادر المعتبرة الموثوق بها عند الأشاعرة.
    وطبيعة البحث كانت تقتضي تقديم التحقيق عن المعتزلة ، وتبيين أُصولها ، وترجمة شخصياتها اللامعة ، على الأشاعرة; ذلك أنّ منهج الاعتزال أقدم منهج فكري ظهر على الصعيد الإسلامي حين لم يكن عن الإمام الأشعري ومنهجه وأنصاره أثر ولا خبر.
    ولكن لمّا كان مذهب الأشعري مشتقاً من مذهب أهل الحديث وفرعاً منه ، وقد خصصنا الجزء الأوّل لبيان عقائد أهل الحديث والسلفيّين ، صار ذلك سبباً لتقديم ما حقّه التأخير ، وسنقوم ببيان أُصول المعتزلة وترجمة رجالها البارزين بعد تبيين عقائد « الماتريدية » ( التي هي والمذهب الأشعري صنوان


(6)
    نابتان من أصل واحد ). في الجزء الثالث; كلّ ذلك بفضله وكرمه.
    وأمّا المناهج الرجعية التي نبتت في العصور الأُولى ، كالجهمية والكرامية والظاهرية ، والتي أكل عليها الدهر وشرب ، وذهبت أدراج الرياح ، فترى الإيعاز إليها في ذاك الجزء أيضاً بإذنه سبحانه.
    إنّ البحث عن الملل والنحل ـ إذا كان قائماً على أساس علمي رصين ـ يكون وسيلة للتآخي والتآلف ، فإنّ الباحث يقف على أنّ كثيراًمن الأُصول في المذاهب مشتركة وموحدة ، وإنّما فرّقت بينها عوامل أُخرى لا تمتّ إلى المذهب بصلة ، وبذلك يصبح البحث عن « الملل والنحل » وسيلة للتآخي والتآلف.
    نعم لو اعتمد الباحث على مالا يصحّ الاعتمادعليه فربما شوّه سمعة المذهب ، وصوّره على غير ما هو عليه ، فيكون أداة للتباغض والتنافر.
    ونحن نرجو أن يوفقنا الله سبحانه لدراسة المذاهب ، كلّ على ما هو عليه من دون بخس لحق ، كما نرجو أن يوفقنا في سعينا لإصابة الحقيقة ، وبيان الواقع ، إنّه قريب مجيب الدعاء.
جعفر السبحاني
قم المشرّفة ـ الحوزة العلمية
20 جمادى الآخرة ، 1408هـ






(7)
حياة الإمام الأشعري
ومنهجه في العقائ
    افترق المسلمون ( أهل البحث والجدل منهم ) في النصف الأوّل من القرن الثاني إلى فرقتين :
    فرقة أهل الحديث : وهم الذين تعبّدوا بظواهر الآيات والروايات من دون غور في مفاهيمها ، أو دقة في أسنادها ، وكانوا يشكّلون الأكثرية الساحقة بين المسلمين ، وكثرت فيهم المشبّهة والمجسّمة ، والمثبتون لله سبحانه علوّاً وتنقّلاً وحركة وأعضاءً ، كاليد والرجل والوجه ، إلى غير ذلك من البدع التي ظهرت بين المسلمين عن طريق الأحبار والرهبان المتسترين بالإسلام.
    وفرقة الاعتزال : وهم الذين كانوا يتمسكون بالعقل أكثر من النقل ، ويؤوّلون النقل إذا وجدوه مخالفاً لفكرتهم وعقليتهم ، وبقي التشاجر قائماً على قدم وساق بين الفرقتين طوال قرون.
    فتارة يتغلّب أهل الحديث على أهل الاعتزال ويزوونهم ، وأُخرى ينغلّب جناح التفكر والاعتزال على أهل الظواهر والحديث ، وكانت غلبة كلّ فرقة على الأُخرى في كثير من الأحيان تنشأ من ميول الحكومات آنذاك لأحد الجناحين المتصارعين ، فنرى عصر الأمويين وأوائل عصر العباسيين ، عصر ازدهار منهج أهل الحديث والمتمسكين بظواهر النصوص; كما نرى الأمر على العكس في زمن المأمون وأخيه المعتصم والواثق بالله إلى عصر المتوكل ، فكان الازدهار لمنهج الاعتزال حتى صار مذهباً رسمياً للحكومات السائدة ، واعتقل بعض


(8)
    مشايخ أهل الحديث مثل أحمد بن حنبل ، حتّى جُلِدَ ثلاثين سوطاً لأجل اعتقاده بقدم القرآن الذي يُعدّ من مبادئ أهل الحديث.
    وكان الأمر على هذا المنوال إلى أن تسلّم المتوكل مقاليد الحكم; فأمر بنشر منهج أهل الحديث بقوة وحماس ، وتبعه غيره من العباسيين في دعم مقالتهم ، وتضييق الأمر على أهل الاعتزال ، وقد كان الأمر على هذا المنوال إلى عصر أبي الحسن الأشعري ( 260 ـ 324هـ ) الذي كان معتزلياً ثمّ صار ـ بحسب الظاهر ـ من زمرة أهل الحديث ، فكانت السلطة تسايرهم وتوافقهم. وسيوافيك القول في علل رجوعه عن مذهب الاعتزال إلى تيار أهل الحديث وفي مقدمتهم مذهب إمام الحنابلة أحمد بن حنبل.
    وقد كوّن الأشعري برجوعه عن الاعتزال إلى مذهب أهل الحديث منهجاً كلامياً ، له أثره الخاص إلى يومنا هذا بين أهل السنّة ، فمذهبه الكلامي هو المذهب السائد بينهم في أكثر الأقطار. ولأجل ذلك يجب علينا أن نتعرّف عليه وعلى آرائه ، فنقول :

نسب الإمام الأشعري
    هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري.
    يقول ابن عساكر في ترجمته : إنّ أباه إسماعيل بن إسحاق كان سنّياً جماعياً حديثياً ، أوصى عند وفاته إلى زكريا بن يحيى الساجي ، وهو إمام في الفقه والحديث ، وقد روى عنه الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتاب التفسير أحاديث كثيرة ، وقد يكنّى أبوه بـ « أبي بشر » و ربما يقال إنّها كنية جدّه. (1)
    وهذا يعرب عن أنّ البيت الذي تربّى فيه أبو الحسن كان بيت الحديث والرواية ، مقابلاً للمنهج العقلي الرائج بين المعتزلة ، ومن شأن الأبناء أن يرثوا
« تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري » تأليف ابن عساكر الدمشقي ( المتوفّى عام 571هـ ) وهو كتاب أفرد للبحث في حياته وسائر ما يتعلّق به ، ونعبر عنه بالتبيين اختصاراً.
(9)
    ما للآباء من الأفكار; وعلى ذلك فعود الشيخ إلى منهج أهل الحديث ، والإبانة عن الاعتزال كان رجوعاً موافقاً للأصل لا مخالفاً له; فهو رجع إلى الفكرة التي ورثها في خزانة ذهنه من بيته.

جدّه الأعلى : أبو موسى الأشعري
    اشتهر أبو الحسن بالأشعري ، نسبة إلى جدّه الأعلى المشتهر بهذا العنوان أيضاً ، وقد ورث جدّه أيضاً هذا اللقب عن أجداده الأعلين ، وترجم في كتب الرجال.
    قال ابن سعد في طبقاته : قد أسلم بمكة قديماً ثمّ رجع إلى بلاد قومه ، فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين : جعفر أصحابه من أرض الحبشة ، فوافوا رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بخيبر ، فقالوا : قدم أبو موسى مع أهل السفينتين; وكان الأمر على ما ذكرنا أنّه وافق قدومه قدومهم. (1)
    وقال ابن الأثير : كان عامل رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على زبيد و عدن ، واستعمله عمر على البصرة ، وشهد وفاة أبي عبيدة الجراح بالشام ، وكان أبو موسى على البصرة لمّا قتل عمر ، فأقرّه عثمان عليها ثمّ عزله ، واستعمل بعده ابن عامر ، فسار من البصرة إلى الكوفة ، فلم يزل بها حتى أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص ، وطلبوا من عثمان ، أن يستعمله عليهم ، فلم يزل على الكوفة حتى قتل عثمان ، فعزله عليّ ( عليه السَّلام ) عنها. (2)
    لم يكن عزل عليّ إيّاه عنها اعتباطاً ، بل لأجل أنّه كان يخذِّل الناس عن الإمام عند اشتباكه ( عليه السَّلام ) مع الناكثين في أطراف البصرة ، فقد ذكر
1 ـ طبقات ابن سعد : 4/105.
2 ـ أُسد الغابة : 3/246.


(10)
    الطبري أنّ الإمام عليّاً كتب إلى أبي موسى :
    « إنّي وجّهت هاشم بن عتبة لينهض من قبلك من المسلمين إلي ، فأشخص الناس ، فإنّي لم أولِّك الذي أنت به إلاّ لتكون من أعواني على الحقّ ».
    فدعا أبو موسى ، السائب بن مالك الأشعري ، فقال له : ما ترى؟ قال : أرى أن تتبع ما كتب به إليك ، قال : لكنّي لا أرى ذلك ، فكتب هاشم إلى عليّ ( عليه السَّلام ) أنّه قد قدمت على رجل غال مشاق ظاهر الغل والشن آن.
    وبعث بالكتاب مع المحل بن خليفة الطائي ، وعند ذاك بعث عليّ ( عليه السَّلام ) الحسن بن عليّوعمار بن ياسر وهما يستنفران له الناس ، وبعث قرظة بن كعب الأنصاري أميراً على الكوفة ، وكتب معه إلى أبي موسى :
    « أمّا بعد : فقد كنت أرى أن تعزب عن هذا الأمر الذي لم يجعل الله عزّوجلّ لك منه نصيباً ، سيمنعك من ردّ أمري; وقد بعثت الحسن بن عليّوعمار بن ياسر يستنفران الناس ، وبعثت قرظة بن كعب والياً على المصر ، فاعتزل عملنا مذموماً مدحوراً ». (1)
    هذا هو حال الجد الأعلى في أوائل خلافة الإمام عليّ ( عليه السَّلام ) ، حيث خذَّل الناس عن نصرة علي ( عليه السَّلام ) عندما قرب الاشتباك بينه و بين الناكثين ، وأمّا أمره في أواسط خلافته فحدّث عنه ولا حرج. فقد عُيّن من جانب علي ( عليه السَّلام ) وشيعته بالعراق ممثلاً قاضياً وحاكماً ، كما عيّن عمرو بن العاص من جانب معاوية حاكماً ، ليقضيا في أمر الفرقتين بما وجدا في كتاب الله ، وإن لم يجدا في كتاب الله فليرجعا إلى السنّة. (2)
    فكانت نتيجة ذلك ـ و يا للأسف ـ أنّه خلع عليّاً عن الخلافة ، وأثبت عمرو بن العاص معاوية في الخلافة ، وكأنّه وجد دليلاً في الكتاب والسنّة على عدم صلاحية الإمام للخلافة ، وذاك وجد دليلاً حاسماً على صلاحية معاوية
1 ـ تاريخ الطبري : 3/512.
2 ـ وقعة صفين : 505.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس