الملل والنحل جلد الثاني ::: 231 ـ 240
(231)
اللّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرينَ (1) ، وَاللّهُ لا يُحِبُّ الْظالِمينَ . (2)
    قال الإمام عليّ ( عليه السَّلام ) : « الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يحصي نعماءه العادّون ، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون ، الذي لا يدركه بعد الهمم ، ولا يناله غوص الفِطَن ». (3)
    فهل يحتمل الرازي أنّ المراد من هذه الجمل سلب العموم وأنّ بعض القائلين والعادّين والمجتهدين يبلغ مدحته ، ويحصي نعماءه ، ويؤدّي حقّه؟
     ( الثالث ) : أنّ الله تعالى لا يُرى بالعين وإنّما يرى بحاسة سادسة ، يخلقها الله تعالى يوم القيامة لما دلّت عليه الآية لا تُدْرِكُهُ الأَبْصار ، لتخصيص نفي إدراك الله ، بالبصر ، وتخصيص الحكم بالشيء يدلّ على أنّ الحال في غيره بخلافه ، فوجب أن يكون إدراك الله بغير البصر جائزاً ، ولما ثبت أنّ سائر الحواس الموجودة الآن لا تصلح لذلك ، ثبت أنّ الله تعالى يخلق حاسة سادسة فينا تحصل رؤية الله بها.
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ محور البحث رؤية الله بالعيون والأبصار لا بحاسة سادسة ، فماذ كره خروج من محل البحث والأشاعرة تبعاً لإمامهم ، يقولون برؤية الله سبحانه في الآخرة بهذه العيون كفلق القمر ، وتفسير الرؤية بخلق حاسة سادسة ، رجم بالغيب.
    ثانياً : كيف رضي الإمام بأنّ مفهوم قوله : لا تدركه الأبصار أنّه يدرك بغير الأبصار ، فحاول التفتيش عن الحاسة التي يدرك بها يوم القيامة ، فهداه التدبر إلى القول بأنّه يدرك بحاسة سادسة ، فهل يقول به في نظائره؟ إذا قال قائل : « ما رأيت بعيني » و« ما سمعت بأذني » ، فهل معناهما أنّه رآه بغير عينه أو سمعه بغير أذنه؟
1 ـ آل عمران : 32.
2 ـ آل عمران : 57.
3 ـ نهج البلاغة : الخطبة الأُولى.


(232)
    هذا ولو سمح لي أدب البحث والنقد ، لقلت بأنّ ما ذكره الرازي أشبه بالمهزلة ، وليست محاولته هذه إلاّ أنّه بصدد إصلاح ما اتخذه من موقف مسبق في هذا المجال. وإلاّ فالرازي ينبغي أن يترفع عن مثل هذا الكلام.
    ولأجل ذلك ضربنا عن الوجه الرابع صفحاً ، لكونه في الوهن مثل الثالث (1) ، بل أوهن منه.
    الآية الثانية : قوله سبحانه : يَومَئِذ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً* يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً . (2)
    إنّ الرؤية سواء أوقعت على الكل أم على الجزء ، نوع إحاطة به سبحانه عنها. والآية في كيفية البيان نظير الآية السابقة ، وتختلفان في تقدّم الإيجاب وتأخّر السلب هنا ، عكس الآية السابقة.
    فقوله : يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ نظير قوله : وهو يدرك الأبصار.
    وقوله : ولا يحيطون به علماً نظير قوله : لاتدركه الأبصار .
    والضمير في ولا يحيطون به يرجع إلى الله. واحتمل الرازي لأجل الفرار من دلالة الآية على امتناع رؤيته سبحانه رجوع الضمير إلى ما بين أيديهم و ما خلفهم أي لا يحيط العباد بما فيهما. وهو تأويل لأجل تثبيت موقف مسبق ، لأنّ عدم علم العباد بما فيهما ، أمر واضح لا حاجة لذكره هنا بلا موجب ، وإنّما المناسب هو ذكر إحاطته سبحانه بعباده ، وعدم إحاطتهم به ، فالآية تصف علمه تعالى بهم في موقف الآخرة ، وهو مابين أيديهم ، و قبل أن يحضروا الموقف في الدنيا وهو وما خلفهم ، فهم محاطون بعلمه ، ولا يحيطون به علماً فيجزيهم بما فعلوا ، وقد عرفت أنّ الرؤية نوع إحاطة.
1 ـ راجع للوقوف على هذه الوجوه تفسير الرازي : 4/118 ـ 119.
2 ـ طه : 109 ـ 110.


(233)
    الآية الثالثة : وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَومِهِ يا قَومِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا اِلى بِارئِكُمْ فَاْقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحيمُ* وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذْتُكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. (1)
    إذا كان جزاء اتخاذ العجل معبوداً هو قتل الأنفس ، كان جزاء الطالبين رؤية الله تعالى جهرة هو الأخذ بالصاعقة. وهذا يدلّ على أنّ الجرمين من باب واحد. فكما أنّ عبدة العجل جسّدوا الإله في العجل فطلبة الرؤية والمصرّون عليها ، صوّروه جسماً أو عرضاً قابلاً للرؤية ، فكلتا الطائفتين ظلموا ربّهم ونزّلوا الإله المتعالي عن الكيف والتشبيه والتجسيم والتجسيد ـ حسب زعمهم ـ إلى حضيض الأجسام والماديات والصور والأعراض ، فاستحقوا جزاءً واحداً ، وهو أخذهم من أديم الأرض بقتل أنفسهم ، أو حرقهم بالصاعقة.
    وإن شئت قلت : إنّ التماس الرؤية لو كان التماس أمر ممكن ، لم يكن في سؤالهم بأس أبداً ، فإمّا أن تجاب دعوتهم أو ترد ، ولا يصحّ إحراقهم بالصاعقة كما في سؤالهم الآخر.وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعام واحِد فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذي هُوَ اَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ. (2)
    الآية الرابعة : إنّه سبحانه ما ذكر سؤال الرؤية إلاّ استعظمه ، وما نوّه به إلاّ استفظعه ، ولو كانت الرؤية أمراً جائزاً وشيئاً ممكناً ، لما كان لهذا الاستعظام وجه ، وكان سؤالهم لها مثل سؤال الأُمم أنبياءهم بأنّهم لا يؤمنون إلاّ أن يحيي الموتى ، أو غير ذلك ، من دون الاستعظام والاستفظاع.
    وإليك هذه الآيات :
    1. يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ اَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأْلُوا
1 ـ البقرة : 54 ـ 55.
2 ـ البقرة : 61.


(234)
مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِنْ بَعْدِما جاءَتْهُمُ البَّيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبينا . (1)
    فسمّى سبحانه نفس السؤال ظلماً وعدواناً ، ويكفي في الاستعظام قوله فقد سألوا موسى أكبر من ذلك وقوله ثمّ اتخذوا العجل فكان السؤال واتخاذ العجل من باب واحد.
    2. وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَولا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبّنا لَقَدِ اسْتَكْبَروا في أَنْفُسِهمْ وَعَتَوا عُتُوّاً كَبيراً. (2)
    3.وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) (3). (4)
    فلو كانت الرؤية جائزة وهي عند مجوزيها من أعظم الجزاء ، لم يكن التماسها عتواً ، لأنّ من سأل تعالى نعمة في الدنيا لم يكن عاتياً ، وجرى مجرى ما يقال : لن نؤمن لك حتى يحيي الله بدعائك هذا الميت.
    وباختصار : إنّ هذا الاستعظام والاستفظاع لا يناسب كونه أمراً ممكناً ونعمة من نعمه سبحانه يكرم عباده بها في الآخرة.

الرازي والاستدلال بهذه الآيات
    قد اتخذ الرازي في تفسير الآيات موقف المجادل الذي لا يهمه سوى الدفاع عن فكرته ، أو موقف الغريق الذي يتشبث بكلّ حشيش وإن كان يعلم أنّه لا يجديه. وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا فاستمع لما نتلوه عليك منه وهو بصدد ردّالاستدلال بهذه الآيات من عدّ السؤال أمراً منكراً :
1 ـ النساء : 153.
2 ـ الفرقان : 21.
3 ـ البقرة : 55.
4 ـ وقد مرّت الآية في الحجة الثالثة ، ولكن كيفية الاستدلال في المقام تختلف عن ما تقدّم.


(235)
    1. إنّ رؤية الله لا تحصل إلاّ في الآخرة ، فكان طلبها في الدنيا أمراً منكراً.
    يلاحظ عليه : أنّه سبحانه يصف طلب الرؤية في الآيات السابقة بالظلم تارة والاستكبار ثانية ، والعتو الكبير ثالثة ، وإيجابه العذاب ونزول الصاعقة رابعة.
    فهل هذا أنسب مع طلب الأمر المحال ، أو أنسب مع طلب الأمر الممكن غير الواقع لمصلحة؟
    فهل الظلم ( التعدّي عن الحدود ) والاستكبار والعتو ، يناسب تطّلعهم إلى أمر عظيم رفيع ، وهؤلاء أقصر منه وتناسيهم أين التواب ورب الأرباب ، أو أنّه يناسب سؤالهم شيئاً ليس خارجاً عن مستواهم ، غير أنّ المصلحة أوجبت حرمانهم ، لا شكّ أنّ الأُمور الأربعة التي تحكي عن تكون جرم كثير وعصيان فظيع ، إنّما هي تناسب الأمر الأوّل لا الثاني.
    والذي يكشف عن ذلك أنّه سبحانه عدّ طلب الرؤية من موسى أكبر من سؤال أهل الكتاب من النبي الأكرم تنزيل كتاب عليهم من السماء وقال : يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَة (1). وليس وجه كون الثاني أكبر من الأوّل سوى كونه أمراً محالاً دون الآخر ، وإن كان غير واقع.
    2. إنّ حكم الله تعالى أن يزيل التكليف عن العبد حال ما يرى الله ، فكان طلب الرؤية طلباً لإزالة التكليف ، والرؤية تتضمن العلم الضروري وهو ينافي التكليف.
    يلاحظ عليه : أنّه من أين وقف الرازي على أنّ رؤية الله سبحانه في الدنيا لحظة أو لحظات توجب إزالة التكليف؟ فهل ورد ذلك في الكتاب أو السنّة ، أو أنّه من نتاج ذهنه وفكرته؟
    ثمّ إنّ مزيل التكليف هو حصول غايات التكليف وأهدافه. وليست
1 ـ النساء : 153.

(236)
    الغاية من التكليف إلاّ التكامل الروحي ، والانسلاخ من المادة والماديات ، والانسلاك في عداد الروحانيين وليس هذا ممّا يحصل بوقوع البصر على ذاته لحظة أو لحظات ، إلاّ أن تحولهم الرؤية إلى إنسان مثالي قد أتم كمالاته ، وهل هذا يحصل بصرف الرؤية؟ لا أدري ، ولا المنجم يدري ، ولا الرازي يدري.
    وأقصى ما يعطيه النظر بالأبصار ، هو الإذعان وحصول العلم الضروري بوجوده سبحانه عن طريق الحس ، وأين هذا من إنسان مثالي صار بالعبادة والطاعة مثلاً لأسمائه ، ومجالي لصفاته ، وترفع عن حضيض المادية ، متوجهاً إلى عالم التجرد.
    3. إنّه لما تمت الدلائل على صدق المدّعى ، كان طلب الدلائل الأُخرى تعنتاً ، والتعنت يستوجب التعنيف.
    يلاحظ عليه : أنّ بني إسرائيل أُمّة معروفة بالجدل والعناد ، وكانت حياتهم مملوءة بالتعنت. فلماذا لم تأخذهم الصاعقة إلاّ في هذا المورد؟
    وهذا يكشف عن كون التعنت في المورد ذا خصوصية ، وليست هي إلاّ لأجل إصرارهم على الرؤية عن طريق التكبر والعتو ، على تحقّق أمر محال.
    4. لا يمنع أن يعلم الله أنّ في منع الخلق عن رؤيته في الدنيا ضرباً من المصلحة المهمة ، فلذلك استنكر طلب الرؤية في الدنيا. (1)
    يلاحظ عليه : إذا كانت الرؤية أمراً ممكناً وجزاءً للمؤمنين في الآخرة ، وقد اقتضت المصلحة منعها عن الخلق في الدنيا ، فما معنى هذا التفزيع والاستنكار والاستفظاع؟ فهل طلب شيء خال عن المصلحة ، يوجب نزول الصاعقة والإحراق بالنار؟
    لم تكن هذه المحاولات الفاشلة صادرة عن الرازي لتبنّي الحقّ والبخوع
1 ـ راجع تفسير الرازي : 1/369 ، ط مصر في ثمانية أجزاء.

(237 )
    للحقيقة ، وإنّما هو نوع تعنت في مقابل أدلّة المحقّين في باب الرؤية. ونعم الحكم الله.
    الآية الخامسة : قوله سبحانه : وَلَما جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَةُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِني اَنْظُر إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَراني وَلكِنِ انْظُرْ إِلى الجَبَلِ فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَراني فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتتُ إِلَيْكَ وَأَنَا اَوّلُ الْمُؤْمِنين. (1)
    وقد تعرفت على كيفية الاستدلال بالآية عند سرد أدلّة المثبتين ونقدها ، فلا حاجة للتكرار. ولكن نشير إلى بعض الأهواء الساقطة للرازي في الاستدلال بها :
    1. لو كانت الرؤية ممتنعة فلماذا طلبها موسى؟
    وقد تعرفت على الإجابة عنه فلا نعيد.
    2. لو كانت رؤيته مستحيلة لقال لا أرى ( بصيغة المجهول ). ألا ترى أنّه لو كان في يد رجل حجر. فقال له إنسان : ناولني هذا لآكله ، فإنّه يقول له : هذا لا يؤكل ، ولا يقول له لا تأكل ، ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة ، لقال له« لا تأكله » أي هذا ممّا يؤكل ولكن لا تأكله. فلما قال تعالى« لن تراني » ولم يقل لا أُرى علمنا أنّ هذا يدل على أنّه تعالى في ذاته جائز الرؤية.
    يلاحظ عليه : أنّ الإجابة ب ـ « لن تراني » مكان « لا أُرى » لأجل حفظ المطابقة بين السؤال والجواب ، فلمّا كان السؤال ب ـ « أرني » وافاه الجواب ب ـ « لن تراني » وحين سمع القوم إنكاره سبحانه عليه مع نبوّته ، علموا أنّهم أولى به. وأنّ رؤيته تعالى شيء غير ممكن ، ولو جازت لنبيه.
    فأي قصور في دلالة الآية على الامتناع حتى يبدل الجواب بـ « لا أُرى ».
1 ـ الأعراف : 143.

(238)
    3.إنّه سبحانه علّق رؤيته على أمر ممكن جائز ، والمعلّق على الجائز ، جائز فينتج أنّ الرؤية في نفسها جائزة.
    وقد تعرفت على الإجابة عنه.
    4. إنّ تجلّيه سبحانه للجبل هو رؤية الجبل لله ، وهو لما رآه سبحانه اندكّت أجزاؤه ، فإذا كان الأمر كذلك ، ثبت أنّه تعالى جائز الرؤية. أقصى ما في الباب أن يقال : الجبل جماد ، والجماد يمتنع أن يرى شيئاً ، إلاّ أنّا نقول : لا يمتنع أن يقال : إنّه تعالى خلق في ذلك الجبل الحياة والعقل والفهم ثمّ خلق فيه الرؤية متعلّقة بذات الله. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من رؤية الجبل إياه سبحانه ، مع الحياة والعقل والفهم ، شيء نسجته فكرته ، وليس في نفس الآية أي دليل عليه ، والحافز إلى هذه الحياكة ، هو الدفاع عن الموقف المسبق والعقيدة التي ورثها ، فإنّ ظاهر الآية أنّ الجبل لم يتحمل تجلّيه سبحانه فدُك وذاب ، وبطلت هويته ، لا أنّه رآه وشاهده ، وقد عرفت أنّ التجلّي كما يكون بالذات ، يكون بالفعل أيضاً ، ولو كان الجبل لائقاً بهذه الفضيلة الرابية ، فنبيّه أولى بها ، وفي قدرته سبحانه أن يريه ذاته ، مع حفظه عمّا ترتّب على الجبل من الاندكاك ، فالنتيجة أنّ العالم بأسره لا يتحمل تجلّيه سبحانه ، بفعل أو بوصف من أوصافه ، أو باسم من أسمائه.
استدلال المنكرين بالسنّة
    لقدعرفت هدي القرآن وقضاءه في الرؤية. وهناك روايات متضافرة عن طريق أهل البيت والعترة الطاهرة الذين جعلهم الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أعدال الكتاب وقرناءه ، فقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إنّي تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي ، كتاب الله عزّوجلّ حبل ممدود
1 ـ تفسير الرازي : 4/292 ـ 295 ، ط مصر في ثمانية أجزاء ، وقد جعل كلّ واحد من هذه الأُمور حجّة على جواز الرؤية ، وقد نقلناه ملخصاً.

(239 )
    من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ». (1)
    ومن يرجع إلى خطب الإمام ( عليه السَّلام ) في التوحيد ، وما أثر من أئمّة العترة الطاهرة ، يقف على أنّ مذهبهم في ذلك هو امتناع الرؤية ، وأنّه لا تدركه أوهام القلوب ، فكيف أبصار العيون. وإليك النزر اليسير في ذلك الباب :
    1. قال الإمام في خطبة الأشباح : « الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله ، والآخر الذي ليس له بعد ، فيكون شيء بعده ، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه ». (2)
    2. وقد سأله ذعلب اليماني فقال : هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال ( عليه السَّلام ) : « أفأعبد مالا أرى؟! » فقال : وكيف تراه؟ فقال : « لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير ملابس ، بعيد عنها غير مباين ». (3)
    3. وقال ( عليه السَّلام ) : « الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ، ولا تحويه المشاهد ولا تراه النواظر ، ولا تحجبه السواتر ». (4)
    إلى غير ذلك من خطبه ( عليه السَّلام ) الطافحة بتقديسه وتنزيهه عن إحاطة الأبصار والقلوب به. (5)
    وأمّا المروي عن سائر أئمّة أهل البيت فقد عقد ثقة الإسلام الكليني في
1 ـ مسند أحمد : 3/26 ، وقريب منه ما رواه غيره.
2 ـ نهج البلاغة : ( الخطبة : 87 ) ط مصر للإمام عبده. « أناسي » : جمع إنسان البصر : هو ما يرى وسط الحدقة ممتازاً عنها في لونها.
3 ـ نهج البلاغة : الخطبة : 174.
4 ـ نهج البلاغة : الخطبة : 180.
5 ـ لاحظ الخطب : 48و 81و ... .


(240)
    كتاب « الكافي » ، باباً خاصاً للموضوع روى فيه ثماني روايات. (1)
    كما عقد الصدوق في كتاب التوحيد باباً لذلك روى فيه إحدى وعشرين رواية ، فيها نور القلوب وشفاء الصدور. (2) ومن أراد الوقوف فليرجع إلى تلك الجوامع الحديثية.
1 ـ الكافي : 1/95 ، باب إبطال الرؤية.
2 ـ التوحيد : 107 ـ 122 ، الباب 8.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس