الملل والنحل جلد الثاني ::: 221 ـ 230
(221)
غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَومَ حَديدُ . (1) والمراد من كشف الحجب هو وصول الإنسان في الإذعان والإيمان إلى حد لا يبقى معه أيّ شك وتردد.
    إنّ الإنسان في المشهد الأخروي يبلغ مبلغاً من الكمال ، يدرك حضوره عند خالقه وبارئه ، وذلك نفس حقيقةوجود الممكن وواقعيته ، إذ لا حقيقة للوجود الإمكاني إلاّ قوامه بعلّته ، و تعلّقه بموجده ، تعلّق المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، والإنسان في ذلك المشهد يجد نفسه حاضرة عند بارئها حضوراً حقيقياً كما يجد ذاته حاضرة لدى ذاته ، والعلم الحضوري لا يختصّ بالعلم بالذات ، بل يعم العلم بالموجد الذي هو قائم به.
    وباختصار : فرقٌ بين أن يتصوّر الإنسان تعلّقه ببارئه ، وبين أن يجد تلك الواقعة التعلقية بوجودها الخارجي. فذلك الحضور والشهود ، شهود بين القلب ، وحضور بتمام الوجود ، لا يصل الأوحدي في الدنيا ، كما يصل إليه الإنسان في المشهد الأُخروي.
    وإلى ذلك يشير ما روي عن أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) حين جاءه حبر وقال له : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال : ويلك ، ما كنت أعبد ربّاً لم أره. قال : وكيف رأيته؟ قال : ويلك ، لا تدركه العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. (2)
    ونظيره ما روي عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) حيث سئل عن أيّ شيء يعبد؟ قال : « الله تعالى ». فقيل له : رأيته؟ قال : « لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، لا يعرف بالقياس ، ولا يدرك بالحواس ، ولا يشبه بالناس ، موصوف بالآيات ، معروف بالعلامات ، لا يجور في حكمه ، ذلك الله لا إله إلاّ هو ». فخرج السائل وهو يقول : الله أعلم حيث يجعل رسالته. (3)
1 ـ ق : 22.
2 ـ الكافي : 1 ، كتاب التوحيد ، باب في إبطال الرؤية ، الحديث 6.
3 ـ المصدر السابق ، الحديث5.


(222)
    ويحتمل أن يكون المراد من لقاء الله هو يوم البعث ، ويؤيده قوله سبحانه : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الله (1) فكنّى بلقاء الله عن يوم البعث ، لأنّ الكافرين ما كانوا يكذبون إلاّ بيوم البعث ، قال سبحانه : فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا. (2)
    وقال تعالى : يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرونَكُمْ لِقاءَ يَومِكُمْ هذا. (3)
    وقال عزّاسمه : وَقيلَ الْيَومَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَومِكُمْ هذا . (4)
    وإنّما كنّي عن لقاء يوم البعث بلقاء الله ، لأنّه سبحانه يتجلّى للإنسان بقدرته وسلطانه ، ووعده ووعيده ، ولطفه وكرمه ، وعزّه وجلاله ، وجنوده وملائكته ، إلى غير ذلك من شؤونه. فيصح أن يقال : إنّ هذا اليوم يوم لقاء الرب ، فإنّ لقاء الآثار والآيات الدالة على عظمة صاحبها ، نوع لقاء له.
    ويرشدك إلى ما ذكرنا قوله سبحانه : إِنَّ الّذِينَ لا يَرجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها ... (5) فجعل عدم رجاء لقاء الرب في مقابل الرضى بالحياة الدنيا ، يدل على أنّ المراد من لقاء الرب هو الحياة الأُخروية ، الملازمة لشهود آياته وآثاره العظيمة.
    وما أوردناه من الآيات هي من أهمّ ما استدل به الأشاعرة ، وبقيت هناك آيات ربما تمسكوا بها ولكنّها لا تمت إلى مقصودهم بصلة. ولأجل ذلك تركنا التعرض لها.

الاستدلال على الرؤية بالسنَّة
    استدلّ القائلون بالرؤية بالأدلّة السمعية ، منها الكتاب ، وقد عرفت المهم منها ، ومنها السنّة ، ونكتفي بالمهم منها أيضاً :
1 ـ لأنعام : 31.
2 ـ السجدة : 14.
3 ـ الزمر : 71.
4 ـ الجاثية : 24.
5 ـ يونس : 7.


(223)
    روى البخاري في باب « الصراط جسر جهنم » بسنده عن أبي هريرة قال : قال أُناس : يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال : هل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : هل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونها سحاب؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فإنّكم ترونه يوم القيامة ، كذلك يجمع الله الناس فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت ، وتبقى هذه الأُمّة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربّكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا ، فإذا أتانا ربّنا عرفناه ، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربّكم ، فيقولون : أنت ربّنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم ... إلى أن يقول : و يبقى رجل مقبل بوجهه على النار فيقول : يا ربّ قد قشبني ريحها ، وأحرقني ذكاؤها ، فاصرف وجهي عن النار ، فلا يزال يدعو الله فيقول : لعلّك إن أعطيتك أن تسألني غيره.
    فيقول : لا وعزّتك لا أسألك غيره ، فيصرف وجهه عن النار ، ثمّ يقول بعد ذلك : يا رب قرّبني إلى باب الجنة ، فيقول : أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك ، فلا يزال يدعو فيقول : لعلّك إن أعطيتك ذلك تسألني غيره ، فيقول : لا وعزّتك لا أسألك غيره ، فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره ، فيقربه إلى باب الجنّة فإذا رأى ما فيها ، سكت ما شاء الله أن يسكت ، ثمّ يقول : ربّي أدخلني الجنة ، ثمّ يقول : أو ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ، ويلك يابن آدم ما أغدرك ، فيقول : يا ربّ لا تجعلني أشقى خلقك ، فلا يزال يدعو حتى يضحك ( الله ) ، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها ... الحديث. (1)
    ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مع اختلاف يسير. (2)
1 ـ البخاري : 8/117باب الصراط جسر جهنم.
2 ـ صحيح مسلم : 1/113 ، باب معرفة طريق الرؤية.


(224)
    ورواه أيضاً عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن وفيه : حتى إذا لم يبق إلاّ من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها ، قال : فما تنتظرون تتبع كلّ أُمّة ما كانت تعبد ، قالوا : يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم ، فيقول : أنا ربّكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، لا نشرك بالله شيئاً ، مرتين أو ثلاثاً حتى أنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب ، فيقول : هل بينكم وبينَه آية فتعرفونه بها ، فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ، إلاّ أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد اتّقاءً ورياءً إلاّ جعل الله ظهره طبقة واحدة ، كلّما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ... الحديث. (1)
    وقد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص. ورواه أحمد في مسنده. (2)
تحليل الحديث
    إنّ هذا الحديث مهما كثرت رواته ، وتعددت نَقَلَتُه لا يصحّ الركون إليه في منطق الشرع والعقل بوجوه :
    1. إنّه خبر واحد لا يفيد شيئاً في باب الأُصول والعقائد ، وإن كان مفيداً في باب الفروع والأحكام ، إذ المطلوب في الفروع هو الفعل والعمل ، وهو أمر ميسور سواء أذعن العامل بكونه مطابقاً للواقع أم لا ، بل يكفي قيام الحجّة على لزوم الإتيان به ، ولكن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب ونفي الريب والشكّ عن وجه الشيء ، وهو لا يحصل من خبر الواحد ولا من خبر الاثنين ، إلاّ إذا بلغ إلى حدّ يورث العلم والإذعان ، و هو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين.
1 ـ صحيح مسلم : 1/115 ، باب معرفة طريق الرؤية.
2 ـ مسند أحمد بن حنبل : 2/368.


(225)
    2. إنّ الحديث مخالف للقرآن الكريم ، حيث يثبت لله صفات الجسم ولوازم الجسمانية كما سيوافيك بيانه عن السيد الجليل شرف الدين ( رحمه الله ).
    3. ماذا يريد الراوي في قوله : « فيأتي الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربّكم »؟ فكأنّ لله سبحانه صوراً متعدّدة يعرفون بعضها ، وينكرون البعض الآخر ، وما ندري متى عرفوا التي عرفوها ، فهل كان ذلك منهم في الدنيا ، أو كان في البرزخ أم في الآخرة؟
    4. ماذا يريد الراوي من قوله : « فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ... »؟ فإنّ معناه أنّ المؤمنين والمنافقين يعرفونه سبحانه بساقه ، فكانت هي الآية الدالة عليه.
    5. كفى في ضعف الحديث ما علّق عليه العلاّمة السيد شرف الدين ( رحمه الله ) حيث قال : إنّ الحديث ظاهر في أنّ لله تعالى جسماً ذا صورة مركبة تعرض عليها الحوادث من التحول والتغير ، وأنّه سبحانه ذو حركة وانتقال ، يأتي هذه الأُمّة يوم حشرها ، وفيها مؤمنوها ومنافقوها ، فيرونه بأجمعهم ماثلاً لهم في صورة غير الصورة التي كانوا يعرفونها من ذي قبل. فيقول لهم : أنا ربّكم ، فينكرونه متعوذين بالله منه ، ثمّ يأتيهم مرّة ثانية في الصورة التي يعرفون. فيقول لهم : أنا ربّكم ، فيقول المؤمنون والمنافقون جميعاً : نعم ، أنت ربّنا وإنّما عرفوه بالساق ، إذ كشف لهم عنها ، فكانت هي آيته الدالة عليه ، فيتسنّى حينئذ السجود للمؤمنين منهم ، دون المنافقين ، وحين يرفعون رؤوسهم يرون الله ماثلاً فوقهم بصورته التي يعرفون لا يمارون فيه ، كما كانوا في الدنيا لا يمارون في الشمس والقمر ، ماثلَيْن فوقهم بجرميهما النيرين ليس دونهما سحاب ، وإذ به ، بعد هذا يضحك ويعجب من غير معجب ، كما هو يأتي ويذهب ، إلى آخر ما اشتمل عليه الحديثان ممّا لا يجوز على الله تعالى ، ولا على رسوله ، بإجماع أهل التنزيه من أشاعرة وغيرهم ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم. (1)
1 ـ كلمة حول الرؤية : 65 ، وهي رسالة قيمة في تلك المسألة ، وقد مشينا على ضوئها ـ رحم الله مؤلفها رحمة واسعة ـ .

(226)
    إنّ أحمد بن حنبل احتج في مجلس المعتصم بحديث جرير ، فقال المعتصم للقاضي أحمد بن أبي داود : « ما تقول في هذا؟ » فقال القاضي : إنّه يحتجّ بحديث جرير ، وإنّما رواه عنه قيس بن حازم ، وهو أعرابي بوّال على عقبيه. (1)

استدلال المنكرين بالعقل
    استدلّ المنكرون بوجوه عقلية :
    الأوّل : إنّ الرؤية البصرية لا تقع إلاّ أن يكون المرئي في جهة ومكان ، ومسافة خاصة بينه و بين رأيه ، أن يكون مقابلاً لعين الرائي ، وكلّ ذلك ممتنع على الله سبحانه ، والقول بحصول الرؤية بلا هذه الشرائط أشبه بتمنّي المحال.
    الثاني : إنّ الرؤية إمّا أن تقع على الله كلّه فيكون مركباً محدوداً متناهياً محصوراً ، وإمّا أن تقع على بعضه فيكون مبعّضاً مركباً ، وكلّ ذلك ممّا لا يلتزم به أهل التنزيه.
    الثالث : إنّ كلّ مرئي بجارحة العين يشار إليه بحدقتها ، وأهل التنزيه كالأشاعرة وغيرهم ينزّهونه سبحانه عن الإشارة إليه بإصبع أو غيره.
    الرابع : إنّ الرؤية بالعين الباصرة لا تتحقّق إلاّ بوقوع النور على المرئي وانعكاسه منه إلى العين ، والله سبحانه منزّه عن كلّ ذلك.
    وإلى هذا الدليل يشير الإمام الهادي أبو الحسن علي بن محمد العسكري عليمها السَّلام فيما رواه الكليني عن أحمد بن إدريس ، عن أحمد بن إسحاق قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالث ( عليه السَّلام ) أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس. فكتب : « لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر ، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصح الرؤية ». (2)
1 ـ مناقب أحمد : 1/391.
2 ـ الكافي : 1/97 ، كتاب التوحيد ، باب في إبطال الرؤية ، الحديث4.


(227)
    ومراده من الهواء هو الأثير الحامل للنور ونحوه.
الاستدلال بالكتاب
    استُدِلَّ على امتناع رؤيته سبحانه بآيات :
    الآية الأُولى : قوله سبحانه : ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكيلٌ* لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ. (1)
    الإدراك مفهوم عام لا يتعين في البصري أو السمعي أو العقلي ، إلاّبإضافته إلى الحاسّة التي يراد الإدراك بها ، فالإدراك بالبصر يراد منه الرؤية بالعين ، والإدراك بالسمع يراد منه السماع ، ولأجل ذلك لو قال قائل : أدركته ببصري وما رأيته ، أو قال : رأيته وما أدركته ببصري يعدّ متناقضاً ، والآية بصدد بيان علوّه ، وأنّه تعالى تفرّد بهذا الوصف ، وهو أنّه يرى ولا يُرى ، كما تفرَّد سبحانه بأنّه يطعم ويجير ، ولا يطعم ولا يجار عليه ، قال سبحانه : قُل أَغَيْرَ اللّهِ أَ تَّخِذُ وَلِيّاً فاطِرِالسَّمواتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ (2) وقال سبحانه : قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ يُجيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . (3)
    وإن شئت قلت : إنّ الأشياء في مقام التصوّر على أصناف :
    1. ما يرى و يُرى ( بالضم ) كالإنسان.
    2. مالا يرى ولا يُرى كالأعراض النسبية ، أي : الكيف والكم.
    3. ما يُرى ولا يرى كالجمادات.
1 ـ الأنعام : 102 ، 103.
2 ـ الأنعام : 14.
3 ـ المؤمنون : 88.


(228)
    4. ما يرى ولا يُخرى ، وهذا القسم تفرّد به سبحانه ، وأنّه تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
    وبعبارة أُخرى : إنّه سبحانه لمّا قال : وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكيل ربما يتبادر إلى بعض الأذهان أنّه إذا صار وكيلاً على كلّ شيء ، يكون جسماً قائماً بتدبير الأُمور الجسمانية ، فدفعه بأنّه سبحانه مع كونه وكيلاً لكلّ شيء لا تُدْرِكُهُ الأَبصارولمّا يتبادر من ذلك الوصف ، إلى بعض الأذهان أنّه إذا تعالى عن تعلّق الأبصار فقد خرج عن حيطة الحس ، وبطل الاتصال الوجودي الذي هو مناط الإدراك والعلم بينه و بين مخلوقاته ، دفعه بقوله : وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصار ثمّ علّل بقوله : وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبير ، واللّطيف وهو الرقيق النافذ في الشيء و الخبير من له الخبرة الكاملة ، فإذا كان تعالى محيطاً بكلّ شيء لرقته ونفوذه في الأشياء ، كان شاهداً على كلّ شيء ، لا يفقده ظاهر كلّ شيء وباطنه ، ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنه ، من غير أن يشغله شيء عن شيء ، أو يحتجب عنه شيء بشيء. (1)
    ومن عجيب التأويل : قول الأشعري : إنّ قوله سبحانه : لا تُدْرِكُهُ الأَبْصار : تأويله الصحيح : إمّا أنّ الأبصار لا تدركه تعالى في الدنيا ولكن تدركه في الآخرة.
    وإمّا أنّ أبصار الكافرين لا تدركه. (2)
    ولا يخفى أنّه تأويل لا شاهد له ، وهو يهاجم المعتزلة بنظير هذه التأويلات ، وقد ارتكبه هو في الذب عن مذهبه.
    وحسبك في توضيح الآية ما ذكره الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا ( عليه السَّلام ) في تفسير الآية ، روى العياشي في تفسيره عن الأشعث بن حاتم قال : قال ذو الرئاستين : قلت لأبي الحسن الرضا ( عليه السَّلام ) : جعلت
1 ـ الميزان : 7/308بتلخيص.
2 ـ الإبانة : 17.


(229)
    فداك ، أخبرني عمّا اختلف فيه الناس من الرؤية ، فقال بعضهم : لا يُرى. فقال : يا أبا العباس من وصف الله بخلاف ما وصف به نفسه ، فقد أعظم الفرية على الله ، قال الله : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأَبصار وهو اللَّطيف الخبير. (1)
    وهناك حديث آخر عن الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : قال أبو قرة للإمام الرضا ( عليه السَّلام ) : إنّا رُوينا أنّ الله عزّ وجلَّ قسم الرؤية والكلام بين اثنين ، فقسم لموسى ( عليه السَّلام ) الكلام ، ولمحمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) الرؤية؟ فقال أبو الحسن ( عليه السَّلام ) : فمن المبلّغ عن الله عزّوجلّ إلى الثقلين : الجن والإنس : لا تُدْرِكُهُ الأَبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبصار ، ووَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ، و لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءأليس محمداً ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ؟ قال : بلى. قال : فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله ، وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول : لا تُدْرِكُهُ الأَبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبصار ، وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلْما ، و لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءثمّ يقول : أنا رأيته بعيني ، وأحطت به علماً ، وهو على صورة البشر ، أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا : أن يكون يأتي عن الله بشيء ، ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر. (2) كلام الرازي حول الآية
    وإنّ تعجب فعجب قول الرازي : « إنّ أصحابنا ( الأشاعرة ) احتجوا بهذه الآية على أنّه يجوز رؤيته ، والمؤمنون يرونه في الآخرة » فإنّ الآية لو لم تدل على مقالة المنكِر ، لا تدل على مقالة المثبت ، ولما كان موقف الرازي في المقام موقف المفسر الذي اتخذ لنفسه عقيدة وفكرة ، حاول أن يثبت دلالة الآية على ما يرتئيه بوجوه عليلة ، وإليك تلك الوجوه :
1 ـ تفسير العياشي : 1/373 الحديث 79.
2 ـ التوحيد للصدوق : 110 ـ 111 ، الحديث 9 ، وقد استدلّ الإمامعليه السَّلام بعدة آيات على امتناع رؤيته ، وسيوافيك بيان دلالتها.


(230)
     ( الأوّل ) : أنّ الآية في مقام المدح ، فلو لم يكن جائز الرؤية لما حصل التمدّح بقوله : لا تدركه الأبصار ألا ترى أنّ المعدوم لا تصحّ رؤيته ، والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم ، لا تصحّ رؤية شيء منها ، ولا مُدح شيء منها في كونها لا تدركها الأبصار ، فثبت أنّ قوله : لا تدركه الأبصار يفيد المدح ، ولا يصحّ إلاّ إذا صحت الرؤية.
    يلاحظ عليه : أوّلاً : لو كان المدح دليلاً على إمكان الرؤية فليكن المدح في الآية التالية دليلاً على إمكان ما ذكر فيها ، قال سبحانه : وَقُلِ الْحَمْدُ للّهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَريكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبيراً. (1) فلو دل سلب شيء عن شيء على إمكان ثبوته له ، لدلت الآية على جواز اتخاذه الولد والشريك ، ممّا يعد مستحيلاً في نفسه عليه تعالى.
    وثانياً : أنّ المدح ليس بالجزء الأوّل وهو لا تدركه الأبصار بل بمجموع الجزءين المذكورين في الآية ، واللّهـ سبحانه جلّت عظمتهـ يدرك ، ولكن لعلوّ شأنه ، ومقامه لا يُدرك.
     ( الثاني ) : أنّ لفظ الأبصار ، صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهي تفيد الاستغراق بمعنى أنّه لايدركه جميع الأبصار ، وهذا يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب.
    يلاحظ عليه : أنّ المتبادر في المقام هو الثاني لا الأوّل ، وأيّ عبارة أصرح من الآية في الدلالة على أنّه لا يدركه أحد من جميع ذوي الأبصار من مخلوقاته ، وأنّه تعالى يدركهم ، وهذا هو المفهوم من نظائره.
    قال سبحانه : إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتدين (2) ، و قال سبحانه : فَإِنَّ
1 ـ الإسراء : 111.
2 ـ البقرة : 190.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس