الملل والنحل جلد الثاني ::: 211 ـ 220
(211)
    السؤال إلاّ بإصرار قومه حتى يكبت هؤلاء ويسكتهم ، لم يوجّه إلى الكليم أي مؤاخذة ، بل خاطبه بقوله لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني.
    وهناك كلام للإمام الطاهر علي بن موسى الرضا ( عليه السَّلام ) يعرب عن صحّة ما ذكرناه ، وأنّ سؤال الكليم لم يكن من جانب نفسه ، بل من جانب قومه. قال الإمام ( عليه السَّلام ) « إنّ كليم الله موسى بن عمران ( عليه السَّلام ) علم أنّ الله ، تعالى عن أن يرى بالأبصار ، ولكنّه لما كلّمه الله عزّوجلّ وقرّبه نجياً ، رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ الله عزّوجلّ كلّمه وقرّبه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت.
    وكان القوم سبعمائة ألف رجل ، فاختار منهم سبعين ألفاً ، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ، ثمّ اختار منهم سبعمائة ، ثمّ اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه ، فخرج بهم إلى طور سيناء ، فأقامهم في سفح الجبل ، وصعد موسى ( عليه السَّلام ) إلى الطور وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلّمه ، ويسمعهم كلامه ، فكلّمه الله ، تعالى ذكره ، وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام. لأنّ الله عزّ وجلّ أحدثه في الشجرة ، ثمّ جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه فقالوا : لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة ، فلمّا قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتَوا ، بعث الله عزّوجلّ عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا.
    فقال موسى : يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا : إنّك ذهبت به فقتلتهم ، لأنّك لم تكن صادقاً فيما ادعيت من مناجاة الله إيّاك ، فأحياهم الله وبعثهم معه. فقالوا : إنّك لو سألت الله أن يريك أن تنظر إليه لأجابك ، وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حقّ معرفته ، فقال موسى ( عليه السَّلام ) : « يا قوم إنّ الله لا يُرى بالأبصار ولا كيفية له ، وإنّما يُعرف بآياته ويُعلم بأعلامه.
    فقالوا لن نؤمن لك حتى تسأله ، فقال موسى ( عليه السَّلام ) : يا ربّ قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم ، فأوحى الله جلّ جلاله إليه : يا


(212)
    موسى اسألني ما سألوك فلن أُؤاخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى ( عليه السَّلام ) : ربّ أرني أنظر إليك. قال : لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه ( وهو يهوي ) فسوف تراني ، فلما تجلّى ربّه للجبل ( بآية من آياته ) جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً ، فلمّا أفاق قال : سبحانك تبت إليك ( يقول : رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي ) وأنا أوّل المؤمنين ( منهم بأنّك لا تُرى ) ، فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن. (1)
    ثمّ إنّ للعّلامة الزمخشري كلاماً حول تفسير الآية هو فصل الخطاب ، يقرب كلامه ممّا نقلناه عن الإمام الطاهر أبي الحسن الرضا ( عليه السَّلام ) ، فإلى القارىء نصه : « فإن قلت : كيف طلب موسى ( عليه السَّلام ) ذلك وهو من أعلم الناس بالله وصفاته و مايجوز عليه ومالا يجوز ، وبتعاليه عن الرؤية التي هي إدراك ببعض الحواس ، وذلك إنّما يصحّ فيما كان في جهة ، وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة.
    قلت : ما كان طلب الرؤية إلاّ ليبكِّت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضُلاّلاً ، وتبرأ من فعلهم ، وليلقمهم الحجر; وذلك أنّهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم ، وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحقّ ، فلجّوا وتمادوا في لجاجهم ، وقالوا : لابدّ ، ولن نؤمن حتى نرى الله جهرة. فأراد أن يسمعوا النصّ من عند الله باستحالة ذلك ، وهو قوله : « لن تراني » ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة ، فلذلك قال : ربِّ أرني أَنظر إليك.
    فإن قلت : فهلاّ قال : أرهم ينظروا إليك؟ قلت : لأنّ الله سبحانه إنّما كلّم موسى ( عليه السَّلام ) وهم يسمعون ، فلمّا سمعوا كلام ربّ العزّة أرادوا أن يري موسى ذاته فيبصروه معه ، كما أسمعه كلامه فسمعوه معه ، إرادة مبنية على قياس فاسد ، فلذلك قال موسى : أَرني أَنظر إليك ولأنّه إذا زجر عمّا طلب وأنكر عليه في نبوته واختصاصه وزلفته عند الله ، وقيل له : لن يكون ذلك ، كان غيره أولى بالإنكار ، ولأنّ الرسول إمام أُمّته فكان ما يخاطب به أو ما
1 ـ توحيد الصدوق : 121 ـ 122.

(213)
    يخاطب ، راجعاً إليهم ، وقوله : أَنظر إليك وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم ، دليل على أنّه ترجمة عن مقترحهم ، وحكاية لقولهم ، وجلّ صاحب الجمل أن يجعل الله منظوراً إليه ، مقابلاً بحاسة النظر ، فكيف بمن هو أعرف في معرفة الله تعالى من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأبي الهذيل والشيخين وجميع المتكلّمين.
    فإن قلت : ما معنى « لن »؟
    قلت : تأكيد النفي الذي تعطيه « لا » و ذلك أنّ « لا » تنفي المستقبل ، تقول : لا أفعل غداً ، فإذا أكدت نفيها قلت : لن أفعل غداً. والمعنى أنّ فعله ينافي حالي ، كقوله : لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلو اجْتَمعوا له ، فقوله : لا تُدركه الأَبصار نفي للرؤية فيما يستقبل و لن تراني تأكيد و بيان ، لأنّ النفي مناف لصفاته. (1)
    ذلك كلام الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا ( عليه السَّلام ) ، أحد قرناء الكتاب وأعداله حسب تنصيص النبي الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم. (2) وهذا تحليل علاّمة المعتزلة ، ولو تأمل الإنسان المحايد فيما ذكر ، لعرف دلالة الآية على امتناع الرؤية.
    وبذلك يعلم أنّ الميقات الوارد في قوله تعالى : وَلَمّا جاءَمُوسى لِميقاتِنا وَكَلّمَهُ رَبّهُ قالَ رَبِّ أَرِني أَنْظُر إِليك نفس الميقات الوارد في الآية الأُخرى ، أعني قوله : وَاخْتارَمُوسى قومهُ سَبْعينَ رَجُلاً لِميقاتِنا فَلَمّا أَخَذتهُمُ الرّجْفَةولم يكن لموسى مع قومه أي ميقات غير هذا. غير أنّ الرجوع في سورة الأعراف إلى مسألة الميقات ثانياً بعد ذكره في بدء القصة ، لأجل العناية بهذه القطعة من القصة ، والقرآن ليس كتاب قصة ، وإنّما هو كتاب هداية يكرر من القصة ما يهمّه.
    وبعبارة أُخرى : إنّ موضوع طلب الرؤية ذكر في ثنايا القصة مرّة
1 ـ الكشاف : 1/573 ـ 574 ط مصر. كذا في المطبوع ، والصحيح : أنّ الرؤية منافية ، كما في جوامع الجامع.
2 ـ في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين ، قال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ».


(214)
     ( الأعراف : 143 ) لأجل حفظ تسلسل فصول القصة ، وذكر في نهايتها ثانياً ( الأعراف : 155 ) لأجل إبراز العناية ، وأنّه كان مسألة مهمة في حياة بني إسرائيل.
لقاء أو لقاءان؟
    قد استظهرنا أنّه لم يكن لموسى حول مسألة الرؤية إلاّ ميقات واحد ، ولم يكن هنا إلاّ طلب واحد لأجل إصرار قومه. وربما يحتمل تعدد اللقاءين ، وأنّ الأوّل منهما كان عند اصطفائه سبحانه لكلامه ، وتشريفه بإعطاء التوراة ، وإرساله إلى قومه; وكان الثاني بعد رجوعه من الميقات ومشاهدة اتخاذ قومه العجل إلهاً ، فعند ذاك اختار من قومه سبعين رجلاً وذهب بهم إلى الميقات ، فأصروا على أنّهم لا يؤمنون به إلاّ بعد رؤية الله جهرة. فالآية الأُولى وَلَمّاجاء مُوسى لميقاتناناظرة إلى اللقاء الأوّل والآية الثانية واختار موسى قومه إلى اللقاء الثاني. وكان في كلّ ، طلب وسؤال خاص.
    هذا هو المفترض ، ولكنّه بعيد جداً ، وعلى فرض ثبوته لا يدلّ على المطلوب المدّعى ثانياً.
    أمّا الأوّل : فلأنّه لو كان للكليم لقاءان ، وقد سأل في الأُولى منهما الرؤية لنفسه وحده وأُجيب بالنفي ، ولمّا شاهد اندكاك الجبل عند تجلي الرب صعق ووقع على الأرض ، كان عليه تذكير قومه بما وقع وتخويفهم من الطلب ، مع أنّه لم يذكر منه شيء في الآية الثانية. ولو نبّههم بذلك ـ و مع ذلك ألّحوا على الرؤية ـ لأشار إليه الذكر الحكيم إيعازاً إلى لجاجهم وعنادهم.
    وكلّ ذلك يعرب عن وحدة اللقاء ، وأنّ مجيئه لميقات ربّه لإخذ الألواح كان مع من اختارهم من قومه ، ولم يكن إلاّ طلب واحد في حضرة القوم.
تفسير الآية بوجه آخر
    وعلى فرض التعدّد فالرؤية التي طلبها موسى لنفسه وقال : أَرني أَنْظُر إِليك غير الرؤية التي طلبها قومه ، فالمراد من الثانية هو الرؤية البصرية


(215)
    المستحيلة ، وقد أعقب السؤال نزول الصاعقة وإهلاك القوم ، ولكن المراد من الأوّل هوحصول العلم الضروري ، وإنّما سمي بالرؤية للمبالغة في الظهور. وله نظائر في القرآن كقوله سبحانه : وَكَذلِكَ نُري إِبْراهيمَ مَلَكُوتَ السَّمواتِ وَالأَرْض ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنين (1)وقوله عزّ من قائل : كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقينِ *لَتَرَوُنَّ الجَحيم . (2)
    فالكليم أجلّ من أن يجهل امتناع الرؤية الحسية بالأبصار ، خصوصاً في الدنيا التي يسلّم الخصم امتناعه فيها. فهذا قرينة على أنّ مقصوده منها هو العلم الضروري من دون استعمال آلة حسية أو فكرية. فالله سبحانه لما اصطفاه برسالته وتكليمه وهو العلم بالله من جهة السمع ، رجا أن يزيده بالعلم من جهة الرؤية ، وهو كمال العلم الضروري ، فأُجيب بالنفي ، وأنّ الإنسان ما دام شاغلاً بتدبير بدنه ، لا ينال ذاك العلم.
    هذا ، والأصح هو الجواب الأوّل ، وأنّه لم يكن هنا إلاّ طلب واحد بإصرار من قومه.
إكمال
    بقي الكلام في ارتباط قوله سبحانه : وَلكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني بما قبله لن تراني وقد قيل في وجه ارتباطه وجهان ، والثاني هو المتعيّن ، وإليك بيانه :
    الأوّل ما ذكره صاحب الكشاف ، وحاصله ، أنّ اندكاك الجبل كان ردّ فعل لطلب الرؤية حتى يقف موسى على استعظام ما أقدم عليه من السؤال ، وإن كان بإلحاح قومه وإصرارهم ، وكأنّه عزّ وجلّ حقّق عند طلب الرؤية ما ذكره في مورد آخر ، أعني : نسبة الولد إليه ، أعني قوله : وتخرّ الجبال هداً* أن دعوا للرّحمن ولداً. (3)
1 ـ الأنعام : 75.
2 ـ التكاثر : 5 ـ 6.
3 ـ الكشاف : 1/575.


(216)
    يلاحظ عليه : أنّ سياق الآية ، سياق الهداية والبرهنة على أنّه لا يُرى ، وعلى ما ذكره يكون الكلام وارداً موضع العتاب الخفيف على موسى ، لأجل طلب الرؤية من جانب قومه ، ليقف على استعظام عمله وعظم أثره ، وهو اندكاك الجبل وانخراره وصيرورته تراباً ، وهذا لا ينطبق على ظاهر الآية وإن استحسنه الزمخشري وقال :
    « وهذا كلام وارد في أُسلوب عجيب ونمط بديع ، فقد تخلص من النظر إليه إلى النظر إلى الجبل بكلمة الاستدراك ».
    الثاني : أنّ الاستدراك بمنزلة التعليل لقوله : « لن تراني » والمقصود بيان ضعف الإنسان وعدم طاقته لرؤيته سبحانه ، وقد بين ذلك بتجلّيه على الجبل فصار دكاً ، وهوأقوى من الإنسان وأرسخ منه ، فإذا كان هذا حال الجبل فكيف حال الإنسان الذي يشاركه في كونه موجوداً مادياً خاضعاً للسنن الكونية ، وقد خلق الإنسان ضعيفا؟!
    وبذلك يحفظ على سياق الآية وارتباط أجزائها بعضها ببعض.
    وأمّا ما هو المقصود من تجلّيه سبحانه ، فالتجلّي هو الانكشاف والظهور بعد الخفاء ، قال سبحانه : وَاللّيلِ إِذا يَغْشى* وَالنَّهارِ إِذا تَجَلّى (1) فالليل يغشى النهار ويستره ، ثمّ يتجلّى النهار ويظهر بالتدريج. والمقصود من تجلّيه سبحانه هو تجلّيه بآثاره وأفعاله. وبما أنّ نتيجة التجلّي كانت اندكاك الجبل وصيرورته تراباً ، كان التجلّي بنزول الصاعقة على الجبل التي تقلع الأشجار ، وتهدم البيوت وتذيب الحديد ، وتحدث الحرائق ، وتقتل من تصيبه من الناس ، وليست هي إلاّ شرارة كهربائية تنتج من اتحاد كهربائية سحابة في الجو مع الكهربائية الأرضية ، فتكون نتيجة الاتحاد هي الصاعقة وبروز الشرارة ، وما يرى من نورها هو البرق ، وما يسمع هو الرعد ، وهو صوت الشرارة الكهربائية التي تخرق طبقات الهواء.
    فإذا كان الإنسان عاجزاً وفاقداً للطاقة في مقابل تجلّيه بفعله وأثره ، فأولى
1 ـ الليل : 1 ـ 2.

(217)
    أن يكون عاجزاً في مقابل تجلّيه بذاته ونفسه.
    وبذلك تتبيّن دلالة الآية على عدم إمكان رؤيته ، فضلاً عن دلالته على إمكانها.
    قد عرفت أنّ الأشاعرة استدلّت بهذه الآية بوجهين ، وقد ظهر مدى صحّة الوجه الأوّل ، وإليك بيان الوجه الثاني :

الوجه الثاني
    قالوا : إنّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه ، والمعلّق على الممكن ممكن ، لأنّ معنى التعليق أنّ المعلّق يقع على تقدير وقوع المعلّق عليه. والمحال في نفسه لا يقع على شيء من التقادير.
    يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على أن يكون المراد من قوله سبحانه فإن استقر مكانه هو إمكان الاستقرار. ولا شكّ أنّه أمر ممكن ، ولكن الظاهر أنّ المراد هو استقراره بعد تجلّيه ، وهو بعد لم يستقر عليه ، بدليل قوله سبحانه : جعله دكاً وهذا نظير قولك : « أنا أعطيك هذا الكتاب إن صليت » والمراد قيام المخاطب بها بالفعل لا إمكان قيامه.
    وبذلك يظهر أنّ ما حكاه صاحب الانتصاف عن أحمد بن حنبل لا يفيد القائلين بالرؤية ، فقد نقل عنه أنّ من حيل القدرية في إحالة الرؤية ما يقولون إنّه سبحانه علّق الرؤية على شرط محال وهو استقرار الجبل حال دكّه. والمعلّق على المحال محال. وهذه حيلة باطلة ، فإنّ المعلّق عليه استقرار الجبل من حيث هو استقرار ، وذلك ممكن جائز ، وحينئذ نقول : استقرار الجبل ممكن وقد علّق عليه وقوع الرؤية ، والمعلّق على الممكن ممكن. (1)
    وغير خفي على النبيه أنّ المعلّق عليه ليس ما حكي عن المعتزلة ، وهو استقرار الجبل حال دكّه ، ولا ما ذهب إليه أحمد من إمكان الاستقرار ، بل
1 ـ الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال للإمام ناصر الدين أحمد بن محمد الاسكندري المالكي بهامش الكشاف : 1/575.

(218)
    المعلّق عليه وجود الاستقرار وبقاؤه بعد تجلّي الرب سبحانه ، ولم يكن هذا واقعاً.
    وباختصار ، إنّ إمكان الرؤية ، علّق على وجود الاستقرار وتحقّقه بعد التجلّي ، وهو حسب الفرض لم يقع. وينتج أنّ الرؤية ليست أمراً ممكناً.
الآية الثالثة
    قوله سبحانه : إِذا تُتْلى عَليهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الأَوّلينَ* كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ* كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَمَحْجُوبونَ* ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الجَحيم . (1)
    قال الرازي : « احتج أصحابنا بقوله سبحانه : كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَومَئِذ لَمَحْجُوبُونعلى أنّ المؤمنين يرون سبحانه و تعالى. قال : ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة ، ثمّ قال : وفيه تقرير آخر ، وهو أنّه تعالى ذكر هذا الحجاب في معرض التهديد والوعيد للكفّار ، وما يكون وعيداً وتهديداً للكفّار لا يجوز حصوله في حقّ المؤمن ». (2)
    والاستدلال مبني على أنّ المراد هو كون الكفّار محجوبين عن رؤيته سبحانه مع أنّ المناسب لظاهر الآية كونهم محجوبين عن رحمة ربّهم بسبب الذنوب التي اقترفوها ، وبأي دليل حملها الرازي على الحرمان من الرؤية؟
    على أنّ المعرفة التامة به تعالى ، التي هي فوق الرؤية الحسية بالأبصار الظاهرة ، تكون حاصلة لكلّ الناس يوم القيامة ، إذ عندئذ ترتفع الحجب المتوسطة بينه تعالى و بين خلقه ، قال سبحانه : وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبينُ . (3)
    وقال سبحانه : لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَة مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ
1 ـ المطففين : 13 ـ 16.
2 ـ مفاتيح الغيب : 8/354 ، ط مصر.
3 ـ النور : 25.


(219)
فَبَصَرُكَ الْيَومَ حَديد. (1)
الآية الرابعة
    قوله سبحانه : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ . (2)
    قالوا : إنّ المراد من « الحسنى » هو الجنة و من « زيادة » هو رؤية الله. قال الرازي : إنّ الحسنى لفظ مفرد دخل عليه حرف التعريف ، فانصرف إلى المعهود السابق وهو دار السلام المذكور في الآية المتقدمة : وَالله يَدعُو إِلى دار السَّلاموَإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من « زيادة » أمراً مغايراً لكلّ ما في الجنة من المنافع والتعظيم ، وإلاّ لزم التكرار ، وكلّ من قال بذلك قال : إنّما هي رؤية الله. (3)
    يلاحظ عليه : أنّه لا دليل على حمل اللام على العهد ، بل المراد الجنس ، والمراد أنّ الذين أحسنوا لهم المثوبة الحسنى مع زيادة على ما يستحقونه. قال سبحانه : ليوفّيهم أُجورهُمْ ويزيدهم من فَضله ويؤيده ذيل الآية التي تليهاوَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَة بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ الله مِنْ عاصِم كَأْنَّما أُغشيِتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. (4)
    وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقضي بأنّ المراد : إنّ للذين أحسنوا في الدنيا ، المثوبة الحسنى مع زيادة عمّا يستحقونه ، والّذين كسبوا السّيئات لا يجزون إلاّ بمثلها ، وليس في الآية إشعار برؤية الله ، فضلاً عن الدلالة.
    وبذلك يتبين مفاد آية أُخرى ، أعني قوله سبحانه : ادْْخُلُوها بِسَلام ذلِكَ
1 ـ ق : 22.
2 ـ يونس : 26.
3 ـ مفاتيح الغيب : 8/354.
4 ـ يونس : 27.


(220)
يَومُ الخُلُودِ* لَهُمْ ما يَشاءُونَ فِيها وَلَدَيْنا مَزيد (1) فالآيتان تشيران إلى ما يفيده قوله : فَأَمّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَدِّبُهُمْ عَذاباً أَليماً. (2)
    ولقد جرى الحقّ على قلم الرازي إذ قال : ويحتمل أن يكون المعنى : عندنا ما نزيده على ما يرجون وعلى ما يشتهون.
    الآية الخامسة
    قوله سبحانه : وَاسْتَعينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنّها لَكَبيرَةٌ إِلاّ عَلى الخاشِعينَ *الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِليهِ راجِعُونَ . (3)
    قالوا : « إنّ الملاقاة تستلزم الرؤية بحكم العقل ». (4)!
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ لقاء الربّ لو كان مستلزماً لرؤيته ، فهو عام للمؤمن والكافر ، قال سبحانه : يا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيه* فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ* فَسَوفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسيراً. (5) مع أنّ الأشاعرة يخصّون الرؤية بالمؤمن.
    وثانياً : أنّ المراد بلقاء الله وقوف العبد موقفاً لا حجاب بينه و بين ربّه ، كما هو الشأن يوم القيامة الذي هو ظرف ظهور الحقائق. قال الله تعالى : وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبينُ . (6)
    وقال سبحانه : لِمَنِ المُلْكِ اليَومَ للّهِ الواحِدِ القَهّارِ . (7)
    وقال سبحانه : لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَة مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ
1 ـ ق : 34 ـ 35.
2 ـ النساء : 173.
3 ـ البقرة : 45 ، 46.
4 ـ مفاتيح الغيب : 2/346 ، ط مصر.
5 ـ الإنشقاق : 6 ـ 8.
6 ـ النور : 25.
7 ـ غافر : 16.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس