الملل والنحل جلد الثاني ::: 201 ـ 210
(201)
    الوجود في الواجب شيئاً طارئاً عليه ، ومع قيام هذا الاحتمال لا يصحّ للمستدلّ أن يجعل مصحّح الرؤية نفس الوجود ، ثمّ يدّعي اشتراكه بين الواجب وغيره.
    بل هناك احتمال ثالث ، هو أن يكون الملاك ومصحّح الرؤية هو الوجود الإمكاني المادي ، الذي يقع في إطار شرائط خاصة لتحقّقها ، وهي عبارة عن المقابلة وكونه طرف الإضافة المقولية بين البصر والمبصر ، بضميمة وجود الضوء بينهما ، فادّعاء كون الملاك أمراً وسيعاً ( الوجود ) ، يحتاج إلى دليل.
    ولو أردنا أن نقف على ما هو الملاك ـ من زاوية العلوم الطبيعية ـ فإنّ الإبصار حسب هذه العلوم رهن ظروف خاصة ، ولا تعدو عن كون المبصر موجوداً ممكناً مادياً ، يقع في أُفق الحس حيث يوجد هناك ضوء ، وادّعاء إمكان الإبصار في غير هذه الظروف يحتاج إلى دليل ، وليس الاحتمال كافياً في مقام البرهان.
    والعجب أنّه يدّعي أنّ مصحّح الرؤية هو الوجود ، وعليه أن يعترف بصحّة رؤية الأفكار والعقائد ، والروحيات والنفسانيات من القدرة والإرادة ، إلى غير ذلك من الموجودات التي لا يشكّ أحد في امتناع رؤيتها.
    ولكن الشيخ حسب نقل شارح المواقف أجاب عن هذا النقض بقوله : إنّنا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرتموها لجريان العادة من الله بعدم الرؤية ، فإنّه أجرى عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولكن لا يمتنع أن يخلق فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها. (1)
    ولا يخفى أنّ كلامه يتضمن المصادرة على المطلوب ، إذ من أين وقف على إمكان رؤيتها حتى يصحّ تعليل عدم وقوعها بقوله : « أجرى عادته بعدم خلق رؤيتها فينا مع إمكانها » فإنّ الكلام في نفس الإمكان ، والخصم يدّعي الامتناع وهو يدّعي خلافه.
    أضف إلى ذلك أنّ اللجوء إلى عادة الله في كلمات الشيخ الأشعري
1 ـ شرح المواقف : 8/123.

(202)
    وأتباعه ، يرجع لبه إلى إنكار السببية والمسببية بين عوالم الوجود ودرجات العالم ، وأنّ كلّ حادثة طارئة تستند إليه سبحانه مباشرة ، وأنّه هو المحرق والمبرد ، وما يتبادر إلى الأذهان والحواس من كون النار محرقة ليس إلاّ جريان عادة الله على إيجاد الحرارة بعد وجود النار ، ولا صلة بين النار والحرارة.
    وهذا الأصل الذي يعتمد عليه الأشاعرة في كثير من المواضع يضاد الكتاب العزيز والبرهان القويم. كيف و قد صرّح سبحانه في الذكر الحكيم بتأثير العلل الطبيعية في معلولاتها بإذن منه سبحانه ، ونكتفي من الآيات الكثيرة بآية واحدة : الّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَبِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (1). أنظر إلى قوله سبحانهفَأخرج بهأي بسبب الماء ، فللماء سببية وتأثير في خروج الثمرات. (2)

الأمر الثالث : دليل القائلين بالجواز من القرآن
    استدل القائلون بجواز الرؤية بآيات كثيرة نذكر المهم منها :
    الأُية الأُولى
    قوله سبحانه : كَلاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ* وُجُوهٌ يَومَئِذ ناضِرَةٌ *إِلى رَبِّها ناظِرَة* وَوُجُوهٌ يَومَئِذ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ . (3)
    تمسّكت الأشاعرة لجواز رؤية الله بهذا الدليل السمعي ، قائلين بأنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار ، يستعمل بغير صلة ، ويقال انتظرته ، وإذا كان بمعنى التفكر يستعمل بلفظة « في » ، وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل باللام ، وإذا كان بمعنى الرؤية يستعمل ب ـ « إلى » و النظر في الآية استعمل بلفظ « إلى » ، فيحمل
1 ـ البقرة : 22.
2 ـ تقدّم الكلام فيه.لاحظ : ص 161.
3 ـ القيامة : 20 ـ 25.


(203)
    على الرؤية. (1)
    قال الشيخ أبو الحسن : والدليل على أنّ الله تعالى يُرى بالأبصار قوله تعالى : وُجُوهٌ يَومَئِد ناضِرَة* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (2) ولا يجوز أن يكون معنى قوله إِلى ربّها ناظرةمعتبرة ، كقوله تعالى : أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) (3). لأنّ الآخرة ليست بداراعتبار ، ولا يجوز أن يعني متعطفة راحمة كما قال : « ولا ينظر إليهم » أي لا يرحمهم ولا يتعطف عليهم ، لأنّ الباري لا يجوز أن يتعطف عليه (4). ولا يجوز أن يعني منتظرة ، لأنّ النظر إذا قرن النظر بذكر القلب لم يكن معناه نظر العين ، لأنّ القائل إذا قال : أنظر بقلبك في هذا الأمر ، كان معناه نظر القلب ، وكذلك إذا قرن النظر بالوجه لم يكن معناه إلاّ نظر الوجه.
    والنظر بالوجه هو نظر الرؤية الذي يكون بالعين التي في الوجه ، فصحّ أنّ معنى قوله تعالى : إِلى رَبِّها ناظرةٌ رائية. إذا لم يجز أن يعني شيئاً من وجوه النظر الأُخرى. (5)
    قال أيضاً حول دلالة الآية على الرؤية :
    إنّ النظر في هذه الآية لا يمكن أن يكون نظر الانتظار ، لأنّ الانتظار معه تنقيص وتكدير ، وذلك لا يكون يوم القيامة ، لأنّ الجنّة دار نعيم وليست دار ثواب أو عقاب ، ولا يمكن أن يكون نظر الاعتبار ، لأنّ الآخرة ليست دار الاعتبار بل دار ثواب أو عقاب ، ولا يمكن أن يكون نظر القلب ، لأنّ الله تعالى ذكر النظر مع الوجه ، فاتضح أنّه نظر العينين ، وإذا بطلت هذه المعاني
1 ـ شرح التجريد للقوشجي : 334.
2 ـ القيامة : 22 ـ 23.
3 ـ الغاشية : 17.
4 ـ هذا سهو من قلمه ، لأنّ الآية تتضمن نفي نظره سبحانه إليهم بالرحمة والعطف ، لا نظرهم إليه بالعطف والحنان حتى يصح قوله : « لأنّ الباري لا يجوز أن يتعطف عليه » فلاحظ.
5 ـ اللمع : 64.


(204 )
    للنظر لم يبق إلاّ حالة واحدة وهي نظر الرؤية.
    يلاحظ عليه : من أين وقف الشيخ الأشعري على أنّ الآيات تحكي عن أحوال المؤمنين بعد دخول الجنّة والكافرين بعد الاقتحام في النار؟
    والظاهر بقرينة قوله : تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أنّ الآيات تحكي عن أحوالهم قبل دخولهم في مستقرهم ومأواهم ، فلا مانع من أن يكون انتظار من دون أن يكون هناك تكدير وتنقيص.
    قد شغلت هذه الآية بال الأشاعرة والمعتزلة ، فالفرقة الأُولى تصرُّ على أنّ النظر هنا بمعنى الرؤية ، والثانية تصر على أنّها بمعنى الانتظار لا الرؤية ، ويقولون : إنّ النظر إذا استعمل مع « إلى » يجيء بمعنى الانتظار أيضاً ، يقول الشاعر :
    
وجوه ناظرات يوم بدر إلى الرحمن يأتي بالفلاح (1)
    أي منتظرة إتيانه تعالى بالنصرة والفلاح.
    إلى غير ذلك من الآيات والروايات والأشعار العربية ، الواردة فيها تلك اللفظة بمعنى الانتظار ، حتى فيما إذا كانت مقرونة بـ « إلى ».
    غير أنّ الحقّ أنّ الآية لا تدلّ على نظرية الأشاعرة ، حتى ولو قلنا إنّ النظر في الآية بمعنى الرؤية ، فإنّ الآية على كلا المعنيين تهدف إلى أمر آخر ، لا صلة له بمسألة الرؤية ، ويعرف مفاد الآيات بمقارنة بعضها ببعض ، وإليك بيانه :
    إنّ الآية الثالثة تقابل الآية الأُولى ، كما أنّ الرابعة تقابل الثانية ، وعند المقابلة يرفع إبهام الثانية بالآية الرابعة ، وإليك تنظيم الآيات حسب المقابلة :
    أ. وجوه يومئذ ناضرة ـ يقابلها قوله : وجوه يومئذ باسرة .
    ب. إلى ربّها ناظرة ـ يقابلها قوله : تظن أن يفعل بها فاقرة .
    وبما أنّ المقابل للآية الثانية واضح المعنى ، فيكون قرينة على المراد منها ،
1 ـ وفي رواية : تنتظر الخلاصا.

(205)
    فإذا كان المقصود من المقابل أنّ الطائفة العاصية تظن وتتوقع أن ينزل بها عذاب يكسر فقارها ، ويقصم ظهرها ، يكون المراد من عدله وقرينه عكسه وضدّه ، وليس هو إلاّ أنّ الطائفة المطيعة تكون مستبشرة برحمته ، ومتوقعة لفضله وكرمه ، لا النظر إلى جماله وذاته وهويته ، وإلاّ لخرج المقابلان عن التقابل وهو خلف.
    وبعبارة أُخرى : يجب أن يكون المقابلان ـ بحكم التقابل ـ متحدي المعنى والمفهوم ، ولا يكونا مختلفين في شيء سوى النفي والإثبات ، فلو كان المراد من المقابل الأو ، ّل أعني : إلى ربّها ناظرة ، هو رؤية جماله سبحانه وذاته ، فيجب أن يكون الجزاء في قرينه ، أعني : تظن أن يفعل بها فاقرة هو حرمان هؤلاء عن الرؤية ، أخذاً بحكم التقابل. وبما أنّ تلك الجملة ـ أعني : القرين الثاني ـ لا تحتمل ذلك المعنى ، أعني : الحرمان من الرؤية ، بل صريحة في انتظار العذاب الفاقر ، يكون ذلك قرينة على المراد من القرين الأوّل ، هو رجاء رحمته وانتظار فرجه وكرمه.
بيان آخر
    إنّ المراد من « ناظرة » سواء أفسرت بمعنى الانتظار أم النظر المرادف مع الرؤية ، هو توقّع المطيعين المتقين الرحمة الإلهية ، في مقابل توقع العصاة عذابه الفاقر ، فإذا كان هو المراد من الآية حسب التقابل ، فلو قلنا بأنّ لفظة « ناظرة » بمعنى الانتظار تسقط دلالة الآية على الرؤية ـ ولو كانت بمعنى النظر المرادف مع الرؤية ـ فهي كناية عن انتظار الرحمة ، مثلاً يقال : فلان ينظر إلى يد فلان ، يراد أنّه رجل معدم محتاج ليس عنده شيء ، وإنّما يتوقع أن يعطيه ذلك الشخص ، فما أعطاه ملكه ، وما منعه حرم منه ، وهذا ممّا درج عليه الناس في محاوراتهم العرفية ، إذ يقول إنسان في حقّ آخر« فلان ينظر إلى الله ثمّ إليك » فالنظر ، وإن كان هنا بمعنى الرؤية بلا شك ، لكنّه كناية عن انتظار فضله سبحانه وكرمه ، كانتظاره بعد الله فضل سيده ، ويفسره في « أقرب الموارد » بقوله« يتوقع فضل الله ثمّ كرمك » و الآية نظير قول القائل :
    
إنّي إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر


(206)
    فمحور البحث والمراد ، في أمثال المورد ، هو توقّع الرحمة وحصولها ، أو عدم توقّعها وشمولها ، فالطغاة يظنون شمول عذاب يفقرهم ويكسر ظهورهم ، والصالحون يظنّون عكسه وضدّه. وأمّا رؤية الله سبحانه ووقوع النظر إلى ذاته فخارج عن مدار البحث في هذه المواقع ، والأشعري وكلّ من استدلّ بهذه الآية على الرؤية خلط المعنى المكنّى به بالمعنى المكنّى عنه. فقد كنّى بالنظر إلى الله عن الانتظار لرحمته وشمول فضله وكرمه.
    ولذلك نظائر في الكتاب العزيز ، يقول سبحانه : إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيمانِهِمْ ثَمَناً قَليلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَليم (1). والمراد من قوله : « لا ينظر إليهم » هو المعنىالمكنّى عنه ، وهو طردهم عن ساحته ، وعدم شمول رحمته لهم ، وعدم تعطّفه عليهم ، وتدلّ على ذلك الآية المتقدّمة عليها ، حيث قال عزّ من قائل : بَلى مَنْ أَوفى بِعَهْدِهِ وَاتّقى فَإنَّ الله يُحِبُّ المُتَّقينَ . (2)
    فلو قمنا بالمقابلة يكون سياق الآيات بالشكل التالي : مَن أَوفى بِعَهدِهِ وَاتّقى يكون جزاؤه قوله : يحبّه الله فإنّ الله يحبّ المتقين.
    وإِنَّ الَّذينَ يَشترون بِعَهْدِ الله وَأَيمانِهِمْ ثَمَناً قَليلا يكون جزاؤهم قوله : لا يُكَلّمُهُمُ اللّهوَلا يَنْظُر إِليهِمْ يَومَ القِيامةِ .
    فالإبهام الموجود في الجزاء الثاني يرتفع بالمعنى المتبادر من الجزاء الأوّل ، فبما أنّ المراد منه هو عموم رحمته وشمول فضله يكون المراد من الجزاء الثاني هو قبض رحمته وعدم شموله لهم.
    وإن شئت قلت : إنّ المراد من « لا ينظر إليهم » ليس هو عدم رؤية الله وعدم مشاهدته إيّاهم ، لأنّ رؤيتهم أو عدم رؤيته ليس أمراً مطلوباً لهم حتى
1 ـ آل عمران : 77.2 ـ آل عمران : 76.

(207)
    يُهَدَّدوا بعدم النظر إليهم وإنّما النافع بحالهم هو وصول رحمته إليهم ، والمضر بحالهم عدم شمول لطفه لهم ، فيكون المراد عدم تعطّفه إليهم.
    هذا هو مفتاح حل المشكل المتوهم في الآية ، فتفسير الآية برؤية الله أخذاً بالمعنى المكنّى به غفلة عن محور البحث فيها.
    ويدلّ على أنّ المراد من النظر ـ حتى ولو كان بمعنى الرؤية ـ ليس هو الرؤية البصرية ، بل المقصود انتظار الرحمة ، تقديم المفعول ، أعني : « إلى ربّها » على الفعل والفاعل أعني : « ناظرة » ، فإنّ تقديمه يدلّ على معنى الاختصاص ، والاختصاص صحيح لو قلنا بأنّ المراد هو انتظار رؤيته ، لأنّ الإنسان في هذا الظرف الهائل لا يتوقع إلاّ رحمة الله وعنايته ولطفه فقط ، ولا يتوقع شيئاً سواها حتى يتخلص من أهوال القيامة ، وأمّا رؤية الله سبحانه فليست بهذه المنزلة في تلك الأحوال ، فليس الناس بحالة لا يطلبون فيها إلاّ النظر إليه وعدم النظر إلى غيره. وإن عمّهم العذاب بعد الرؤية ليصحّ وجه الحصر. لأنّ ما ينجيهم من الأهوال هو رحمته ، لا رؤية وجهه.
    يقول صاحب الكشاف : إنّ المؤمنين ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد. فاختصاصه سبحانه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه ، محال أو غير واقع ، فوجب حمله على معنى يصحّ معه الاختصاص. والذي يصحّ معه أن يكون من قبيل قول الناس« أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي » يريد معنى التوقّع والرجاء ومن هذا القبيل قوله :
    وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دون ـ ك زدتني نعماً (1)
    إنّ هنا كلمة أُخرى للزمخشري في كشافه ، يقول :
    « وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم ، تقول : « عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم ».تقصد راجية ومتوقعة لإحسانهم إليها ، كما هو معنى قولهم : « أنا أنظر إلى الله ثمّ إليك » : « أتوقع فضل الله ثمّ فضلك ». (2)
1 ـ الكشاف : 4/662.
2 ـ الكشاف : 3/294 ، في تفسير قوله سبحانه : ( إلى ربّها ناظرة ).


(208 )
    فلو أنّ القوم تجرّدوا عن انتحال مسلك مسبق ، ونظروا إلى القرآن بعين التفهّم والاستفادة ، لما شكّ أحد في أنّ المراد من النظر إلى الله سبحانه في ذلك المشهد الرهيب هو رجاء رحمته وفضله وكرمه.
    وممّا ذكرنا تعرف أنّ ما أتعب به الشيخ نفسه لا يفيد شيئاً. فإنّ غاية ما أثبته هو أنّ النظر هنا بقرينة « وجوه » بمعنى الرؤية ، ولكنّه لم يستدلّ على أنّ الرؤية هل هي المقصود بالذات ، أو هي كناية عن معنى آخر وهو انتظار رحمته ، واليقين بفضله وكرمه؟ مع أنّ هنا فرقاً واضحاً بين قولنا : « عيون يومئذ ناظرة » و وجوه يومئذ ناظرة فلو كان الأوّل ظاهراً في الرؤية فليس الثاني كذلك. فهو في الانتظار أوضح وأبين. وليس الفاعل في قوله سبحانه : إِلى ربّها ناظرة هو العيون ، بل الوجوه المذكورة في الآية المتقدمة ، أعني قوله : وجوه يومئذ ناظرة فالنظر منسوب إلى الوجوه لا إلى العيون ، فافهم.
    وباختصار ، إنّا لا نقول بأنّ النظر هنا نظر القلب ، حتى يستدلّ الشيخ على عدم صحّته بأنّ النظر إذا قرن بالوجوه لم يكن معناه نظر القلب ، الذي هو انتظاره ، وإنّما نقول بأنّ المراد منه هو النظر بالعين ، ولكن هذا المعنى المطابقي كناية عن معنى التزامي. والمقصود في الكنايات هو المعنى الثاني لا المعنى الأوّل. فإذا قلت « فلان كثير الرماد » فصدقه يتوقّف على كثرة ضيوفه ووفرة من ينزل في بيته ، لا على وجود رماد في بيته.
    وعلى ذلك فالذي يجب التركيز عليه هو الوقوف على ما هو مقصود المتكلّم من قوله : إِلى ربّهاناظرة فهل هو يريد أنّ جزاء المطيعين ذوي الوجوه الناظرة هو النظر إلى ذات الله ورؤيته؟ أو أنّه كناية عن جزاء آخر ، هو انتظار رحمته وفضله وكرمه ، في مقابل الطغاة ذوي الوجوه الباسرة الظانين بنزول العذاب الفاقر.
    وهذه هي النكتة المهمة في فهم الآية وقد غفل عنها الأشعري وروّاد منهجه.
    الآية الثانية
    قوله سبحانه : وَلَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبّهُ قالَ رَبِّ أَرِني أَنْظُرْ


(209)
إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَراني وَلكِنِ انْظُر إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوفَ تَراني فَلَمّا تَجلّى رَبُّهُ لِلْجَبَل جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوّلُ المُؤْمِنينَ (1). (2)
احتجت الأشاعرة بهذه الآية بوجهين :
    الوجه الأوّل : أنّ موسى سأل الرؤية ولو كانت ممتنعة لما سألها ، لأنّه إمّا يعلم امتناع الرؤية أو يجهله ، فإن علم فالعاقل لا يطلب المحال ، وإن جهله فهو لا يجوز في حقّ موسى ، فإنّ مثل هذا الشخص لا يستحقّ أن يكون نبيّاً.
    يلاحظ عليه : أنّ المستدلّ أخذ بآية واحدة ، وترك التدبّر في سائر الآيات الواردة حول الموضوع ، وتصور أنّ الكليم ابتدأ بالسؤال وأُجيب بالنفي ، وعلى ذلك بنى استدلاله بأنّه لو كان ممتنعاً لما سأله الكليم ، ولكن الحقيقة غير ذلك ، وإليك بيانه : إنّ الكليم لماأخبر قومه بأنّ الله كلّمه وقرّبه وناجاه ، قالوا لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، فاختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه ، فخرج بهم إلى طور سيناء وسأله سبحانه أن يكلّمه ، فلمّا كلّمه الله ، وسمعوا كلامه ، قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظملهم وعتوهم واستكبارهم.
    وإلى هذه الواقعة تشير الآيات الثلاث التالية :
    1.وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ . (3)
    2.يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِم. (4)
    3. وَاخْتارَ مُوسى قَومَهُ سَبْعينَ رَجُلاً لِميقاتِنا فَلمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ
1 ـ الأعراف : 143.
2 ـ وقد استدلّت به الأشاعرة ولم يستدلّ به الشيخ أبو الحسن في لمعه وإنّما ذكرناه تتميماً للبحث.
3 ـ البقرة : 55.
4 ـ النساء : 153.


(210)
رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِر لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيرُ الغافِرين ). (1)
    إلى هذه اللحظة الحسّاسة لم يَحُمْ الكليم حول الرؤية ، ولم ينبس فيها ببنت شفة ، ولم يطلب شيئاً ، بل طلب منه سبحانه أن يحييهم ، حتى يدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع إليهم ، فلربما قالوا إنّك لما لم تكن صادقاً في قولك : إنّ الله يناجيك ، ذهبت بهم فقتلتهم ، فعند ذلك أحياهم الله وبعثهم معه. وهذا هو مقاله. يقول سبحانه عنهقال ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السُّفهاء منّا إن هي إلاّفتنتك .
    فلو كان هناك سؤال من موسى فإنّما كان بعد هذه المرحلة ، وبعد إصابة الصاعقة للسائلين وعودهم إلى الحياة بدعاء موسى.
    وعند ذلك يطرح السؤال الآتي :
    هل يصحّ أن ينسب إلى الكليم ـ بعد ما رأى بأُمّ عينه ما أصاب القوم من الصاعقة والدمار ، إثر سؤالهم الرؤية ـ أنّه قام بالسؤال لنفسه بلا داع وسبب مبرر أو بلا ضرورة؟ أو أنّه ما قام بالسؤال ثانياً إلاّ بعد إصرار قومه وإلحاحهم عليه أن يسأل الرؤية لا لهم بل لنفسه ، حتى تحصل رؤيته لله مكان رؤيتهم ، فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية؟
    لا شكّ أنّ الأوّل بعيد جداً لا تصحّ نسبته إلى من يملك شيئاً من العقل والفكر ، فضلاً عن نبي عظيم مثل الكليم. كيف وقد رأى جزاء من سأل الرؤية ، فالثاني هو المتعين ، وفي نفس الآية قرائن تدلّ على أنّ السؤال في المرة الثانية كان بإصرار القوم وإلحاحهم ، وكفى في القرينة قوله أَتُهلكنا بما فعل السُّفهاءحيث يعد السؤال من فعل السفهاء ، ومعه كيف يصحّ له الإقدام بلا ملزم و مبرر أو بلا ضرورة وإلجاء ، وبما أنّ الله سبحانه يعلم بأنّه لم يقدم إلى
1 ـ الأعراف : 155.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس