الملل والنحل جلد الثاني ::: 191 ـ 200
(191)
(12)
رؤية الله بالأبصار

    إنّ رؤية الله تعالى في الآخرة ممّا اهتم الأشعري بإثباته اهتماماً بالغاً في كتابيه : « الإبانة » و « اللمع » وركز عليها في الأوّل من ناحية السمع ، وفي الثاني من ناحية العقل.
    قال في « الإبانة » : و ندين بأنّ الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون ، كما جاءت الروايات عن رسول الله. (1)
    وقال في « اللمع » : إن قال قائل : لم قلتم إنّ رؤية الله بالأبصار جائزة من باب القياس؟
    قيل له : قلنا ذلك لأنّ ما لا يجوز أن يوصف به الله تعالى ويستحيل عليه ، لا يلزم في القول بجوازالرؤية. (2)
    ولإيقاف القارئ على حقيقة الحال نبحث عن الأُمور التالية :
    1.سرد الأقوال وتعيين محلّ النزاع.
    2. دليل القائلين بجواز الرؤية من العقل.
    3. دليل القائلين بالجواز من القرآن.
    4. دليل القائلين بالجواز من السنّة.
1 ـ الإبانة : 21.
2 ـ اللمع : 61 بلتخيص.


(192)
    5. استدلال المنكرين بالعقل.
    6. استدلال المنكرين بالسمع.
الأمر الأوّل : في نقل الآراء حول الرؤية
    المشهور بين أهل الحديث ، وصرح به إمامهم أحمد بن حنبل ، هو القول بجواز الرؤية في الآخرة ، قال : والأحاديث في أيدي أهل العلم عن النبي : أنّ أهل الجنّة يرون ربّهم ، لا يختلف فيها أهل العلم فينظرون إلى الله. (1)
    وقال الأشعري في بيان عقائد أهل الحديث والسنّة : يقولون إنّ الله سبحانه يرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون ، لا يراه الكافرون لأنّهم عن الله محجوبون ، قال الله تعالى : كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَومَئِذ لَمَحْجُوبُون وإنّ موسى سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا ، وإنّ الله سبحانه تجلّى للجبل فجعله دكّاً ، فأعلمه بذلك أنّه لا يراه في الدنيا ، بل يراه في الآخرة. (2)
    ولكن الظاهر من الآمدي أنّ القائلين بالجواز لا يخصونه بالآخرة بل يقولون بجوازها في الدنيا أيضاً ، وإنّما اختلفوا في أنّه هل ورد دليل سمعي على جوازها في الدنيا أو لاً ، بعد ما اتّفقوا على وروده في الآخرة ، قال : « اجتمعت الأئمة من أصحابنا على رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة جائزة عقلاً ، واختلفوا في جوازها سمعاً ، فأثبته بعضهم ونفاه آخرون ». (3)
    وعلى كلّ تقدير فقد نقل الأشعري في مقالات الإسلاميين أقوالاً كثيرة حول الرؤية لا يستحقّ أكثرها أن يذكر ، ونشير إلى بعضها إجمالاً :
    إنّ جماعة يقولون : يجوز أن نرى الله بالأبصار في الدنيا ، ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات.
1 ـ الرد على الزنادقة : 29.
2 ـ مقالات الإسلاميين : 322.
3 ـ شرح المواقف : 8/115.


(193)
    وأجاز عليه بعضهم في الأجسام ، وأصحاب الحلول إذا رأوا إنساناً يستحسنونه لم يدروا لعلّ آلهتهم فيه.
    وأجاز كثير ممّن جوّز رؤيته في الدنيا ، مصافحته وملامسته ومزاورته إيّاه ، وقالوا إنّ المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك ، حكي ذلك عن بعض أصحاب « مظهر » و « كهمس ».
    وقال « ضرار » و « حفص الفرد » : إنّ الله لا يُرى بالأبصار ، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة ، غير حواسنا فندركه بها. (1)
    يقول ابن حزم : إنّ الرؤية السعيدة ليست بالقوة الموضوعة في العين ، بل بقوة أُخرى موهوبة من الله. (2)
    هذه هي بعض الأقوال المطروحة في المسألة من جانب بعض أهل الحديث ، وليس ذلك بعجيب من أهل التجسيم ، وإنّما العجب ممّن يتجنب التجسيم ويعد نفسه من أهل التنزيه والبراءة من التشبيه ، ويقول ـ مع ذلك ـ بالرؤية ، كالأشاعرة عامة.
    ولأجل ذلك ذهبت المعتزلة والإمامية والزيدية إلى امتناع رؤيته سبحانه في الدنيا والآخرة ، وقالوا بأنّ القول لا يفارق التجسيم والتشبيه ، كما ستقف عليه عند سرد براهينهم إن شاء الله.

أهل الكتاب ومسألة الرؤية
    وقد يدين بالرؤية أهل الكتاب قبل أهل الحديث والأشاعرة ، ووردت رؤيته في العهد القديم ، وإليك مقتطفات منها :
    1. « رأيت السيد جالساً على كرسي عال. فقلت : ويل لي لأنّ عينيّ قد رأتا الملك رب الجنود » ( أشعيا ج6 ص 1 ـ 6 ). والمقصود من السيد هو الله جلّ ذكره.
1 ـ مقالات الإسلامين : 261 ـ 265و 314.
2 ـ الفصل : 3/2.


(194)
    2.« كنت أرى أنّه وضعت عروش وجلس القديم الأيام ، لباسه أبيض كالثلج ، وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار » ( دانيال 7 : 9 ).
    3. « أما أنا فبالبر أنظر وجهك » ( مزامير داود : 17 : 15 ).
    4. « فقال منوح لامرأته : نموت موتاً لأنّنا قد رأينا الله » ( القضاة 13 : 23 ).
    5. « فغضب الرب على سليمان ، لأنّ قلبه مال عن الرب ، إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين » ( الملوك الأوّل 11 : 9 ).
    6.« وقد رأيت الرب جالساً على كرسيه وكلّ جند البحار وقوف لديه » ( الملوك الأوّل 22 : 19 ).
    7. « كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر وأنا بين المسبيين عند نهر خابور ، أنّ السماوات انفتحت فرأيت رؤى اللهـ إلى أن قال : ـ هذا منظر شبه مجد الرب ، ولما رأيته خررت على وجهي وسمعت صوت متكلم » ( حزقيال1 : 1و28 ).
    والقائلون بالرؤية من المسلمين ، وإن استندوا إلى الكتاب والسنّة ودليل العقل ، لكن غالب الظن أنّ القول بالرؤية ، تسرب إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار والرهبان ، وربما صاروا مصدراً لبعض الأحاديث في المقام ، وصار ذلك سبباً لجرأة طوائف من المسلمين على جوازها ، واستدعاء الأدلّة عليها من النقل والعقل.
ما هو محلّ النزاع؟
    إنّ محلّ النزاع هو رؤية الله سبحانه بالأبصار رؤية حقيقية ، ولكن المجسمة يقولون بها بلا تنزيه ، والأشاعرة يقولون بها مع التنزيه ، أي بدون استلزام ما يمتنع عليه سبحانه ، من المكان والجهة.
    وأمّا الرؤية القلبية ، ومشاهدة الواجب من غير الطرق الحسية فخارج


(195)
    عن مصب البحث ، إذ لم يقل أحد بامتناعها.
    والقائلون بالرؤية مع التنزيه على فرقتين : فرقة تعتمد على الأدلة العقلية دون السمعية ، وفرقة أُخرى على العكس.
    فمن الأُولى : سيف الدين الآمدي ، أحد مشايخ الأشاعرة في القرن السابع ( 551 ـ 631 هـ ) ، يقول : لسنا نعتمد في هذه المسألة على غير المسلك العقلي الذي أوضحناه ، إذ ما سواه لا يخرج عن الظواهر السمعية ، وهي ممّا يتقاصر عن إفادة القطع واليقين ، فلا يذكر إلاّ على سبيل التقريب. (1)
    ومن الثانية : الرازي في عديد من كتبه كمعالم الدين ص 67 والأربعين ص 198 ، والمحصل ص 138 ، فقال : إنّ العمدة في جوازالرؤية ووقوعها هو السمع ، وعليه الشهرستاني في « نهاية الأقدام » ص 369.
    هذه هي الأقوال الدارجة حول الرؤية ، وقد عرفت ما هو محلّ النزاع.

الأمر الثاني : الأدلّة العقلية على جواز الرؤية
    قد عرفت أنّ طرف النزاع في المقام هو الأشاعرة ، وفي مقدّمهم الشيخ الأشعري ، وهم من أهل التنزيه ، فلأجل ذلك يطرحون المسألة بشكل يناسب مذهبهم.
    يقول التفتازاني : ذهب أهل السنة إلى أنّ الله تعالى يجوز أن يرى وأنّ المؤمنين في الجنّة يرونه منزّهاً عن المقابلة والجهة والمكان. (2)
    وهذه القيود التي ذكرها التفتازاني ، وإن كانت غير واردة في كلام صاحب المنهج ، ولكن الفكرة بهذه الصورة قد نضجت في طوال قرون متمادية ، إنّما الكلام في إمكان وقوع هذه الرؤية ، أي أن تتحقّق الرؤية بالأبصار ، ولكن
1 ـ غاية المرام في علم الكلام : 174.
2 ـ شرح المقاصد : 2/111.


(196)
    مجرّدة عن المقابلة والجهة والمكان ، وهذا ما يصعب تصوّره للإنسان. فتحقّق الرؤية ـ سواء قلنا بأنّها تتحقّق بانطباع صورة المرئي في العين كما عليه العلم الحديث ، أو بخروج الشعاع كما عليه بعض القدماء ـ في غير هذه الظروف أشبه بترسيم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسم بطل; ولأجل ذلك يحاول التفتازاني أن يصحّح هذا النوع من الرؤية ويقول :
    إنّا إذا عرفنا الشمس مثلاً بحدّ أو رسم ، كان نوعاً من المعرفة ، ثمّ إذا أبصرناها وغمضنا العين ، كان نوعاً آخر فوق الأوّل ، ثمّ إذا فتحنا العين حصل نوع آخر من الإدراك فوق الأوّلين نسميه الرؤية ، ولا تتعلّق في الدنيا إلاّبما هو في جهة ومكان ، فمثل هذه الحالة الإدراكية ، هل تصحّ أن تقع بدون المقابلة والجهة ، وأن تتعلّق بذات الله تعالى منزهاً عن الجهة والمكان ، أو لا؟. (1)
    يلاحظ عليه :
    أوّلاً : أنّ الرؤية الأُولى أيضاً قبل الغمض ، تصدق عليها الرؤية ، وليس الاختلاف بين الرؤيتين إلاّ في الوضوح والخفاء والقصر والطول ، ولكنّه إنّما خصّ النزاع بالرؤية الثانية لأجل ما ورد في الروايات ، من أنّ المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة كفلق البدر.
    ثانياً : أنّ الرؤية قائمة بأُمور ثمانية : 1. سلامة الحاسة 2. المقابلة أو حكمها كما في رؤية الصور المنطبعة في المرآة 3. عدم القرب المفرط 4. عدم البعد كذلك5. عدم الحجاب بين الرائي والمرئي6. عدم الشفافية ، فإنّ ما لا لون له كالهواء لا يرى 7. قصد الرؤية 8. وقوع الضوء على المرئي وانعكاسه منه إلى العين.
    فلو قلنا بأنّ هذه الشرائط ليست إلزامية بل هي تابعة لظروف خاصة ، ولكن قسماً منها يعد مقوماً للرؤية بالأبصار ، وهو كون المرئي في حيز خاص ،
1 ـ شرح المقاصد : 2/111.

(197)
    وتحقّق نوع مقابلة بين الرائي والمرئي وعند ذلك كيف يمكن أن تتحقّق الرؤية بلا بعض هذه الشرائط.
    ثمّ إنّ بعض المثقفين من الأشاعرة لما وقعوا في مخمصة إزاء هذه الإشكالات ، التجأوا إلى أمر آخر ، وهو القول بأنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا. وهذا الكلام وإن كانت عليه مسحة من الحقّ ، لكن لا يعنى به أنّ حقيقة الأشياء في الآخرة تباين حقيقتها في الدنيا ، وهذا مثل أن يقال : إنّ حقيقة المربع والمثلث في الآخرة غيرهما في الدنيا ، أو إنّ نتيجة « 2*2 » تصير في الآخرة خمسة ، بحجّة أنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا ، وإنّما المراد من القاعدة هو أنّ كلّ ما يوجد من الأشياء في الآخرة يكون بأكمل الوجود وأمثله ، لا أنّه يباينه على وجه الإطلاق. يقول سبحانه : كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَة رِزْقاً قالُوا هذا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً. (1)
    ثمّ إنّ الأشعري وبعده تلاميذ منهجه استدلّوا على الجواز بوجهين : أحدهما يرجع إلى الجانب السلبي ، وأنّه لا يترتب على القول بالرؤية شيء محال ، والآخر إلى الجانب الإيجابي ، وأنّ مصحح الرؤية في الأشياء هو الوجود ، وهو مشترك بين الخالق والمخلوق.
    ثمّ أكّدوا الأدلّة العقلية بالأدلة السمعية ، وعلى ذلك فيقع الكلام في تحرير أدلّتهم في مقامين : الأدلّة العقلية ، والأدلة السمعية. ونقدّم العقلية :
الدليل العقلي الأوّل لجواز الرؤية
    إنّ تجويز الرؤية لا يستلزم شيئاً ممّا يستحيل عليه سبحانه ، فلا يلزم كونه حادثاً أو إثبات حدوث معنى فيه ، أو تشبيهه أو تجنيسه ، أو قلبه عن حقيقته ، أو تجويره أو تظليمه ، أو تكذيبه. ثمّ أخذ الأشعري في شرح نفي هذه اللوازم على وجه مبسوط ، ونحن نقتطف منه جملتين :
    1. « ليس في جواز الرؤية إثبات حدث ، لأنّ المرئي لم يكن مرئياً لأنّه
1 ـ البقرة : 25.

(198)
    محدث ، ولو كان مرئياً لذلك للزم أن يرى كلّ محدث ، وذلك باطل ».
    2. « ليس في إثبات الرؤية لله تعالى تشبيه ». (1)
    يلاحظ على الفقرة الأُولى : أنّ الملازمة ممنوعة ، إذ لقائل أن يقول : إنّ الحدوث ليس شرطاً كافياً في الرؤية حتى يلزم رؤية كلّ محدث ، بل هو شرط لازم يتوقف على انضمام سائر الشروط ، وبما أنّ بعضها غير متوفّر في المجردات المحدثات ، لا تقع عليه الرؤية.
    ويلاحظ على الفقرة الثانية : أنّه اكتفى بمجرّد ذكر الدعوى ، ولم يعززها بالدليل ، مع أنّ مشكلة البحث هي التشبيه الذي أشار إليه ، فإنّ حقيقة الرؤية قائمة بالمقابلة ولو بالمعنى الوسيع ، ولولاها لا تتحقّق ، والمقابلة لا تنفك عن كون المرئي في جهة ومكان ، وهذا يستلزم كونه سبحانه ذا جهة ومكان ، وهو نفس التشبيه والتجسيم. وكيف يقول إنّ تجويز الرؤية لا يستلزم التشبيه؟! « ما هكذا تورد يا سعد الإبل »!
    وهناك إشكال آخر التفت إليه الشيخ ، فعرضه وأجاب عنه ، ونحن نعرض الإشكال والجواب بنصّهما ، قال :
    فإن عارضونا بأنّ اللمس والذوق والشم ، ليس فيه إثبات الحدث ، ولا حدوث معنى في الباري تعالى ، قيل لهم : قد قال بعض أصحابنا إنّ اللمس ضرب من ضروب المماسات ، وكذلك الذوق وهو اتصال اللسان و اللهوات بالجسم الذي له الطعم ، وإنّ الشمّ هو اتصال الخيشوم بالمشموم الذي يكون عنده الإدراك له ، وإنّ المتماسين إنّما يتماسان بحدوث مماسين فيهما ، وإنّ في إثبات ذلك إثبات حدوث معنى في الباري.
    يلاحظ عليه : أنّ التفريق بين الأبصار وسائر الإدراكات الحسية تفريق بلا جهة ، وما ذكره من أنّ المتماسّين إنّما يتماسّان بحدوث مماسّين فيهما ... مجمل جداً ، وذلك لأنّه إن أراد أنّ اللمس يوجب حدوث نفس المماسين وذاتهما فهو ممنوع ، لأنّ ذاتهما كانتا موجودتين قبل تحقّق اللمس ، وإن أراد حدوث
1 ـ اللمع : 61 ـ 62.

(199)
    وصف مادي ورابطة جسمانية ، وهي التي عبر عنها بقوله : « إنّ اللمس ضرب من ضروب المماسات » فتلك الحالة أيضاً حادثة عند الإبصار ، غاية الأمر أنّ اللمس ضرب من ضروب المماسات ، والإبصار ضرب من ضروب المقابلات ، وبإعمال كلّ واحد من الحواس تتحقّق إضافة بين الحاسة والمحسوس ، وفي ظلها يتحقّق الإبصار واللمس والشمّ والذوق.
    وأضف إلى ذلك ما نقله عن بعض أصحابه في نقد السؤال الماضي وحاصله :
    إنّ لمسنا أو ذوقنا أو شمنا إياه سبحانه ، يتصور على صورتين :
    1. أن يحدث الله تعالى للذائق أو الشام أو اللامس إدراكاً من غير أن يحدث في الباري تعالى معنى.
    2. تلك الصورة لكن يحدث فيه سبحانه معنى ، فالثاني غير جائز ، والأوّل جائز ، ولكن الأمر في التسمية إلى الله ، إن أمرنا أن نسمّيه لمساً وذوقاً وشماً سمّيناه ، وإن منعنا امتنعنا. (1)
    يلاحظ عليه :
    أوّلاً : أنّ معنى ذلك أن يكون سبحانه مشموماً ملموساً ، مذوقاً ، إذا لم يحدث فيه معنى بشمنا ، وذوقنا ، ولمسنا ، وهذا في نهاية الضعف لا تجترئ عليه المجسّمة ، فكيف بالمنزّهة؟!
    وثانياً : أنّ إيجاده سبحانه في جوارحنا إدراكاً ، حتى يتحقّق في ظله لمسه وذوقه ، وشمّه ، بلا حدوث معنى فيه ، أشبه بترسيم الأسد على عضد البطل ، من غير رأس ولا ذنب ، لأنّ واقعية أعمال هذه الحواس لا تنفك عن تحقّق إضافة ورابطة بينها و بين المحسوس من غير فرق بين الإبصار وغيره ، وهذه الإضافة إضافة مقولية قائمة بالطرفين. وقد التزم المجيب بامتناع هذا القسم ، وإنّما سوغ قسماً آخر ، غير معقول ولا متصوّر.
1 ـ اللمع : 62.

(200)
    وباختصار : إنّ الدليل السلبي الذي اعتمد عليه الشيخ الأشعري غير كاف ، لأنّ الرؤية تستلزم التشبيه ، أي ما يستحيل عليه سبحانه من كونه طرف الإضافة المقولية الحاصلة بينه و بين الحواس.
الدليل العقلي الثاني لجواز الرؤية
    إنّ الوجود هو المصحح للرؤية ، وهو مشترك بين الواجب وغيره وقد نسبه في المواقف إلى الشيخ الأشعري والقاضي وأكثر أئمّة الأشاعرة. (1)
    وحاصله : أنّ الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، ولابدّ للرؤية المشتركة من علّة واحدة وهي إمّا الوجود أو الحدوث ، والحدوث لا يصلح للعلية ، لأنّه أمر عدمي ، فتعيّن الوجود ، والوجود مشترك بين الواجب والممكن ، فينتج أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الواجب والممكن.
    وقد اعترض على ذلك البرهان في الكتب الكلامية ، حتى من جانب نفس الأشاعرة (2) ، بكثير ولكنّا نعتمد في نقض هذا البرهان على ما يبطله من أساسه ، فنقول :
    إنّ الحصر في كلامه غير حاصر ، فمن أين علم أنّ مصحّح الرؤية هو الوجود؟ إذ من المحتمل أن يكون الوجود شرطاً لازماً ، لا شرطاً كافياً ، ويكون الملاك هو الوجود الممكن ، وليس المراد من الممكن في قولنا « الوجود الممكن » الإمكان الذاتي ، الذي يقع وصفاً للماهية ، حتى يقال بأنّ الماهية ووصفها « الإمكان » من الأُمور العدمية والاعتبارية لا تصلح أن تكون جزء العلّة ، بل المراد هو الإمكان الذي يقع وصفاً للوجود ، ومعناه كون الوجود متعلقاً بالغير قائماً به ، كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، وليس الإمكان بهذا المعنى شيئاً غير حقيقة الوجود الإمكاني ، كما أنّ الوجوب ليس وراء نفس حقيقة
1 ـ شرح المواقف : 8/115.
2 ـ تلخيص المحصل : 317 ، غاية المرام : 160 ، شرح التجريد للقوشجي : 431 وغيره.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس