الملل والنحل جلد الثاني ::: 251 ـ 260
(251)
    كالضرب ليس من المبادئ الحلولية في الفاعل ، بل من المبادئ الصدورية ، فلأجل أنّه سبحانه موجد الكلام يطلق عليه أنّه متكلّم وِزانَ إطلاق الرزّاق عليه سبحانه. بل ربما يصحّ الإطلاق وإن لم يكن المبدأ قائماً بالفاعل أبداً لا صدورياً ولا حلولياً ، بل يكفي نوع ملابسة بالمبدأ ، كالتمّار واللبان لبائع التمر واللبن ، وأمّا عدم إطلاق الذائق على خالق الذوق فلأجل أنّ صدق المشتقات بإحدى أنواع القيام ليس قياسياً حتى يطلق عليه سبحانه الذائق والشام بسبب إيجاده الذوق والشم ، وربما احترز الإلهيون عن توصيفه بهما لأجل الابتعاد عمّا يوهم التجسيم ولوازمه.
    الخامس : أنّ لفظ الكلام كما يطلق على الكلام اللفظي ، يطلق على الموجود في النفس. قال سبحانه : وأََسِرُّوا قَولَكُمْ اَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ إطلاق« القول » على الموجود في الضمير من باب العناية المشاكلة ، فإنّ « القول » من التقول باللسان ، فلا يطلق على الموجود في الذهن الذي لا واقعية له ، إلاّ الصورة العلمية ، إلاّ من باب العناية.

حصيلة البحث
    إنّ الأشاعرة زعموا أنّ في ذهن المتكلّم في الجملة الخبرية والإنشائية وراء التصورات والتصديقات في الأُولى ، ووراء الإرادة والكراهة في الثانية ، شيئاً يسمّونه بالكلام النفسي ، وربما خصّوا لفظ « الطلب » بالكلام النفسي في القسم الإنشائي; وبذلك صححوا كونه سبحانه متكلماً ، ككونه عالماً وقادراً ، وأنّ الكلّ من الصفات الذاتية.
    ولكن البحث والتحليل ـ كما مرّ عليك ـ أوقفنا على خلاف ما ذهبوا إليه ، لما عرفت من أنّه ليس وراء العلم في الجمل الخبرية ، ولا وراء الإرادة
1 ـ الملك : 13.

(252)
    والكراهة في الجمل الإنشائية ، شيء نسمّيه كلاماً نفسياً ، كما عرفت أنّ الطلب أيضاً هو نفس الإرادة.
    وبذلك نقف على أنّ ما يقوله المحقّق الطوسي من أنّ « النفسانية غير معقولة » (1) أمر متين لا غبار عليه.
    إلى هنا تمّ بيان النظريات الثلاث للمعتزلة والحكماء والأشاعرة.
    وبه تمّ الكلام في المقام الأوّل. وحان أوان البحث في المقام الثاني وهوحدوث كلامه أو قدمه.
1 ـ كشف المراد : 178 ، ط صيدا.

(253)
(14)
كلام الله غير مخلوق أو قديم

    لقد شاع في أواخر القرن الثاني ، كون كلام الله غير مخلوق وقد اعتنقه أهل الحديث وفي مقدمهم إمام الحنابلة ، وتحمل في طريق عقيدته هذه ألوان التعذيب ، وقد اعتنقوا هذه الفكرة مع الاعتراف بأنّه لم يرد فيها نصّ من رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، ولا جاء من الصحابة فيها كلام.
    وقد تسربت تلك العقيدة مثل القول بالتشبيه والتجسيم إلى المسلمين من اليهودية والنصرانية ، حيث قال اليهود بقدم التوراة (1) والنصرانية بقدم الكلمة ( المسيح ).
    يقول أبو زهرة : كثر القول حول القرآن الكريم في كونه مخلوقاً أو غير مخلوق ، وقد عمل على إثارة هذه المسألة ، النصارى الذين كانوا في حاشية البيت الأموي وعلى رأسهم يوحنا الدمشقي ، الذ ي كان يبث بين علماء النصارى في البلاد الإسلامية طرق المناظرات التي تشكّك المسلمين في دينهم ، وينشر بين المسلمين الأكاذيب عن نبيّهم ، مثل زعمه عشق النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لزينب بنت جحش ، فقد جاء في القرآن أنّ عيسى بن مريم كلمته ألقاها إلى مريم ، فكان يبث بين المسلمين أنّ كلمة الله قديمة ، فيسألهم أكلمته قديمة أم لا؟ فإن قالوا : لا ... فقد قالوا : إنّ كلامه مخلوق (2) ،
1 ـ اليهودية : ص 222 تأليف أحمد شلبي كما في بحوث مع السلفيين : 153.
2 ـ يراد أنّه مختلق و مزور.


(254)
    وإن قالوا : قديمة ... ادّعى أنّ عيسى قديم. (1)
    وعلى ذلك وجد من قال إنّ القرآن مخلوق ، ليرد كيد هؤلاء ، فقال ذلك الجعد بن درهم ، وقاله الجهم بن صفوان ، وقالته المعتزلة واعتنق ذلك الرأي المأمون.
    وقد أعلن في سنة 212 ، أنّ المذهب الحقّ هو أنّ القرآن مخلوق ، وأخذ يدعو لذلك في مجلس مناظراته ، وأدلى في ذلك بما يراه حججاً قاطعة في هذا الموضوع ، وقد ترك المناقشة حرة ، والناس أحراراً فيما يقولون.
    ولكن في سنة 218 وهي السنة التي توفي فيها ، بدا له أن يدعو الناس بقوة السلطان إلى اعتناق هذه الفكرة ، ومن الغريب أنّه ابتدأ بهذا وهو خارج بغداد ، وقد خرج مجاهداً فكتب هذه الكتب وهو بمدينة الرقة ، وأخذ يرسل الكتب لحمل الناس على اعتناق عقيدة أنّ القرآن مخلوق ، إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم ، وقد جاء في بعض كتبه : وأعلمهم أنّ أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ، ولا واثق فيمن قلده واستحفظه من أُمور رعيته بمن لا يوثق بدينه ، وخلوص توحيده ويقينه ، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه وكانوا على سبيل الهدى والنجاة ، فمرهم بنصّ من يحضرهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن وترك شهادة من لم يقر بأنّه مخلوق محدث. (2)
    وقد سارع نائبه ببغداد إلى تنفيذ ما أمر به ، لكنّه تجاوز الحدّ السلبي إلى الحدّ الإيجابي فأحضر المحدثين والفقهاء فسألهم عن عقيدتهم حول القرآن ،
1 ـ « ولا شكّ أنّ ذلك تلبيس ، لأنّ معنى كلمة الله ، أنّ الله خلقه بكلمة منه ، كما نصّ على ذلك في آيات أُخرى ، لا أنّه هو ذات كلمة الله ». هذا ما أفاده أبو زهرة في تعليقته على كتابه. والحقّ أنّ المسيح كلمة الله نفسها ، وليس المسيح وحده كذلك ، بل الموجودات الإمكانية كلّها كلامه تعالى. قال سبحانه : ( وَلو أنّ ما فِي الأَرض مِنْ شَجَرة أَقلام وَالبَحر يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَة أَبْحُر ما نَفِدَتْ كَلمات الله
( لقمان : 27 ).2 ـ تاريخ الطبري : 7/196 ، والرسالة مبسوطة.


(255)
    وأعلن الكلّ عن اعتناق ما كتبه المأمون سوى أربعة ، فأصرّوا على عدم كون القرآن مخلوقاً وهم : « أحمد بن حنبل » ، و« محمد بن نوح » ، و« القواريري » ، و« سجادة » فشدوا بالوثاق. لكن الكلّ رجعوا عن عقيدتهم إلاّ اثنان وهما : ابن نوح وأحمد بن حنبل ، فسيقا إلى طرطوس ليلتقيا بالمأمون ، ومات الأوّل في الطريق ، وبقي أحمد ، وبينا هم في الطريق مات المأمون وترك وصية بها من بعده أن يؤخذ بسيرته في خلق القرآن ، وقد تولى الحكم المعتصم ثمّ الواثق فكانا على سيرة المأمون في مسألة خلق القرآن. (1)
    ولمّا تولّى المتوكّل الحكم انقلب الأمر وصارت الظروف مناسبة لصالح المحدثين ، وفي هذا الجو أعلن إمام الحنابلة عقيدته في القرآن بالقول بعدم كونه مخلوقاً.
    وقال محقّق كتاب« الأُصول الخمسة » للقاضي عبد الجبار : الحديث في القرآن وكلام الله من أهمّ المشاكل التي عرضت لمفكري الإسلام. وقد أثارت ضجة كبيرة في صفوف العلماء والعامة ، وارتبطت بها محنة كبيرة تعرف بمحنة الإمام أحمد بن حنبل ، وكان شعار النظريتين المتنازعتين« هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ ». فتزعم المعتزلة جهة المنادين بخلق القرآن واستجلبوا لصفهم خليفة من أعظم الخلفاء وهو المأمون ، ووزيراً من أعظم وزراء بني العباس هو أحمد بن أبي دؤاد ، وذهب ضحية الخلاف كثيرون ، وثبت القائلون بأنّه غير مخلوق على رأيهم وليس لهم من أُمور الحكم بشيء. وتراجع القائلون بخلق القرآن تحت ضغط الناس ، وخرج أحمد بن حنبل من المحنة ظافراً يضرب به المثل في الثبات على العقيدة ، كما سجل المعتزلة بموقفهم ومحاولتهم أخذ الناس بالعنف على القول برأيهم أسوأ مثال على التدخل في الحرية الفكرية ، مع أنّهم روّادها الأوائل.
    أقول : و (2)ليس هذا أوّل قارورة كسرت في الإسلام ، وكم في تاريخ خلفاء
1 ـ تاريخ المذاهب الإسلامية : 294 ـ 296 بتلخيص.
2 ـ الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار : 527.


(256)
    الإسلام من ضغط وعنف وتدخل في الحرية الفكرية!!
    هؤلاء هم شيعة أهل البيت عاشوا قروناً بين إخوانهم المسلمين تحت ستار التقية خوفاً على نفوسهم ودمائهم وأموالهم.
    وعلى أي تقدير فقد قال المحقّق المزبور : إنّ أوّل من تفوّه بقدم القرآن هو عبد الله بن كلاب ، لأنّ السلف كانوا يتحرجون من وصف القرآن بأنّه قديم و قالوا فقط غير مخلوق ، لكن المعتزلة زادوا بأنّ كلام الله مخلوق محدث ، وميز الأشعري متابعاً لابن كلاب بين الكلام النفسي الأزلي القديم ، والكلام المتعلّق بالأمر والنهي والخبر وهو حادث. (1)
    وأمّا ابن تيمية ففرّق بين كونه غير مخلوق وكونه قديماً وقال : وكما لم يقل أحد من السلف إنّه ( أي كلام الله ) مخلوق ، لم يقل أحد منهم إنّه قديم ، ولم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمّة الأربعة ولا غيرهم ... وأوّل من عرف أنّه قال هو قديم عبد الله بن سعيد بن كلاب. (2)
    والظاهر الواضح أنّ القول بأنّ السلف القائلين بعدم خلق القرآن ، لا يقولون بقدم القرآن ، والتفريق بين عدم الخلق والقدم لا يعدو عن أن يكون كذباً وغير صحيح.
    فأوّلاً : إنّ ابن الجوزي يصرّح بأنّ الأئمّة المعتمد عليهم قالوا إنّ القرآن كلام الله قديم. (3)
    وثانياً : إنّ معنى كون شيء غير مخلوق هو أنّه قديم ، إذ لو فرض كونه غير قديم مع كونه غير مخلوق ، فلابدّ و أن يكون قد حدث ووجد من العدم بنفسه ، وهو واضح البطلان ، قال سبحانه : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ
1 ـ الأُصول الخمسة : 528.
2 ـ مجموعة الرسائل : 3/20.
3 ـ المنتظم في ترجمة الأشعري : 6/332.


(257)
شَيْء (1). (2)
    ولأجل إيضاح الحال نأتي بما جاء به أحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري في ذلك المجال.
    قال أحمد بن حنبل : والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر ، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف ، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق ، فهو أخبث من الأوّل. ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة ، والقرآن كلام الله ، فهو جهمي ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم.
    وكلّم الله موسى تكليماً ، من الله ، سمع موسى يقيناً ، وناوله التوراة من يده ، ولم يزل الله متكلماً عالماً ، تبارك الله أحسن الخالقين. (3)
    وقال أبو الحسن الأشعري : ونقول إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق وإنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر. (4)
    وقد نقل عن إمام الحنابلة أنّه قيل له : هاهنا قوم يقولون : القرآن لا مخلوق ولا غير مخلوق. فقال : هؤلاء أضر من الجهمية على الناس ، ويلكم فإن لم تقولوا : ليس بمخلوق فقولوا مخلوق. فقال أحمد : هؤلاء قوم سوء ، فقيل له : ما تقول؟ قال : الذي اعتقد وأذهب إليه ولا أشك فيه أنّ القرآن غير مخلوق. ثمّ قال : سبحان الله ، ومن شكّ في هذا؟ (5)
    هذا ما لدى المحدثين والحنابلة والأشاعرة. وأمّا المعتزلة : فيقول القاضي عبد الجبار : أما مذهبنا في ذلك : أنّ القرآن كلام الله تعالى ووحيه وهو
1 ـ الطور : 35.
2 ـ بحوث مع أهل السنّة والسلفية : 158.
3 ـ كتاب السنة : 49.
4 ـ الإبانة : 21 ، ولاحظ مقالات الإسلاميين : 321.
5 ـ الإبانة : 69 ، وقد ذكر في : ص 76 أسماء المحدثين القائلين بأنّ القرآن غير مخلوق.


(258)
    مخلوق حدث ، أنزله الله على نبيّه ليكون علماً ودالاً على نبوته ، وجعله دلالة لنا على الأحكام ، لنرجع إليه في الحلال والحرام واستوجب منّا بذلك الحمد والشكر ، وإذاً هو الذي نسمعه اليوم و نتلوه ، وإن لم يكن محدثاً من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة ، كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة ، وإن لم يكن امرؤ القيس محدثاً لها الآن. (1)
    وقبل الخوض في تحليل المسألة نقدّم أُموراً :
    1. إذا كانت مسألة خلق القرآن أو قدمه بمثابة أوجدت طائفتين يكفّر كلّ منهما عقيدة الآخر فإمام الحنابلة يقول : إنّ من زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر. وقالت المعتزلة : إنّ القول بكون القرآن غير مخلوق أو قديم ، شرك بالله سبحانه ، فيجب تحليلها على ضوء العقل والكتاب والسنة بعيداً عن كلّ هياج ولغط. وممّا لا شكّ فيه أنّ المسألة قد طرحت في أجواء خاصة ، عزّ فيها التفاهم وساد عليها التناكر ، وإلاّ فلا معنى لمسلم يؤمن بالله ورسوله ، وكتابه وسنته ، التنازع في أمر تزعم إحدى الطائفتين أنّه ملاك الكفر وأنّ التوحيد في خلافه ، وتزعم الطائفة الأُخرى عكس ذلك.
    ولو كانت مسألة خلق القرآن بهذه المثابة لكان على الوحي ، التصريح بأحد القولين ، ورفع الستار عن وجه الحقيقة ، مع أنّا نرى أنّه ليس في الشريعة الإسلامية نصّ في المسألة ، وإنّما طرحت في أوائل القرن الثاني. نعم ، استدلت الأشاعرة ببعض الآيات ، غير أنّ دلالتها خفية ، لا يقف عليها ـ على فرض الدلالة ـ إلاّ الأوحدي. وما يعد ملاك التوحيد والشرك يجب أن يرد فيه نصّ لا يقبل التأويل ، ويقف عليه كلّ حاضر وباد ...
    2. قد عرفت أنّ بعض السلف كانوا يتحرّجون من وصف القرآن بأنّه قديم ، وقالوا فقط إنّه غير مخلوق. ثمّ إنّ القائلين بهذا القول تدرّجوا فيه ووصفوا كلام الله بأنه قديم ، ومن المعلوم أنّ توصيف شيء بأنّه غير مخلوق أو قديم ممّا لا يتجرّأ عليه العارف ، لأنّ هذين الوصفين من خصائص ذاته
1 ـ شرح الأُصول الخمسة : 258.

(259)
    سبحانه ، فلو كان كلامه سبحانه غير ذاته فكيف يمكن أن يتصف بكونه غير مخلوق ، أو كونه قديماً. ولو فرضنا صحّة تلك العقيدة التي لا ينالها إلاّ الأوحدي في علم الكلام ، فكيف يمكن أن تكون هذه المسألة الغامضة ممّا يجب الاعتقاد به على كلّ مسلم ، مع أنّ الإنسان البسيط بل الفاضل لا يقدر أن يحلل ويدرك كون شيء غير الله سبحانه ، وفي الوقت نفسه غير مخلوق.
    إنّ سهولة العقيدة ويسر التكليف من سمات الشريعة الإسلامية وبهما تفارق سائر المذاهب السائدة على العالم ، مع أنّ تصديق كون كلامه تعالى ـ و هو غير ذاتهـ غير مخلوق أو قديم ، شيء يعسر فهمه على الخاصة ، فكيف على العامة.
    3. إنّ الظاهر من أهل الحديث هو قدم القرآن المقروء ، الأمر الذي تنكره البداهة والعقل ونفس القرآن. وقد صارت تلك العقيدة بمنزلة من البطلان حتى تحامل عليها الشيخ محمد عبده إذ قال : « والقائل بقدم القرآن المقروء أشنع حالاً وأضلّ اعتقاداً عن كلّ ملّة جاء القرآن نفسه بتضليلها والدعوة إلى مخالفتها ». (1)
    ولمّا رأى ابن تيمية الذي يظن نفسه مروّجاً لعقيدة أهل الحديث ، أنّها عقيدة تافهة ، صرح بحدوث القرآن المقروء وحدوث قوله تعالى : يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ و يا أَيُّهَا المُدَّثِّر وقوله : قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتي تُجادِلُكَ في زَوْجِها ... إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على حدوث النداء والسمع من حينه لا من الأزل. (2)
    والعجب أنّه استدلّ بدليل المعتزلة على حدوث القرآن المقروء ، وقال : إنّ ترتيب حروف الكلمات الجمل يستلزم الحدوث آنَ تحقُّقِ كلمة « بسم الله » ، يتوقف على حدوث الباء وانعدامها ، ثمّ حدوث السين كذلك إلى آخر
1 ـ رسالة التوحيد ، الطبعة الأُولى وقد حذف نحو صفحة من الرسالة في الطبعات اللاحقة لاحظ : ص 49 من طبعة مكتبة الثقافة العربية.
2 ـ مجموعة الرسائل الكبرى : 3/97.


(260)
    الكلمة ، فالحدوث والانعدام ذاتي لمفردات الحروف لا ينفك عنها ، وذلك حتى يمكن أن توجد كلمة ، فإذاً كيف يمكن أن يكون مثل هذا قديماً أزلياً مع الله تعالى؟!
    4. لمّا كانت فكرة عدم خلق القرآن أو القول بقدمه شعار أهل الحديث وسمتهم ، ومن جانب آخر كان القول بقدم القرآن المقروء والملفوظ شيئاً لا يقبله العقل السليم ، جاءت الأشاعرة بنظرية جديدة أصلحوا بها القول بعدم خلق القرآن وقدمه ، والتجأوا إلى أنّ المراد من كلام الله ليس هو القرآن المقروء بل الكلام النفسي ، وقد عرفت مدى صحّة القول بالكلام النفسي. وليس هذا أوّل مورد تقوم الأشاعرة فيه بإصلاح عقيدة أهل الحديث بشكل يقبله العقل ، وعلى كلّ تقدير فالقول بقدم الكلام النفسي ليس بمنزلة القول بقدم القرآن المقروء.
    5. كيف يكون القول بخلق القرآن وحدوثه ملاكاً للكفر مع أنّه سبحانه يصفه بأنّه محدث أي أمر جديد. قال سبحانه : اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَة مُعْرِضُونَ* ما يَأْتيهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحَدَث إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون (1). والمراد من الذكر هو القرآن الكريم لقوله سبحانه : إِنّا نَحْنُ نَزّلْنا الذِّكْر وَإِنّا لَهُ لَحافِظُون ) (2). وقال سبحانه : وَإِنَّهُ لَذِكرٌ لَكَ وَلِقَومِك . (3)
    والمراد من « محدث » هو الجديد ، وهو وصف للذكر ، ومعنى كونه جديداً أنّه أتاهم بعد الإنجيل. كما أنّ الإنجيل جديد لأنّه أتاهم بعد التوراة. وكذلك بعض سور القرآن وآياته « ذكرجديد » أتاهم بعد بعض. وليس المراد كونه محدثاً من حيث نزوله ، بل المراد كونه محدثاً بذاته بشهادة أنّه وصف ل ـ « ذكر » فالذكر ـ بذاته وشؤونهـ محدث ، فلا معنى لإرجاع الوصف إلى النزول ، بعد كونه محدثاً بالذات.
1 ـ الأنبياء : 1 ـ 2.
2 ـ الحجر : 9.
3 ـ الزخرف : 44.
النمل و النحل جلد الثانى ::: فهرس