بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: 1 ـ 10
بحوث
في الملل والنحل
دراسة موضوعية مقارنة للمذاهب الاسلامية
الجزء الرابع
ويتناول حياة ابن تيمية وابن عبد الوهاب وعقائدهما
تأليف
جعفر السبحاني


(5)
بسم اللّه الرحمن الرحيم
    الحمد للّه رب العالمين ، والصلاة والسلام على النبي الخاتم وعلى آله المصطفين الأخيار.
    أما بعد : فهذا هو الجزء الرابع من موسوعتنا الكلامية حول المذاهب الإسلامية ، ونستعرض فيه دراسة المذهب الوهابي الّذي نشأ في أوسط القرن الثاني عشر في إقليم « نجد » وقد غاب نجمه يوم طلوعه ، وصار خامل الذكر ، ثم أعيد الي الساحة الإسلامية في أواسط القرن الرابع عشر ، بعد استيلاء العائلة السعودية على الحرمين الشريفين ( مكة و المدينة ) ، وتبنّت الدعايات السياسية الزمنية ترويج ذلك المسلك بترغيب وإرهاب ، وقامت الدوائر الإعلامية العالمية ـ عن طريق المجلات والصحف ، والمؤلفين المأجورين الجدد ـ بنشر تعاليمه و تفاصيله. أسأل اللّه سبحانه أن يوفقنا في هذا الجزء ، ويعيننا في هذه الدراسة ، ويوصلنا إلى الحق الصواب إنه قريب مجيب.
    إنّ المذهب الوهابي المفروض على الشعب المسلم في الجزيرة العربية وغيرها ، قام على الأفكار الّتي ورثها مؤسّسها محمد بن عبدالوهاب ( ت 1115 ـ م 1207 ) من أحمد بن تيمية ( ت 661 ـ م 728 ) الّذي بذر هذه الأفكار في أواخر القرن السابع ( 698 ) وأوائل القرن الثامن ، وكانت بذرته الّتي بذرها مودوعة في الكتب وزوايا المكتبات ، إلى أن أحيى محمد بن عبد الوهاب ما دثره الدهر ، واتّخذ من عقائد شيخه في المذهب ابن تيمية قاعدة


(6)
لمذهبه ، وحذف منها ما يمتّ إلى مسألة التشبيه والتجسيم وإثبات الجهة والفوقية بصلة ، واهتم بما يرجع من عقائده إلى مسألة التوحيد والشرك.
    ولأجل أن تكون الدراسة متكاملة الأطراف ، مترامية الجوانب ، نشرع باذيء بدء دراسة حياة شيخه ابن تيمية أولا ، ثم نعقبها بدراسة مجدّد مذهبه ومسلكه في القرن الثاني عشر الهجري ، وإليك البحث عن حياة ابن تيمية وآراء معاصريه في حقّه ، وآرائه ، مع تحليل ما اعتمد عليه من الأُصول لمذهبه ، ولكن بعد تقديم مقدّمة تكشف عن الظروف العصيبة الّتي أُلقيت فيها هذه البذرة ، ونشأ فيها هذا المذهب.
قم ـ الحوزة العلمية
جعفر السبحاني
شوال المكرم / 1410.


(7)
تصدير
كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة
دعامتان للإسلام
    بُنىّ الإسلام على كلمتين هما دعامتاه المبدئيتان : كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة; أمّا الأُولى فقد دعا إليها النبي الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، بل الأنبياء والمرسلون قاطبة ، ولم يكن لهم هدف سوى إرساء قاعدة التوحيد والقضاء على الوثنية ، وما سوى ذلك من التعاليم من فروع تلك الشجرة الطيبة وأغصانها وثمارها ، ولولا هذا الأصل لما قام للدين عمود ولا اخضرّ للإسلام عود. قال سبحانه : ( و لقد بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّة رَسُولا أنِ اعبُدُوا اللّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) . (1)
    وأمّا الثانية فهي الدعامة الثانية لإرساء صرح الإسلام ، بل هي الركن الركين لنشر تعاليمه وكبح جماح الجبابرة والطواغيت ، ولولا وحدة الكلمة لكان الإسلام في بدء طلوعه فريسة لمطامع الظالمين ، وقد دعا إليها الذكر الحكيم في غير مورد من آياته. قال سبحانه : ( وَ اعتَصِموا بِحَبْلِ اللّهِ جَميعاً وَ لا تَفَرَّقُوا واذكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُم إذْ كُنْتُم أعداءً فَألَّف بين قُلُوبِكُم فَأَصبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْواناً ) (2).
    وقد قام النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في دار هجرته بتجسيد مفهوم الاخوّة بين أصحابه ، قال سبحانه : ( إنَّما المؤْمنونَ إخوةٌ فأَصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُم ) (3) ،
1 ـ سورة النحل : الآية 36.
2 ـ سورة آل عمران : الآية 103.
3 ـ سورة الحجرات : الآية 10.


(8)
فآخى بين الأوس و الخزرج ، وبين المهاجرين والأنصار ، وآخى بين نفسه وصنوه وصهره عليّ صلوات اللّه عليه (1).
    ثمّ إنّ الرسول الأكرم ـ انطلاقاً من هذا المبدأ ـ شبّه المؤمنين مع كثرتهم ووفرتهم بالجسد الواحد وقال : « مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد ( الواحد ) إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » (2).
    ولقد كان النبي الأكرم يراقب أمر الأُمة ، لا يشقّ عصاها منازع جاهل أو عدوّ غاشم ، وكان يقودها إلى الأمام برعايته الحكيمة ، وكلّما واجه خلافاً أو شقاقاً ونزاعاً بادر إلى ترميم صدعها بحزم عظيم وتدبير وثيق ، ولقد شهد التاريخ له بمواقف في هذا المجال انتخبنا منها ما يلي :
    1 ـ انتصر المسلمون على قبيلة بني المصطلق وقتل من قتل من العدوّ وأُسر من أُسر منهم; فبينما رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) على مائهم ، نشب النزاع بين رجل من الأنصار ورجل من المهاجرين ، فصرخ الأنصاري فقال : يا معشر الأنصار ، وصرخ الآخر وقال : يا معشر المهاجرين ، فلما سمعها النبي ، قال : دعوها فإنّها منتنة.. يعني إنّها كلمة خبيثة ، لأنّها من دعوى الجاهلية ، واللّه سبحانه جعل المؤمنين إخوة وصيّرهم حزباً واحداً ، فينبغي أن تكون الدعوة في كل مكان وزمان لصالح الإسلام و المسلمين عامة ، لا لصالح قوم ضدّ الآخرين ، فمن دعا في الإسلام بدعوى الجاهلية يُعزّر (3).
    فالنبي الأكرم يصف كل دعوى تشقّ عصا المسلمين و تمزّق وحدتهم بأنّها دعوى منتنة ، فكيف لا يكون كذلك وهي توجب انهدام الدعامة للكيان الإسلامي ، وبالتالي انقضاض صرح الإسلام.
1 ـ راجع في الوقوف على مصادر الحديث كتاب الغدير. ج 3 ص 112 ـ 124.
2 ـ مسند أحمد ج 4 ص 270.
3 ـ السيرة النبويّة ، ج 3 ص 303 غزوة بني المصطلق ، ولا حظ التعليقة للسهبيلي ، وراجع مجمع البيان ، ج 5 ص 293 وغيره من التفاسير.


(9)
    2 ـ نزل النبي الأكرم دار هجرته والتفّت حوله القبيلتان : الأوس والخزرج ، فمرّ شأْس بن قيس ـ الّذي كان شيخاً عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول اللّه من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم ، وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الّذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية. فقال : قد اجتمع ملأُ بني غيلة بهذه البلاد ، لا واللّه ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم من قرار ، فأمر فتىً شاباً من اليهود كان معهم فقال : اعمد اليهم فاجلس معهم ، ثم اذكر يوم بعاث ، يوم اقتتلت فيه الأوس و الخزرج ، وكان الظفر فيه يومئذ للأُوس على الخزرج ، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهري ، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي ، فقتلا جميعاً.
    دخل الشاب اليهودي مجمتع القوم فأخذ يذكر مقاتلتهم ومضاربتهم في عصر الجاهلية ، فأحيى فيهم حميتها حتّى استعدوا للنزاع والجدال بحجة أنّهم قتل بعضهم بعضاً في العصر الجاهلي يوم بعاث ، وأخذ الشاب يُؤجّج نار الفتنة ويصب الزيت على النار حتّى تواثب رجلان من الحيّين فتقاولا.
    فبلغ ذلك رسول اللّه فخرج ، إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين ، حتّى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين! اللّه ، اللّه ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ، بعد أن هداكم اللّه بالإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم من الكفر وألّف به بين قلوبكم؟
    كانت كلمة النبي كالماء المصبوب على النار بشدة وقوة ، حيث عرف القوم أنّها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) مذعنين ، متسالمين ، مطيعين قد دفع اللّه عنهم كيد عدو اللّه شأْس بن قيس ، فأنزل اللّه تعالى في شأْس وما صنع (1) ..
1 ـ السيرة النبوية ج 2 ص 250.

(10)
    3 ـ كان لقضية الإفك في عصر الرسول دوىّ بين أعدائه ، فكان عدوّ اللّه « عبد اللّه بن أُبي » يشيع الفاحشة ويؤذي النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، فقام رسول اللّه في الناس يخطبهم ، فحمد اللّه وأثنى عليه ـ ثم قال : « أيّها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق ، واللّه ما علمت منهم إلاّ خيراً ، ويقولون ذلك الرجل ، واللّه ما علمت منه إلاّ خيراً ، وما يدخل بيتاً من بيوتي إلاّ وهو معي ـ و كان كبر ذلك الإفك عند عبد اللّه بن أُبي بن سلول في رجال من الخزرج.
    فلمّا قال رسول اللّه تلك المقالة ، قال « أسيد بن حضير » وكان أوسياً : يا رسول اللّه! إن يكونوا من الأوس نكفكهم ، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك ، فواللّه إنّهم لأهل أن تضرب أعناقهم ، فقال سعد بن عبادة ـ وكان خزرجياً ـ : كذبت لعمر اللّه لا تضرب أعناقهم ، أما واللّه ما قلت هذه المقالة إلاّ أنّك قد عرفت أنّهم من الخزرج ، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد : ولكنّك منافق تجادل عن المنافقين. و عندئذ تساور الناس حتّى كاد أن يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شرّ. وفي لفظ البخاري : فصار الحيّان الأوس والخزرج حتّى همُّوا أن يَقْتَتِلوا ورسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) قائم على المنبر ، فلم يزل يخفّضهم حتّى سكتوا وسكت (1).
    هذه نماذج من مواقف النبي الأعظم حيال الخلافات الّتي كانت تنشب أحياناً بين أُمّته وهو ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) كان يصنع من الخلاف وئاماً ومن النزاع وفاقاً ، ويدفع الشر بقيادته الحكيمة ، وما هذا إلاّ لأنّ صرح الإسلام قائم على كلمتين : كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة.
    وهذا صنو النبي الأكرم ووصيه وخليفته ـ إذ حرم من حقّه المشروع ، وبدلت الخلافة التنصيصية إلى تداول الخلافة بين تيم وعدي ، ثم إلى أُمّية ـ قد
1 ـ السيرة النبوية ج 3 ص 312 ـ 313 ، و صحيح البخاري ج 5 ص 119 باب غزوة بني المصطلق.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: فهرس