بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: 11 ـ 20
(11)
بقي حليف بيته وأليف كتاب اللّه ، وهو يرى المفضول يمارس الخلافة مع وجود الفاضل ، بل يرى تراثه نهباً ، ومع ذلك كله لم ينبس ببنت شفة إلاّ في موارد خاصة ، حفظاً للوفاق والوئام ، وهو ( عليه السَّلام ) يشرح لنا تلك الواقعة بقوله : « فواللّه ما كان يُلْقَى في رُوعي ، وَ لا يَخْطُرُ ببالي ، أنّ العَرَبَ تُزعِجُ هَذَا الأَمرَ مِنْ بَعْدِهِ ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) عَنْ أهْل بَيتِهِ ، وَ لا أنّهُمْ مُنَحُّوهُ عنّي مِنْ بَعْدِهِ ، فما رَاعَني إلاّ انثيالُ الناسِ على فُلان يُبَايِعُونَهُ فَأمْسَكْتُ يدي حتّى رأيتُ راجعة الناسِ قد رَجَعَتْ عن الإسلام يَدْعُونَ إلى مَحْقِ دينِ مُحَمّد فخَشيتُ إن لَمْ أنْصُرِ الإسلامَ و أهلَهُ أن أرَى فيه ثَلْماً أو هَدْماً تَكُونُ المُصيبَةُ بِهِ علىَّ أعْظمَ مِنْ فَوْتِ ولايَتِكُم ، الّتي إنّما هِىَ مَتاعُ أيّام قَلائِلَ ... » (1).
    وعندما تسنّم سدّة الخلافة ورجع الحق إلى مداره ، قام خطيباً فقال : « والزَمُوا السّوادَ الأعظَمَ ، فإنَّ يدَ اللّهِ مَعَ الجماعَةِ و إيّاكُمْ و الفُرْقَةَ فإنّ الشّاذَّ مِنَ الناسِ للشيطانِ كَمّا أنّ الشّاذّ مِنَ الغَنَمِ للذِّئْبِ. ألا مَنْ دَعَا إلى هذا الشّعارِ فَاقْتُلُوهُ وَ لَوْ كَانَ تحتَ عِمَامَتي هَذَهَ » (2).
    هذه هي سيرة النبي الاكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وسيرة وصيّه وتلميذه ، وهما تعربان عن أنّ حفظ الوحدة من أهمّ الواجبات وأوجب الفرائض ، ولكن يا للأسف لم تراع الأُمّة نصح النبي الأكرم عبر القرون والأجيال ، وهذه مأساة سقيفة بني ساعدة المسرحية وما تمخّض عنها. واقرأها بدقة وإمعان ترَ أنّ الجانبين المهاجرين والأنصار تشبّثوا بدعاوي منتنة تشبه دعوى الجاهلية ، فمندوب الأنصار يجرّ النار إلى قرصه بحجة أنّهم نصروا النبي الأكرم و آووه ، كما أنّ المتكلم عن جانب المهاجرين ( و لم يكن في السقيفة منهم آنذاك إلاّ خمسة أشخاص ) يراهم أحقّ بتداول الخلافة بحجة أنّهم عشيرة النبي الأكرم ، وفي الوقت نفسه لم نجد في كلامهما ما يشير إلى ما يخدم صالح الإسلام والمسلمين ، وأنّ المصالح الكبرى تكمن ضمانتها في تنصيب من توفّرت فيه شرائط وسمات وملامح القيادة الربّانية دون سائر أفراد الأُمّة.
1 ـ نهج البلاغة ، الرسالة 62.
2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 127.


(12)

    وقد توإلى الخلاف والشقّاق ، ودارت الدوائر على المسلمين بعد مقتل عثمان وانتخاب علي ( عليه السَّلام ) للزعامة باتفاق المهاجرين والأنصار ، إلاّ من شذّ ولا يتجاوز عددهم خمسة ، وعند ذلك ثقل على الأُمّة عدل علىّ وسيرته ، فثارت الضغائن البدرية ضدّه فوقع ما وقع ، وتوالت الوقائع والأحداث ، فجاءت وقعة الجمل الّتي أُريقت فيها دماء المسلمين ، لأجل إزالة الإمام وتنحيته عن حقّه ومقامه. وبعد ما انتصر الإمام على الناكثين وعاد الحق إلى مقره ، نجم قرن آخر تمثل في وقعة صفين الّتي ذهبت ضحيتها عشرات الآلاف من المسلمين ، إلى أن انتهى الأمر إلى وقعة النهروان الّتي شغلت بال الإمام واستنفدت طاقات المسلمين ، واستشهد الإمام ، والمسلمون بعد لم يندمل جرحهم ، وبويع ولده الإمام الحسن السبط للخلافة ، وأخذ بزمام الأمر أشهراً قلائل ، غير أنّ ابن ابي سفيان شنّ الغارة على العراق وشيعة الحسن ( عليه السَّلام ) ومبايعيه ، فانجرّ الأمر إلى التصالح ، وأُنيخ جمل الخلافة على باب بني أُميّة يتداول كرتها واحد بعد واحد ، حتّى انتكث عليهم فتلهم وأجهز عليهم عملهم بانتفاضة الأُمة ضدّهم ، إلى أن استولى العباسيون فصاروا خلفاء الأُمة وقادتها ، ولم يكونوا بأحسن من الأمويين.
يا ليت جور بني مروان دام لنا وليت عدل بني العباس في النار
    كان العباسيون يتوارثون الخلافة من الآباء إلى الأولاد ، و كان للإسلام صولة وللمسلمين هيبة ، ولم تكن تجترىء القوى الكافرة في العالم عبر قرون على غزو المسلمين ، وإن كانت الفتن والحروب الداخلية دائرة بينهم. غير أنّ تلك الحروب وضعف القيادة الإسلامية أتاحت فرصة صالحة للقوى الكافر ة المتربّصة بالمسلمين لشنّ الغارة على الوطن الإسلامي وضرب الإسلام والمسلمين ضربة قاضية في أوائل القرن السادس ، حيث أنشبت مخالبها في جسد الإسلام والمسلمين ، وانقضّت عليهما بالحملات الصليبية في أوائل ذلك القرن ، وكان منطلق شنّ تلك الحملات والغارات من جانب الغرب ، عن طريق البحر تارة على سواحل الشامات ، وأُخرى عن طريق البر عبر القسطنطنية.
    كانت تلك الحروب لا تزال طاحنة ومشتعلة ينتصر فيها المسلمون على


(13)
العدو في فترة بعد فترة ، إذ بدأت الحملات الاُُخرى من جانب الشرق على يد التتار والمغول ، فكان مختتم الحروب الصليبية مبدأ للحروب الوثنية بايدي عبدة الشمس والكواكب ، ولعلّ هذا يعرب عن اتفاق الصليب والصنم ، وبالتالي الصليبيين والصنميين على تدمير الحضارة الإسلامية ... ولسنا أول من تنبّه إلى اتفاق هاتين القوتين في ذلك العصر المظلم ، بل يظهر عن طريق الإمعان في ثنايا التاريخ أنّ ذلك كان أمراً مدبّراً ، ولو لم يكن هناك اتفاق في بدء الأمر لكن حصل الاتفاق بين الصليبي والوثني في أثناء تلك الحروب ، وفي كلام ابن الأثير المعاصر لهذه الحروب إشارة إلى ذلك حيث يقول : « وقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأُمم. منها هؤلاء التتار ـ قبحهم اللّه ـ أقبلوا من المشرق ففعلوا الأفعال الّتي يستعظمها كل من سمع بها ، ومنها خروج الإفرنج ـ لعنهم اللّه ـ من المغرب إلى الشام وقصدهم ديار مصر ، وملكهم ثغر دمياط منها ، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف اللّه تعالى ونصره عليهم » (1).
    ثم إنّ ابن الأثير يشير إلى ضعف القيادة الإسلامية في تلك العصور ، ويزيح النقاب عنها بقوله : « يسرّ اللّه للمسلمين و الإسلام من يحفظهم ويحوطهم ، فلقد دفعوا من العدو إلى عظيم ، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه ... » (2).
    ولأجل إيقاف القارىء على مدى الخسائر الفادحة الواردة على الإسلام والمسلمين ، الناجمة عن هذه الحروب الصليبية والتترية ، نذكر لمحة خاطفة من هاتين الحربين كنموذج تمثيلي ، ليعلم بذلك داء المسلمين فيه ، ثم نبحث عن الدواء الّذي كان ينبغي لعلماء الإسلام أن يقدّموه إلى المجتمع الإسلامي ، والمصل الناجع ، ونقدّم الكلام عن الحروب الصليبية أوّلا ، ثم عن التترية ثانياً ، ثم تنامي رقعة الهجمات الصليبية في الوطن الإسلامي بهجومهم على الأندلس ثالثاً ، وقد استغرقت هذه الهجمات الصليبية والتترية قرنين ، من
1 ـ الكامل في التاريخ ج 12 ص 360.
2 ـ الكامل في التاريخ ج 12 ص 376.


(14)
أوائل القرن السادس إلى أواخر القرن السابع أو أزيد.

الحروب الصليبية ( 491 ـ 616 )
    كانت النصارى بالمرصاد للمسلمين ، وكان من أُمنياتهم الاستيلاء على بيت المقدس و سلبه من أيدي المسلمين بحجّة أنّه قبلة الأُمم المسيحية ومثوى ومنتجع عواطفهم الدينية ، فشنّوا الغارة على بلاد المسلمين حوالي سنة 491 إلى أواخر القرن السابع ، وكانت للحروب الصليبية مراحل ثمان أو تسع ، فكانوا ينتصرون في بعضها ، كما تلحقهم الهزيمة في بعضها الآخر ، ومن المراحل التي انتصروا فيها على المسلمين المرحلة المعروفة التي : « ساروا فيها إلى بيت المقدس ، فحاصروه ونصبوا عليه برجين ، وملكوه من الجانب الشمالي ، وسلّط على الناس السيف ، ولبث الإفرنج في البلد أُسبوعاً يقتلون فيه المسلمين ، وقتل بالمسجد ما يزيد على سبعين ألفاً ، وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء » (1).
    إنّ التواريخ الإسلامية تعرف السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ( م 589 هـ ) الفاتح الكبير والقائد الفذّ ، الّذي صمد في وجه ، الصليبيين حيث طرد الإفرنج عن الشامات ، غير أنّه لم يقض في فتوحاته على غائلة الحروب الصليبية بشكل نهائي ، بل امتدت هذه الحروب في الوطن الإسلامي بعده ايضاً. كيف وقد وقعت حرب ضروس في سنة 593 هـ بين الملك العادل ابي بكر بن ايوب وبين الإفرنج ، فأنقذ مدينة يافا من الساحل الشامي من يد الإفرنج (2) وقد ذكر ابن الأثير أيضاً في حوادث سنة 614 : « أن الإفرنج اقاموا بعكا إلى أن دخلت سنة 615 فساروا في البحر إلى دمياط ، فوصلوا في صفر ، فأرسلوا على بر الجيزة بينهم وبين دمياط النيل ... » (3).

زحف التتار إلى البلاد الإسلام
    قد ذكر المؤرخون بعض الدوافع لاشتعال هذه الحرب في أوائل القرن
1 ـ تاريخ مختصر الدول ، للملطي المعروف بابن العبري ، المتوفى 675 هـ.
2 ـ الكامل ج 12 ص 126 .
3 ـ الكامل ج 12 ص 323.


(15)
السابع بين الوثنيين والمسلمين قالوا : إنّ ملك التتار المعروف بـ « جنكيز خان » قد سيّر جماعة من التجار ومعهم شيء كثير من النقرة والقندر وغيرهما إلى ما وراء النهر ، سمرقند وبخارى ، ليشتروا به ثياباً للكسوة ، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمّى « أوترار » وهي آخر ولاية « خوارزم شاه » وكان له نائب هناك ، فلما وردت عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم ، ويذكر له ما معهم من الأموال ، فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال ، فقتلهم وسيّر ما معهم ، وكان شيئاً كثيراً ، فلما وصل إلى خوارزم شاه فرّقه على تجار بخارى و سمرقند ، وأخذ ثمنه منهم ، فبلغ الخبر إلى جنكيزخان فأرسل رسولا إلى خوارزم شاه يقول : « تقتلون أصحابي و تجاري وتأخذون مالي منهم ، فاستعدوا للحرب فإنّي واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به » (1).
    ويظهر من بعض الآثار أنّ يد بعض الأساقفة كانت وراء تحريض ملك التتار على الزحف والحرب ، يقول ابن العبري : « عظم الأمر عند جنكيزخان وتأثر منه إلى الغاية وهجره النوم ، وصار يحدث نفسه ويفكر في ما يفعله ، ففي اليلة الثالثة رأى في منامه راهباً عليه السواد وبيده عكازة وهو قائم ، فذكر رؤياه للأسقف فقال الأسقف : يكون الخان قد رأى بعض قديسينا ، ومن ذلك الوقت صار يميل إلى النصارى ويحسن الظن بهم ويكرمهم ، ومن هذه السنة ( 616 ) قصد جنكيزخان البلاد الإسلامية » (2).

الداهية العظمى أو خروج التتار إلى بلاد الإسلام
    إنّ عظمة الداهية بلغت حداً لا يستطيع القلم واللسان تبيينها وترسيمها ولا يستطيع المسلم أن يسمع ذكراً منها أو يقرأ فصلا من فصولها ، حتّى أنّ ابن الأثير بقي عدة سنين معرضاً عن ذكر الحادثة استعظاماً لها ، كارهاً لذكرها ، فبقي يقدّم رجلا ويؤخّر أُخرى ، ثم علّل إعراضه عن تحرير هذه الواقعة
1 ـ الكامل ج 12 ص 361 ـ 362.
2 ـ تاريخ مختصر الدول ص 230.


(16)
بقوله : « ومن ذا الّذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ، ومن ذا الّذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أُمّي لم تلدني ، ويا ليتني متّ قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً ، إلاّ أنّه حثّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف ، ثم رايت أنّ ترك ذلك لا يجدي نفعاً فنقول : هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى الّتي عقمت الأيام والليالي عن مثلها ، عمّت الخلائق وخصّت المسلمين ، فلو قال قائل إنّ العالم مذ خلق اللّه سبحانه وتعالى آدم و إلى الآن لم يبتلوا بمثله لكان صادقاً ، فإنّ التواريخ لم تتضمّن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
    ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل من القتل وتخريب بيت المقدس ، وما بيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد ، الّتي كل مدينة منها أضعاف بيت المقدس ، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا؟ فإنّ أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل ، ولعل الخلق لن يروا مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا ، إلاّ يأجوج ومأجوج.
    وأمّا الدجال فإنّه يبقي على من اتّبعه ويهلك من خالفه ، وهؤلاء لم يبقوا على أحد ، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال ، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة ، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم ، ولهذه الحادثة الّتي استطار شررها ، وعمّ ضررها ، وصارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح ، فإنّ قوماً خرجوا من أطراف الصين ، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاسغون ، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما ، فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره ، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكاً ، وتخريباً وقتلا ، ثم يتجاوزونها إلى الري ، وهمدان ، وبلد الجبل وما فيها من البلاد إلى حد العراق ، ثم يقصدون بلاد آذربيجان وأرانية يخربونها ويقتلون أكثر أهلها ومن ينجو إلاّ الشريد الفارّ ( فعلوا كل ذلك ) في أقل من سنة هذا ما لم يسمع بمثله.
    ثم لما فرغوا من آذربيجان وأرانية صاروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه


(17)
ولم يسلم غير القلعة الّتي بها ملكهم ، وعبروا عندها إلى بلد اللان واللكز ، ومن في ذلك الصقع من الأُمم المختلفة فأوسعوهم ، قتلا ، ونهباً ، وتخريباً ، ثم قصدوا بلاد قفجاق وهم من أكثر الترك عدداً ، فقتلوا كل من وقف لهم ، فهرب الباقون إلى الغياض ورؤوس الجبال ، وفارقوا بلادهم واستولى هؤلاء التتر عليها في أسرع زمان ، ولم يلبثوا إلاّ بمقدار مسيرهم لا غير.
    ومضت طائفة أُخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان ، ففعلوا فيها مثل ما فعل هؤلاء وأشد. وهذا ما لم يطرق الأسماع مثله. فإنّ الإسكندر الّذي اتفق المؤرخون على أنّه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة ، إنّما ملكها في نحو عشر سنين ولم يقتل أحداً. وإنّما رضي من الناس بالطاعة ، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه ، وأكثره عمارة وأهلا ، وأعدل أهل الأرض أخلاقاً وسيرة في نحو سنة ، ولم يبق في البلاد الّتي لم يطرقوها إلاّ وهو خائف يتوقعهم ويترقب وصولهم إليه » (1).
    ثم إنّ ابن الأثير تتبّع مسير التتار وهجماتهم الوحشية ، فذكر الحوادث المفجعة سنة بعد سنة ، إلى أن وصول إلى حوادث ( 628 هـ ) وبعدها بقليل.
    و أظنّ أنّ فيما ذكره على وجه الإجمال غنى وكفاية ، ولا يحتاج إلى سرد التفاصيل الّتي جاءت بعد هذا الإجمال ، ولكنّه لم يدرك الهزيمة النكراء الّتي أصابت المسلمين عند سقوط بغداد ، ولكن المؤرخين الذين جاءوا بعده ذكروا سقوط العاصمة في أيدي أولئك الوحوش الضواري ، وقد ارتكبوا جرائم لا تغسل عن ساحة الذاكرة الإنسانية بماء المحيط ، فضلا عن البحر والنهر ، ولاجل إيقاف القارىء على مدى الخسائر الفادحة الروحية والجسدية الواردة على المسلمين ، نذكر من تلك الهجمات العديدة هجومهم على بغداد ، فإنّه يوقفنا على حقيقة ما جرى في غيرها ، معتمدين في ذلك على ما سطره ابن كثير في تاريخه.
1 ـ الكامل لابن الأثير ج 12 ص 358 ـ 361.

(18)
سقوط الخلافة العباسية بأيدي وحوش التتار
    لم تستهل هذه السنة إلاّ وجنود التتار قد أحاطت ببغداد بصحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار ، هولاكوخان ، وقد جاءت إليهم أمداد صابح الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه ، وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار ، ومصانعة لهم قبّحهم اللّه تعالى ، وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة الّتي لا ترد من قدر اللّه سبحانه وتعالى شيئاً ، كما ورد في الأثر « لن يغني حذر عن قدر » و كما قال تعالى : ( إنَّ أجَلَ اللّهِ إذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ ) (1) وقال تعالى : ( إنَّ اللّهَ لا يُغيِّرُ ما بِقَوم حتّى يُغيِّروا ما بأنفُسِهم وَإذا أرادَ اللّهُ بِقوم سُوءاً فَلا مَردَّ لَهُ وَمَا لَهم مِن دُونِهِ مِن وَال ) (2). وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتّى أُصيبت جارية تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه ، وكانت من جملة خطاياه ، وكانت مولدة تسمى عرفة ، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة ، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً ، وأحضر السهم الّذي اصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب : « إذا أراد اللّه إنفاذ قضائه وقدره أذهب عن ذوي العقول عقولهم » فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز ، وكثرت الستائر على دار الخلافة وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها ـ وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل ـ إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة.
    ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة ، ممن لا يؤمن باللّه ولا باليوم الآخر ، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية ، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة ، لا يبلغون عشرة آلاف فارس ، وهم بقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتّى استعطى كثير منهم في الأسواق وعلى أبواب المساجد ، و أنشد فيهم الشعراء قصائد يرثونهم ويحزنون على الإسلام وأهله.
    ولما فتحوا البلد ، قتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء
1 ـ سورة نوح : الآية 4 .
2 ـ سورة الرعد : الآية 11.


(19)
والوالدان والمشايخ والكهول والشبان ، ودخل كثير من الناس في الآبار و أماكن الحوش ، وقني الوسخ ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون ، وكان الجماعة من الناس يجتمعون في الخانات ويغلقون عليهم الأبواب ، فتفتحها التتار إمّا بالكسر و إمّا بالنار ، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة ، فيقتلونهم بالأسطحة ، حتّى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة ، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون. وكذلك في المساجد والجوامع والربط ، ولم ينج منهم سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم ... وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً ، وبذلوا عليه أموالا جزيلة حتّى سلموا وسلمت أموالهم ، وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلّها ، كأنّها خراب ليس فيها إلاّ القليل من الناس ، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة.
    وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد ، كما قصّ اللّه تعالى ، علينا ذلك في كتابه العزيز ، حيث يقول : ( وَ قَضَينا إلى بَني إسرائيلَ في الكتابَ لَتُفْسِدُُنَّ في الأرضِ مَرَّتَينِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كبيراً * فإذا جاءَ وَعدُ أولاهُما بَعَثْنا عَليكُم عَباداً لَنا أُولي بَأْس شَديد فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ وَكَانَ وَعْداً مَفعولا ) (1).
    وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء ، وأسر جماعة من أولاد الأنبياء ، وخرب بيت المقدس بعد ما كان معموراً بالعباد والزهاد والأحبار والأنبياء ، فصار خاوياً على عروشه واهي البناء.
    وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة. فقيل ثمانمائة ألف ، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف ، وقيل بلغت القتلى ألفي نفس ، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلىّ العظيم ، وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم ، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً.
    ولما انقضى الأمر المقدور وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على
1 ـ سورة الإسراء : الآية 4 ـ 5.

(20)
عروشها ليس بها أحد إلاّ الشاذّ من الناس ، القتلى في الطرقات كأنّها التلول ، وقد سقط عليهم المطر فتغيّرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد ، وتغيّر الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد ، حتّى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام; فمات خلق كثير من تغيّر الجو وفساد الريح ، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والطعن والطاعون فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.
    ولما نودي ببغداد الأمان ، خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنّهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم ، وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى ، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الّذي يعلم السرّ وأخفى اللّه لا إله إلاّ هو له الأسماء الحسنى ، وكان رحيل السلطان المسلّط هولاكوخان عن بغداد في جمادي الأُولى من هذه السنة ( 666 هـ ) إلى مقر ملكه (1).
    ثم امتدّت الهجمات بعد سقوط بغداد حتّى وصل جيش العدو إلى عين جالوت وغزة في فلسطين ، وكانت الأُمنية الكبرى للعدو هي الاستيلاء على الشامات ثم مصر ، ولكن الزحف توقف بتدبير الملك الظاهر بيبرس ( 659 ـ 676 هـ ) ولكن العدو حاول الاستيلاء ثانياً على الشامات ... (2) .
    وهذا اليافعي يتتبّع مسير التتار وهجومهم ، فيقول في حوادث عام 700 هـ :
     « حصلت أراجيف بالتتار وجاء غازان بجيشه الفرات وقصد حلب فتشوشت الخواطر ... ».
    ويقول في حوادث عام 702 هـ : « طرق غازان الشام ولكن انهزم عند سور دمشق وتفرّقت جيوشه ، ثم جهّز غازان جيوشه فصاروا إلى مرج دمشق وتأخر المسلمون وبات أهل دمشق في بكاء واستغاثة وخطب شديد ، وقدم
1 ـ البداية والنهاية ، ج 13 ، ص 200 ـ 213.
2 ـ فيليب حتي. تاريخ العرب المترجم إلى الفارسية ، ج 2 ص 883 ، 851 ، 828.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: فهرس