بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: 141 ـ 150
(141)
فلا ينعقد النذر ، فإنّه ليس في قصد مسجد بعينه غير الثلاثة قربة مقصودة ، وما لا يكون قربة ولا عبادة فهو غير ملزم بالنذر.
    كل ذلك يحدد مصب الحديث وهدفه ، وأنّ المقصود هو المنع عن تعظيم مكان تشد الرحال إليه ، وأمّا إذا كانت الغاية تعظيم من عظّمه اللّه سبحانه وأكرمه ورزقه فضلا كبيراً ـ كما قال ـ : ( وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (1) ، فهو خارج عن مورد الحديث.
    ومع ذلك فإنّ النهي عن شد الرحال إلى مكان خاص ليس لغاية تحريمه ، وإنما هو إرشاد إلى نفي الفضيلة. قال ابن قدامة الحنبلي : « إن سافر لزيارة القبور والمشاهد فقال ابن عقيل لا يباح له الترخص لأنه منهي عن السفر إليها ، قال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد ، والصحيح إباحته وجواز القصر فيه ، لأنّ النبي كان يأتي قبا ماشياً وراكباً ، وكان يزور القبور ، وقال : زوروها تذكركم الآخرة ، وأمّا قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد ، فيحمل على نفي الفضيلة ، لا على التحريم ، فليست الفضيلة شرطاً في إباحة القصر ولا يضر انتفاؤها (2).
    هذا كله حول الحديث وتحديد مضمونه ، وقد عرفت أنّ شد الرحال إلى زيارة النبي خارج عن موضوع الحديث على كلا التقديرين ، فالاستدلال به على التحريم باطل جداً.

الدليل على جواز السفر إلى زيارة القبور
    ثم إنّ هنا سؤالا يثار في المقام ، وهو أنّ الحديث وإن كان قاصراً عن إثبات التحريم ، ولكن ما هو الدليل على جواز السفر لزيارة قبر النبي أو سائر
1 ـ سورة النساء : الآية 113.
2 ـ المغني لابن قدامة المتوفى سنة 620 ، ج 2 ص 217 ـ 218 ، وذكر في ج 3 ص 498 استحباب الزيارة ، وكيفية زيارة النبي فلاحظ ، وما نقله عن ابن عقيل غير ثابت ، لأنّ السبكي نقل عنه خلافه ، لاحظ شفاء السقام ص 113.


(142)
القبور ، خصوصاً إذا كان السفر دينياً ومنسوباً إلى الشرع ، فإنّ الإفتاء بجوازه بما أنّه عمل يؤتى به لأجل كونه أمراً دينياً يحتاج إلى الدليل ، وإلى الجواب :
    يدل على جواز السفر لفيف من الدلائل ، وإليك بيانها :
     الأول : ما ورد من الحث على زيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وستوافيك نصوصها فإنّها بين صريح في جواز السفر أو مطلق يعم المقيم والمسافر ، فقول النبي وفعله حجتان ، أمّا قوله :
    فقد روي عن عبداللّه بن عمر أنّه قال : قال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : من جاءني زائراً لا تعمله ( تحمله ) إلاّ زيارتي كان حقاً علىّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة.
    روي أيضاً عن عبداللّه بن عمر عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي.
    والثاني صريح في جواز السفر ، والأول مطلق يعم المسافر والمقيم في المدينة ، وستوافيك هذه النصوص عن أعلام المحدثين.
    وأمّا فعله ، فقد روي عن طلحة بن عبداللّه قال : خرجنا مع رسول اللّه يريد قبور الشهداء ـ إلى أن قال ـ : فلمّا جئنا قبور الشهدا ، قال : هذه قبور إخواننا (1).
    الثاني : الإجماع ، لإطباق السلف والخلف ، لأنّ الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، وإن منهم من يفعل ذلك قبل الحج ، قال السبكي : هكذا شاهدناه ، وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة ، وكلهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم ، ويقطعون فيه مسافة بعيدة ، وينفقون فيه الأموال ، ويبذلون فيه المهج ، معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة ، وإطباق هذا الجمع العظيم من
1 ـ أخرجه أبو داود في سننه ج 1 ص 311 ، والبيهقي في السنن الكبرى ج 5 ص 249 والمراد من الشهداء شهداء أحد ، كما هو مورد الحديث.

(143)
مشارق الارض ومغاربها على مرّ السنين وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم ، يستحيل أن يكون خطأ ، وكلهم يفعلون ذلك على وجه التقرب به إلى اللّه عزّوجلّ ، ومن تأخر فإنّما يتأخر بعجز أو تعويق المقادير مع تأسفه عليه ، وودّ لو تيسّر له ، ومن ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمع على خطأ فهو المخطىء.
    وما ربما يقال من أنّ سفرهم إلى المدينة لأجل قصد عبادة أُخرى وهي الصلاة في المسجد ، باطل جداً. فإنّ المنازعة فيما يقصده الناس مكابرة في أمر البديهة ، فمن عرف الناس أنهم يقصدون بسفرهم الزيارة من حين يعرجون إلى طريق المدينة ، ولا يخطر غير الزيارة من القربات إلاّ ببال قليل منهم ، ولهذا قلّ القاصدون إلى بيت المقدس مع تيسّر إتيانه ، وإن كان في الصلاة فيه من الفضل ما قد عرفت ، فالمقصود الأعظم في المدينة ، كما أنّ المقصود الأعظم في مكة ، الحج أو العمرة ، وصاحب هذا السؤال إن شك في نفسه فليسأل كل من توجّه إلى المدينة ما قصد بذلك (1).
    الثالث : إنّه إذا كانت الزيارة قربة وأمراً مستحباً على الوجه العام والخاص ، فالسفر وسيلة القربة ، والوسائل معتبرة بالمقاصد ، فيجوز قطعاً.
    الرابع : ما نقله المؤرخّون عن بعض الصحابة والتابعين.
    1 ـ قال ابن عساكر في ترجمة بلال : إنّ بلالا رأى في منامه رسول اللّه وهو يقول له : ما هذه الجفوة يا بلال ، اما آن لك أن تزورني يا بلال؟ فانتبه حزيناً ، وجلا ، خائفاً ، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه ، فأقبل الحسن والحسين ـ رضي اللّه عنهما ـ فجعل يضمّهما ويقبّلهما ، فقالا له : نشتهي نسمع أذانك الّذي كنت تؤذن به لرسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ففعل ، فعلا سطح المسجد ، فوقف موقفه الّذي كان يقف فيه ، فلمّا أن قال : « اللّه أكبر ، اللّه أكبر » ارتجّت المدينة ، فلمّا أن قال : « أشهد أن لا إله إلاّ اللّه » ، ازدادت رجّتها ، فلمّا أن قال : « أشهد أنّ محمداً رسول اللّه » خرجت العواتق من
1 ـ شفاء السقام ، في زيارة خير الأنام لتقي الدين السبكي ص 85 ـ 86 ط بولاق مصر.

(144)
خدورهن فقالوا : أبعث رسول اللّه؟ فما رئي يوماً أكبر باكياً بالمدينة بعد رسول اللّه من ذلك اليوم (1).
    2 ـ إنّ عمر بن عبد العزيز كان يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ليقرىء النبي السلام ، ثم يرجع ، قال السبكي : إنّ سفر بلال في زمن صدر الصحابة ، ورسول عمر بن عبدالعزيز في زمن صدر التابعين من الشام إلى المدينة لم يكن إلاّ للزيارة والسلام على النبي ، ولم يكن الباعث على السفر غير ذلك من أمر الدنيا ، ولا من أمر الدين ، ولا من قصد المسجد ، ولا غيره.
    3 ـ إنّ عمر لمّا صالح أهل بيت المقدس ، وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم ، وفرح عمر بإسلامه ، قال عمر له : هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي وتتمتّع بزيارته؟ فقال لعمر : أنا أفعل ذلك ، ولما قدم عمر المدينة أول ما بدأ بالمسجد ، سلم على رسول اللّه (2).
    4 ـ ذكر ابن عساكر في تاريخه وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن بأسانيدهما إلى محمد بن حرب الهلالي قال : دخلت المدينة ، فأتيت قبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وزرته وسلمت بحذائه ، فجاءه أعرابي فزاره ، ثم قال : يا خير الرسل ، إنّ اللّه أنزل إليك كتاباً صادقاً قال فيه : ( وَلَوْ أنّهمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُم جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ واستَغفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّه تَوّاباً رَحيماً ) وإنّي جئتك مستغفراً ربك من ذنوبي ، مستشفعاً فيها بك إلى ربي ، ثم بكى وأنشأ يقول :
    يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
    نفسي الفداء لقبر ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكم
    وقد ذيّله أبو الطيب أحمد بن عبدالعزيز بأبيات وقال :
    وفيه شمس التقى والدين قد غربت من بعد ما أشرقت من نورها الظلم
1 ـ شفاء السقام ص 44 ـ 47 وقد نقله من مصادر كثيرة ، قال : وذكره الحافظ أبو محمد عبدالغني المقدسي في « الكمال في ترجمة بلال ».
2 ـ المصدر نفسه.


(145)
حاشا لوجهك أن يبلى وقد هديت في الشرق والغرب من أنواره الأُمم (1)
    وبذلك تعرف قيمة ما ذكره ابن تيمية حول السفر إلى المشاهد وقال : وقد رخّص بعض المتأخرين في السفر إلى المشاهد ، ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة ، ولا احتجّوا بحجّة شرعية (2).
    وبما أنّك تعرّفت على الحجج الشرعية على الجواز ، هلمّ معي ندرس نصوص الأعلام من علماء الإسلام لنعرف موقف ابن تيمية في التثبّت والأمانة ، وإليك نصوصهم حول السفر للزيارة نقتطف موضع الحاجة من كلماتهم :

نصوص الأعلام على جواز السفر لزيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم )
    لعل القارىء يتصوّر أنّ لما ذكره ابن تيمية من عدم الإفتاء بجواز السفر ، مسحة من الحق والصدق ، ولكنّه إذا أمعن النظر فيما وصل إلينا من فتاواهم ، يقف على أنّ الحق على ضد ما نسب إليهم ، وإليك البيان :
    1 ـ قال أبو الحسن أحمد بن محمد المحاملي الشافعي المتوفّى سنة ( 425 هـ ) في « التجريد » : ويستحب للحاج إذا فرغ من مكة أن يزور قبر النبي.
    2 ـ وقال أبو الحسن الماوردي المتوفّى سنة ( 450 هـ ) ، في الأحكام السلطانية ، ص 105 : « فإذا عاد ( ولي الحاج ) سار بهم على طريق المدينة لزيارة قبر رسول اللّه ، ليجمع لهم بين حج بيت اللّه عزّوجلّ وزيارة قبر رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، رعاية لحرمته ، وقياماً بحقوق طاعته (3).
    3 ـ وقال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الفقيه البغدادي الحنبلي المتوفّى سنة ( 510 هـ ) في كتاب الهداية : « فإذا فرغ من الحج استحب له زيارة قبر النبي وقبر صاحبيه ».
    4 ـ قال القاضي عياض المالكي ، المتوفّى سنة ( 544 هـ ) في « الشفاء » ، نقلا
1 ـ شفاء السقام ص 52 .
2 ـ نفس المصدر .
3 ـ مجموعة الرسائل الكبرى ج 2 ص 60.


(146)
عن إسحاق بن إبراهيم الفقيه : « ممّا لم يزل من شأن من حج ، المزور (1) بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول اللّه ، والتبرك برؤية روضته ومنبره وقبره ومجلسه ، وملامس يديه ، ومواطن قدميه ، والعمود الّذي استند إليه ، ومنزل جبرئيل بالوحي فيه عليه ، ومن عمره وقصده من الصحابة وائمة المسلمين.
    5 ـ قال أبو محمد عبدالكريم بن عطاء اللّه المالكي المتوفى سنة ( 612 هـ ) في مناسكه : فصل : إذا كمل لك حجك وعمرتك على الوجه المشروع ، لم يبق بعد ذلك إلاّ إتيان مسجد رسول اللّه للسلام على النبي والدعاء عنده ، والسلام على صاحبيه ، والوصول إلى البقيع وزيارة ما فيه من قبور الصحابة والتابعين.
    6 ـ وقال نجم الدين بن حمدان الحنبلي المتوفى سنة ( 595 هـ ) في الرعاية الكبرى في الفنون الحنبلية : « ويسن لمن فرغ من نسكه ، زيارة قبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وقبر صاحبيه ، وله بعد فراغ حجه ، وإن شاء قبل فراغه ».
    7 ـ قال القاضي الحسين : « إذا فرغ من الحج ... ثم يأتي المدينة ويزور قبر النبي ».
    8 ـ قال الإمام ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي ، المتوفى سنة ( 737 هـ ) في ( المدخل ) في فصل زيارة القبور ( 1 : 257 ) : وأمّا عظيم جناب الأنبياء والرسل ـ صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ـ فيأتي إليهم الزائر ، ويتعيّن عليه قصدهم من الأماكن البعيدة.
    9 ـ قال الشيخ تقي الدين السبكي الشافعي المتوفى سنة ( 756 هـ ) في « شفاء السقام في زيارة خير الأنام » : « ومن روي عنه السفر إلى زيارة النبي ، بلال بن أبي رباح » ثم ذكر قصته. لاحظ الباب الثالث من كتاب شفاء السقام فقد عقده في ما ورد في السفر إلى زيارته.
    10 ـ ذكر شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي المتوفى
1 ـ مصدر ميمي بمعنى الزيارة.

(147)
سنة ( 925 هـ ) في « أسنى المطالب » ( 1/501 ) « فيما يستحب لمن حج » : ثم يزور قبر النبي ويسلم عليه وعلى صاحبيه بالمدينة المشرفة..
    11 ـ أفتى الشيخ محمد بن الخطيب الشربيني المتوفى سنة ( 977 هـ ) في مغني المحتاج ( 1/357 ) باستحباب زيارة النبي مطلقاً ، وأنّ تخصيص بعض باستحبابه بعد الفراغ عن الحج لأجل التأكيد ، وأنّه يتأكد للحاج أكثر من غيره.
    12 ـ وقال الشيخ زين الدين عبد الرؤوف المناوي المتوفى سنة ( 1031 هـ ) في شرح الجامع الصغير ، ج 6 ص 140 : وزيارة القبر الشريف من كمالات الحج.
    13 ـ عقد الشيخ حسن بن عمار الشرنبلالي في « مراقي الفلاح بإمداد الفتاح » فصلا في زيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وقال : زيارة النبي من أفضل القربات فإنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) حرض عليها وبالغ في الندب إليها فقال : من وجد سعة فلم يزرني فقد جفاني.
    14 ـ وقال القاضي شهاب الدين الخفاجي الحنفي المصري المتوفى سنة ( 1062 هـ ) في شرح الشفاء ( 3/566 ) واعلم أنّ هذا الحديث « لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد ... » هو الّذي دعا ابن تيمية ومن معه كابن القيم إلى مقالته الشنيعة الّتي كفّروه بها ، وصنّف فيها السبكي مصنفاً مستقلا وهي منعه من زيارة قبر النبي وشد الرحال إليه ، وهو كما قيل :
لمهبط الوحي حقاً ترحل النجب وعند ذاك المرجّى ينتهي الطلب
    فتوهمّ أنّه حمى جانب التوحيد بخرافات لا ينبغي ذكرها.
    15 ـ قال الشيخ عبدالرحمن شيخ زاده المتوفى سنة ( 1087 هـ ) في مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ( 1/157 ) : « من أحسن المندوبات ، بل يقرب من درجة الواجبات زيارة قبر نبينا وسيدنا محمد ، وقد حرض ( عليه السَّلام ) على زيارته وبالغ في الندب إليها ، ثم قال : فإن كان الحج فرضاً فالأحسن أن يبدأ به إذا لم يقع في طريق الحاج المدينة المنورة ، ثم يثني بالزيارة.


(148)
    16 ـ قال أبو الحسن السندي محمد بن عبدالهادي الحنفي المتوفي سنة ( 1138هـ ) في شرح سنن ابن ماجة ج 2 ص 268 قال الدميري : فائدة : زيارة النبي من أفضل الطاعات وأعظم القربات ، لقوله من جاءني زائراً لا تحمله حاجة إلاّ زيارتي كان حقاً علىّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة.
    17 ـ قال الشيخ إبراهيم الباجوري الشافعي المتوفى سنة ( 1277 هـ ) في حاشيته على شرح ابن الغزي على متن الشيخ أبي شجاع في الفقه الشافعي ، ( 1/347 ) : ويسن زيارة قبره ولو لغير حاج ومعتمر كالذي قبله ، ويسن لمن قصد المدينة الشريفة لزيارته أن يكثر من الصلاة والسلام عليه في طريقه.
    18 ـ قال الشيخ عبدالمعطي السقاء في الإرشادات السنية ص 260 : زيارة النبي إذا أراد الحاج أو المعتمر الانصراف من مكة ـ أدام اللّه تشريفها وتعظيمها ـ طلب منه أن يتوجّه إلى المدينة المنورة للفوز بزيارته عليه الصلاة والسلام.
    19 ـ وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري في تكملة السيف الصقيل ص 156 : ولم يخف ابن تيمية من اللّه في رواية عدّ السفر لزيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة عن الإمام ابن الوفاء ابن عقيل الحنبلي ـ وحاشاه عن ذلك ـ راجع كتاب التذكرة له تجد فيه مبلغ عنايته بزيارة المصطفى والتوسل به ، كما هو مذهب الحنابلة ، ثم ذكر كلامه وفيه القول باستحباب قدوم المدينة وزيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وكيفية زيارته (1).
    وهذه النصوص تدل على أنّ شد الرحال إلى زيارة النبي الأكرم كان أمراً متسالماً عليه ، وقد شذّ من حرّمه وسعى في منع الناس من زيارته.
    20 ـ ثم إنّ تقي الدين السبكي ذكر فروعاً فقهية عن أئمة المذاهب ،
1 ـ قد أخذنا هذه النصوص برمتها من كتاب الغدير للمحقق الأميني من ج 5 ص 109 ـ 125 وقد نقل أربعين كملة عن أعلام المذاهب الأربعة حول زيارة النبي الأقدس ، ونحن اقتطفنا منه ذلك ، ويدل على استحباب السفر فقط ، وأما استحباب زيارته فسيوافيك في فصل آخر .

(149)
تدل على محبوبية شد الرحال إليها من أرجاء الدنيا ، فمن أراد فليرجع إليه (1).
    وفيما ذكرنا من النصوص غنى ، كما أنّ فيما ذكرنا من الحجج كفاية لمن أراد الحق وتجنب عن العصبية ، فحان حين البحث حول نظريته في نفس الزيارة ، وما أثار حولها من شبهات.
    ( وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِباً أوْ كَذّبَ بآياتِهِ إنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ ) (2).
1 ـ شفاء السقام ص 42 .
2 ـ سورة الأنعام : الآية 21.


(150)
(2)
ابن تيمية ورأيه في زيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم )
    المعروف من ابن تيمية وأبناء الوهابية هو جواز زيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وتحريم السفر إليها ، لكن ما نقلناه في البحث الثاني ينافي ذلك ، فإنّ الظاهر أنّه يحرّم أصل الزيارة وقد عرفت أنّه قال : كل حديث يروي في زيارة قبر النبي فإنّه ضعيف ، بل موضوع ، ولم يرو اهل الصحاح والسنن والمسانيد كمسند أحمد وغيره من ذلك شيئاً (1).
    وقال السبكي : قد يتوهم أنّ نزاع ابن تيمية قاصر على السفر للزيارة دون أصل الزيارة ، وليس كذلك ، بل نزاعه في الزيارة أيضاً كما سنذكره من الشبهتين وهما :
    1 ـ كون الزيارة على هذا الوجه المخصوص بدعة.
    2 ـ كون الزيارة من تعظيم غير اللّه المفضي إلى الشرك.
    وما كان كذلك ، كان ممنوعاً ، وعلى هاتين الشبهتين بنى كلامه ، وقد نقل السبكي فتياً بخط ابن تيمية ولكن كلامه فيها مضطرب ، ففي صدرها ما يشعر بمنع الزيارة مطلقاً ، وفي ذيلها ما يقتضي أنّه إذا كانت الزيارة بمعنى السلام عليه والدعاء له ، جازت ، ويطابق ذلك ما نقلناه عن الرسالة الثالثة.
    والحاصل أنّه يقسم الزيارة إلى الزيارة البدعية والزيارة الشرعية فيجوّز
1 ـ مجموعة الرسائل الكبرى ج 2 ص 65 الرسالة الثالثة.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: فهرس