بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: 241 ـ 250
(241)
لمروان بن الحكم خمس غنائم افريقية ، والحارث بن الحكم ثلاثمائة ألف درهم ، وقضى ما استقرضه الوليد بن عقبة من عبد اللّه بن مسعود الّذي كان أمين بيت المال في عصر ولاية الوليد على الكوفة ، إلى غير ذلك من عطاياه إلى بني أبيه وأقربائه (1) وفي الوقت نفسه كان أبو ذر يعيش في الربذة ويعاني من جوع أليم ، ويليه في الفقر وبساطة الحياة عبد اللّه بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، فلا يمكن أن يقال إنّ الخليفة كان ينظر إلى الجميع بعين واحدة ، وقد كان عمله هذا هو الّذي أجهز عليه وانتكث عليه فتله. هذا هو الإمام علىّ ( عليه السَّلام ) يصف ذلك العصر بقوله :
     « إلى أنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ نافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أبِيهِ يَخْضمُونَ مَالَ اللّه خِضْمَةَ الإبلِ نَبْتَةَ الرّبيعِ » (2).
    وفي رسالته إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة يقول :
     ( أوْ أبيتَ مِبْطاناً وَحَولي بُطُونٌ غَرْثَى وأكْبادٌ حَرّى ، أو أكُونَ كَمَا قَالَ القَائِلُ :
وَحَسْبُكَ دَاءً أنْ تَبِيتَ بِبِطْنَة وَحَوْلَكَ أكْبَادٌ تَحِنُّ إلى القِدّ (3)
    وهو يشير بذلك إلى الأوضاع السائدة في عصره وعصر من تقدمه.
    وأمّا الثاني فهو من : غرائب الكلام ، فقد جعل مذهبه دليلا على ضعف الرواية ، وهو أنّ معنى التوسل عند الصحابة ـ هو التوسل بدعاء الشخص لا بذاته ـ فمن أين يدّعي أن هذا مذهب الصحابة ، وما هو المصدر لذاك الحصر؟ مع أنّ الحديثين المرويين من طريق ذلك الصحابي الجليل ، يدلان على خلافه.
1 ـ لاحظ في ذلك تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 168 ، والمعارف لابن قتيبة ، ص 84 ، والأنساب للبلاذري ج 5 ص 52 ولاحظ الغدير ج 8 ص 286 ، تجد فيه قائمة من عطايا الخليفة الهائلة لنبي أبيه.
2 ـ نهج البلاغة الخطبة 3.
3 ـ نهج البلاغة قسم الكتب رقم 45.


(242)
    وأمّا الثالث فهو إطاحة بالوحي وازدراء به ، ولو صحّ فلقائل أن يقول : لو صحّ قوله سبحانه : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُوني أسْتَجِب لَكُمْ ) (1) يجب أن لا يبقى على وجه البسيطة ذو حاجة.
    ولو صحّ قوله : ( أمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء ... ) (2) يجب أن لا يبقى على وجه البسيطة مضطرّ أو فقير ، مع أنّ البسيطة مليئة بالمضطر والمحتاج.
    نعم ، إنّ الدعاء سبب لنزول الرحمة ودفع الكربة ، ولكن ليس تمام السبب لإنجاح المقصود ، بل له شروط ومعدات ، وله موانع وعوائق ، ولأجل ذلك نرى أنّ كثيراً من الأدعية لا تستجاب مع أنّه سبحانه يحث عباده على الدعاء ، وأنّه يستجيب إذا دعاه ويقول : ( وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم ) .
    هذا كله حول مناقشاته في متن الرواية ومضمونه.. هلمّ معي نستمع مناقشته في السند :
    يقول : إنّ في سند هذا الحديث رجلا اسمه ( روح بن صلاح ) وقد ضعّفه الجمهور ، وابن عدىّ ، وقال ابن يونس : يروي أحاديث منكرة.
    يلاحظ عليه : أنّ الطبراني نقل الرواية بهذا السند :
     « حدثنا طاهر بن عيسى بن قريش المصري المقري ، ثنا أصبغ بن الفرح ، ثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي ، عن روح بن القاسم ، عن أبي جعفر الخطمي المدني ، عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف ، عن عمّه عثمان بن حنيف » (3).
    كما نقله بهذا السند في المعجم باختلاف يسير لا يضرّ بوحدة السند.
1 ـ سورة غافر : الآية 60.
2 ـ سورة النمل : الآية 62.
3 ـ المعجم الكبير للطبراني ج 9 ص 17 وفي المعجم الصغير أصبغ بن الفرج مكان ( الفرح ) .


(243)
    ورواه البيهقي بالسند التالي :
     « أخبرنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد ـ رحمه اللّه ـ أنبأنا الإمام أبوبكر محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي القفال ، قال : أنبأنا أبو عروبة ، حدثنا العباس بن الفرج ، حدثنا إسماعيل بن شبيب ، حدثنا أبي عن روح بن القاسم ، عن أبي جعفر المديني ... ( إلى آخر السند ) (1).
    وأنت ترى أنه ليس في طريق الرواية « روح بن صلاح » بل الموجود هو روح بن القاسم ، والكاتب صرّح بأن الرواية رواها الطبراني والبيهقي ، وهذا يعرب عن أنّ الكاتب لم يرجع إلى المصادر وإنّما اعتمد على تقوّل الآخرين.
    نحن نفترض أنه ورد في سند الرواية روح بن صلاح ، ولكن ما ذكره من أنّ الجمهور ضعّفوه أمر لا تصدقه المعاجم الموجودة فيما بأيدينا ، وإنما ضعّفه ابن عدي ، وفي الوقت نفسه وثّقه ابن حبان والحاكم. وسيوافيك الكلام في حقه في حديث فاطمة بنت أسد ، فانتظر. أهكذا أدب نقد الرواية يا شيخ؟ هداك اللّه إلى النهج القويم.
    وفي الختام نقول : إنّ السبكي نقل الرواية عن المعجم الكبير للطبراني بنفس السند الّذي نقلناه ، وهذا يكشف عن صحة المطبوع (2).

4 ـ توسل الخليفة بعم النبي
    قبل أن نذكر نص توسل الخليفة عمر بعم النبي : ننبّه على أمر وهو :
    إنّ سيرة المسلمين في حياة النبي وبعد وفاته تعرب عن أنهم كانوا يتوسلون بأولياء اللّه ، من دون أن يتردد في خلد واحد منهم بأنه أمر حرام أو شرك أبو بدعة ، بل كانوا يرون التوسل بدعاء النبي والصالحين رمزاً إلى التوسل بالنبي ومنزلته وشخصيته ، فإنه لو كان لدعائه أثر ، فإنما هو لأجل قداسة نفسه
1 ـ دلائل النبوة ج 6 ص 168.
2 ـ لاحظ : شفاء السقام ص 139 ـ 140.


(244)
وطهارة ذاته ، ولولاها لما استجيبت دعوته ، فما معنى الفرق بين التوسل بدعاء النبي والتوسل بشخصه وذاته؟ حتّى يكون الأول نفس التوحيد ، والآخر عين الشرك أو ذريعة إليه؟
    لم يكن التوسل بالصالحين والطيبين والمعصومين والمخلصين من عباد اللّه أمراً جديداً بين الصحابة ، بل كان ذلك امتداداً للسيرة الموجودة قبل الإسلام ، فقد تضافرت الروايات التاريخية على ذلك ، وإليك البيان :

استسقاء عبدالمطلب بالنبي وهو رضيع
    إنّ عبد المطلب استسقى بالنبي الأكرم وهو طفل صغير ، حتّى قال ابن حجر : إنّ أبا طالب يشير بقوله :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
    إلى ما وقع في زمن عبدالمطلب حيث استسقى لقريش والنبي معه غلام (1).

استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام
    أخرج ابن عساكر عن أبي عرفة ، قال : قدمت مكة وهم في قحط ، فقالت قريش : يا أبا طالب أقحط الوادي ، وأجدب العيال ، فهلم فاستسق ، فخرج أبو طالب ومعه غلام يعني النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) كأنه شمس دجى تجلت عن سحابة قتماء ، وحوله أغيلمة ، فأخذ النبي أبوطالب فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ إلى الغلام وما في السماء قزعة ، فأقبل السحاب من هاهنا وها هنا وأغدق واغدودق ، وانفجر له الوادي ، وأخصب النادي ، والبادي ، وفي ذلك يقول أبوطالب :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل (2)
    وقد كان استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام ، بل استسقاء عبدالمطلب
1 ـ فتح الباري ج 2 ص 398 ودلائل النبوة ج 2 ص 126.
2 ـ فتح الباري ج 2 ص 494 والسيرة الحلبية ج 1 ص 116.


(245)
به وهو صبي أمراً معروفاً بين العرب ، وكان شعر أبي طالب في هذه الواقعة مما يحفظه أكثر الناس.
    ويظهر من الروايات أنّ استسقاء أبي طالب بالنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) كان موضع رضا منه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فإنه بعد ما بعث للرسالة استسقى للناس فجاءالمطر وأخصب الوادي فقال النبي : لو كان أبو طالب حياً لقرّت عيناه ، ومن ينشدنا قوله؟ فقام علىّ ( عليه السَّلام ) وقال : يا رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) كأنك أردت قوله :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل (1)
    إنّ التوسل بالأطفال في الاستسقاء أمر ندب إليه الشارع; هذا هو الإمام الشافعي يقول في آداب صلاة الاستسقاء : « وأحب أن يخرج الصبيان ، و يتنظفوا للاستسقاء ، وكبار النساء ، ومن لا هيبة منهن; ولا أحب خروج ذات الهيبة ، ولا آمر بإخراج البهائم (2). ما هو الهدف من إخراج الصبيان والنساء الطاعنات في السن ، إلاّ استنزال الرحمة بهم وبقداستهم وطهارتهم؟ كل ذلك يعرب عن أن التوسل بالأبرياء والصلحاء والمعصومين مفتاح الستنزال الرحمة وكأن المتوسل يقول : ربي وسيدي ، الصغير معصوم من الذنب ، والكبير الطاعن في السن أسيرك في أرضك ، وكلتا الطائفتين أحق بالرحمة والمرحمة. فلأجلهم أنزل رحمتك علينا ، حتّى تعمّنا في ظلّهم.
    إنّ الساقي ربما يسقي مساحة كبيرة لأجل شجرة واحدة ، وفي ظلها تسقى الأعشاب وسائر الخضراوات غير المفيدة.
    وعلى ضوء ذلك تقدر على تفسير توسل الخليفة بعمّ الرسول : العباس بن عبدالمطلب ، الّذي سنتلوه عليك ، وأنه كان توسلا بشخصه وقداسته وصلته بالرسول ، وأنه كان امتداداً للسيرة المستمرة قبل هذا ، ولا
1 ـ إرشاد الساري ج 2 ص 338.
2 ـ الأم ج 1 ص 230.


(246)
يمت إلى التوسل بدعاء العباس بصلة ، وإنما هو شيء اخترعه الوهابيون لحفظ موقفهم المسبق في هذه المباحث.

التوسل بعم النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم )
    ما تعرفت عليه سابقاً كان تقدمة لدراسة هذا الحديث الّذي يرويه البخاري في صحيحه ويقول : « كان عمر بن الخطاب إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبدالمطلب ( رضي اللّه عنه ) وقال : أللّهمّ إنّا كنّا نتوسل إليك بنبيّنا فتسقينا ، وإنّا نتوسل إليك بعم نبيّنا فاسقنا. قال : فيسقون » (1).
    هذا نص البخاري ، وهو يدل على أنّ عمر بن الخطاب عند دعائه واستسقائه توسل بعم النبي وشخصه وشخصيته ، وقداسته وقرابته من النبي ، لا بدعائه ، ويدل على ذلك أُمور :
    1 ـ قول الخليفة عند الدعاء.. قال : « أللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا ، وإنّا نتوسل إليك بعم نبيّنا فاسقنا ». وهذا ظاهر في أنّ الخليفة قام بالدعاء في مقام الاستسقاء ، وتوسل بعم الرسول في دعائه ، ولو كان المقصود هو التوسل بدعائه ، كان عليه أن يقول : يا عم رسول اللّه كنّا نطلب الدعاء من الرسول فيسقينا اللّه ، والآن نطلب منك الدعاء فادع لنا.
    2 ـ روى ابن الأثير كيفية الاستسقاء فقال : استسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة لما اشتدّ القحط ، فسقاهم اللّه تعالى به ، وأخصبت الأرض ، فقال عمر : هذا واللّه الوسيلة إلى اللّه والمكان منه. وقال حسان :
سأل الإمام وقد تتابع جدبنا عمّ النبي وصنو والده الذي أَحَيى الإله به البلاد فأصبحت فسقى الغمام بغرة العباس ورث النبي بذاك دون الناس مخضرة الأجناب بعد إلياس
    ولما سقي الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون : هنيئاً لك ساقي الحرمين (2).
1 ـ صحيح البخاري ، باب صلاة الإستسقاء ج 2 ص 32.
2 ـ الجزري : أُسد الغابة ج 3 ص 111 طبع مصر.


(247)
    أمعن النظر في قول الخليفة : هذا واللّه الوسيلة.
    3 ـ ويظهر من شعر حسان أنّ المستسقي كان هو نفس الخليفة وهو الداعي حيث قال : « سأل الإمام ... » وكان العباس وسيلته لاستجابة الدعاء.
    وأظنّ أنّ هذه الروايات الصحيحة لا تبقي شكاً ولا ريباً في خلد أحد في جواز التوسل بالصالحين.

تشكيك الرفاعي في دلالة الحديث
    يقول الرفاعي : « لا ريب في أنّ هذا الحديث صحيح ، وما ظنك بحديث يرويه الإمام البخاري » ولكنه بصلافة خاصة به يدَّعي أنه من قبيل توسل المؤمن بدعاء أخيه المؤمن ، ويقول : إنّ الحديث يخبرنا أنّ أميرالمؤمنين عمر بن الخطاب ( رضي اللّه عنه ) كلّف العباس أن يستسقي للمسلمين ويدعو اللّه تعالى أن يستسقيهم الغيث; وبيّن الأسباب الموجبة لتكليف العباس ، فقال : أللّهمّ إنّا كُنّا نتوسل إليك بنبيّنا فتسقينا ، وإنّا نتوسل إليك بعم نبيّنا فاسقنا (1).
    ثم أضاف : أنّه لو كان قصده ذات العباس لكانت ذات النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أفضل وأعظم وأقرب إلى اللّه من ذات العباس بلا شك ولا ريب ، فثبت أن القصد كان الدعاء ولم تكن ذات الرسول مقصودة عندما كان حياً (2).
    لا أظن أنّ أحداً يحمل شيئاً من الإنصاف تجاه الحقيقة يسوغ لنفسه أن يفسر الحديث بما ذكره ، فمن أين يقول : إنّ عمر بن الخطاب كلّف العباس أن يستسقي للمسلمين ، بل الخليفة قام بنفسه بالاستسقاء متوسلا بعم النبي
1 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل ص 253.
2 ـ التوسل إلى حقيقة التوسل ، ص 253 و 256 وقد أخذه من ابن تيمية حيث قال : « وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به ، ويقولوا في دعائهم في الصحراء : نسألك ونقسم عليك بأنبيائك أو نبيك أو بجاههم ، مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 12.


(248)
العباس حيث قال : « أللّهمّ إنّا نتوسل .. » فإنّ الاستسقاء وظيفة الإمام ، وكان الإمام هو الخليفة نفسه لا العباس وقد عقد البخاري باباً وقال : ( باب إذا استشفعوا إلى الإمام يستسقي لهم لم يردهم ) (1).
    ويؤيد أنّ المستسقي هو الامام ومن كان معه في المصلى ، ما رواه المؤرخ الكبير ابن الأثير فقال : استسقى عمر بن الخطاب بالعباس ، عام الرمادة ، لما اشتد القحط ، فسقاهم اللّه تعالى به وأخصبت الأرض ، فقال عمر : هذا واللّه الوسيلة إلى اللّه والمكان منه. وقال حسان :
سأل الإمام وقد تتابع جدبنا عم النبي وصنو والده الذي أحيى الإله به البلاد فأصبحت فسقى الغمام بغرة العباس ورث النبي بذاك دون الناس مخضرة الأجناب بعد الياس
    ولما سقي الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون : هنيئاً لك ساقي الحرمين (2).
    يقول القسطلاني : إنّ عمر لما استسقى بالعباس قال : أيها الناسن إنّ رسول اللّه يرى للعباس ما يرى الولد للوالد ، فاقتدو به في عمه ، واتخذوه وسيلة إلى اللّه تعالى.
    ثم إنّ الاستسقاء وإن كان يتم بصرف الدعاء ، ولكن أفضله هو الاستسقاء بركعتين من الصلاة. وروى البخاري أنّ النبي استسقى فصلى ركعتين ، وقلب رداءه.
    وروى أيضاً أنّ النبي خرج إلى المصلّى يصلّي ، وأنّه لمّا دعا أو أراد أن يدعو استقبل القبلة وحوّل رداءه (3).
    ولو كان الاستسقاء بإقامة الصلاة ، فكانت الإمامة للخليفة ، والإئتمام للباقين.
1 ـ صحيح البخاري ج 2 ص 20.
2 ـ أسد الغابة في معرفة الصحابة ج 3 ص 111 طبع مصر.
3 ـ صحيح البخاري ج 2 ص 31 ، أبواب الإستسقاء.


(249)
    ولو تحقق بصورة الدعاء ، فكان الدعاء من الخليفة ، و المرافقة بالتأمين من غيره. ولا ينافي ذلك أن يكون لكل من المأمومين دعاء على حدة ، وراء الدعاء الّذي يدعو به الإمام ، وقد ضبط متن الدعاء الّذي دعا به العباس ، وقد نقلوا أنه كان من دعائه :
    أللّهمّ لم ينزل بلاء إلاّ بذنب ، ولم يكشف إلاّ بتوبة ، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة ، فاسقنا الغيث (1).
    ولقد ورد في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت استحباب إخراج الصغار الرضّع ، والكبار الركّع إلى المصلى ، ليكون الحال أنسب لنزول الرحمة الإلهية ، فإنّ الصغير معصوم من الذنب ، والكبير الطاعن في السن أسير اللّه في أرضه ، وكلتا الطائفتين ، أحق بالرحمة والمرحمة ، فببركتهم تنزل الرحمة وتعم غيرهم ، وبذلك يظهر الجواب عما ذكره الرفاعي من أنّه لو كان قصد الخليفة ذات العباس لكان النبي أولى وأقرب إلى اللّه من ذات العباس ـ لما عرفت ـ من أنّ الهدف من إخراج عم النبي إلى المصلى وضمه إلى الناس ، هو استنزال الرحمة ، قائلين بأننا لو لم نكن مستحقين لنزول الرحمة لكن عمّ النبي لها ، فأنزل رحمتك إليه لتريحهُ من أزمة القحط والغلاء وبالتالي تعم غيره; ومن المعلوم أن هذا لا يتحقق إلاّ بالتوسل بإنسان حي يكون شريكاً مع الجماعة في المصير ، وفي عناء العيش ورغده ، لا مثل النبي الراحل الخارج عن الدنيا و النازل دار الآخرة ، ولو توسل به أيضاً ، فإنما هو بملاك آخر ، ولم يكن مطروحاً في المقام.

4 ـ توسل الأعرابي بالنبي نفسه
    روى جمع من المحدثين أنّ أعرابياً دخل على رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وقال : لقد أتيناك وما لنا بعير يئط ، ولا صبي يغط ، ثم أنشأ يقول :
1 ـ إرشاد الساري ، للقسطلاني ، ج 2 ص 338.

(250)
أتيناك والعذراء تدمى لبانها ولا شيء مما يأكل الناس عندنا وليس لنا إلاّ اليك فرارنا وقد شغلت أُم الصبي عن الطفل سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل وأين فرار الناس إلاّ إلى الرسل؟
    فقام رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) يجر رداءه حتّى صعد المنبر ، فرفع يديه وقال : أللّهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً ... فما رد النبي يديه حتّى ألقت السماء ... ثم قال : للّه در أبي طالب ، لو كان حياً لقرت عيناه. من ينشدنا قوله؟
    فقام علىّ بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) وقال : كأنّك تريد يا رسول اللّه قوله :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه يطوف به الهُلاّك من آل هاشم ثمال اليتامى عصمة للأرامل فهم عنده في نعمة وفواضل
    فقال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : أجل.
    فأنشد علىّ ( عليه السَّلام ) أبياتاً من القصيدة ، والرسول يستغفر لأبي طالب على المنبر ، ثم قام رجل من كنانة وأنشد يقول :
لك الحمد والحمد ممن شكر سقينا بوجه النبي المطر (1)

دلالة الحديث
    إنّ الإمعان في مجموع الرواية يعرب عن أنّ الأعرابي توسل بشخص النبي وطلب منه قضاء حاجته ، والدليل على ذلك الأُمور التالية :
    أ ـ أتيناك وما لنا بعير يئط.
    ب ـ أتيناك والعذراء تدمى لبانها.
    ج ـ وليس لنا إلاّ إليك فرارنا.
1 ـ السيرة الحلبية ج 1 ص 116 ، لاحظ فتح الباري ج 2 ص 494 والقصيدة مذكورة في السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 272 ـ 280.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: فهرس