بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: 321 ـ 330
(321)
إلاّ وتسمع من الجماعة المتسمين بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يصرخون في وجهك « يا حاج! هذا شرك » وهم لم يحددوا للعبادة حداً منطقياً حتّى يميزوا في ضوئه العبادة عن التعظيم ، فعادوا يسمّون كل تعظيم شركاً ، ولو كان تعظيم وخضوع عبادة ، للزم كفر المملوك والزوجة ، والولد والخادم ، والأجير ، والرعية ، والجنود ، بإطاعتهم وخضوعهم للمولى والزوج والأب والمخدوم والمستأجر والملك والأمراء ، وجميع الخلق لإطاعتهم بعضهم بعضاً ، بل كفر الأنبياء لإطاعتهم آباءهم وخضوعهم لهم ، وقد أوجب اللّه طاعة أوامر الأبوين ، وخفض جناح الذل لهما ، وقال لرسوله : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَن اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤمِنِيِنَ ) (1) ، وأمر بتعزير (2) النبي وتوقيره ، وأمر بإِطاعة الزوجة لزوجها ، وأوجب إطاعة العبيد لمواليهم وسمّاهم عبيداً (3).
    وقد عرفناك على أنّ العنصر المقوم لكون التعظيم عبادة ، هو الاعتقاد بألوهية المعظَّم له ، أو ربوبيته ، أو كونه مالكاً لمصير المعظّم ، وأنّ بيده عاجله وآجله ، ومنافعه و مضارّه ، ولا اقل مغفرته وشفاعته ، وأمّا إذا خلا التعظيم عن هذه العناصر ، وقام بالاحتفال بذكرى رجل ضحّى بنفسه ونفيسه من أجل استقلال أُمته وإخراجها عن نير الاستعباد ، وهيّأ لهم أسباب الاستقلال ، فلا يعد ذلك عبادة له ، وإن كان هناك احتفال أو احتفالات ، وأُلقي فيها عشرات القصائد والخطب فلا صلة لهذابالعبادة. نعم يدور أمر كل ذلك بين الحلال والحرام ، وهل الشارع رخص ذلك أو لم يرخص ، وسيوافيك أنّ باذر هذه الشكوك ابن تمية ، يرى أن الأصل في العادات عدم الخطر ، إلا ما حظره اللّه (4). نعم ، الاحتفال بمولد النبي ليس من العادات ، ولا يقام بما أنه أمر عادي بل بما هو أمر قربي له أصل في الكتاب والسنة كما مرّ وسيأتي أيضاً.
1 ـ سورة الشعراء : الآية 215.
2 ـ إشارة إلى قوله سبحانه : ( فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوه النور الّذي أُنزل معه ) سورة الأعراف : الآية 157
3 ـ كشف الارتياب ، ص 103 وللكلام صلة مفيدة جداً فمن أراد فليرجع إليه.
4 ـ المجموع من فتاوى ابن تيمية : ج 4 ص 195.


(322)
ب ـ هل الاحتفال بالمواليد بدعة؟
    إنّ القوم يعدّون الاحتفال شركاً تارة ، وبدعة ثانياً ، وقد عرفت أنه ليس بشرك لفقدان العنصر المقوم للشرك فيه ، وأمّا كونه بدعة فقد عرفت بطلانه عند البحث عن أنه عبارة عن إحداث أمر باسم الدين ، وليس له فيه نصّ أو أصل ، والاحتفال ، وإن لم يكن فيه نص ، لكن له أصلا في الكتاب والسنة ، وهو حبّ النبي ومودته وإظهاره; فليست هذه الاحتفالات إلاّ تجسيداً للحب لا للعداء والنصب والبغضاء ، نعم ، المنع عنه إظهار للضغينة الكامنة في القلوب.
    هلمّ معنا ندرس دليلهم الثالث :

ج ـ لو كان خيراً لأقامة السلف
    هذا هو الدليل الثالث الّذي يركن إليه المانع ، وهو من أعجب الدلائل ، فكأنّ السلف مقياس الحق والباطل في الفعل والترك معاً ، فلو تركوا شيئاً دل ذلك على أنه باطل يجب تركه ، نحن نفترض أنّ السلف لم يقيموه ولم يحوموا حوله ، ولكن الخلف أبناء الدليل ، فلو كان له أصل في القرآن والسنة لا يعبأ بترك السلف. على أنّ هذا ما يقوله القائل ، ونحن إذا رجعنا إلى التاريخ نجد أنّ السلف أقامه عبر القرون والأجيال قبل أن يتولد باذر هذه الشكوك.
    هذا مؤلف تاريخ الخميس يقول : ولا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده ، ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ، يظهرون السرور ، ويزيدون في المبرّات ، يعتنون بقراءة مولده الشريف ، ويظهر عليهم من كراماته كل فضل عميم (1).
    وقال القسطلاني : ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده( عليه السَّلام ) ، ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ،
1 ـ تاريخ الخميس ، ج 1 ص 323 للديار بكري.

(323)
ويظهرون السرور ، ويزيدون في المبرات ويعتنون بقراءة مولده الكريم. ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم ... فرحم اللّه امرأً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ليكون أشدّ علّةً على من في قلبه مرض وأعياه داء.
    ولقد أطنب ابن الحاج في « المدخل » في الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع و الأهواء ، والغناء بالآلات المحرمة في العمل بالمولد الشريف ، واللّه تعالى يثيبه على قصده الجميل (1).
    وقال ابن عباد في رسائله الكبرى : « وأمّا المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين ، وموسم من مواسمهم ، وكل ما يفعل فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك ... أمر مباح لا منكر » (2).

كلمة أخيرة
    إنّ المانعين عن الاحتفال بمولد النبي يقولون : إنّ أول من احتفل بمولد النبي هو الأمير أبو سعيد مظفر الدين الاربلي عام 630 هـ ، وربما يقال : أول من أحدثه بالقاهرة ، الخلفاء الفاطميون ، أولهم المعز لدين اللّه ، توجه من المغرب إلى مصر في شوال 361 هـ ، وقيل في ذلك غيره (3) وعلى أي تقدير فقد احتفل المسلمون حقباً وأعواماً من دون أن يعترض عليهم أىّ ابن أُنثى ، وعلى أىّ حال فقد تحقق الإجماع على جوازه وتسويغه واستحبابه قبل أن يتولد باذر هذه الشكوك ، فلماذا لم يكن هذا الإجماع حجة؟ مع أن اتّفاق الأُمة بنفسه أحد الأدلة ، وكانت السيرة على تبجيل مولد النبي إلى أن جاء ابن تيمية ، والعز بن عبد السلام ، وابن رجب ، والشاطبي فناقشوا فيه ووصفوه بالبدعة ، مع أنّ الإجماع انعقد قبل هؤلاء بقرون ، أو ليس انعقاد الإجماع في عصر من العصور حجة بنفسه ؟
1 ـ المواهب اللدنية : ج 1 ص 27.
2 ـ لاحظ المواسم والمراسم ، نقلا عن القول الفصل في الاحتفال بمولد خير الرسل ص 175.
3 ـ المواسم والمراسم : ص 20.


(324)
الدليل الأخير « لا تجعل قبري وثناً يعبد »
    آخر ما في كنانة القوم من نبال مرشوقة إلى المؤمنين المحتفلين بمولد النبي الأكرم ، ما روى أبو هريرة ، قال : قال رسول اللّه : « لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، ولا تجعلوا قبري عيداً ، وصلّوا علىّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم ».
    وفي الاستدلال بالحديث مجال للنظر :
    أولا : إنّ إمام الحنابلة رواه في مسنده عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة. عن النبي أنه قال : « اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً. لعن اللّه قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (1).
    ورواه في كنز العمال بالنحو التالي :
     « اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً يصلّى إليه ، فإنّه اشتدّ غضب اللّه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (2).
    وفي الوقت نفسه رواه إمام الحنابلة عن أبي هريرة : قال رسول اللّه : « لا تتخذوا قبري عيداً ، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، وحيثما كنتم فصلّوا علّي فإنّ صلاتكم تبلغني » (3).
    وروى أبو داود في صحيحه عن أبي هريرة نفس هذا المتن (4).
    ومن المتحمل جداً طروء التصحيف على الرواية ، فبدل « وثناً » إلى « عيداً » ويؤيد ذلك ذيل الرواية ، أعني قوله : « ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً » فإنه يناسب قوله : « لا تجعل قبري وثناً ».
    وثانياً : إنّ العيد في اللغة هو الموسم ، وهو كل يوم فيه اجتماع أو تذكار
1 ـ مسند أحمد : ج 2 ص 246.
2 ـ كنز العمال : ج 2 برقم 3802.
3 ـ مسند أحمد : ج 2 ص 367.
4 ـ سنن أبي داود : ج 2 ص 218 ، طبع دار إحياء التراث العربي.


(325)
لذي فضل ، أو حادثة مهمة ، سمّي عيداً لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد.
    فعلى هذا لا يصحّ أن يقع خبراً لقوله : « قبراً » إذا لا معنى لجعل القبر عيداً ، فإنما يصحّ جعل موسم أو يوم مشخّص عيداً ، فهو يقع خبراً أو صفة للزمان لا للمكان ، ولو صحّ جعله صفة للمكان فإنما هو باعتبار اليوم الّذي يجتمع الناس فيه في ذلك المكان ، فالتعبير الوارد في الحديث لا يوافق الذوق العربي السليم ، فكيف يمكن نسبته إلى أشرف من نطق بالضاد ، ولو أُريد منه ما يحاول المستدل أن يثبته كان الأولى أن يقول : لا تتخذوا مولدي عيداً ، لا قبري عيداً ، أو يقول : لا تتخذوا مولدي حول قبري عيداً.
    وحصيلة الكلام أنّ يوم العيد هو يوم الفرح ويوم الزينة ، ولا يمكن تطبيق هذا المعنى على القبر ، إلاّ بارتكاب مجاز متكلف فيه.
    وثالثاً : إنّ الرواية لم يعمل بها الصحابة حيث جعلوا بيت النبي قبوراً ، إذ دفن فيه النبي الأكرم ، وبعده أبو بكر وعمر ، فصار بيته قبوراً.
    وأمّا الاعتذار بأنّ للأنبياء خصوصية ليست لغيرهم وهي أنهم يدفنون حيث يقبضون ، لا يدفع الإشكال ، إذ ليست هذه الخصوصية في غيرهم كصاحبيه « أبي بكر وعمر » فلماذا جعل بيت النبي قبوراً.
    ورابعاً : إنّ الحديث يحتمل معاني مختلفة وراء ما يرتئيه المستدل.
    1 ـ منها ما ذكره الحافظ المنذري من أنه يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبر النبي ، وأن لا يهمل حتّى يكون بمثابة العيد (1).
    2 ـ ومنها ما ذكره السبكي حيث قال : « ويحتمل أن يكون المراد : لا تتخذوا وقتاً مخصوصاً لا تكون الزيارة إلاّ فيه ، كماترى أنّ كثيراً من المشاهد ، لزيارته يوم معين كالعيد ، وزيارة قبره ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ليس لها يوم بعينه ، بل أي يوم كان (2)
1 ـ شفاء السقام : ص 67 ، نقلا عن زكي الدين المنذري ( أي : يزار بين المدة الطويلة كالعيد الّذي لا يكون في كل عام إلاّ يوماً واحداً أو يومين ) .
2 ـ المصدر نفسه.


(326)
    3 ـ ومنها ما ذكره أيضاً من أنه يحتمل أن يراد أن يجعل كالعيد في العكوف عليه ، وإظهار الزينة والاجتماع وغير ذلك مما يعمل في الأعياد ، بل لا يؤتى إلاّ للزيارة والسلام والدعاء ثم ينصرف عنه.
    وقال العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي : « يحتمل قوياً أن يكون المراد أنّ اجتماعهم عند قبره ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ينبغي أن يكون مصحوباً بالخشوع والتأمل والاعتبار ، حسبما يناسب حرمته واحترامه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فإنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً ، فلا يكون ذلك مصحوباً باللهو واللعب والغفلة والمزاح وغير ذلك مما اعتادوه في أعيادهم ، ثم عقبه بقوله : ولعل هذا مراد السبكي » (1).
    وخامساً : إنّ الحديث بكلتا صورتيه ( وثناً ـ عيداً ) ضعيف.
    أمّا الصورة الأُولى فقد وقع في السند « سهيل بن أبي صالح » وهو ليس بالقوي في الحديث ، والحديث ليس بحجة; قال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به ، وقد كان اعتلّ بعلّة فنسي بعض حديثه ، وقال ابن المديني : مات أخ لسهيل ووجد عليه فنسي كثيراً من الحديث ، وقال ابن أبي خيثمة : ابن معين يقول : لم يزل أصحاب الحديث يثقون بحديثه ، وقال مرة : ضعيف (2).
    وأمّا الصورة الثانية فقد وردت في مسند الإمام أحمد وأبي داود « عبداللّه بن نافع » قال البخاري : يعرف حفظه وينكر ، وقال أحمد بن حنبل : لم يكن صاحب حديث ، وكان ضعيفاً فيه ، ولم يكن في الحديث بذاك ، وقال أبو حاتم الرازي : ليس بالحافظ ، هو لين يعرف حفظه وينكر ، ووثّقه يحيى بن معين ، وقال أبو زرعة : لا بأس به ، وقال ابن عدي : روى عن مالك غرائب ، وهو في رواياته مستقيم الحديث (3).
    هذا هو حال الحديث الّذي يحتج به ابن تيمية ومن يلعق قصعته من
1 ـ المواسم والمراسم : ص 71.
2 ـ ميزان الاعتدال : ص 243 ـ 244 ، ونقل أقوال الآخرين في توثيقه ، فالرجل مختلف فيه جداً.
3 ـ شفاء السقام : ص 66.


(327)
الوهابية ، وبذلك أفتوا بحرمة الاحتفال بذكرى النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) .
    وهذه هي أدلة المانعين وشواهدهم ، وقد عرفت ضعفها وعدم دلالتها على ما يرتأون ، ولنختم البحث بذكر أُمور :
     الأول : إنّ الاحتفال بالمواليد يجب أن يكون بعنوان أنّه تطبيق للأصل القرآني من لزوم تكريم النبي وتوقيره وتعظيمه ، ولأجل ذلك يصحّ إيقاعه في كل شهر وأُسبوع ويوم ، وعند ما يقام الاحتفال بمولده فإنما يقام بما أنّه جزئي لذلك بالتكريم بالخصوص ، حتّى يكون الاحتفال تجسيداً لهذا الأمر ، فهو بدعة لا يصار إليها ، ولا أرى أحداً يدّعي أنّه ورد الأمر بالخصوص بمولده.
    الثاني : يجب أن يكون الاحتفال مطابقاً للسنن الإسلامية ، خالياً عما يستقبح فعله في الشريعة ، كعزف المعازف ، واتخاذ القيان ، واختلاط الرجال بالنساء ، فلو فرض أنه اقترنت بعض هذه الاحتفالات بالمحرمات ، فلا يكون دليلا على حرمة نفس الاحتفال ، ولا يكون سبباً للمنع عنه ، فالنّ بعض الفرائص ربما تكون ذريعة لما هو أعظم من هذه المحرمات.
    الثالث : ليست لإقامة الاحتفال كيفية خاصة ، بل ينبغي أن يكون الكل في إطار الشريعة الغراء ، ويكون في طريق تكريم النبي وتعظيمه ، وإظهار الحب ، وأحسن الطرق هو تلاوة الآيات الواردة في حقه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ثم الإيعاز إلى الجهود الّتي بذلها الرسول في طريق إنقاذ البشر ، وبلغ بهم إلى أعلى مراتب العز والعظمة ، ثم دعوة المسلمين عن طريق إلقاء الخطب بالتمسك بالكتاب والسنة ، والسعي لتطبيق وتجسيد مبادئها في الحياة ، ودعم الصحوة الإسلامية للنهوض والوقوف في وجه القوى الكبرى الّتي تتربص بهم الدوائر ، إلى غير ذلك من الاُمور الّتي فيها خير وسعادة المسلمين كافة ، في عاجلهم وآجلهم.
    يقول العالم الجليل السيد محمد علوي بن عباس المالكي المكي الحسني :


(328)
« إنّنا نرى أنّ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ليست له كيفية مخصوصة لا بد من الالتزام وإلزام الناس بها ، بل إنّ كل ما يدعو إلى الخير ويجمع الناس على الهدى ويرشدهم إلى ما فيه منفعتهم في دينهم ودنياهم ، يحصل به تحقيق المقصود من المولد النبوي ، ولذلك فلو اجتمعنا على شيء من المدائح الّتي فيها ذكر الحبيب ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وفضله ، وجهاده ، وخصائصه ، ولم نقرأ قصة المولد النبوي الّتي تعارف الناس على قراءتها ، واصطلحوا عليها حتّى ظن بعضهم أن المولد النبوي لا يتم إلاّ بها ، ثم استمعنا إلى ما يلقيه المتحدثون من مواعظ وإرشادات ، وإلى ما يتلوه القارىء من آيات; أقول : لو فعلناه فإنّ ذلك داخل تحت المولد النبوي الشريف ، ويتحقق به معنى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، وأظنّ أنّ هذا المعنى لا يختلف فيه اثنان ، ولا ينتطح فيه عنزان » انتهى (1).
    ومن المؤسف جداً أنّ الوهابية قامت بشن حملة شعواء على هذا الكتاب ، ولم تراع أدب الكتابة والمناظرة إلى حد اعتراف الكاتب بأسولبه القاسي في المحاورة ، وينتهي في خاتمة كتابه إلى قوله : « ونكرر أسفنا وتأثرنا من القسوة الّتي آثرنا أن يشتمل عليها أسلوبنا في رد ترهاته ، وأباطيله ، ويعلم اللّه أن الباعث لهذا الأسلوب القاسي ، الغيرة لحق اللّه (2).
    ويؤاخذ عليه أن الغيرة لحق اللّه يجب أن تكون في إطار الأدب الّذي ندب إليه الذكر الحكيم وقال : ( ادْعُ إلى سبِيلِ رَبِّكِ بِالحِكْمِةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِىَ أَحْسَنُ ) (3).
    وكان الإمام أميرالمؤمنين علىّ ( عليه السَّلام ) يؤدب أصحابه عند مقابلة الشاتمين من الشاميين ، من أصحاب معاوية القاسطين بقوله : إنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَن تَكُونُوا سَبَّبابِينَ ، وَلَكِنَّكُمْ لَو وَصَفْتُم أعْمَالَهُم وَذَكَرتُم حَالَهُمْ ، كَانَ أصْوَبَ في القَولِ ، وأبلَغَ فِي العُذْرِ ، وَقُلتُم مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ : اللّهُمّ احْقِن دِمَاءَنَا
1 ـ حوار مع المالكي ، تأليف عبداللّه بن سليمان بن منيع ، ص 168.
2 ـ حوار مع المالكي ، ص 190.
3 ـ سورة النحل : الآية 125.


(329)
وَدِمَاءَهُمْ ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِم وَاهْدِهِم مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ حَتّى يَعْرِفَ الحَقُّ مَنْ جَهِلَهُ ، وَيَرعَوِيَ عَنِ الغَىِّ وَالعُدُوانِ مِن لهج به (1).
    الرابع : روى أهل السنة عن الإمام علىّ بن الحسين( عليه السَّلام ) أنّ رجلا كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ويصلّي عليه ، ويصنع من ذلك ما انتهره عليه علىّ بن الحسين ( عليه السَّلام ) فقال له : ما يحملك على هذا؟ قال : حبّ التسليم على النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال علىّ بن الحسين ( عليه السَّلام ) : هل لك أن أُحدّثك حديثاً عن أبي؟
    قال : نعم ، فقال له علىّ بن الحسين ( عليه السَّلام ) : أخبرني أبي عن جدي أنه قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : لا تجعلوا قبري عيداً ، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، وصلّوا علىّ وسلّموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم (2).
    ولو صحّ الحديث فلعل انتهاره كان لأجل أنّ الرجل زاد في الحدّ وخرج عن الحد الأوسط ، ولا صلة له بنفي الزيارة بتاتاً ، كما لا صلة له بإقامة الاحتفال والذكريات.
    إنّ هذه الرواية ظاهرة في أنه عليه الصلاة والسلام قد لاحظ أنّ ذلك الرجل قد ألزم نفسه بأمر شاق ، وهو المجي ، يومياً للصلاة عليه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وزيارته ، فأراد( عليه السَّلام ) التخفيف عنه وإفهامه أنّ بإمكانه الصلاة و التسليم عليه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) حيثما كان ، فسيبلغه ذلك ، فلا داعي لإلزام نفسه بما فيه كلفة ومشقّة ، ولم ينهه عن الصلاة والدعاء عند قبره ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) (3)
1 ـ نهج البلاغه ، الخطبة : 206.
2 ـ رواه السبكي عن عبدالرزاق عن القاضي إسماعيل في كتاب فضل الصلاة على النبي ، بسنده إلى علي بن الحسين ( عليه السَّلام ) ورواه عبدالرزاق في مصنفه بسنده إلى الحسن بن علي; لاحظ شفاء السقام ، ص 280 ـ 281 .
3 ـ المواسم والمراسم : ص 73.


(330)
    إلى هنا تمّ تبيين عقائد ابن تيمية ومحيي مسلكه ابن عبدالوهاب فبقي الإلماع إلى حياة المحيي وناصره ، وهو ما سيوافيك في البحث التالي.
« والحمد لله رب العالمين »
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: فهرس