بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: 391 ـ 400
(391)
     « ويعلم الصغير والكبير أنّ الإنكليز والحلفاء وأية دولة استعمارية يستحيل أن تفعل شيئاً بقصد الخير والإنسانية ، وإذا فعلت مع بلد أو بلدان ما يبدو كذلك فإنّما تتخذ منه وسيلة إلى التسرب إلى أسواقه والسيطرة على مقدراته. إنّ الاستعمار يوافق ويتصنع ليمتص دماء الشعوب.
    وغريب أن تخفى هذه الحقيقة على الملك عبدالعزيز ، وأن يقول ـ وهو الوهابي الّذي يصلّي في أول الوقت حتّى في بيت عدوه عجلان ـ من لم يشكر الناس ( أي الإنكليز ) لم يشكر اللّه ، وهذا مع العلم بأنّ الوهابية تقول بفساد الصلاة عند قبر نبي أو ولي ، لأنّها تكون مشوبة بعبادة صاحب القبر ، إذاً كيف ربط الملك عبد العزيز شكر اللّه بشكر الإنكليز بحيث لا يقبل الأول بدون الثاني ، وبعد أن ضعف الإنكليز حلّ محلهم الأمريكيون (1).

التوسع السعودي بعد التعاون مع بريطانيا
    ترافقت هذه الفترة مع تطورات دولية عملت لمصلحة آل سعود ، فقد انتهت الحرب العالمية الأُولى واستسلمت تركيا عام 1337 هـ ، وتبعتها ألمانيا ، فانقطع دور تركيا في الجزيرة العربية ، وانفردت بريطانيا بالتحكم بشؤون المنطقة.
    ومن ناحية أُخرى نجد بريطانيا قد خانت وعودها للهاشميين بإنشاء الدولة العربية الكبرى في الشمال ، وصارت تسعى للتخلص منهم ومن وعودها لهم ، فتوجه عبدالعزيز ضدهم في هذه الفترة الّتي شهدت احتلال آل سعود للحائل ، ثم للحجاز وعسير ، واختلطت السياسة بالدين (2).

هجوم الوهابيين على الحجاز
    في سنة 1340 هـ غزا الوهابيون عرب الفرع من قبيلة حرب في عقر دارهم في الحجاز ، ونهبوا المواشي ، فجاء النذير إلى أهل الفرع فلحقوهم
1 ـ مغنية ـ محمد جواد : هذه هي الوهابية ، ص 135 ـ 136.
2 ـ جبران شامية ـ آل سعود ، ماضيهم ومستقبلهم ، ص 114 ـ 115.


(392)
واستخلصوا منهم ما نهبوه ، وقتلوا منهم ، وغنموا جميع ما معهم وولوا منهزمين ، ومن جملة ما غنموه أعلام وبيارق ، فدفعوها إلى الملك حسين وانقطع مجيء أعراب نجد إلى الفرع لاكتيال التمر ، فحصل بذلك ضيق على أهل الفرع بسبب كساد تمورهم الّتي كان يشتريها النجديون » (1).

قتل الوهابيون الحجاج اليمانين سنة 1341 هـ
    في هذه السنة التقى الوهابيون بالحجاج اليمانين وهم عزل من السلاح وجميع آلات الدفاع ، فسايروهم في الطريق وأعطوهم الأمان ، ثم غدروا بهم لمّا وصلوا إلى سفح جبل ، مشى الوهابيون في سفح الجبل واليمانيون تحتهم ، فعطفوا على اليمانيين وأطلقوا عليهم الرصاص حتّى قتلوهم عن بكرة أبيهم ، وكانوا ألف إنسان ، ولم يسلم منهم غير رجلين هربا وأخبرا بالحال (2).

هجوم الوهابيين على الحجاز عام 1343 هـ
    وقد هجم الوهابيون في هذه السنة على الحجاز وحاصروا الطائف ، ثم دخلوها عنوة وأعملوا في أهلها السيف ، فقتلوا الرجال والنساء والأطفال حتّى قتلوا منهم ما يقرب من الفين ، بينهم العلماء والصلحاء ، وأعملوا فيها النهب ، وعملوا فيها من الفظائع ما تقشعر منها الجلود ، نظير ما عملوه في المرة الأولى ، حتّى أنّ السلطان عبد العزيز بن سعود لما سئل عنها لم ينكر وقوعها ، لكنه اعتذر بما وقع من خالد بن الوليد يوم فتح مكة ، وقول النبىّ : اللّهمّ إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد (3).
    أصبح الحجاز بعد معركة الطائف مفتوحاً أمام عبدالعزيز ، لكنه تباطأ بالزحف على مكة حتّى يستكشف نوايا الإنكليز الذين كانوا أنذروه وطلبوا منه التوقف عن القتال ، لكن سياسة بريطانيا كانت قد تغيرت خلال هذه المدة ،
1 ـ الأمين ـ السيد محسن : كشف الارتياب ، ص 50.
2 ـ الأمين ـ السيد محسن : كشف الارتياب ، ص 54.
3 ـ الأمين ـ السيد محسن : كشف الارتياب ، ص 52.


(393)
وأصبحوا يريدون التخلص من الملك حسين وأولاده في الحجاز ، حتّى يكفوا عن مطالبتهم بتنفيد تعهداتهم لعرب الشمال ، وكانت وسيلتهم المفضلة أن يضربوا العرب بالعرب ، وكان عبدالعزيز أداتهم في تلك السياسة (1).

هجوم الوهابيين على شرقي الأردن
    وفي سنة 1343 هـ هجمت جماعة من الوهابيين فجأة على أعراب شرقي الأردن الآمنين ، فهجموا على أُم العمد وجوارها ، فقتلوا ونهبوا ، ومالبثوا أن ارتدّوا مدحورين مأسورين ، وإنّ الدبابات والطائرات الإنكليزية اشتركت في قتالهم مع عرب شرقي الأردن ، وانجلت المعركة عن قتل ثلاثمائة من الوهابيين بأمر من الإنكليز.

استيلاء الوهابيين على مكة المكرمة سنة 1343 هـ
    كان الملك حسين يظن أنّ الإنكليز سيتدخلون لإنقاذه على نحو ما فعلوا في شرقي الأردن في الشهر الماضي ، فأرسل برقية إلى المستر بولارد القنصل البريطاني في جدة ذكر فيها أنّ الحالة حرجة ، وأنّ علاقته بالحكومة البريطانية تجعله يطلب منها الاهتمام بصد ابن سعود ، وتجنّب ما وقع في الطائف ، وهو يأمل منها النظر في طلبه باسرع ما يمكن ، فأبرق القنصل إلى حكومته في لندن فوافاه الجواب أن الحكومة البريطانية متمسكة بسياستها في عدم التدخل في الأُمور الدينية ـ وهي لذلك ـ لا تريد أن تتدخل في أي نزاع بشأن امتلاك الأماكن المقدسة في الإسلام (2).
    وفي الوقت نفسه كتب الدكتور « ناجي الأصيل » مندوب الحسين في لندن رسالة إلى وزارة الخارجية البريطانية يقول فيها : « إنّ صاحب الجلالة الهاشمية يناشد الحكومة البريطانية ـ طبقاً لروح المعاهدة الّتي هي تحت المفاوضة ـ أن تتدخل لوضع حدّ للاعتداء الوحشي الّذي يقوم به الوهابيون ضد الأماكن المقدسة ، وإخراجهم من الطائف.
1 ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ، ص 134.
2 ـ دائرة الوثائق العامة في لندن ( أف ، أو رقم 371 ـ 10014 ) .


(394)
    فوافاه الجواب : إنّ الحكومة البريطانية لا تريد أن تتورط في النزاع القائم بين أُمراء عرب مستقلين ، حول امتلاك الأماكن المقدسة في الإسلام ».
    ثم رد ناجي الأصيل على جواب وزراة الخارجية في 2 تشرين الأول وقال : إنّ ما قام به شعب الحجاز من مخاطرة كبرى في تأييد بريطانيا في الحرب العامة يستدعي من بريطانيا مساعدتها له في إنقاذ مكة من ويلات الحرب ، وإنّ العالم الإسلامي لا يرضى أن تقع الأماكن المقدسة ولو لفترة قصيرة جدّاً في أيدي طائفة كالوهابية (1).

تنازل الحسين عن العرش لصالح ولده علي
    ارتأت الحكومة البريطانية حفاظاً على مصالحها في المنطقة خلع الأُسرة الهاشمية عن الحرمين الشريفين ، حتّى تحلّ محلّها السلطة الوهابية ، ولأجل ذلك استعملت بريطانيا جميع وسائل الضغط لتجبر الملك حسين على التنازل عن العرش ، وعلى رأسها قطع المساعدات المالية عنه ، حتّى عجز عن دفع رواتب الضباط والجنود (2).
    أصبح وضع الحسين ميؤوساً منه ، فاجتمع أعيان الحجاز ومنهم أشراف مكّة وعلماء الدين وكبار التجار في جدة ، وقرروا خلع الحسين لترضية ابن سعود ، وبعد أخذ ورد ، وافق الحسين على التنازل عن العرش لولده الّذي نصب ملكاً على الحجاز في 6 تشرين الأول ( عام 1924 م ) الموافق 1343 هـ ، وبعد ثلاثة أيام أرسل الحسين مع أمتعته إلى جدة لكن الحكومة البريطانية تضايقت من وجوده هناك ، فأرسلت إليه إنذاراً بمغادرة المدينة تلبية لطلب عبد العزيز ، وابلغته بأنّ عليه أن يسافر إلى قبرص ، حتّى مات هناك عام 1931 م 1350 هـ ونقلت جنازته إلى الأردن فدفن في المسجد الأقصى ، وانتهت بذلك حقبة محزنة من تاريخ العرب (3).
1 ـ نفس المصدر .
2 ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ، ص 135.
3 ـ جبران شامية : آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ، ص 135.


(395)
    دخل الوهابيون مكة بغير قتال بعدما خرج الملك حسين وولده منها إلى جدة ، فنهبوا داره واستولوا على جميع ما يؤول إليه ، ثم قامت الحرب بينهم وبين الملك علي المتحصن في جدة ، وانقطع الحج في تلك السنة ، وعين خالد بن لؤي حاكماً على مكة ثم انطلق الوهابيون وفرضوا على السكان حضور صلاة الجماعة خمس مرات في اليوم ، كما منعوا التدخين وقراءة المولد النبوي وزيارة القبور ، ومن يشاهدونه يفعل ذلك يشتمونه ويضربونه ، وربما ساقوه إلى الحبس أو فرضوا عليه الغرامة (1).
    دخل عبد العزيز مكة المكرمة ، واستعرض الجيش ، واجتمع مع العلماء وفرض عليهم اعتناق الأُصول الّتي جاء بها محمد بن عبدالوهاب ، وكان يقول وهو يحارب الملك عليّاً : إنّه ما جاء إلى الحجاز إلاّ لينقذه من ظلم الأشراف ، ولا يريد تملكه وإنّما يجعل مصيره إلى رأي عموم المسلمين.
    وهذا هو الأسلوب الماكر لجميع الدهاة إذا تغلبوا على قطر من الأقطار ، حتّى أنّ دولة إسرائيل الغامشة بعدما استولت على أراض جديدة عام 1967 م كانت تقول بأنّها لا تريد الاستيلاء عليها.

اكتساح قبور البقيع
    لما استتبّ الأمر لعبد العزيز وملك الحجاز قاطبة ، عمد إلى تخريب المعالم الإسلامية في مكّة وجدّة والمدينة ، فخربوا في مكة قباب عبدالمطلب جدّ النبىّ ، وأبي طالب عمّه ، وخديجة أُم المؤمنين ، وخربوا مولد النبي ومولد فاطمة الزهراء( عليها السَّلام ) ، ولما دخلوا جدّة هدموا قبّة حواء ، وخربوا قبرها بل خربوا في هذه البلاد كل القباب والمزارات والأمكنة الّتي يتبرك بها ، ولما حاصروا المدينة هدموا مسجد حمزة ومزاره ، لوقوعهما خارج المدينة المنورة (2).
    يقول الدكتور علي الوردي أُستاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد :
1 ـ الريحاني.
2 ـ الأمين ، السيد محسن : كشف الارتياب ص 55.


(396)
    كان البقيع مقبرة المدينة في عهد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وما بعده ، دفن فيه العباس والخليفة عثمان ، وزوجات النبي والكثير من الصحابة والتابعين ، كما دفن فيه أربعة من أئمة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) هم الحسن بن علىّ ، وعلىّ بن الحسين ، ومحمّد بن علىّ وجعفر بن محمّد ، وقد صنع الشيعة لقبور هؤلاء الأربعة ضريحاً باهراً يشبه الأضرحة المعروفة في العراق وإيران ، لكن على نطاق أصغر ، واعتاد الشيعة أن يزوروا هذا الضريح فيقبلونه ويتبركون به ويصلّون عنده ، على نحو ما يفعلون في أضرحة العراق وإيران (1).
    ظلّت هذه القبور سليمة أكثر من أربعة أشهر دون أن يمسّها أحد بسوء ، ولكن اتّهم ابن سعود في تنفيذ مبدأ الوهابية لإبقائه عليها ، فاضطر ابن سعود في شهر رمضان سنة 1344 هـ إلى إرسال كبير علماء نجد عبداللّه بن بليهد من مكة إلى المدينة للعمل على هدم القبور ، وعندما وصل ابن بليهده إلى المدينة اجتمع بعلمائها ووجه إليهم الاستفتاء التالي :
     « ما قول علماء المدينة ـ زادهم اللّه فهماً وعلماً ـ في البناء على القبور واتّخاذها مساجد ، هل هو جائز أم لا؟ وإذا كان غير جائز بل ممنوع منهي عنه نهياً شديداً ، فهل يجب هدمها ومنع الصلاة عندها أم لا؟ وإذا كان البناء في مسبلة كالبقيع ، وهو مانع من الانتفاع بالمقدار المبني عليها ، فهل هو غصب يجب دفعه لما فيه من ظلم المستحقين ومنعهم استحقاقهم أم لا؟ وما يفعله الجهال عند هذه الضرائح من التمسح بها ودعائها مع اللّه ، والتقرب بالذبح والنذر لها ، وإيقاد السرج عليها ، هل هو جائز أم لا؟.
    وما يفعل عند حجرة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) من التوجه إليها عند الدعاء وغيره ، والطواف بها وتقبيلها والتمسح بها ، وكذلك ما يفعل في المسجد من الترحيم والتذكير بين الأذان والإقامة وقبل الفجر ويوم الجمعة ، هل هو مشروع أم لا؟ أفتونا مأجورين وبيّنوا لنا الأدلة المستند إليها لا زلتم ملجأ للمستفيدين » (2).
    ترى أنّ الأسئلة طرحت بشكل أدرج فيها الجواب ، وألزم المفتين على
1 ـ الوردي ـ علي : لمحات اجتماعية ، ملحق الجزء السادس ص 305.
2 ـ الوردي ـ الدكتور علي : لمحات اجتماعية ، ص 305 ـ 306.


(397)
الإجابة بما يرتأيه السائل ، ولأجل ذلك جاء الجواب بالشكل التالي :
     « أمّا البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً لصحة الأحاديث الواردة في منعه ، ولهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه مستندين في ذلك بحديث علىّ قال لأبي الهياج :
    ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أن لا تدع تمثالا إلاّ طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته؟ » ( رواه مسلم ) .
    وأمّا اتّخاذ القبور مساجد والصلاة فيها وإيقاد السرج عليها فممنوع ، لحديث ابن عباس : « لعن اللّه زائرات القبور المتخذين عليها المساجد والسرج » ، رواه أهل السنن ، وأمّا ما يفعه الجهال عند الضرائح من التمسح بها والتقرب إليها بالذبائح والنذور ، ودعاء أهلها مع اللّه فهو حرام ممنوع شرعاً لا يجوز فعله أصلا.
    وأمّا التوجه إلى حجرة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) عند الدعاء فالأولى منعه ، كما هو معروف عن معتبرات كتب المذهب ، ولأنّ أفضل الجهات جهة القبلة ، وأمّا الطواف والتمسح بها وتقبيلها فهو ممنوع مطلقاً ، وأمّا ما يفعل من التذكير والترحيم والتسليم في الأوقات المذكورة فهو محدث ، هذا ما وصل إليه علمنا (1).
    وعلى أثر صدور هذه الفتوى هدمت القبور ، فأحدثت هذه الجريمة ضجّة مدوّية في أقطار العالم الإسلامي ، خصوصاً الشيعية منها ، فقرّر علماء الشيعة على أثر تلقّيهم هذا الخبر إعلان الحزن العام وإظهار الحداد وترك التدريس ، وعقد في صحن الكاظمية إجتماع حضرته جماهير كثيرة ، وتليت فيه البرقيات والرسائل الواردة في هذا الشأن ، كما نظمت البرقيات الّتي قرّر إرسالها إلى ملوك وعلماء العالم الإسلامي في أقطارهم المختلفة ، وجرى مثل ذلك في كربلاء والنجف (2).
1 ـ الوردي ـ الدكتور علي : لمحات ، ص 396 ـ نقلا عن كشف الإرتياب ، ص 349 ـ 360 ولقد عرفت في الفصول السابقة أنها فتاوى فارغة عن البرهانية ، فلاحظ.
2 ـ نفس المصدر السابق ، ص 308.


(398)
    وفي ذلك يقول الدكتور الوردي : وأخذت الجرائد العراقية تنشر المقالات في التنديد بابن سعود وشجب أعماله ، فقد كتبت جريدة « العراق » في مقالة افتتاحية لها تقول : « قضي الأمر وأصدر ابن بليهد الفتوى المعلومة ، فقام بأكبر خدمة لسيده ابن سعود ، ولم يعلم بأنّ مسعاه كان سهماً أصاب كبد العالم الإسلامي فآلمه أيما ألم » كما نشرت مقالة أخرى بقلم إسماعيل آل ياسين من الكاظمية عنوانها « الطامة الكبرى والأماكن المقدسة في الحجاز » وورد فيها ما نصّه :
     « أيّها المسلمون ، ما هذا السبات وما هذا الجمود الّذي أدّى بكم إلى السكون وإلى عدم الاكتراث بهذه القضايا المؤلمة ، والأدوار المخزية الّتي يمثلها ذلك الطاغية في البلاد المقدسة؟ » (1).
    يقول الوردي : نشرت جريدة « العراق » حديثاً جرى بين أحد محرريها والسيد محمود الكيلاني نقيب أشراف بغداد ، أعلن فيه السيد محمود انتقاده لما قام به الوهابيون من هدم قبور البقيع وذكر أن بناء القبب على القبور ليس مخالفاً للسنة النبوية ، لأنّ النبي نفسه دفن في حجرة عائشة وهي حجرة ذات جدران وسقف كقبة ، وذكر أيضاً أنّ تقبيل الأضرحة هو من باب تقبيل المحبوب ، وهو أمر غير ممنوع في الإسلام.
    ونشرت صحيفة « العراق » بعندئذ ثلاثة أبيات من الشعر ، طالبة من الشعراء تشطيرها وتخميسها وهي :
لعمري إنّ فاجعة البقيع وسوف تكون فاتحة الرزايا أما من مسلم للّه يرعى يشيب لهولها فود الرضيع إذا لم نَصْحُ من هذا الهجوع حقوق نبيّه الهادي الشفيع (2)

1 ـ المصدر السابق. نقلا عن عددها الصادر في 29 أيار ، 1926 م.
2 ـ الوردي ـ علي : لمحات ، ص 309 ولم يذكر الوردي قائل الشعر وناظمه ، وهو للعلامة الفقيد الراحل آية اللّه السيد صدر الدين الصدر العاملي ، المتوفى عام 1373 هـ وهو والد الإمام السيد موسى الصدر المختطف.


(399)
    حلّ شهر محرّم عام 1344 هـ فكانت خطب مجالس التعزية ونوحيّات المواكب الحسينية تدور في معظمها حول فاجعة البقيع ، وتطالب الانتقام من ابن سعود ، إنّ يوم 8 شوال أصبح يوم حداد في السنوات التالية في النجف وكربلاء ، حيث تغلق فيه الأسواق وتخرج مواكب اللطم (1).

الصراع الداخلي بين عبدالعزيز وأتباعه
    بعدما استتبّ الأمر لعبد العزيز بتأييد من بريطانيا ، وطرد الملك حسين وولده الأمير علي من الحجاز ، فصار سلطان نجد سلطان الحجاز اليوم ، كما صار الأمير ملكاً للقطرين ، ولكن أتباعه الذين يعبر عنهم في تاريخ المملكة بالإخوان أورثوا له مشكلة خاصة ، وهي الإصرار على تطبيق مباديء الوهابية ، فرموه بموالاة الكفار الإنكليز والتساهل في الدين ، وأنكروا عليه ألقاب السلطان والملك ، وتطويل شاربه وثوبه ، ولبس العقال ، وإرساله ولده سعود لزيارة مصر للعلاج ، لأنّه بلد الكفار ، وإرسال ابنه فيصل لزيارة البلاد الأوربية لأنّها أكثر كفراً ، ورأوا أنّ استخدام السيارات وأجهزة اللاسلكي والهاتف بدع لأنّها من صنع الفرنج ، وأنّه يجب محاربة الدول المجاورة كالعراق والأردن واحتلالها ونشر الوهابية بين سكانها ، وقد أحرقوا أول شاحنة ظهرت في مدينة ( الحول ) وكاد سائقها يلقى المصير ذاته ، إلى غير ذلك مما عليه بني المذهب الوهابي (2).
    قال أمين الريحاني : إنّ الإخوان فيما ظهر من بسالتهم اورثوا عبدالعزيز مشكلا آخر ، فقد طغى الإخوان وتجبّروا ، فضج الناس ، وراح الإخوان يحاربون من لم يتبعهم من البدو ، ويكفّرون وينهبون ويقتلون ويقولون أنت يا بدوي مشرك ، والمشرك حلال الدم والمال ، وقد انتشرت من جراء ذلك الفوضى في البلاد ، وكاد يقطع حبل الأمن والسلام (3).
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ أبو علية : الإصلاح الاجتماعي في عهد الملك عبدالعزيز ، ص 160 ووهبة حافظ ، الجزيرة العربية في القرن العشرين ، ص 229.
3 ـ الريحاني ـ أمين : تاريخ نجد الحديث ، ص 260.


(400)
    كان الإخوان كارهين للعلم والتقدم ، فاعتبروا أي نوع من أنواع التكنولوجيا الحديثة شرّاً وكفراً ، كالهاتف والتلغراف والسيارات والساعات والكهرباء ، وقالوا إنّها سحر من عمل الشيطان ، فقاوموا استخدامها ونشرها وأخّروا تقدّم البلاد (1).
    وفي مطلع عام 1345 هـ اجتمع رؤساء الإخوان ، ومن أبرزهم فيصل الدويش وابن حثلين وابن بجاد في الغطغط ، وأعدّوا قائمة ذكروا فيها ما يؤاخذون به عبدالعزيز ومن جملته :
    1 ـ سفرة ابنه سعود إلى مصر.
    2 ـ سفرة ابنه فيصل إلى لندن للتفاوض مع الإنجليز ، وهو يعني التعاون مع بلد الشرك.
    3 ـ استخدام التلغراف والهاتف والسيارة في أرض إسلامية.
    4 ـ فرض رسوم جمركية على مسلمي نجد ، وكان هذا في الواقع احتجاجاً على تشديد استغلال السكان عن طريق الضرائب.
    5 ـ منع قبائل الأردن والعراق حق الرعي في أراضي المسلمين.
    6 ـ حظر المتاجرة مع الكويت لأنّهم كفّار لم يأخذوا بمبادىء الوهابية.
    7 ـ التسامح مع الخوارج ( الشيعة ) في الأحساء والقطيف ، فيجب عليه أن يهديهم إلى الإسلام أو يقتلهم (2).
    هذه بعض القرارات الّتي اتّخذها مؤتمر الإخوان ، وكان عبدالعزيز آنذاك في الحجاز ، فأسرع بالسفر إلى نجد عن طريق المدينة محاولا علاج غضب الإخوان بالحيل والدجل ، ولما وصل إلى الرياض عقد فيها مؤتمراً بتاريخ 25 رجب سنة 1345 هـ وحضر الدعوة جميع زعماء الإخوان ، إلاّ سلطان بن بجاد ، وهو القائد الّذي استولى على الحجاز ، وبرر عدم حضوره بقوله : « إنه
1 ـ المانع محمد : توحيد المملكة العربية السعودية ، ص 15.
2 ـ ابن هذلول : تاريخ ملوك آل سعود ، ص 180.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: فهرس