بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: 411 ـ 416
(411)
زلزال جهيمان في مكة
    وفي مطلع القرن الخامس عشر الهجري في شهر محرم ، سيطرت مجموعات من الأشخاص الذين ينتمون إلى حركة « الإخوان » على الحرم المكي الشريف ، يرافقهم في ذلك نساؤهم وأطفالهم ، وحاول النظام السعودي إخفاء ما حدث ، وقام بعدة إجراءات ابتدأت بالصمت وانتهت بغلق المطارات وقطع الأتصالات الهاتفية بالخارج ، ولكن لما تسرب الخبر إلى الخارج ، اضطر آل سعود إلى إعلان النبأ مشوهاً ، ومنعوا الصحفيين من الدخول إلى البلاد ، وقال فاسيليف :
     « أعلنت منظمة حركة الثوار المسلمين في شبه الجزيرة العربية ، الّتي لم تكن معروفة آنذاك ، أنها تتولى قيادة الأنتفاضة ، وأعلن الزعيم الروحي للثوار وهو محمد القحطاني الّذي قال عن نفسه إنه المهدي المنتظر ، أن هدف الحركة يتمثل في تحرير البلد من زمرة الكفار ( العائلة المالكة ورجال الدين المرتزقة الذين لا همّ لهم سوى التمسك بمناصبهم وامتيازاتهم ) .
    أما الزعيم السياسي للحركة فهو الجهيمان العتيبي البالغ من العمر 47 عاماً ، فقد ندّد في خطبه بأن الحكومة تدعي من جهة أنها مركز الدين الحنيف في العالم ، ولكنها من الجهة الأخرى تناصر الظلم والفساد والرشوة ، وندد جهيمان بالأمراء الذين يستولون على الأراضي ويبذرون أموال الدولة ، ونعتهم بـ « السكيرين » الذين يعيشيون حياة الفسق والفجور في البيوت والقصور الفخمة.
    ولم يكن في وسع العائلة المالكة القبول بشروط المنتفضين للتفاوض إذ أنها تضمنت مطالب بإجراء تعديلات في الوزارة ، منها إقصاء كبار الأمراء عن مناصبهم ، وإعادة النظر جذرياً في سياسة استخراج وتسويق النفط ، وطلب المنتفضون بوقف بيع النفط إلى الغرب عموماً ، والعودة إلى أحكام الإسلام الخالص ، وطرد جميع المستشارين العسكريين الأجانب من البلد.
    وأضاف فاسيليف : عاد ولي العهد فهد من تونس ، وأصر على قمع الأنتفاضة بالقوة ، وقد استخدمت قوات الحكومة القنابل المسيلة للدموع


(412)
والمدافع والطائرات لإرغام المتنفضين على الأنسحاب من المسجد الحرام ، وردّ المنتفضون بإطلاق النار من السطوح والمنائر ، واستمرت المقاومة الضارية الّتي أبداها زهاء ألف شخص أسبوعين ، وأدت كما تقول السلطات ، إلى مصرع عشرات الأشخاص ، بينما يقول شهود العيان إن القتلى كانوا يعدون بالمئات ، وكان بين القتلى « المهدي » ذاته ، أما الزعيم السياسي للحركة ( جهيمان العتيبي ) فقد أعدم مع 62 شخصاً من رفاقه ، في 9 كانون الثاني ( يناير ) 1970 م ، وكان بين من أعدموا علاوة على السعوديين مصريون ويمنيون وكويتيون وعرب آخرون ... (1).

فتوى وعّاظ السلاطين ضد المستأمنين بحرم اللّه
    اجتمع الملك خالد مع عدد من العلماء المتواجدين في الرياض بعد وقوع الحادثة ، وأطلعهم على ما جرى ، فقدم لهم معلومات مصطنعة عن تعداد الرهائن وقتل المصلين والحجاج وغير ذلك ، فاستفتاهم في كيفية حل الأزمة ، فوافاه الجواب بالنحو التالي :
     « بسم اللّه الرحمن الرحيم » : أما بعد ، ففي يوم الثلاثاء اليوم الأول من شهر محرم عام أربعمائة وألف من الهجرة ، دعانا نحن الموقعين أدناه جلالة الملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود وأخبرنا أن جماعة في فجر هذا اليوم بعد صلاة الفجر مباشرة دخلوا في المسجد الحرام مسلحين ، وأغلقوا أبواب الحرم وجعلوا عليها حراساً مسلحين ، وأعلنوا طلب البيعة لمن سموَّه المهدي ، ومنعوا الناس من الخروج من الحرم ، وقاتلوا من مانعهم ، وأطلقوا النار على أناس داخل المسجد وخارجه ، وقتلوا بعض رجال الدولة وأصابوا غيرهم ، وإنهم لا يزالون يطلقون النار على الناس والمسجد ، واستفتانا في شأنهم وما يعمل معهم فأفتيناه أن الواجب دعوتهم إلى الإستسلام ووضع السلاح ، فإن فعلوا قبل منهم وسجنوا حتّى ينظر في أمرهم شرعاً ، وإن امتنعوا وجب اتخاذ كافة الوسائل للقبض عليهم ولو أدى إلى قتالهم وقتل من لم يحصل القبض عليه
1 ـ فاسيليف : تاريخ العربية السعودية ، ص 516 ـ 517.

(413)
منهم ، ولا يستسلم إلا بذلك ، لقوله تعالى :
     ( وَلا تُقاتِلُوهُم عِندَ المَسجِد الحَرام حتّى يُقاتِلوكُم فِيه فإن قاتَلوكُم فَاقتلوهم كَذلك جزاءُ الكافِرين ) .
    ولقول النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « من أتاكم جمع يريد يفرق جماعتكم ويشق عصاكم فاضربوا عنقه ... ».
    هذه الفتوى أُصدرت على أساس المعلومات قدمها الخصم ، وكان من واجبهم أن يتقربوا من الحرم حتّى يطّلعوا على الأمر ، وكيف يحق للقاضي أن يصدر حكمه على أساس معلومات يقدمها أحد المتخاصمين ، وبالتالي قتل من قتل وأخذ من أخذ ، ثم قطعت رؤوس عدة من المقبوض عليهم وسجن النساء.
    وهناك سؤال يتبادر إلى الذهن وهو : لماذا التجأ هؤلاء إلى بيت اللّه الحرام؟ ولعله لما جاء في الروايات بأن المهدي حين يظهر في الحرم يأتي لقتاله جيش عرمرم يخسف اللّه به الأرض ، وهذه الفكرة هي الّتي دفعت بالجماعة إلى الحرم.
    وهناك خطأ غير مغفور ، وهو أن ما ورد فإنما هو في المهدي المنتظر ، لا في من أسمي نفسه مهدياً.
    وبذلك انتهت هذه الحركة الّتي كانت استمراراً لحركة الإخوان ، وكان الملك وأبناء العائلة فرحين مسرورين بذلك ، ولم يبرح خالد يملك ولا يحكم إلى أن وافته المنية وأخترمه الأجل المحتوم عام 1402 هـ ، وأصدر الديوان المكي بياناً آخر جاء فيه :
     « لقد قام أفراد الأسرة وعلى رأسهم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن عبدالعزيز بمبايعة ولي العهد الأمير فهد بن عبدالعزيز ملكاً على البلاد ، وبعد إتمام البيعة أعلن صاحب الجلالة الملك فهد بن عبدالعزيز ترشيح صاحب السمو الملكي الأمير عبداللّه بن عبدالعزيز ولياً للعهد.
    وقد أجمع أفراد الأسرة على ذلك وقاموا بمبايعة سموه ... وقد تقرر أن


(414)
يقوم المواطنون ، بالبيعة لجلالة الملك فهد بن عبدالعزيز ولسمو ولي العهد الأمير عبداللّه بن عبدالعزيز في قصر الحكم بالرياض صباح غد ».
    جدير ذكره أن موت الملك لم يحدث فراغاً سياسياً ، لما عرفت أنه كان يملك ولا يحكم.

الملك فهد واستقدامه قوى الكفر (1)
    ويكفي في مساوىء « فهد » المتسلط على مقدرات الحرمين الشريفين ، وعدم أهليته لهذا المنصب الخطير وهذه المسؤولية المقدسة ، استقدامه لقوى الفكر والشرك إلى أرض مكة والمدينة ، المحرمة على المشركين ، واستعانته بهم بحجة الدفاع عن الحجاز ، ولكن في الحقيقة للدفاع عن مطامع الأمريكان والصهاينة الطويلة في ثروات المسلمين ، من دون التفات إلى حكم المذاهب الإسلامية بحرمة دخول الكفار والمشركين مكة والمدينة وما حولهما ، بل وحكم القرآن قبل ذلك بحرمة الركون إلى الكفار وتوليهم.
    فقد قال القرآن : ( وَلاَ تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (2).
    وقال : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوا قَوماً غَضِبَ اللّه عَلَيْهِمْ ) (3)
    وقال : ( وَلاَ تَتَوَلَّوا مُجْرِمينَ ) (4). وقال تعالى : ( إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللّه عَن الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهرُوا عَلَى إخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (5).
    وقال سبحانه : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَصَارى أَوْلِيَاء ) (6).
1 ـ كان تقديم الملازم الأخيرة من هذا الجزء ، مقارناً لهذه الحادثة المؤلمة فأثبتناها في هذا المقام لتبقى في ذاكرة التاريخ غير الناسي ، وإن كان الإنسان ذهولا.
2 ـ سورة هود : الآية 113.
3 ـ سورة الممتحنة : الآية 13.
4 ـ سورة هود : الآية 52.
5 ـ سورة الممتحنة : الآية 9.
6 ـ سورة المائدة : الآية 51.


(415)
    وقال سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنين أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإنَّ العِزَّةَ لَلّهِ جَمِيعاً ) (1).
    وقال تعالى : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً ، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالكُفَّارَ أَوْلِياءَ ) (2).
    وقال سبحانه : ( إنَّما المُشرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسجِدَ الحَرَامَ ) (3).
    وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَولِياءُ بَعْض ) (4).
    وقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في حديث متواتر : « أخرجوا اليهود من جزيرة العرب. لا يجتمع دينان في جزيرة العرب » وأمر بمضايقتهم في الطرقات حتّى يضطروا إلى أضيقها (5).
    وأما الفقهاء ، فقال الإمام النووي في كتاب المنهاج : « ويُمنع كل كافر من استيطان الحجاز ، وهو مكة والمدينة واليمامة وقراها ... » راجع كتاب الجزية منه.
    فكيف يجوز لفهد ، وهو يدّعي خدمة الحرمين الشريفين أن يقوم بمثل هذه الخيانة العظمى للحرمين وأهلهما ، وليستقدم جيوش الغزو الغربي الصليبي الصهيوني إلى بلاد الوحي والرسالة ، ويتكفل مؤونتهم ، ويحمّل المسلمين مليارات لاستضافتهم ، كما صرح المسؤولون السعوديون الوهابيون أنفسهم بذلك ، وصرّح به قادة الغزو الغربي ، كل ذلك بحجة الدفاع.. الدفاع عن ماذا؟ عن الحكم الوهابي الرجعي الأسود ، وليس عن الشعب الحجازي المضطهد المظلوم ، وليس عن الحرمين الشريفين ، اللَّذين يفديهما المسلمون متى
1 ـ سورة النساء : الآية : 139.
2 ـ سورة المائدة : الآية 57.
3 ـ سورة التوبة : الآية 28.
4 ـ سورة الأنفال : الآية 73.
5 ـ راجع صحيح البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي ومسند أحمد والموطأ والدارمي.


(416)
لزم الأمر بأرواحهم ، وأنفسهم ، وبأعز مالديهم من الأهل والولد.
    كل هذا بغض النظر عما يجلبه هؤلاء الكفار من فسق وفجور ، بل وأمراض وعاهات خلقية إلى شعب هذه البلاد المقدسة.
    هذه صورة إجمالية عن حياة العائلة السعودية بسلاطينها وأمرائها وملوكها ، وقد وضعناها أمام القارىء ليقف على حقيقة المذهب ، وعلى نزعات حماته وجناياتهم طيلة استيلائهم على الحكم والعرش ، وأما تفصيل حياة الملك الأخير الّذي يحكم على البلاد حالياً فنتركه إلى جهد القراء لكي يقفوا على حياته وأعماله وتحالفه مع الكفار عن كثب ، واللّه يعلم إلى متى يبقى هذا ويبقى عرشه.
    إنّ إدارة الحرمين الشريفين رهن كفاءات ومؤهلات للقائمين بها ، وقد قال سبحانه : ( وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُم اللّه وَهُمْ يَصُدّونَ عِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ وَمَا كَانُوا أَولِياءَهُ إنْ أَوْلِياؤُهُ إلاَّ المُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُم لاَ يَعْلَمُونَ ) (1)
    وهل للعائلة السعودية ، التقوى اللازمة لإدراة الحرمين الشريفين؟ وهل هم متّقون حتّى يتسنموا هذه المنصة؟ لا أدري ، ولكن القراء يدرون.
     ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنْقَلَب يَنْقَلِبُونَ ) .
    تمّ الجزء الرابع من هذه الموسوعة ، ويليه الجزء الخامس في تبيين عقيدة الخوارج ، ومبدأ تكونهم ، و حياة مشايخهم بإذنه ومنّه سبحانه.
والحمد للّه رب العالمين
جعفر السبحاني
8 جمادي الآخرة 1411 هـ



1 ـ سورة الانفال : الآية 34.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: فهرس