بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 11 ـ 20
(11)
    ارتحل النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ملبّياً دعوة ربّه في العام الحادي عشر من هجرته ، بعد ما بذل كل جهده لتوحيد الاُمّة ورصّ صفوفها ، منادياً فيهم بقول سبحانه : ( إنَّ هذه اُمَّتُكُمْ اُمَّه واحِدَةً وَ أنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (1) وهو ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) كما دعا إلى كلمة التوحيد دعا إلى توحيد الكلمة بأمر منه سبحانه في الذكر الحكيم حيث قال : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعَاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (2) وقال سبحانه : ( إنَّمَا الْمُؤمِنُونَ إخْوَةٌ ... ) (3) إلى غير ذلك من الآيات ، وقد كان ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) يُحذِّر المجتمع الاسلامي من التفرّق و التشرذم ، وقد وصف التحزّب والتعصّب لقوم دون قوم « دعوى منتنة » (4) .
    وقد خاطب معشر الأنصار بقوله : « الله الله أبدعوى الجاهلية و أنا بين
    1 ـ الأنبياء : 92.
    2 ـ آل عمران : 103.
    3 ـ الحجرات : 10.
    4 ـ ابن هشام : السيرة النبوية 3/303.


(12)
اظهركم بعد أن هداكم الله بالاسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به أمر الجاهلية و استنقذكم من الكفر ، وألّف به بين قلوبكم » (1) .
    ومع كل هذه الأوامر العديدة و التحذيرات الشديدة نرى ـ ياللاسف ـ أنّ المسلمين اختلفوا بعد وفاته ـ وجثمانه بَعدُ لم يُوار ـ إلى فرقتين يجمعهما الاتّفاق في سائر الاُصول و يفرّقهما الخلاف في مسألة الخلافة والولاية وهاتان الفرقتان هما :
     1 ـ فرقة تبنّت مبدأ التنصيص على الشخص المعيّن و قالت إنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) نصّ على خلافة علي و ولايته في مواضع عديده و مناسبات كثيرة ، أعظمها و أشهرها يوم الغدير في منصرفه عن حجّة الوداع في العام العاشر ، فقال في محتشّد عظيم : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » وقد بلغ الحديث في كل عصر حدّ التواتر بل تجاوز حدّه ، ومن المتبنّين لهذه الفكرة ، أكابر بني هاشم وشخصيّاتهم البارزة كعباس بن عبدالمطلب وعقيل بن أبي طالب وغيرهما ولفيف من الأصحاب ، كسلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وأبي التيهان ، وأبي أيّوب الأنصاري وغيرهم من المهاجرين و الأنصار ، الذين شايعوا علياً ، و نفّذوا ما أوصى به النبي الأكرم في حقّ وصيّه ، وهؤلاء همّ نواة الشيعة وهم جزء من المسلمين الاُول ، فقد بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول.
    2 ـ فرقة تبنّت فكرة الشورى ، وانّ لها اختيار القائد ، وانتهت تلك الفكرة بعد مشاجرات ومشاغبات بين متبنّيها إلى خلافة أبي بكر بن أبي قحافة ، و تمّت البيعة له في سقيفة بني ساعدة ، ببيعة عدّة من المهاجرين ، كعمر بن الخطاب
    1 ـ ابن هشام : السيرة النبوية 2/250.

(13)
وأبي عبيدة الجراح ، وبيعة الأوسيين من الأنصار ، وهؤلاء قد نسوا أوتناسوا النصّ النبوي يوم الغدير فقدَّموا الاجتهاد على النص ، ورجّحوا المصلحة المزعومة على التعيين الإلهي ، والعجب انّ أصحاب هذه الفكرة من بين المهاجرين و الأنصار كانوا يستدلّون على مبدئهم في سقيفة بني ساعدة بأدلّة و مقاييس كانت سائدة في الجاهلية ، والتي لاصلة لها بالكتاب و السنّة :
    مثلا : إنّ الأنصار رأوا أنّهم أولى من غيرهم بالخلافة ، لأّنهم آووا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ونصروه في حروبه في زمان أخرجه قومه فيه من موطنه وخذلوه ، وقال خطيبهم الحبّاب بن المنذر بقوله : يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم فأنتم أحقّ بهذا الأمر منهم ، فانّه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين.
    هذا منطق الأنصار ، وهلم معي نستمع منطق المهاجرين فقال أبوبكر ناطقاً عنهم : إنّ المهاجرين أقرباء النبي و عترته ، ودعمه عمر فقال ردّاً لمنطق الأنصار : والله لاترضى العرب أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم ولاتمنع العرب أن تولّي أمرها من كانت النبوّة منهم ، من ينازعنا سلطان محمد و نحن أولياؤه و عشيرته؟
    ترى أنّه ليس في منطق كل من المرشّحين أيّ استناد إلى الكتاب والسنّة فهذه تستدل بايوائهم رسول الله ونصرتهم إيّاه ، وتلك تستند إلى قرابته منه ، مع أنّه كان من اللازم عليهم الفحص عن قائد لائق عارف بالكتاب والسنّة ، مدير ومدبّر يملك كافّة المؤهّلات اللازمة في القيادة سواء أكان من المهاجرين أم من الأنصار أو من طائفة اُخرى
    كل ذلك يعرب عن أنّ الفكرة كانت غير ناضجة أوّلا ، وانّ الانتخاب والاختيار لم يكن صادراً عن مبدأ الاسلامي ثانياً.


(14)
    هذا و انّ طائفة من الأنصار أعنى الأوس بايعوا أبابكر بحجّة أنّهم إن لم يبايعوه ليكوننّ للخزرج عليهم فضيلة (1) .
    وهكذا ظهرت فرقتان بعد وفاة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) والمبدأ الذي اختلفتا فيه هو : مسألة الخلافة و قيادة الاُمّة ، وكان المترقّب بعد هذا الشقاق والاختلاف ، طروء حروب دامية بين الطرفين ، ولولا القيادة الحكيمة للامام علي ( عليه السَّلام ) ومساهمته مع الخلفاء في مهامّ الاُمور ، والتنازل عن حقّه لَاْنجّر الأمر في حياة الخلفاء إلى الهلاك و الدمار ، خصوصاً انّ المنافقين كانوا يترصّدون تلك الفرصة ويؤلّبون احدى الطائفتين على الاُخرى ليصطادوا في الماء العكر ، وفي التاريخ شواهد تؤيّيد ذلك وانّ القيادة الحكيمة لصاحب النص أعني الامام علياً أفشلت تلك الخطط الشيطانية نكتفي منها بما يلي :
    روى الطبري : لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبوسفيان وهو يقول : « والله إنّي لأرى عجاجة لايدفها إلاّ دمّ ، يا آل عبد مناف فيما أبوبكر من اُموركم؟ أين المستضعفان أين الاذلاّن علي والعبّاس؟ وقال : « أبا حسن أبسط يدك حتى اُبايعك » فأبى علي ( عليه السَّلام ) فجعل أبوسفيان يتمثّل بشعر المتلمّس :
ولن يقيم على خسف يراد به هذا على الخسف معكوس برمّته إلاّ الأذلاّن غير العير و الوتد وذا يشجّ فلايبكي له أحدى (2)
    قال : فزجره علي ( عليه السَّلام ) وقال : « إنّك والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة وإنّك والله طالما بغيت للاسلام شرّاً ، لا حاجة لنا في نصيحتك ».
    كان الامام معتقداً بشرعية امارته وخلافته ، ويرى نفسه خليفة
    1 ـ الطبري : التاريخ 2/ 446. ابن قتيبة : الامامة و السياسة 1/ 9.
    2 ـ الطبري : التاريخ 2/ 449. ابن الاثير : الكامل في التاريخ 2/ 220.


(15)
رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وقد سبقت البيعة له في يوم الغدير وغيره ، وكان يحتجّ به وبغيره من النصوص على استحقاقه لها و يعترف نفسه و أهل بيته بقوله : « ولهم خصائص حقّ الولاية وفيهم الوصّية والوراثة » (1) .
    ومع ذلك رأى أنّ في مواجهة هذا الانحراف في تلك الظروف العصيبة مفسدة أعظم من فوت الولاية فتنازل عن الأمر فسدل دونه ثوباً ، وطوى عنه كشحاً ، وهو يصف الحال في بعض خطبه ويقول : « ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) عن أهل بيته ، ولا انّهم منحّوه عنّي من بعده ، فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون إلى محق دين محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، يزول منهما ما كان كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمئن الدين و تنهنه » (2) .
    قام أبوبكر بأعباء الخلافة ، وحارب أصحاب الردّة ، إلى أن مضى لسبيله ، فأقام مكانه عمر بن الخطاب وهو أيضاً سار بسيرة من قبله ، وكان المسلمون يجتازون البلاد ، و يفتحون القلاع ، ويسيطرون على العالم بفضل الدين والايمان ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة من قريش وزعم أنّ رسول الله مات وهو عنهم راض وهؤلاء هم : عليّ ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبدالرحمن بن عوف ، وقال : رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم ، ثم نظر إلى كل واحد من هذه الستة إلى أن نظر إلى
    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 5.
    2 ـ الرضي : نهج البلاغة الكتاب 62.


(16)
عثمان وقال : كأنّي بك قد قلّدتك قريش هذا الأمر لحبّها إيّاك فحملت بني اُميّة وبني أبي معيط على رقاب الناس ، آثرتهم بالفيء فثارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحاً ، والله لئن فعلوا لتفعلن ، ولئن فعلت ليفعلن ثم أخذ بناصيته فقال : فاذا كان ذلك فاذكر قولي فإنّه كائن (1) .
    فلمّا دفن عمر ، اجتمع أصحاب الشورى في بيت فتكلّموا فتنازعوا ، غير أنّ تركيب الأعضاء منذ عيّنها الخليفة كان يعرب عن حرمان علي و نجاح غيره و لأجل ذلك تمّ الأمر لصالح عثمان ، فقام بالأفعال التي تنبّأ بها عمر بن الخطاب ، وأحدث اُمراً نقم بها عليه ، وأوجدت ضجّة بين المسلمين ومن أبرز معالمها انحرافه عن الحق وإليك صورة من أعماله التي ثارت لأجلها ثورة الأنصار والمهاجرين :

1 ـ تعطيل الحدود الالهية :
    شرب الوليد بن عقبة الخمر فسكر فصلّى بالنّاس الغداة ركعتين أو أربع ركعات ، فانْتُزعَ خاتمه من يده وهو لايشعر من سكر ، وقد قدم رجل المدينة وأخبر عثمان ما شهده من الوليد فضربه عثمان ، فكثرت الشكوى على عامله بالكوفة ولم ير بُداً من عزله ولم يجرِ الحد على الوليد ، فقال الناس : عطّلت الحدود وضربت الشهود (2) .

2 ـ عطياته الهائلة لبني اُميّة من بيت المال :
    بين ليلة وضحاها صارت جماعة من بني اُميّة بفضل خلافة عثمان ،
    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 1/186.
    2 ـ السيوطي : تاريخ الخلفاء 104. أبوالفرج الاصبهاني : الاغاني 4/ 188.


(17)
أصحاب الضياع العامرة والثروات الطائلة منهم : مروان بن الحكم ، وعبدالله بن أبي سرح ، ويعلى بن اُميّة ، والحكم بن العاص ، والوليد بن عقبة وأبى سفيان ، وقد حفظ التاريخ صورة عطيات الخليفة لهم ولغيرهم ، ومن أراد التفصيل فليرجع الى مظانه (1) .
    ويكفيك أنّه أعطى مروان بن الحكم ـ ابن عمّه و صهره ـ خمس غنائم أفريقيا ، وكانت تقدّر بمليونين و نصف مليون دينار ، وفي ذلك يقول الشاعر :
واعطيت مروان خمس العبا دِ ظلماً لهم و حميت الحمى (2)

3 ـ تأسيس حكومة أموية :
    كان الخليفة يبذل غاية جهده في تأسيس حكومة أموية في العواصم الاسلامية فنرى أنّه عزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة وولاّها الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان أخا عثمان لاُمّه.
    وفي سنة 27 من الهجرة عزل عمروبن العاص عن خراج مصر و استعمل عليه عبدالله بن أبي سرح وكان أخاه من الرضاعة.
    وعزل أباموسى الأشعري فولّى مكانه على البصرة عبدالله بن عامر وهو ابن خال عثمان (3) .
    وأبقى معاوية على ولايته على الشام ، ولمّا كثرت الشكوى على عامله
    1 ـ الأميني : الغدير 9 / 236 ـ 290.
    2 ـ ابن قتيبة : المعارف 113 ط دار الكتب العلمية. ابن كثير : التاريخ 4/157.
    3 ـ الدينوري : الأخبار الطوال 139. ابن الاثير : الكامل 3/88 ـ 99.


(18)
بالكوفة ، الوليد بن عقبة ، عزله وولّى مكانه سعيد بن العاص (1) حتى قيل إنّ خمساً و سبعين من ولاته كانوا من بني اُميّة (2) .

4 ـ مواقفه العدائية تجاه الصحابة :
    كان للخليفة مواقف غير مرضية مع أصحاب رسول ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) فقد سيّر أباذر إلى الربذة وهي أرض قاحلة ليس فيها ماء ولا كلاء ، فهناك لفظ آخر أنفاسه غريباً فريداً (3) وأمر بضرب عبدالله بن مسعود فكسر ضلع من أضلاعه (4) كماأنّه ضرب عمّار بن ياسر حتى غشي عليه بحجّة أنّه انتقد عمل الخليفة في بيت المال (5) .

5 ـ ايواؤه طريد رسول الله :
    طرد رسول الله الحكم بن عاص مع ابنه مروان إلى الطائف ، فردّهما إلى المدينة أيّام خلافته.
    يقول الشهرستاني : ردّ الحكم بن اُميّة إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وكان يسمّى طريد رسول الله وبعد أن تشفّع إلى أبي بكر و عمر (رضي الله عنهما) أيّام خلافتهما فما أجابا إلى ذلك ، نفاه عمر من
    1 ـ الطبري : التاريخ 3 / 325.
    2 ـ الندوي : المرتضى : ولا حظ للوقوف على أسماء عمال عثمان في السنة التي قتل فيها ، تاريخ الطبري 3 / 445.
    3 ـ البلاذري : الانساب 5/54. الطبري : التاريخ 3/335.
    4 ـ البلاذري : الانساب 5/36.
    5 ـ البلاذري : الانساب 5/48.


(19)
مقامه باليمن أربعين فرسخاً (1) .
    إلى غير ذلك من الاُمور التي أغضبت جمهور المسلمين وأثارتهم ، حتى اجتمع المسلمون من المصريين والكوفيين والبصريين ، وجمهور المهاجرين والأنصار للاحتجاج عليه بتبيين سوء مواقفه وأعماله وجنايات عمّاله في البلاد ، ولكن كان ردّ فعله تجاه هاتيك الاحتجاجات ، سلبياً فلم يستجب لطلباتهم ، بل غضب على كل من احتجّ عليه بسوء فعله أو فعل ولاته ، ولكن كثرة السخط والنقد على الخليفة ، شحنت النفوس نقمة وغضباً ، فانفجرت ثورة عارمة لم تجمد إلاّ بقتله في عقرداره.

قتل الخليفة عثمان :
    والمهاجرون والأنصار ومن تبعهم باحسان بين مجهز عليه ، أو مؤلَّب ضدّه ، أو مستبشر بمقتله ، أو صامت رهين بيته ، محايد عن الطرفين (2) .
    إنّ هذه الأحداث الكبيرة لو اتّفقت في أيّ عصر من العصور التي يسود فيها الحكم الاسلامي لأثّرت نفسَ الأثر الذي خلَّفْته في عهد عثمان ولقلبت الاُمور رأساً على عقب.
    ومع ذلك ترى أنّ بعض المؤرخين يريدون تبرير عمل الخليفة وانّ الثورة ضدّ الخليفة لم تكن ثورة شعبية دينية نابعة من أوساط المهاجرين والأنصار ومن تبعهم باحسان في مصر والعراق ، ويزعمون انّ عبدالله بن سبأ هو الذي جهّز المصريين وكدّر الصفو على الخليفة ، وانّه وأتباعه كانوا وراء قتل الخليفة
    1 ـ الشهرستاني : الملل والنحل 1/26.
    2 ـ الطبري : التاريخ 3/399.


(20)
ولكن هذا من مختلقات بعض المؤرّخين (1) الذين جرّهم حبّهم واخلاصهم للخلافة والخليفة الى اسناد هذه الثورة الى رجل مزعوم (عبدالله بن سبأ) لم يثبت وجوده أوّلا ، وعلى فرض وجوده لم تثبت له تلك المقدرة الهائلة التي تثير الحواضر الاسلامية وعقلية المهاجرين والأنصار على الخليفة المفترض طاعته (2) .
    فلو كان لعبدالله بن سبأ تلك المقدرة وانّه كان يجول في البلاد لتحريض الناس على الخليفة فلماذا لم يتمكّن الخليفة ولا عمّاله من القبض عليه ليسجنوه أو يطردوه من الحواضر الاسلامية الى نقطة لا ماء فيها ولا كلاء كما طردوا أباذر إلى الربذة ، وسيّروا صلحاء الكوفة إلى أمكنة اُخرى.
    قال الأميني : لوكان ابن سبأ بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن ، وشقّ عصا المسلمين وقد علم به وبعيثه اُمراء الاُمّة وساستها في البلاد ، وانتهى أمره الى خليفة الوقت ، فلماذا لم يقع عليه الطلب؟ ولم يُلْقَ القبض عليه ، والأخذ بتلكم الجنايات الخطرة ، والتأديب بالضرب والاهانة ، والزجّ الى أعماق السجون؟ ولا آل أمره الى الاعدام ، المريح للأمّة من شرّه و فساده ، كما وقع ذلك كله على الصلحاء الأبرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وهتاف القرآن الكريم يرنّ في مسامع الملأ الديني : ( إنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبونَ الله وَرَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَساداً أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِم و أرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاف أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌّ في الدُّنْيا وَ لَهُمْ في الآخِرَة عَذابٌ عَظيمٌ ) (المائدة : 33) (3) .
    1 ـ الطبري : التاريخ 3/378.
    2 ـ لا حظ عبدالله بن سبأ لمرتضى العسكري فقد اغرق نزعاً في التحقيق فلم يبق في القوس منزعا.
    3 ـ الأميني : الغدير 9/219.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس